على أن التجارة في الجزيرة كانت أسوأ من حالة الزراعة، ولعل الصناعة الوحيدة فيها كانت صناعة الخمور وأعمال مناجم الكبريت التي كانت تستغل برءوس أموال أجنبية، ولم تكن المبادلة التجارية بينها وبين نابولي جيدة، فكانت أنظمة الحماية تعرقل نمو التجارة وتقدمها، وكانت حالة العمال في المناجم سيئة، ويتقاضى الفلاحون الذين يقطعون كل يوم مسافات طويلة للذهاب من مساكنهم في المدينة إلى الحقول أجرة أسبوعية تتفاوت بين الست فرنكات إيطالية والتسعة.
ومع أن القرويين كانوا ذوي جد وقناعة؛ فإنهم رزحوا تحت أثقال الربا الفاحش، ورسوم الطحن العالية، وضريبة الأملاك، ولطالما أدى بهم اليأس إلى ترك أرضهم والانخراط في سلك الأشقياء الذي يدر عليهم أرباحا لا تدرها الزراعة.
ولم يكن في البلاد من يحترم القانون، والحكومة نفسها لم تكن تتردد في خرقه، أما الموظفون فكانوا يستخدمونه حسب أهوائهم، وكان الأشراف يستخدمون أنصارهم لقتل أعدائهم ، فخدم الأشراف وأشقياء باليرمو الجناة وغارسو أشجار البرتقال في منطقة «كنكاردو» والطبقة الوسطى في المدينة؛ كل أولئك يتآمرون سرا على القانون، ويقفون في وجه العدالة ويشلون أعمال الحكومة ولم يك ينقذ هذه الجزيرة المسكينة من شقائها إلا السعي في أناة لإنشاء جيل جديد يشفيها من جهلها وفقرها ومعتقداتها الباطلة.
ولم يعمل شيء ما في هذا السبيل، فلا أثر للتعليم تقريبا، وأولاد الأشراف أنفسهم كانوا أميين - في الغالب - وتنفق مدينة باليرمو على أولاد اللقطاء عشرة أضعاف ما تنفقه على التعليم، ويتقاضى أساتذة الجامعة أجرة هي دون أجرة جندي دركي، وكان الشعب يؤمن بمعتقدات دينية وثنية.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الكنيسة كانت قوية جدا، وأنه كان للرهبان أموال جسيمة لم تتعرض إليها الثورة، ولعل قيمتها تفوق قيمة جميع الأديرة في إيطالية وينقسم الشعب طبقتين: طبقة الأشراف وطبقة العمال، ولا توجد طبقة البورجوازي المتوسطة.
الفصل السادس
إيطالية بأجمعها
إن الذين لا يصدقون وجود أمة إيطالية، يؤيدون دعواهم باختلاف السجايا التي يتصف بها أهل الدويلات المختلفة فيها، وندرة الصفات المشتركة بينهم، ويشيرون مثلا إلى الفرق بين ابن بيمونته الرزين المجتهد، وبين العامل الفرفار العاطل الخليع في فنيسيه ونابولي، وكذلك بين الطوسكاني الذكي اللطيف والصقلي الحديد المزاح السفاك، ثم يقولون إنه لم يجمعهم أصل مشترك.
فالدم الجرماني هو الحاكم في الشمال، بينما الدم العربي والنورمندي والإسباني قد ترك آثاره في صقلية، أما الدم الإيطالي والأترسكي القديم فبقي في طوسكانه وبعض المناطق الوسطى مع معرفة أنه لم يكن نقيا، أما الحكومات المختلفة في تلك الدويلات فقد كونت في الشعوب الإيطالية عادات اجتماعية متفاوتة، ونظم التملك العقاري لا تشابه بينها مطلقا، وقد دفعتهم إما إلى النشاط في الصناعة أو الركود فيها، أما درجة التعليم فإما راقية وإما منحطة.
وهذه التقاليد والعادات الإقطاعية كانت سائدة في بيمونته ونابولي وصقلية، بينما
نامعلوم صفحہ