وقد يستمر الأشراف في بيمونته على التباهي بأصلهم البروفنسي واحتقار الدم الطلياني النقي، وقد تستطيع البورقراطية أن تعتبر إيطالية جزءا من بيمونته، بيد أن الوعي القومي القوي فيها كان كفيلا بأن يقود إيطالية إلى حرب الخلاص.
وقد ظلت النمسة في نظر الملك فيكتور عمانوئيل وخلفه شارل فيلكس العدو اللدود لإيطالية، ولولا خشية الثورة في الداخل لأعلنا عليها الحرب؛ تحريرا لإيطالية، على أنه لا بد للمعركة من أن تشب عاجلا أو آجلا وستكون معركة حياة أو موت، ولا غرابة في أن يسود الاعتقاد بين المواطنين في إيطالية بأن ملوك بيمونته وشعبها هم الذين سيقودون تلك الحركة.
لمبارديه وفنيسيه
إن تحرير لمبارديه وفنيسيه كان أمل جميع الوطنيين الإيطاليين، فكان اغتباط أهل نابولي وروما وبيمونته بالمؤسسات الإدارية التي يتمتع بها اللمبارديون والفنيسيون في محله، لقد كانت الإدارة النمسوية في القطرين المذكورين تستمد قوتها من التقاليد المستندة إلى الكفاية والنظام، وقد تكون هذه الإدارة بطيئة في عملها ولا يرضى عنها الشعب، وقد تضحي بغرور الأهلين وعاداتهم القومية في سبيل منافع النمسة وإدارتها المركزية، وقد يساعد مركز الحكومة المرتبك على سوء تصرف الشرطة وعلى الاضطهاد الشنيع بعض الأحيان، بيد أن الذي لا شك فيه هو أن النظام والقوة كانا من حسنات الإدارة الجرمانية، فضلا عن أن الناس كانوا متساوين أمام القانون، وإذا استثنينا دوقيتي «بارمه وطوسكانه» فإن الحرية الاجتماعية في القطرين المذكورين كانت تامة لا غبار عليها.
ولمبارديه قد انتقلت إلى يد النمسة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فاستفادت من إصلاحات ماريا تريزا ويوسف الثاني، وعقيب فتوح نابليون الأول أصبحت ميلانو عاصمة الجمهورية، ثم أمست عاصمة المملكة الإيطالية، بعد أن ألحقت بها جمهورية فنيسيه، وبذلك صارت عاصمة من العواصم الأوروبية المهمة وقاعدة لبلاط فخم، وكانت المدينة الأولى في إيطالية في رقي آدابها وصناعتها ومشاريعها الاجتماعية.
فنفق «سمبلون» قد أشرف على فتحه مهندسون لمبارديون، وكتدرائية ميلانو أكمل بناءها معماريون لمبارديون، وساهم في شرف انتصارات نابليون جنود لمبارديون، وكان «مونتي وفوسكولو»
1
قد أطلعا أوروبا على آداب لمباردية، ومع أن النمسة قد منحت لمباردية وفنيسيه الحكم الذاتي في سخاء فإنها عند التنفيذ خالفت الوعود التي قطعتها، ولا سيما بعد أن شغفت دول أوروبا بالإدارة المركزية التي اقتبستها من نابليون، وكان هدف النمسة في هذه الإدارة أن يطبع الألمان والسلاف والطليان بطابع واحد، حتى إن مترينيخ كان يقول «على اللمبارديين أن ينسوا أنهم طليان.» وطبق التشريع النمسوي في البلاد غير مهتم بعادات الأهلين وتقاليدهم وعرفهم القومي، وعلى الرغم من أن مترنيخ كان يميل إلى منح الطليان بعض الامتيازات في الإدارة والقضاء، إلا أنه إذا ما حدث اختلاف بين نائب الملك وبين حكام الإيالات أو بينه وبين مدير الشرطة؛ كانت فينا هي التي تبت في الخلاف، وبذلك كانت تقبض على زمام الحكم.
وأخذت الكتب المدرسية النمسوية تدرس في المدارس الابتدائية وألزمت الجامعات بتدريس القوانين النمسوية، واستعيض عن تدريس تأريخ إيطالية بتاريخ النمسة، ورأت الحكومة نفسها بعد مدة من الزمن أمام مشاكل عظيمة بسبب ما فرض من الضرائب الفادحة، وكان أهل لمبارديه وفنيسيه يدفعون ضعف ما كان يجب أن يجبى منهم من الضرائب، حتى إن نسبة الضرائب في لمباردية وفنيسيه أصبحت وقت السلم أكثر مما كانت عليه وقت الحرب في العهد الإفرنسي، أما ضرائب الأملاك فتجاوزت حد العشرين في المائة من الوارد الصافي، وكانت الحكومة هي التي تقدر الوارد الصافي فتسيء التقدير حتى تبلغ الضريبة ثلث الوارد الحقيقي أو نصفه.
وفي غير القضايا السياسية كان العدل النمسوي لا بأس به رغم ما يشعر به من العيوب الكثيرة الموجودة فيه من العدل الإيطالي، فالناس لا حق لهم في الحضور إلى المحاكم، ولا يجوز للمتهم أن يستشير، وليس من حقه أن يدرس الاتهامات الموجهة ضده بإمعان، ولا توجد هيئة عدول، ولكن النقص البارز في العدل النمسوي عدم موافقته لعادات الإيطاليين واستخدامه أكثر القضاة من الأجانب، أما في القضايا الدينية فالحكومة في لمبارديه كانت أرقى منها في سائر أنحاء إيطالية، فالرهبان يعتبرون من موظفي الدولة والراهب الذي يرفض العمل بموجب التعليمات الإدارية يعاقب.
نامعلوم صفحہ