وكان هذا الرئيس من حيث ماضيه المجيد وحبه للحرية وتضحيته في سبيلها حتى بآرائه الخاصة وصفته؛ بعيدا عن كل مغمز ومطعن، وفي هذا الرئيس تمثلت وحدة البلاد، ولكن وراء هذا الإجماع على قضية الاستقلال لم يكن بد من تنوع الآراء وتكوين فرق، فهناك الوزارة وأكثرية البرلمان المؤلفة من المحامين ورجال الأدب وبعض الأشراف؛ يقولون بملكية دستورية تستند إلى حرية واسعة لا تبلغ الدموقراقية التامة، ولم يكن رجال هذا الفريق يهتمون بالسياسة الإيطالية الاهتمام الكافي، وإنما كانوا يعتمدون على عطف إنكلترة وفرنسة وحمايتهما إياهم من عدوان آل بوربون.
وهناك في البرلمان أقلية ولكنها تنزع إلى الجمهورية، وتعنى كثيرا بالقضية الإيطالية، وشرعت من كل قلبها في مساعدة أحرار نابولي وجيش الشمال، وترغب كل الرغبة في تأليف جيش قوي يكفل للجزيرة استقلالها بلا مساعدة إنجليزية أو إفرنسية، على أن الاهتمام بتجنيد الجيش كان ضئيلا، وتكاد الشرطة تكون مفقودة، فكان أمن المدينة تحت رحمة عصابات من المحكومين الذين أخرجتهم قوات نابولي وموظفيها قبل رحيلهم من الجزيرة، فضلا عن أن عصابة سكوادره المجرمة التي استخدمتها باليريمو عملا بتقاليدها في أعمال الثورة، وكانت هذه تنتظر حصتها من الغنيمة، وكانت العصابات المنظمة تحيط بمدينة باليرمو ورتبت الاضطرابات في كتانية ومرسالة.
ورغم هذه الأحوال فإن الاختلافات قد تلاشت أمام قضية انتخابات الملك، وكان الموقف يتطلب حلا سريعا لأن الارتباك الذي ينجم عن عدم وجود الملك يحول دون استتباب الأمن، أضف إلى ذلك أن إنجلترة وفرنسة لم تعترفا بالحكومة الجديدة قبل أن ينتخب الملك، فلا بد إذن من أن تبت صقلية قبل كل شيء في شئونها الخاصة؛ ليتسنى لها الانضمام إلى الاتحاد الإيطالي باعتبارها دولة مستقلة.
وكان الصقليون يلحون بأن يكون لهم برلمان خاص؛ لأن نوابهم في مجلس مشترك يؤلفون أقلية لا شأن لها، شأن النواب الأيرلنديين في مجلس العموم البريطاني، وكانوا لا يفتئون يجهرون بأن خصومتهم لنابولي لا تعني خصومتهم لإيطالية؛ لأنهم إنما يريدون أن يروا نابولي شقيقة لهم لا سيدة عليهم.
على أن أحرار القارة الأوروبية كانوا يعلمون بأن الوعي القومي لم يتغلغل في نفوس أهل الجزيرة إلا قليلا، وأن الحمية التقليدية القومية التي تتجلى في المطالبة تطغى على كل عاطفة إيطالية عامة، ولقد كان هناك خطر يهدد القضية الإيطالية في سعي صقلية لأن تكون دولة مستقلة بحماية إنكلترة.
فاختيار الملك إذن كان أحسن واسطة لمعالجة تلك الميول، ومن المحتمل أن تعترف الدول الإيطالية بدولة صقلية إثر انتخابه ما عدا دولة نابولي.
وكان في الميدان مرشحان خطيران، أولهما أمير جنوة، وثانيهما ابن قاصر للدوق الكبير، وكان لئوبولد على استعداد لاستلام التاج باسم ابنه، وكانت فرنسة وجميع الذين يخشون سيطرة بيمونته المتزايدة في جانب هذا الترشيح، وبينما كان البرلمان منهمكا بمناقشاته وبحوثه الدستورية الطويلة؛ أخذ الشعب يتلهف لرؤية الملك المنتخب المنشود، وكانت شهرة أمير جنوة الحربية ورغبة الناس في أن يتسلم العرش رجل عسكري ذو عزيمة؛ قد رجحت كفته وعجل في حل القضية بيان رسمي أصدرته الحكومة البريطانية قالت فيه: إنها تعترف باستقلال الجزيرة حالما تتم الانتخابات.
وقد هدد الحرس الوطني البرلمان باستعمال القوة إذا طال تأخير القضية، مما اضطر المجلس النيابي إلى الاستعجال في وضع مواد الدستور اللازمة في الليل، ثم انتخب المجلسان - بالإجماع - أمير جنوة ملكا على صقلية وذلك في 1 تموز.
وبلغ فرح الناس وحماستهم حدا نسوا فيه أن يتبينوا فيما إذا كان الأمير يقبل العرش ونسوا خطر استيلاء نابولي على الجزيرة، وأخذت صقلية تتنفس نسيم الحرية والخلاص التام من أسرة بوربون البغيضة، إلا أنه سرعان ما تكدر الجو؛ لأن الحكومة لم تعد العدة للدفاع عن الجزيرة، وكانت صعوبة تنظيم الجيش من الصعوبات التي لا قبل لحكومة ضعيفة بتذليلها.
ثم إن أمير جنوة أجل جوابه مما أدى بالوزارة إلى تقديم استقالتها في شهر آب، فألف الوزارة «توريارسة» أحد المحافظين الشرفاء، وكان زملاؤه أكثر دموقراطية من الوزراء السابقين، وكان من بين وزرائه «لافارينا وكردونه»، وهما من ألمع رجال صقلية، ولكن لم تكد تتولى الوزارة شئون الدولة ثلاثة أسابيع حتى كان هجوم نابولي على الجزيرة.
نامعلوم صفحہ