وعلى إثر انتصار الحلفاء على نابليون في معركة «وترلو» فإنهم حنثوا بوعودهم؛ إذ بت مؤتمر فينا في مصير إيطالية من دون أن يكترث للعهود التي قطعها قادة الحلفاء للطليان أثناء الحركات ضد نابليون، وكشف رجال السياسة القناع عن وجوههم، حتى إن المندوب البريطاني في مؤتمر فينا قال للوفد اللمباردي إن تجربة الحكومات الدستورية قد فشلت، ولم تكن إيطالية في نظر المفاوضين في مؤتمر فينا سوى أداة للتوازن السياسي، فأمست غنيمة توزع على الملوك والأمراء.
والأغرب من كل ذلك أن الحلفاء لم يكونوا متحدي الرأي في موضوع تجزئة إيطالية وكيفيتها؛ فإنجلترة وروسية لم ترضيا بأن تصبح إيطالية إقطاعا للنمسة، وكانتا تميلان إلى إقصاء النمسة عن إيطالية إقصاء تاما، ولما كانت روسيا تطمح في الحصول على ممتلكات أخرى في بولندة فإنها غضت النظر أخيرا عن مطالب النمسة في إيطالية.
أسفرت نتائج مؤتمر فينا عن تملك النمسة «لمبارديه وفنيسيه وفالينتنه» واحتفظ البابا بممتلكاته في إيطالية المركزية، أما بيمونته فإنها طالبت بإلحاق لمبارديه بها، إلا أنها لم توفق ولكنها جزاء لخدماتها قد صححت حدودها، وألحق بها قسم من إيالة صافويه التي كان الفرنسيون قد ضموها إلى فرنسة عقيب الثورة، وضمت جنوه أيضا، وهكذا خرجت هذه الدولة أقوى مما كانت عليه قبل حروب نابليون، أما في الأنحاء الأخرى فقد عاد الأمراء إلى ممتلكاتهم، إلا أن النمسة أدخلت هؤلاء تحت نفوذها بعقد معاهدات مع أمراء طوسكانه ومودينه وبارمه، وأقامت حاميات نمسوية في قلاعهم.
أما الملك فرديناند البوربوني فقد عاد إلى نابولي قاعدة ملكه، وضم إلى ملكه جزيرة صقلية أيضا، وتعهد للنمسة في معاهدة سرية بأن لا يعقد حلفا مع أية دولة أخرى، ولا يمنح لرعيته أكثر من الحقوق الممنوحة إلى لمبارديه وفنيسيه، وعلى الرغم من هذه النتائج المحزنة فإن الأحرار الطليان لم يقطعوا رجاءهم في استقلال إيطالية، وقد رأينا كيف أنهم في فترة من الزمن يعلقون آمالا على مورات في تحقيق هذا الرجاء، وحين انسحب هذا من الميدان فإنهم وجهوا أنظارهم نحو الأسرة الملكية في بيمونته التي تتبوأ العرش في تورينو، وكان ملكها الأمير الوحيد الذي ينحدر من أصل إيطالي من بين أمراء إيطالية، فراح الوطنيون يحلمون في تأسيس دولة إيطالية في الشمال تجمع بين بيمونته ولمبارديه وإيالات الروماني، ولم يفكر هؤلاء وقتئذ في الوحدة الإيطالية الشاملة، وإنما كان البعض منهم يرى أن الوقت الذي يتألف منه اتحاد إيطالي من الدول الإيطالية الثلاث: دولة إيطالية في الشمال ودولة البابا في الوسط، ودولة نابولي في الجنوب؛ سيأتي فيما بعد.
نتائج مؤتمر فينا
لقد جزأ مؤتمر فينا إيطالية إلى ثمانية أجزاء وهي: مملكة بيمونته، والإيالات النمسوية في الشمال، ودويلات الكنيسة ودوقيات طوسكانه ومودينه وبارمه ولوكا في الوسط، ومملكة نابولي وصقلية في الجنوب، وقد أعطيت «بارمه» إلى الأميرة النمسوية «ماري لويز» أرملة نابليون، وأعطيت «لوكا» إلى الأميرة ماري لويز البوربونية - وكانت تحكم «بارمه» قبل الثورة الإفرنسية، أما الدويلات الأخرى فقد أعيدت إلى أصحابها القدماء باستثناء فنيسيه وجنوة.
ولما عاد الملك فيكتور عمانوئيل إلى عاصمة مملكته في تورينو استقبله شعبه بحماسة، ومع أنه كان يتصف بخلق نبيل وكان طيب القلب حسن النية، إلا أنه كان يكره كل تجدد، ويعتبر كل حركة إصلاحية بذرة من بذور الثورة التي كان هو عدوها الألد؛ ولذلك فإنه قضى على كل ما خلفته الثورة من أثر؛ برفض جميع القوانين التي وضعت حينما كان منفيا عن البلاد، ولم يعترف - فضلا عن ذلك - بأي موظف لم يكن مسجلا في سجل الموظفين قبل خروجه من بلاده، ولكنه حين لقي مقاومة سلبية من شعبه اضطر إلى التساهل وإغماض العين عن بعض القوانين، والموافقة على بعض الاصطلاحات، وأسس مجلس الإيالات، واحتفظ ببعض الموظفين من العهد الإفرنسي، وأدخل «بروسبير وبالبو» في الوزارة، وكان هذا الوزير من الإداريين القديرين، فأصبح من المتوقع القيام بإصلاحات جديدة.
ولكن عودة اليسوعيين أثارت انتقادات مرة ضد الحكومة؛ لأنها بذلك استمرت على الجمع بين مساوئ العهد القديم كالاعتساف في الحكم وسوء الشرطة السياسية، وبين نقائص الحكم الإفرنسي الجديد كالمركزية في الحكم.
أما في لمبارديه وفنيسيه فقد فرح أكثر الناس بعودة النمسويين ظنا منهم بأن النمسويين سيؤلفون منها مملكة، وسيقيمون مجالس إدارية قد تنقلب في المستقبل إلى مجالس تمثيلية، أما القانون الجديد فسيسن ملائما لسجايا الطليان وعاداتهم كما وعد مترينخ، بيد أنه سرعان ما رأى اللمبارديون أن كل هذه الوعود لم تتعد حدود القول، فأصبح القانون النمسوي نافذا، وأسندت المناصب العالية إلى النمسويين والتيروليين، وساءت الأحوال، وفشا الجهل حتى إن إمبراطور النمسة صرح بأنه لا يرغب في أناس متعلمين، وإنما يريد رعايا صادقين ومطيعين، وحدث عن خشونة النمسويين ووقاحتهم أمور، فكشف كل ذلك الستار عن نيات الحكومة الجديدة نحو رعاياها الطليان.
أما في طوسكانه فكانت حركة الارتجاع خفيفة الوطأة؛ إذ لم يحدث تغيير ما في المؤسسات المدنية التي أنشأها نابليون بدلا من نظامها اللامركزي، وقد أدرك أولو الأمر في هذه الإمارة ما طرأ على العالم من تطور وتحرر، حتى قيل إن الدوق كان على استعداد لقبول مجلس منتخب على أن يحتفظ لنفسه بحق تصديق القوانين ورفضها، ثم أعيدت بعض أملاك الرهبان إلا أنه لم يسمح مطلقا بعودة اليسوعيين - كما وقع في لمباردية.
نامعلوم صفحہ