ضحك ييتس. «حسنا، هذا شيء يعود على المرء بفوائد عديدة حين يحوزه. كثيرا ما تمنيت لو أنني تلقيت تدريبا جامعيا. ومع ذلك، لا يلقى التدريب الجامعي القدر الذي ربما يستحقه من تقدير في مكتب صحيفة أمريكية.» وأضاف بنبرة أظهرت أنه لا يريد أن يكون مجحفا في حق رجل ذي تعليم جامعي: «ومع ذلك، أعرف بعض الخريجين الجامعيين صاروا مراسلين جيدين جدا في نهاية المطاف.»
لم ترد الفتاة، بل أولت انتباها حادا بما كان بين يديها من عمل. كانت لديها موهبة الصمت النادرة، وكانت هذه الفترات الفاصلة من الصمت تحرج ييتس، الذي كان أكثر ما يتباهى به مرارا هو قدرته على التفوق في الكلام على أي رجل في العالم. فقد كان ما يلقاه من معارضة، أو إساءة حتى، مجرد حافز يستفز استرساله في الكلام، أما الصمت فكان يربكه.
صاح أخيرا بشعور أشبه باليأس، قائلا: «حسنا، لنترك هذا النقاش الحيوي المحتدم عن موضوع التعليم، ونستأنف الحديث عن موضوع العيش الأكثر عملية. هل تصدقين يا آنسة هوارد أنني خبير في صناعة العيش؟» «أظنك قد قلت بالفعل إنك كنت تصنع عيشك بنفسك.» «آه، نعم، لكني قصدت آنذاك أنني أصنعه بعرق قلمي الرصاص الجميل. ومع ذلك، كنت أصنع العيش في أيام صباي، وأعتقد أن بعضا ممن كانوا يعيشون عليه ما زالوا على قيد الحياة إلى اليوم. حين يفكر المرء في مدى قدرة الجسد البشري على التحمل يجدها مذهلة. كنت أتولى مهمة الخبز ذات شتاء في أحد مخيمات قطع الأخشاب من الأشجار. اعتدت آنذاك أن أفرغ جوال دقيق في حوض مصنوع من جذوع الأشجار المقطوعة، وأسكب عليه دلوا أو اثنين من الثلج المذاب، وأقلب بمعول على غرار مساعد البناء في صنع الملاط. لم تكن صناعتي للخبز تتسم بشيء من التفاهة أو الوضاعة. فقد كنت أعمل في تجارة الجملة.» «أشفق على الحطابين التعساء.» «شفقتك في غير محلها تماما يا آنسة هوارد. يجب أن تشفقي علي أنا لأنني كنت أضطر إلى الرضوخ لمثل تلك الشهيات التي كان هؤلاء الرجال يجلبونها معهم من الغابة. صحيح أنهم لم يشتكوا قط من جودة الخبز، لكنهم أحيانا ما كانوا يبدون بعض التذمر بشأن الكمية. كنت أطعم آلة درس الحنطة حزم الحنطة، وكنت أطعم آلة نشر الخشب جذوع الشجر المقطوعة، لكن شره هاتين الآلتين كان لا شيء مقارنة بشره قاطع أخشاب ضخم عاد للتو من قطع الأشجار. فكل ما يريده آنذاك هو قدر كاف، ووفير، من الخبز. ولم تكن لترضيه كمية محددة منه. بل يريد الخبز كله دفعة واحدة، ويريده فورا. وإن وجدت أي ضرورة للاغتسال، يؤجله إلى ما بعد الوجبة. لا أعرف شيئا، باستثناء الصحف الصباحية، لديه شهية تجاه أشياء متنوعة مثل رجال الغابات.»
لم تتفوه الفتاة بأي تعليق، لكن ييتس رأى أنها مهتمة بحديثه رغما عنها. كان الخبز آنذاك في الصاج، وكانت الفتاة قد سحبت الطاولة إلى وسط أرضية المطبخ، واختفى لوح الخبز، ونظف سطح الطاولة. وبحركة خفيفة ورشيقة من يديها، ألقت فوق سطح الطاولة المفرش الأبيض الناصع، الذي انساب عليها في موجات حتى استقر في مكانه أخيرا بهدوء كسطح بركة ساكن صاف تحت ضوء القمر. أدرك ييتس أن الطريق إلى النجاح يكمن في إبقاء زمام الحوار بين يديه، وعدم الاعتماد على أي رد. فبهذه الطريقة، قد يستطيع المرء عرض مخزونه من المعرفة على أفضل وجه ممكن، مثيرا به إعجاب المستمعين إليه وحيرتهم، حتى وإن كان مخزونه لا يحوي سوى عينات مثل بضاعة التاجر الرحالة، غير أن التاجر الرحالة الضليع في عمله يستطيع ترتيب عيناته على طاولة غرفته في فندق ترتيبا يعطي من يشاهدها فكرة عن مدى اتساع المخازن التي أخذت منها وغزارة محتوياتها.
قال ييتس بجدية رجل علامة: «الخبز موضوع مثير جدا للاهتمام. فهو موضوع تاريخي، بل وموضوع إنجيلي أيضا. فقد ورد ذكره في الكتاب المقدس كطعام أكثر من أي طعام آخر. إنه يستخدم في الأمثال الروحانية، وفي الإشارة إلى عبرة. «يجب ألا تعيش على الخبز وحده».»
