ما كان أقصرها من حياة! ولكنها كانت ما تزال ماثلة في ذهنها واضحة حية نابضة، مرت بها ولم تخلف لها سوى ما تبعثه الذكرى من قلق وألم وحسرة على حب مفقود. تذكرت زوجها الأول أبا مرة ذا يزن الذي لم تعرف الحب إلا منه وله، وتذكرت الأشهر القليلة التي لم تزد على عامين، وإن كانت عندها أثمن ما في حياتها، لقد تمتعت في تلك الأشهر القليلة بالحياة معه - مع أبي مرة الفارس النبيل - وكان منزلهما على ضفاف وادي ضهر، قريبا من قصر أبيها ذي جدن. ما كان أقصرها من أشهر مرت كما تمضي ليلة الصيف المقمرة، وأثمرت ثمرتها الفريدة، فولدت ولدها الأول والأحب، وكانت تحسب أن الحياة تبتسم وأن الدنيا تغني أغنية السعادة، وأن ذلك الوليد سوف ينمو ويحبو ويشب في رحاب أبيه؛ ليقر عينيهما في شيخوختهما، ويرث السيادة المنحدرة إليه من جديه. ولكن وا أسفا! فإن أبا مرة خرج يوما إلى حرب الأعداء ولم يعد إليها، خرج إلى حرب هؤلاء الأحباش يقودهم أبرهة، وما كانت تحسب عند ذلك أنهم يصيرون سادة الأرض، أو أنه سيأتي عليها يوم تكون فيه ...
وأغمضت عينيها عندما تمثلت لها صورة أبرهة.
كانت آخر كلمة سمعتها من أبي مرة أن قال لها: «قبلي طفلنا كل ليلة، وانظري إلى نجم الشعرى، فإني سأرقب طلوعه لأنظر إليه، فتتلاقى نظراتنا هناك وأعلم أنك تقبلين ولدي، وأرجو أن يكون لقاؤنا قريبا.» ثم قبل الطفل الذي كانت تحمله بين ذراعيها، ونظر إلى وجهها باسما ولكنه لم يقبلها، لقد آلى ألا يشرب خمرا ولا يقرب امرأته حتى ينتصر على عدوه. وأسرع يبتعد عنها كأنه ينزع قدميه من موطئهما، ووقفت تنظر إليه وصورته تسبح من وراء عينيها الدامعتين، ثم غاب وراء ثنية الوادي، وغاب آخر فارس من الذين كانوا يركبون وراءه.
كانت تقف في الأصباح والأماسي في شرفة قصر أبيها الذي انتقلت إليه، لعلها تجد مع أهله أنسا. وكانت تترقب الأفق تنتظر عودة فارسها المنتصر، وكم خفق فؤادها كلما لاح لها شبح فارس من ثنية الوادي، ولكنها كانت في كل مرة ترد بصرها خائبة حزينة.
وطلع عليها آخر الأمر فارس ومن ورائه ركب، وجاءوا يقصدون نحو القصر، ولكنه لم يكن أبا مرة، وتأملت أشخاصهم في قلق ولهفة حتى نزلوا، ثم صرخت في يأس. كانوا ركبا من الأعداء الذين خرج أبو مرة إلى حربهم، سود الوجوه شعث الشعور، في أيديهم حراب طويلة، وجاءوا إليها بعد حين يحملون إليها أمر أبرهة أن تسير إلى صنعاء، وتلفتت حولها ترجو أن ترى نصيرا، ولكن لم يكن هناك قومها، لم يكن هناك سوى شيوخ من الأتباع وعجائز أو صبية من الأهل؛ لأن الرجال جميعا خرجوا مع أبي مرة. وصاح الجنود في وحشية ينادونها باسمها، أما كان خيرا لها لو ألقت بنفسها من الشرفة فتدهدهت على حافة الوادي الصخرية؟ ولكن الوليد كان بين ذراعيها، وأمسك بها في ذعر عندما صرخت، ودفعتها الفطرة إليه، فنظرت إليه تطمئنه من خلال لهفتها، فتبسم لها بعينيه الواسعتين البريئتين وهو لا يدري ماذا ينتظره في الغد الموحش.
وأغمضت ريحانة عينيها مرة أخرى في يأس، تريد أن تبعد الصورة عن ذهنها، ولكنها تشبثت بها في لجاجة وقسوة، فلم تبعد عنها. ورنت في أذنيها أصداء ضحكة مزغردة، كانت بلا شك ضحكة أبرهة عندما رآها تدخل عليه في بهو غمدان، ثم قوله لها: أنت ريحانة حقا! ما هذه السحابة التي تغشي وجهك يا ريحانة؟
أهو حلم أم حقيقة؟ أهي الرؤية البعيدة أم هو أبرهة الحي الذي أمامها؟ وقامت ريحانة جافلة نحو باب الشرفة، وكان أبرهة هناك حقيقة يناديها في ضحكته المزغردة: ما هذه السحابة التي تغشي وجهك يا مليكتي؟ هكذا كنت عندما وقعت عيني عليك أول مرة.
ونظرت إليه نظرة صامتة فيها كل مشاعرها، فاستمر قائلا: إنها النظرة الحانقة الصامتة.
فعادت ريحانة إلى مقعدها صامتة، وقال أبرهة: أهكذا تلقينني؟
فقالت في دفعة: وماذا تريد مني؟
نامعلوم صفحہ