فقال البروفيسور مهدئا إياه: «على رسلك يا ييتس. فلنكتف بهذا القدر.» ثم سأله بلهفة حين لاحظ مدى شحوب الشاب من حول شفتيه: «لم تصب بأذى، أليس كذلك؟» «أصغ إلي يا رينمارك؛ أنت رجل رشيد. يوجد وقت يجوز لك فيه أن تتدخل ووقت لا يجوز فيه ذلك. والآن هو الوقت الذي لا يجوز لك فيه ذلك. يبدو أن هذا الشجار قد اكتسب بعدا دوليا. والآن، فلتقف جانبا كرجل طيب؛ لأنني لا أريد أن أضطر إلى سحقكما معا.»
وقف البروفيسور جانبا؛ لأنه كان يعي أن الوضع يكون جد خطر حين يناديه ييتس باسم عائلته. «والآن، أيها الأحمق العجوز، لعلك ترغب في تجربة ذلك مرة أخرى.» «أستطيع تكرار ذلك عشرات المرات، إذا لم تكن قد اكتفيت. لا يوجد أي أمريكي تربى على فطيرة اليقطين يستطيع الصمود أمام حركة شجرة العنب.» «فلتجرب شجرة العنب مرة أخرى.»
تقدم بارتليت بمزيد من الحذر هذه المرة؛ لأنه لاحظ في عيني الشاب نظرة لم تعجبه تماما. اتخذ وضعية التأهب لإمساك خصمه من أي جزء في جسده، وظل يتحرك بحذر في نصف دائرة حول ييتس، الذي ظل يغير وضعيته ليبقى مواجها لخصمه. وأخيرا، قفز بارتليت إلى الأمام فوجد نفسه في اللحظة التالية مباشرة راقدا على جزء من صخرة أصلية من صخور المنطقة، شاعرا بأن ألف طائر طنان تطن في رأسه، فيما انضمت النجوم إلى المنظر الطبيعي من حوله متراقصة معه. فقد كانت الضربة مباغتة ودقيقة ومباشرة.
قال ييتس وهو يقف فوقه: «هذا ما حدث في عام 1776 - أي الثورة - حين، بحسب عبارتك، واجهناكم وقاتلناكم وسحقناكم. فما رأيك في ذلك؟ والآن، إذا كانت نصيحتي تحمل أي نفع لك، فأنصحك بأن ترى التاريخ من منظور أوسع من ذاك الذي تراه منه. لا تبالغ في حصر نفسك في فترة زمنية واحدة. ادرس قليلا من تاريخ الحرب الثورية.»
لم يرد بارتليت. وبعدما ظل جالسا هناك لبعض الوقت، حتى استعاد المنظر من حوله حالته الطبيعية، نهض على مهل دون أن يتفوه بكلمة واحدة. أخذ الزمام من على ظهري الحصانين، وربت على الحصان الأقرب برفق. ثم ركب في مكانه، وانطلق بالعربة. اتخذ البروفيسور مقعده بجوار السائق، لكن ييتس، بعدما ارتدى معطفه والتقط عصاه، سار أمامهما بخطى واسعة، قاطعا رءوس النباتات الشائكة الكندية بعصاه في أثناء سيره.
الفصل الرابع
ظل بارتليت صامتا لفترة طويلة، ولكن كان من الواضح أنه يفكر في شيء ما؛ إذ كان يناجي نفسه سرا، وظل صوت تمتماته يعلو شيئا فشيئا حتى كسر السكون، ثم ضرب الحصانين بالسوط وشد لجاميهما، وبدأ مناجاة نفسه مرة أخرى. وأخيرا قال فجأة للبروفيسور: «ما تلك الثورة التي تحدث عنها؟» «إنها حرب الاستقلال، التي بدأت في عام 1776.» «لم أسمع بها قط. هل قاتلنا الأمريكيون؟» «قاتلت المستعمرات إنجلترا.» «أي مستعمرات؟» «البلد الذي يسمى الآن الولايات المتحدة.» «قاتلوا إنجلترا حقا، هاه؟ ومن الذي انتصر؟» «نالت المستعمرات استقلالها.» «هذا يعني أنهم هزمونا. لا أصدق أي كلمة مما قاله. كان المفترض أن أسمع بذلك؛ لأنني عشت في هذه المنطقة فترة طويلة.» «كان ذلك قبل زمانك بقليل.» «وكذلك كانت حرب عام 1812، لكن والدي حارب فيها، ولم أسمعه قط يتحدث عن هذه الثورة. أظنه كان من المفترض أن يكون على دراية بها. ثمة حلقة مفقودة أو مبهمة.» «حسنا، كانت إنجلترا مشغولة بعض الشيء بالفرنسيين آنذاك.» «آه، هذا هو الأمر، أليس كذلك؟ أراهن على أن إنجلترا لم تعرف قط أن الثورة كانت جارية إلا حين انتهت. فلم يستطع نابليون الأول أن يهزمهم، وليس من المنطقي أن يكون الأمريكيون قد استطاعوا ذلك. أعتقد أن هذه الحرب شهدت بعض الخيانة والغش. عجبا، لقد احتاج الأمريكيون إلى أربع سنوات كي يهزموا أنفسهم! لدي كتاب في البيت يتحدث بالكامل عن نابليون. لقد كان شخصا عنيدا صعب المراس.»
لم يشعر البروفيسور بأنه مطالب بالدفاع عن شخصية نابليون؛ ومن ثم خيم الصمت عليهما مرة أخرى. بدا بارتليت منزعجا جدا من الخبر الذي سمعه للتو عن الثورة، وكان يزمجر في قرارة نفسه، بينما كان الحصانان يعانيان معاناة أشد من المعتاد من جراء ضربات السوط وشد اللجام الذي دائما ما كان يعقب تلك الضربات. وبينما كان ييتس متقدما عنهما بمسافة ما وكان يمشي مسرعا بتبختر إيقاعي، انعطف الحصانان، من تلقاء نفسيهما كما بدا، ليدخلا من بوابة مفتوحة، وواصلا السير بمشيتهما المتمهلة المعتادة نحو مخزن غلال كبير وراء بيت رحيب ذي هيكل من العوارض الخشبية وشرفة واسعة في مقدمته.
قال بارتليت باقتضاب: «هذا بيتي.»
رد البروفيسور وهو يثب مترجلا من العربة: «ليتك أخبرتني منذ بضع دقائق كي يتسنى لي مناداة صديقي آنذاك.»
نامعلوم صفحہ