ثم قال: أيها الناس إني لم أرد بيميني وشمالي إلا حمير وكهلان، وإني لن آمن أن يختلفا بعدي في الأمر، ولم آخذ العهود والمواثيق عليكم إلا لتحولوا بين من يروم من هذين لصاحبه سوءًا أو خلافًا، وأن لا يطلب أحدهما بعدي أكثر مما يقسم له في مجلسنا هذا.
ثم قال لهم: أيها الناس، إن حمير أكبر من كهلان، وحقه أن يكون عن يميني، وإن كهلان أصغر من حمير، وحقه أن يكون عن شمالي، وإن نصيب حمير من ملكي مثل نصيب يميني من بدني، فانظروا - معشر الناس - ما يصلح لليمين، فادفعوه إلى اليمين، وما يصلح للشمال فادفعوه إلى الشمال.
قال: فدفعوا إلى اليمين السيف والقلم والسَّوط، وحكموا لليمين بذلك. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها اليمين، ولا تعمل بها الشمال. ودفعوا إلى الشمال العنان والترس والقوس. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها الشمال دون اليمين؛ أما القوس فإنه لا بد للشمال من معونة اليمين في القوس. قال: ثم حكموا بأن صاحب السيف لا يصلح له إلا الثبات والوقوف في موضعه، وحكموا أن صاحب القلم لا يكون إلا مدبرًا فاتقًا راتقًا. وحكموا أن صاحب السوط لا يكون إلا رابضًا سائسًا. ثم حكموا أن الفتق والرتق والثبات والوقوف والتدبير والرياضة والسياسة لا يكون إلا للملك الأعظم الراقد في دار المملكة، وهو حمير. قال: ثم حكموا أن العنان يقود أعنة الخيل للذب عن الملك ومكابدة الأعداء حيث كانوا. وحكموا أن الترس يرد به البأس، ويدرأ به الحد وتقهر به الحروب عند التلاقي، وتتجشم به المعارك. وحكموا أن القوس ينال بها المناوئ والمناصي على البعد منها. ثم حكموا قيادة أعنة الخيل والمكابدة للأعداء حيث كانوا ورد البأس ودفع الحد وقهر الحروب عند التلاقي ومناوأة الأعداء ومناصاتها لا يصلح إلا لصاحب الدولة والذاب عنها والرامي عن جمرتها والساد لخللها والقائم بحروبها وفتوحاتها وإصلاح الثغور وسدها عنها، وهو كهلان.
قال: فتقلد حمير الملك الراتب في دار المملكة وسمي أيمن، لجلوسه عن يمين أبيه، وتقلد كهلان الأطراف وأعمالها وثغورها ومناوأة العدو حيث كان. على أن لكهلان على حمير المعونة في ذلك مثل معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس، وحكموا أن معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس والنزع والنبل، وهما في غير القوس المال والنجدة، وكان لحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلده كهلان.
ففي ذلك يقول هي بن بيّ بن جرهم: " من البسيط "
ما سادَ هذا الورى أبناءُ قحطانِ ... إلا لفضلٍ لهم قِدمًا وإحسانِ
ما في الأنام لهم حيٌّ يشاكلهمْ ... ولا لواحدهمْ في الأرضِ من ثانِ
لم يشهدوا الناس في بدو ولا حضر ... حكمًا كحكم عظيمِ المُلكِ والشانِ
سبا بن يشجب لابنيه وإنَّهما ... للسيدانِ الرفيعانِ العظيمانِ
أعطى ابنه حميرًا منهُ اليمينَ وقد ... أعطى الشِّمالَ ابنه المُسمى بكهلانِ
وقال يُقسمُ ملكي اليوم بينهما ... وقسمةُ الملكِ للاثنان سهمانِ
تُعطى اليمينُ الذي تسطو اليمينُ به ... فيما تعانيهِ من سرٍّ وإعلانِ
وللشِّمال الذي تسطوا الشمال بهِ ... عندَ النوائبِ من بأسٍ وسلطانِ
والسَّيفُ والسَّوطُ صارا لليمينِ معًا ... وذلك القلمُ الجاري ببرهانِ
والقوسُ والتُّرسُ صارا للشِّمالِ وقد ... صار العنانُ لهما والمُلكُ نصفانِ
فصار هذا بتاج المُلكِ مُعتصبًا ... دونَ الجحاجحِ من أولادِ قحطانِ
وصارَتِ الخيلُ تحمي الأرضَ قاطبةً ... ومن عليها لهذا الآخرِ الثَّاني
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك وأولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما لحمير على كهلان بالطاعة، ولكهلان على حمير المال والنجدة، والملوك الرَّاتبة في دار المملكة من حمير، والملوك في الأطراف والثغور من كهلان.
وصية حمير بن سبأ
1 / 4