ثم يليه «ممياني» أوضح ممياني، وهو من زعماء ثورة 1831 آراءه في رسالة نشرها في باريس سنة 1841، ورأى فيها أن إيطالية عاجلا أو آجلا سوف تنال استقلالها من دون مساعدة أجنبية وبعد حروب حامية يشنها أحد الملوك الطليان، وعليه يجب أن تترصد الفرصة سنوات حتى تنشب الفتن في النمسة، وفي الحين ذاته يجب علينا تربية الجماهير تربية وطنية؛ تؤهلهم للمساهمة في الحركة، على أن هذه الرسالة لم يكن لها كبير تأثير.
وكان رجال السياسة الذين لا يرون في البابا القدرة على إنالة إيطالية استقلالها؛ يجدون ما ينشدونه في ملوك بيمونته، وكانت سياسة الحكومة البيمونتية تعتبر الكنيسة فرعا من فروع الإدارة وكان معظم الأشراف في بيمونته يعتزون بماضي بلادهم ويؤمنون بقدرتها وكانوا يرثون الحقد التقليدي على النمسة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الزمرة الأولى من المعتدلين تتخذ كتاب جيوبرتي إنجيلا لها ظهرت آراء الزمرة الثانية التي تؤمن برسالة بيمونته القومية في الكتاب الذي أله قيصر بالبو بعنوان: «آمال إيطالية» والذي نشر في باريس سنة 1843، وكان بالبو هذا تلميذا لجيوبرتي ومعجبا به ولكنه يختلف عن أستاذه بتعليق آماله على تورينو بدلا من روما، وكان كتابه موجها ضمنا للملك شارل ألبرت يحرك به وطنيته ويعده بإكليل المجد ويمنيه بتوسيع البلاد بعد طرد النمسويين منها، ومع ذلك فلم يوجه تلك الدعوة باسم الوحدة الإيطالية لأن بالبو يرى في الوحدة الإيطالية حلما خلابا ويعتبر أن المستقبل السياسي يتوقف على الاتحاد لا الوحدة غير أن هذا الاتحاد لن يتم ما دام النمسويين يحتلون البلاد.
ويقول: «إذا لم يكن هناك استقلال وطني فكل ما ننشده من أمور طيبة لا يساوي شيئا، وإن مجرد احتلال الأجنبي إيالة واحدة فقط لمن شأنه أن يهين الكرامة الوطنية وأن يحول دون رفاه الولايات الأخرى، ويؤذي الصناعة الإيطالية بل إنه من شأنه أن يذهب بمزايا الأمة كلها، من أجل ذلك يجب المطالبة بالاستقلال قبل الوحدة وقبل الحرية الدستورية.»
ومن غريب ما ذكره في كتابه أن إيطالية لا تحصل على استقلالها إلا على الاختلاف الذي يحدث بين الدولة العثمانية وبين النمسة فيؤدي إلى الحرب التي تشغل النمسة بالشرق، وبذا تسنح لإيطالية فرصة الحصول على استقلالها وتتجلى قوة أمله في الجملة الآتية: «لا تقهر أمة تبلغ عشرين مليونا إذا اتحدت وكانت ذات خلق.» وينهي كتابه مثل جيوبرتي بالجملة الآتية: «فليقم كل شخص بواجبه حسب استطاعته والله كفيل بالإتمام!»
وقام «مسيمو دازجيلو» صديق بالبو بنشر آرائه، وكان هذا أيضا من أشراف بيمونته، ترك مسلك الجندية واحترف الرسم وكان يقضي أوقاته بين روما وميلانو وفرنسة، ولعله البيمونتي الأول الذي برهن على إيطاليته بالتجول في مراكز إيطالية المهمة وأخذ يكتب الروايات ونال شهرة في إيطالية كلها ومع أن بالبو كان يميل إلى آراء جيوبرتي من جهة اعتبار روما فإن دازجيلو كان يكره روما.
وفي خريف سنة 1845 دعاه أهل الروماني ليبشر رسالة بيمونته فوصل إليها، وأخذ يبشر بالثورة في اليوم العظيم ويدعو إلى الثقة بشارل ألبرت، ورغم الذكريات المرة التي تحز في نفوس الأحرار الفتيان من جراء موقف ملك بيمونته ورغم اقتناعهم بضرورة توجيه جهودهم نحو الجمهورية، فقد استطاع دازجيلو أن يجذب فئة كبيرة إلى آرائه ، ومع ذلك فإنه لم يوفق إلى القضاء على عادة العصيان المحلي.
فلم يكد يترك الروماني حتى بدأ الإرهاب، فتلاه قيام فراتوري الذي دفع الأحرار إلى رفع السلاح في رافينه وريمني؛ حيث نشرت بيانات عامة إلى الملوك وشعوب أوروبا، وكانت الحركة في حد ذاتها قليلة الأهمية، وكانت الظاهرة الأولى للفكرة الجديدة التي برزت باشتراك رجال من شيع مختلفة من أجل غاية واحدة وقادها رجلان لا ينتميان لحزب الثورة؛ وهما «ممياني وفاريني» كتب البيان بقلم مازيني، وكانت الحركة ترمي إلى إكراه البابوية على إنقاذ نفسها بالقيام بالإصلاحات، ولم تتعد المطالب التي وردت في البيان ما جاء في المذكرة الدولية الموضوعة سنة 1831.
وكان في جواب البلاط البابوي عليه بعض اللباقة والحذق، أما دازجيلو فانتهز الفرصة وأذاع بيانا يؤيد فيه سياسة بيمونته التقدمية، ثم طبع رسالة تبحث في حوادث الروماني الأخيرة، ندد فيها بالثورات المحلية الصغيرة التي لا تؤدي إلى الاستقلال بل تمكن الحكومات من سحقها وتسوغ حجتها في إنزال الاضطهاد بالأحرار، مبينا أنه ليس من حق أقلية أن تفرض مستقبل الشعب وأن تلقي البلاد في كفاح واسع خطر، فالمعركة يجب أن يشترك فيها الجميع ولكن الوقت لم يكن صالحا للحرب؛ ما دام النمسويون يستطيعون أن يقمعوا كل حركة بقوة السلاح، ومع أن الصبر يشق على الرازحين تحت الاستبداد فإنه يجب ألا يغرب عن البال بأن الثورة تصطدم بسخط الرأي العام ومن مزايا دازجيلو تقديره للرأي العام.
وكان لتلك الرسالة صدى عميق في البلاد وأصبح دازجيلو - بفضلها - زعيما لأنصار ألبرت الذين يعلقون آمالهم على ملك بيمونته، أما الجمهوريون فاعترفوا بصعوبة السير ضد التيار، وهكذا أخذ الشبان الجمهوريون يبدلون معسكرهم وينضمون إلى الحزب الجديد، وقوي هذا التيار حتى صعب معاكسته، فرأى مازيني رغم اقتناعه بالمذهب الجمهوري ضرورة التفاهم، ورضي بأن يكف عن الدعاية الجمهورية ولو إلى حين على أن يرضى المعتدلون أيضا بالكف عن فكرة الاتحاد وبالسعي للوحدة.
نامعلوم صفحہ