وكان من تأثير رسالة مازيني أنها أذكت نار القومية الإيطالية، ووجهت السياسة الإيطالية نحو العمل للاستقلال، وجعلت الاحتلال الأجنبي أمرا لا يجوز التساهل معه أبدا، وكان مازيني كأكثر الكاربوناريين يعتبر بيمونته مصدر الشروع في الحركة القومية، فأخذ أكثر الوطنيين بصيرة يعتقدون أنها مهد آمال إيطالية، ويدعون إلى هذه القاعدة عدا تلك المقاومة العنيدة التي كان بيت صافويه المالك يبيديها ضد محاولات النمسة لاستمالته إلى جانبها.
والقوة العسكرية في هذه المملكة الفتية، وتشبع مدينة جنوة بحب الحرية، وقرب ميلانو من الحدود النمسوية وإيمان الأمير شارل ألبرت اليقظ؛ كل هذه العوامل جعلت بيمونته منارة الطموح الإيطالي وشجعت الآمال في إيطالية تلك الثورة التي نشبت في إسبانية وبلاد اليونان، فكانت ذات صلة بحركة الكاربوناري الجديدة، ودبرت سنة 1830 مؤامرة للحصول على الدستور واشترك فيها رجال من الجيش ومن المحامين، وفكر المتآمرون ثانية في دعوة شارل ألبرت إلى رعاية الحركة، إلا أن آمالهم ذهبت أدراج الرياح فأجل تنفيذ المؤامرة، ثم اطلعت عليها الحكومة فقضت عليها.
وفي تلك الأيام مات ملك بيمونته وارتقى العرش شارل ألبرت إلا أن ارتقاءه لم يتم من دون معارضة، فقد أرادت النمسة أن تستفيد من موت الملك من دون عقب فرشحت الدوق فرنسوا أمير مودينه زوج ابنة الملك السابق فيكتور عمانوئيل، إلا أن فرنسة هددت بإعلان الحرب إذا تبوأ العرش أمير نمسوي.
وقد تردد مترنيخ كثيرا عن رضائه من تبوؤ شارل ألبرت العرش؛ ولذلك فإنه حين عودته من فرنسة اضطره مترنيخ إلى البقاء في فلورنسة مدة طويلة واقترح على دول الحلف أن يتعهد أمام مؤتمرها برعاية القانون المتعلق بالنظام الملكي والمحافظة عليه، ولم يساعده مترنيخ على العودة إلا بعد أن أثبت بأنه حارب مع الجيش الإفرنسي ضد الأحرار الإسبان، ولما عاد إلى تورينو وعده في حكم المملكة باستشارة المجلس الرجعي وأن يحافظ على قانون المملكة الأساسي ، ولم يكد شارل يرتقي العرش حتى بدأ عهده باضطهاد الأحرار مما دعى الشاعر الموسيقار بركيت أن يكتب من منفاه: «تحت أي سماء تكون أيها الخائن فلعنة المنفى تنزل عليك.»
قضى هذا الملك حياته في مناورات مع الأحرار، فكان مستبدا قلبا وقالبا، وكان يصرح بأنه لا يقر الثورة أبدا، وكان يكره الحكم الدستوري بحجة أنه يؤدي إلى تشاحن الأحزاب ويخل بالانسجام القومي، ورغم كونه مستبدا فقد كان يخضع أمام كل وزير ذي عزيمة، وكان يتجنب اتخاذ القرارات الحاسمة؛ لذلك رمي بالتردد وكان موقفه من مجلس الوزراء موقف الجبان، فكلما رأى معارضة أجل القرارات ورتب الأمور بصورة يضطر الوزير معها إلى الانسحاب؛ خشية مناقشته «أليس من عجائب الدهر أن يعتبر هذا الملك زعيما لحركة كان يكرهها؟ ولما جلس على العرش توقع الأحرار منه إصلاحات عظيمة، تستهدف الخير»، ولو أقدم على مساعدتهم لكان منح الدستور للأمة.
وكان يعلم أن النمسة تشهر الحرب عليه إذا رأت بيمونته تسير على النظام الدستوري، ومن جهة أخرى كان متمسكا باليمين الذي أقسمه أمام الحلفاء؛ فلذلك أبقى في الوزارة الأعضاء الرجعيين وعين مجلسا للدولة لا قيمة له، وخابت آمال البلاد حين رأت الوزارة الرجعية، ووجه مازيني رغم نزعته الجمهورية إلى الملك رسالة يطلب إليه فيها بأن يكون على رأس الوطنيين وربما كان مازيني غير مخلص للملك بكتابته تلك الرسالة؛ إذ كان يتوقع أن رفض الملك ما كلفه إياه؛ يزيل من نفوس الطليان الثقة بالملك والاعتماد عليه.
وكان جواب الملك أن أصدر على صاحب الرسالة حكما صارما، فما كان من مازيني إلا أن دعى إلى الثورة وكان فريسة أوهام المنفى؛ إذ خيل له أن البلاد على أبواب الثورة فيكفي أن تنفخ إيطالية الفتاة في صورها حتى تهرع أفواج المتطوعين للحركة، ثم ينضم الجيش البيمونتي إلى الثوار ويستولي على لمبارديه ويكون شارل ألبرت بين أمرين: إما أن يترأس الحركة وإما أن يرضى بالخلع.
فما أسرع ما اكتشفت الحكومة هذه المؤامرة، ولجأت إلى القسوة في البطش برجالها، فتألفت المحاكم العرفية وجاء دور من الإرهاب يقوم على التعذيب والقتل، وكان الملك بنفسه يلح على الحكام بإصدار الأحكام القاسية ويعدهم لقاء ذلك بالأوسمة.
وكان هذا الدور من أسود صحائف التاريخ في بيمونته، لكن مازيني لم يحفل بكل ذلك وأعد ثورة ثانية، واجتمع في سويسرا سبعمائة من المبعدين من جميع الأقطار، وزحفوا على إيالة صافويه، وكان على رأسهم الجنرال المنفي «رمارينو» بينما حاول غريبا لدى البحار الشباب أن يثير الأسطول، وأضاع بطء رمارينو وعجزه الفرصة وتشتت القوة إثر بعض مناوشات لم ترع فيها الأصول والدقة وذلك في شباط سنة 1834.
ونشطت آمال الأحرار والدموقراطيين في حزب إيطالية الفتاة في نابولي عقيب موت الملك فرديناند سنة 1825 وارتقاء ابنه فرنسوا على العرش، وكان قبل ذلك نائبا للملك في صقلية فشجع فيها بعض الأفكار الحرة واشترك في مؤامرة سنة 1820، ولكنه لم يكد يتولى الملك حتى انصرف إلى الملذات تاركا شئون الدولة بيد المحسوبين عليه، وأمعن نائب الملك الجديد بصقلية في اضطهاد الأحرار ونشب عصيان في «البلانتو» فأسرع قائد كان قد اشترك في ثورة 1820 إلى قمع العصيان بالنار والحديد، وقطع رءوس - الزعماء وعلقها على أبواب بيوتهم.
نامعلوم صفحہ