وهنا رأى طيفا طفيفا من البريق في عين الفتاة، فخشي أن يكون استشهاده خاطئا. كان يعلم أنه لم يكن آنذاك في معرض الجزء الأكثر دراية به من بين عيناته من مخزون المعرفة؛ لذا سارع بالعودة إلى الجانب التاريخي من موضوعه. لم يكن أحد يضاهي ييتس في قدرته على الانزلاق إلى سلوكيات وأفعال تجعله على المحك سوى قلة قليلة من الناس، لكن فطنته الطبيعية دائما ما كانت تعيده إلى أرض أكثر صلابة.
قال: «لقد مر الخبز في هذا البلد بثلاث مراحل مميزة، ومع أنني من أقوى المؤمنين بالتقدم، ولكن في حالة أهم مادة غذائية لدينا، أرى أن خبز العصر الحاضر أدنى جودة من الخبز الذي كانت تصنعه أمهاتنا، أو ربما ينبغي أن أقول جداتنا. فالعصر الحاضر، مع الأسف، يتحول بخطى سريعة ليصبح عصر الآلات، وصحيح أن الآلات ربما تكون أسرع، لكنها بالتأكيد لا تضاهي دقة العمل اليدوي القديم. يوجد كاتب جديد في إنجلترا يدعى راسكن لديه تعصب شديد ضد الآلات. إنه يود أن يراها وقد أبيدت؛ على الأقل هذا ما يقوله. سأرسل في طلب أحد كتبه، وسأطلعك عليه، إذا سمحت لي بذلك.» «من المؤكد أنكم، في نيويورك، لا تصفون مؤلف كتاب «الرسامون المعاصرون» وكتاب «الأنوار السبعة للهندسة المعمارية» بأنه كاتب جديد. فوالدي يقتني أحد كتبه الذي لا شك أن عمره حوالي عشرين عاما.»
كان هذا أطول حديث وجهته إليه مارجريت، وقد سحره وأوقعه في حبها، كما قال للبروفيسور لاحقا في وصف تأثيره. واعترف للبروفيسور، ولكن ليس للفتاة، بأنه لم يقرأ قط أي كلمة من تأليف راسكن طوال حياته. وأما هذه الإشارة التي أشارها إلى ذاك الكاتب، فكانت نقلا عن شخص آخر ذكرها، وكان قد أدرجها من قبل في إحدى المقالات وكان لها تأثير قوي مبهر. فقد بدت آنذاك جملة «كما يقول السيد راسكن» ذات وقع جيد في مقالة صحفية؛ إذ أضفت عليها طابعا من سعة المعرفة والبحث. ومع ذلك، لم يكن السيد ييتس في هذه اللحظة مستعدا لخوض نقاش عن عمر الكاتب الإنجليزي أو محاسنه.
قال: «آه، حسنا، عمليا، فراسكن ليس جديدا بالتأكيد. ما قصدته أنه يعد - آآه - في نيويورك ... بالأحرى - كما تعلمين - جديدا نسبيا ... جديدا نسبيا. ولكن، كما كنت أقول عن الخبز، فقد أنتج عصر الخبز القديم في زمن الأكواخ المبنية من جذوع الأشجار، كما يمكنني أن أسميه، ألذ رغيف صنع في هذا البلد. كان ذلك هو الخبز الأبيض السميك الذي كان يخمر بمزيج من اللبن والملح والدقيق ودقيق الذرة، وكان يخبز في غلاية حديدية مستديرة ذات قعر مسطح. هل سبق لك أن رأيت غلاية الخبز التي كانت تستخدم قديما؟» «أظن أن السيدة بارتليت لديها واحدة، لكنها لم تعد تستخدمها الآن أبدا. كانت توضع على الجمر الساخن، أليس كذلك؟»
قال ييتس، ملاحظا في سرور أن جمود الفتاة قد بدأ يلين، كما عبر عن ذلك لنفسه: «بالضبط. كان الفحم الساخن يخرج وكانت الغلاية توضع عليه. وحين كان الغطاء يستقر في مكانه، كان يوضع بعض الفحم الساخن فوقه. كان الخبز متماسكا وأبيض وحلوا من الداخل، وتكسوه ألذ قشرة ذهبية من كل الجوانب. آه، كان ذلك خبزا بحق! لكني ربما كنت أقدره لأنني دائما ما كنت جائعا في تلك الأيام. ثم جاء ذلك التطوير المزعوم المسمى بالموقد الهولندي الصفيحي. وكانت هذه هي المرحلة الثانية في تطور الخبز في هذا البلد. كان ينتمي هو الآخر إلى عصر المنازل المبنية من جذوع الأشجار والمدافئ المفتوحة. كان الخبز يخبز بالحرارة المباشرة من النار والحرارة المنعكسة من الصفيح المصقول. أظن أن مواقد عصرنا الحالي المصنوعة من الحديد الزهر أفضل من هذا الموقد الهولندي، وإن كانت لا ترقى لمكانة الغلايات القديمة.»
نامعلوم صفحہ