وسرى حر في جسم ريحانة وندي جسمها، إنها حيال ابن أبي مرة، وامتزج في نفسها الإعجاب والضيق معا عندما قالت: عفوك يا ولدي، فما أردت إلا فكاهة. كن أكثر بيانا فإني لا أفهم. وخيل إليها أن الموقف أعنف من شجاعتها، وكادت تقول له: «بل استمع أنت يا سيف ولا تقل شيئا»، ثم تجهر له بالحقيقة بغير مداورة.
بل لقد خيل إليها أنها حيال أبي مرة نفسه وقد عاد إليها يحاسبها على التحلل من عهده. أتجثو على قدميه وتكشف عن نفسها صريحة ذليلة تسأله المغفرة؟
وقال سيف وهو أشد منها ارتباكا: بل اغفري لي أنت جرأتي، فإن لساني يخذلني، كيف أضع لك سؤالي؟ هل أنا ابن أبرهة؟
وكأنه وهو يقول هذه الكلمة الأخيرة رجل مستيئس، يرمي سهما إلى صدر عزيز، وهو يغمض عينيه حتى لا يراه يقع حيث رماه.
ولم تملك ريحانة صيحة انفلتت منها، ثم تهالكت في مقعدها.
فقام سيف في لهفة وأمسك بيديها قائلا: أيتها الأم النبيلة، عفوا. لا تظني بي الظنون فإني ما تزعزعت عن يقيني لحظة، كان خيرا لدي لو كان شكي في انتسابي إليك أنت، ولكن لم تطعني طبيعتي. كيف آتي إليك أسعى بنفسي يائسا سائلا: «أنا ابنك حقا؟» حين روحي تصيح بي ودمائي تتداعى بالحق أنك أمي. غير أني لو كان هذا سؤالي كان عندي أخف وقعا وقسوة، بل لعلي أراه أشبه شيء باعتراف مني بحسن صنيعك. أنت أولى بالنبل لو لم تكوني لي أما، وهبت لي من حنان فوق قدرة الوفاء والشكران. ليت قلبي يشك فيك فآتي شاكرا ما لقيت من إحسانك.
وسكت سيف لحظة، ونظر إلى وجهها الحزين وهي مطرقة صامتة، ثم استأنف قائلا في رقة: لا تضيقي بما أقول يا أماه. نعم، فإني أحتمل كل شقاء في الحياة، بل إنني أحتمل الموت أو العار نفسه حتى لا أحرم من بنوتك أيتها الحبيبة. ومع ذلك فإني أجد ألفاظ سؤالي تصدع سمعي كأنها قعقعة الصواعق، وتجعلني أتجرع ما أتجرع وأنا أسألك عن أبي، فرفقا أيتها الأم، ولا تحزني واحتملي قسوة سؤالي، فإن الألفاظ عاجزة عن أن تذهب ببشاعته.
وتمالكت الأم جنانها بشيء من القسر وقالت: ماذا يدفعك إلى أن تستسلم إلى هذا الذي تسميه وسواسا؟ وما الذي أدخله إلى نفسك؟ ماذا حملك على الشك في أبوة أبرهة؟ ألم تجده أبا بارا؟
فأجاب سيف: بل عرفته يقربني ويكرمني ويفيض علي من رحمته ما لا يدع لي شكوى، ولكني لم أحس منذ عقلت أنه أبي. كنت منذ طفولتي أشعر بشيء يقف حائلا بينه وبيني. كنت أدخل عليه فأناديه: «يا أبي»، ثم أحس قلبي يخونني، وأجد بردا يتمشى في مفاصلي. وأنظر إلى وجهه متأملا فأراه يبتسم لي مرحبا مداعبا، ومع ذلك فإني كنت أحس أنه يضحك مني، فأبادر خارجا أتسلل والخجل يبلل جسمي.
وصمت حينا، وكانت ريحانة مطرقة تحاول أن تهدئ من ضربات قلبها، ومضى سيف قائلا: قولي كلمة واحدة تكفيني. قولي ولو إشارة فإن صمتك يشعرني بأني ارتكبت جرما.
نامعلوم صفحہ