وكانت حادثة نوفاره قد أضاعت آخر رجاء في المساعدة من الخارج، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد الاستسلام؛ إذ قرر المجلس - على إثر ورود أخبار نوفاره - المقاومة مهما كلف الأمر، ومنح مانين سلطة غير محدودة، وكان النمسويون يستعدون للهجوم وأخذت أعمال الخنادق تقترب يوما فيوما من حصن مالفيرا، وبعد أن قاوم الحصن هجوما عنيفا في أواخر أيار ثلاثة أيام، أصبح ركاما من الحجارة وانسحبت حاميته أمام عدو يفوقها عشرة أضعاف، ولم يستول اليأس مع ذلك على المدينة، فأقر المجلس المقاومة مهما كلف الأمر.
وشاهد أهل البندقية في حزيران قنابل العدو تسقط على الجانب الغربي من المدينة، وبعد ستة أسابيع حسن النمسويون رميهم وأخذت نارهم تصيب ثلثي المدينة فأخلي أكثر الحصون، وانتشر في المدينة مرض التيفوس والهيضة وقضى على أربعة آلاف من الناس، ولم يتذمر الشعب من جراء ذلك وظل يأمل خيرا رغم أن بيمونته وفرنسة وهنغارية وروما تخلت عنه.
وقد قام أصحاب الزوارق بضروب من البطولة مدهشة؛ وذلك باختراقهم خطوط العدو للحصول على بعض الذخيرة أو بعض الأخبار، وتسابق الصبيان لاقتناص قنابل العدو المهيأة للانفجار لتسليمها إلى دار الصناعة وأخذ الناس يقولون: «القنابل ولا الخرواتيين.»
ولم يحدث أي شغب حتى في أشد أيام الضيق الأخيرة، ولما أدرك مانين أن كل رجاء قد ضاع أصبح يميل إلى قبول ما عرض من الحكم الذاتي، ولكن بما أن شروط النمسويين كانت غامضة فإن المجلس قد رفضها بما يقرب من الإجماع، ولكن الذخائر لم تكن تكفي أكثر من نهاية شهر آب، وأخذ مانين يخشى بطش النمسويين فيما إذا استولوا على المدينة من دون قيد ولا شرط، وكان شعور الشعب ضد الاستسلام شديدا إلى درجة هددت سلطة مانين على المدينة.
وأخذ توماسو يحيك الدسائس على رأس جماعة متطرفة تظن بأن الذخائر لا تزال محفوظة في محلات خفية وتطالب بالاندفاع بقوة كبيرة، بيد أن ببه عاضد مانين بكل عزم حتى خوله المجلس أخيرا بأكثرية ضئيلة الصلاحية اللازمة للمفاوضة، وفي 22 آب استسلمت المدينة بعد أن كبدت النمسويين خسائر كبيرة تنوف على ثمانية آلاف قتيل وميت بمرض.
ومع أن الخرواتي المنبوذ قد داس حرمة المدينة فإنها قد خلدت ذكرها بأعمال البطولة واستحقت التمجيد، أما مانين فقد ذهب بعد كل تلك المآثر إلى المنفى لا يملك شيئا وعاش فيه عيشة المفكر العظيم بعد أن مثل في المدينة دور الرجل العامل.
وباستسلام البندقية ضاع كل شيء، وابتليت البلاد بحركة رجعية عنيفة ظالمة همها الانتقام والاضطهاد، وفي خلال سنة واحدة خابت الآمال العظيمة التي كادت أن تتحقق، وأخذ الناس يتساءلون عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المحزنة، وقد أيقنوا أن السبب الأول هو تفوق قوة العدو مع أن هناك أسبابا أخطر من ذلك أدت إلى هذا الفشل اندمجت في طبيعة الحركة، فكانت حركة سنوات 1846-1849 ترمي إلى الاستقلال فقط من دون المطالبة بالوحدة وحتى إنها لم تكن تسعى إلى الاتحاد كل السعي، وكان عدد أنصار الوحدة قليلا جدا.
أما جمهورية مازيني الموحدة فسرعان ما أصبحت حبرا على ورق، وأما القلائل من الرجال الذين ارتئوا وحدة ملكية بزعامة شارل ألبرت فأظهروا عجزهم عن استكثار الأنصار، ولم يفكر الإلبرتون الأقحاح في ضم نابولي إلى بيمونته وفكروا قليلا في ضم الوسط، ولم يتجاوز تفكير رجال الحكم في بيمونته وادي بو وإيالة الروماني، وأعرضوا عن صقلية بينما كانت مستعدة للانضمام إلى بيمونته.
ومع كل ذلك فإن الخوف من توسع بيمونته ولد شعورا عميقا من الشك ورد الفعل كثيرا ما استغله الدموقراطيون وأنصار الملوك الآخرين، وقد تآمر مونتانلي ضد ضم لمبارديه إلى بيمونته، أما في لمبارديه نفسها فقد بذل الدموقراطيون والجمهوريون جهدهم للحيلولة دون الانضمام ووضع رجال الدولة الأحرار في نابولي الخطط لتوسيع ممتلكات فرديناند.
ومما زاد في الطين بلة تلك الاختلافات بين المعتدلين والدموقراطيين، أضف إلى ذلك ندرة الزعماء الأكفاء الذين لو تيسر وجودهم لذللوا كثيرا من هذه الصعوبات، ولا غرو فإن بلادا حديثة العهد بحريتها لا تستطيع أن تخلق رجال دولة شعبيين.
نامعلوم صفحہ