فصاح الواعظ قائلا: «باركي يا نفسي الرب!».
وكانت هذه بداية الفيضان. فقد مشى الشبان والعجائز في الممر بوجوه شاحبة ودموع منهمرة من عيون الكثيرين منهم. ورأت الأمهات أبناءهن يخرون سجدا أمام دكة التائبين، بفرحة في قلوبهن ودعاء على شفاههن. وسرعان ما اضطر التائبون والنادمون إلى السجود حيث استطاعوا. كانت ترنيمة الخلاص المدوية ذات الإيقاع الحماسي تملأ الأجواء ممزوجة بصيحات الفرحة والهتافات الناطقة بالتقى والورع.
صاح ييتس وهو يفك زر ياقته بعنف: «يا إلهي! ما خطبي؟ لم يخالجني شعور كهذا من قبل. يجب أن أخرج إلى الهواء الطلق.»
واتجه إلى الباب بسرعة، وهرب دون أن يلحظه أحد في خضم الإثارة السائدة آنذاك. وقف لبعض الوقت في الخارج بجوار السياج مستنشقا الهواء البارد العليل بعمق. ثم وصل صوت الترنيمة إليه خافتا. فقبض على السياج خشية السقوط لأنه كان على وشك الإصابة بإغماء. وبعد أن استجمع بعضا من عافيته أخيرا، ركض بكل ما أوتي من قوة على الطريق، بينما كانت كلمات الترنيمة ترن في أذنيه: [مقطوعة موسيقية: الجئوا إلى الرب، واطلبوا الخلاص،
سبحوا باسمه العزيز بعلو صوتكم،
العظمة والشرف والخلاص،
لقد أتى يسوع الرب ليسود.]
الفصل الرابع عشر
حين تجمع الأقدار غريبين، نادرا ما تظل العلاقة المتبادلة بينهما على حالها، لا سيما إن كانا صغيرين. فتنجرف نحو القبول أو النفور، وقد عرفت بعض حالات تطورت فيها العلاقة إلى حب أو كراهية.
كانت الصداقة بين ستيلسون رينمارك ومارجريت هوارد صداقة أقل ما يقال عنها أنها قوية جدا. وكان كل منهما مستعدا للاعتراف بهذا مرارا. وكان لديهما أساس قوي يبنيان عليه هذه الصداقة متمثلا في كون شقيق مارجريت طالبا في الجامعة التي كان البروفيسور عضوا مهما فيها. وكان لديهما كذلك موضوع خلافي، وهذا الموضوع، حين لم يكن يؤدي إلى نقاش محتدم، بل نقاش رزين، كان يجدي نفعا أكبر في توطيد صداقتهما حتى من الموضوعات التي يتفقان فيها. فقد كانت مارجريت ترى، كما ذكر في فصل سابق، أن الجامعة مخطئة في غلق أبوابها في وجه المرأة. أما رينمارك، الذي لم يكن حتى وقت محادثتهما الأولى عن هذا الموضوع قد فكر في المسألة إلا قليلا، فتبنى رأيا مخالفا لرأي مارجريت، وكان رجلا أشد صراحة، أو أقل دبلوماسية، من أن يخفيه. وفي إحدى المرات كان ييتس حاضرا نقاشهما، وألقى بنفسه، بالحماسة التي كانت تميزه، في صف المرأة في هذا الجدال؛ إذ اتفق مع مارجريت بحرارة واستشهد ببعض الأمثلة، وسخر من أولئك الذين يرفضون التحاق المرأة بالجامعة، ووبخهم متهما إياهم بالخوف من المنافسة النسوية. التزمت مارجريت الصمت، فيما تحدث نصير قضيتها بفصاحة أكبر، ولكن ما إذا كان إعجابها بريتشارد ييتس قد ازداد بسبب دفاعه عن قضيتها، فمن يستطيع أن يجزم بذلك وهو ليس عالما بطرائق النساء؟ وبينما كان أمل ييتس في نيل احترامها هو الأساس الوحيد لآرائه الحاسمة في الموضوع، فمن المحتمل أنه قد نجح؛ لأن تجاربه مع الجنس الآخر كانت كبيرة ومتنوعة. كانت مارجريت منجذبة بلا شك إلى رينمارك، الذي لم يستطع إخفاء ثقافته العلمية العميقة تماما حتى بالإفراط في التقليل من قدر نفسه، وهو بدوره كان يشعر، بطبيعة الحال، بحماسة معلم تجاه طالبة لديها رغبة شديدة وجادة في الاغتراف من بحر المعرفة. ولو كان وصف مشاعره لييتس، الذي كان خبيرا في مسائل كثيرة، لربما كان سيعرف أن البروفيسور واقع في الحب، لكن رينمارك كان رجلا كتوما، ونادرا ما كان يتأمل أفكاره ومشاعره أو يسرف في ذكر أسراره. أما بخصوص مارجريت، فمن ذا الذي يستطيع أن يكشف ما في أعماق سريرة فتاة صغيرة دون أن تبدي بنفسها بعض الأمارات عليه؟ كل ما يستطيع المرء تدوينه بهذا الشأن أنها كانت ألطف في تعاملها مع ييتس مما كانت عليه في البداية.
نامعلوم صفحہ