وظل البابا بيوس متمسكا بسياسته التي لا تعرف التسامح واللين، وكان كافور يلجأ إلى مفاوضة روما؛ آملا الحصول على موافقتها، ولكن المفاوضات أسفرت عن رسالة بابوية عامة شديدة اللهجة، اتهمت المشروع بالإباحية، وهددت بالحرمان الكنسي فيما إذا نفذ، فأجاب دازجيلو بعنف أنه يعتبر تلك الرسالة العامة خروجا على الدولة، وكانت الحكومة قد نشرت لائحة القانون قبل مدة وجاوزت فيها حدود اقتراحات دازجيلو بإلغاء الجمعيات الدينية والإدارة والمرتبات الدينية التي تنفق على الأنفس أو على جماعات دينية، ولما عرضت اللائحة على المجلس النيابي أيدها حزب الوسط واليسار، وقبلت بأكثرية ساحقة.
أما الإكليريكيون فكانوا يستندون إلى مجلس الأعيان، وإلى الملك، وأيقنوا أنهم سينجحون في تمثيل الدور الذي مثلوه في قضية قانون النكاح المدني، وقد تخابر الملك قبل ذلك مع روما مخابرة ودية؛ مؤملا أن يصل إلى تفاهم، وحدث في خلال هذه المخابرات أن أصيب بنكبة هائلة زادت في مخاوفه، ذلك أنه فقد أمه وزوجه وولده في شهر واحد، فسرعان ما استغل الإكليريكيون هذا الحادث واعتبروه غضبا من الله.
واقترح الأساقفة المعتدلون الذين بذلوا جهدهم في التأليف بين الحكومة وردها أن يدفعوا من وارداتهم الكنيسة مدة ما قدر الإعانة التي تدفعها الحكومة، على أن تسحب الحكومة قانون الإلغاءات.
ولما رأى كافور أن الملك يميل إلى هذا الرأي قدم استقالته، فكلف الملك «دوراندو» وزير الحربية لتأليف الوزارة، ولكن هياج الرأي العام بلغ الذروة، حتى إن دوراندو أخفق في إيجاد زميل يؤازره في تحمل المسئولية، فأدرك الملك أنه سوف يفقد حظوته لدى الشعب، وأن تورينو في حالة شغب خطرة، وأن تمادي الأزمة يؤدي إلى اضطراب وسفك الدماء .
وبناء على مشورة دازجيلو عاد فأناط رئاسة الوزراء بكافور، ولم يستطع كافور أن يحصل على موافقة مجلس الأعيان على القانون إلا بأكثرية ضعيفة وبعد تعديلات تكاد تستثني نصف الأديرة، الأمر الذي أسخط الرأي العام واعتبر هذا الحل تواطؤا.
وكان كافور بين أمرين: فإما أن يوافق على التعديلات وإما أن يسبب أزمة دستورية قد تهز العرش وتهدر السياسة الخارجية، وكان كافور يرمي في سياسته الخارجية إلى جلب رضاء فرنسة؛ آملا أنه قد يحين الوقت الذي تسوق فيه جيوشها عبر الألبة؛ لطرد النمسويين من لمبارديه وفنيسيه، وكان قانعا بأن بيمونته وحدها لا تستطيع أن تنتصر في حرب هجومية، ومع ذلك كان يقدر وعورة الطريق التي يريد أن يسلكها بالاعتماد على حليف طموح لا ضمير له.
على أن كافورا لم يكن من الرجال الذين يحجمون عن استخدام الوسائل المريبة؛ إذ لاح له بأنها توصله إلى الهدف المقصود، وكان يؤثر سلوك الطرق السياسية على الالتجاء إلى الطرق الثورية، ونشبت الحرب الأوروبية ضد روسية فطورت الموقف؛ إذ كان الحلفاء على أتم الأهبة لشراء أو استجداء أية مساعدة من أي جهة كانت، وكانوا يرغبون أولا في استمالة النمسة التي تستطيع أن تشل توغل الروس في البلقان، وكانت النمسة تريد أن تبقى طليقة اليد لا تتقيد بشيء، وأخذت تساوم في مقترحات الحلفاء، وحجتها في ذلك أنها إذا حشدت جيشها في الشرق فإن بيمونته تنتهز الفرصة للهجوم على لمبارديه.
وكان الحلفاء قد عرضوا صيانة الحدود الإيطالية طول مدة الحرب إلا أنهم رأوا أن أحسن جواب لمساومة النمسة هو أن يقنعوا بيمونته بالدخول في الحلف وإرسال قسم من جيشها إلى الشرق، فأخذوا منذ أوائل سنة 1854 يلاطفون حكومة تورينو ملوحين لها - باستمرار - بأنهم سيقنعون النمسة بالتخلي عن لمبارديه لقاء ممتلكات جديدة يعطونها إياها في الشرق، ولكنها إذا ترددت في الأمر فإنهم سوف يساعدون النمسة على احتلال ألكسندرية.
وكانت هناك حوافز للإصغاء إلى الدول الغربية أهم من كل ما مر، فكافور أدرك بثاقب نظره أنه إذا أصبحت النمسة حليفة للحلفاء بدلا من بيمونته، فستظل فرنسة وإنجلترة مدينتين لعدوتها ومستاءتين منها وهنا أصبحت سياسة كافور بأجمعها في الميزان، فقبل مقترحات الحلفاء بلهفة وعرض عليهم إرسال قوة إلى القريم.
ومع أن الملك كان بجانبه فإنه لم يلق أي معاضدة لمشروعه هذا في الوزارة، حتى إن وزيرين من وزرائه هدداه بالاستقالة، وكانا يريان أنه من الطيش والمجازفة نهك قوى بيمونته وبذلها في نزاع ناشب بين الآخرين، مع أنه يجب الاحتفاظ بها لتسخيرها في مطامعها القومية الخاصة، وقد تريث كافور حتى استطاع في نهاية الخريف استمالة زملائه إلى رأيه، ولما طلب الحلفاء في كانون الأول سنة 1854 إلى بيمونته محالفتهم بصورة رسمية قررت الحكومة تلبية الطلب مشترطة أن تمنحها إنجلترة قرضا لا يقل عن مليون جنيه إسترليني، وأن تعتبر بيمونته حليفة لا أجيرة، فتشترك في جميع المؤتمرات المحتمل عقدها مدة الحرب، وبعدها أن تتعهد الدول الغربية في معاهدة سرية بأن تقدم بمسعى جديد لإلغاء عملية حجز الأملاك في لمبارديه، وأن تنظر بعين الجد في موقف إيطالية من حيث آمالها القومية.
نامعلوم صفحہ