ولا تزال بالدول الديمقراطية بقية من الحرية للرجال الأذكياء، ولكنا نخشى أن تختنق هذه الحرية بعد حرب أخرى؛ ولذا فمن واجب المربين أن يبذلوا قصارى جهدهم قبل فوات الأوان. عليهم أن يعودوا التلاميذ على مقاومة الإيحاء. وإذا لم نخلق في الأطفال هذه المقاومة، فسيقع رجال الجيل المقبل تحت رحمة أي داعية ماهر يحاول أن يسيطر على أدوات الإذاعة والنشر. ويمكن تدريب الأطفال على المقاومة بطريقين:
أولا:
نستطيع أن نعلم الأطفال الاعتماد على ذكائهم الخاص دون المؤثرات الخارجية. وبذلك تتكون شخصية الطفل، ولا تخدعه أساليب الدكتاتوريون الخلابة التي تأخذ بالألباب. ومن اليسير على أي دكتاتور في بلاد الغرب أن يبث دعايته بين أفراد شعبه؛ لأن الناس أشبه ما يكونون بالمخدرين من إدمان القراءة التي لا ترمي إلى غرض، ومن أثر الاستماع إلى الإذاعة اللاسلكية، ومشاهدة أشرطة السينما بغير غرض؛ فإن هذه المؤثرات تفعل في النفوس فعل الكحول والمورفين. وقد بلغ بأكثر الناس إدمان القراءة والاستماع إلى الراديو والموسيقى ومشاهدة السينما مبلغا لا يستطيعون معه أن ينقطعوا عن هذه الأشياء بضعة أيام بل بضع ساعات. مثلهم في ذلك مثل مدمن المخدرات يميل إلى الاسترسال في رذيلته لا لأنه يستمد من الإدمان متعة حقيقية، بل لأنه تعود الإدمان ولا يستطيع التخلي عنه. وهؤلاء المدمنون على الصحف والأشرطة السينمائية والراديو يحسون بنقص إذا أبعدت عنهم هذه الأشياء، أو إذا حرمتهم من أنباء الألعاب الرياضية وأخبار الجرائم والمحاكمات، أو من الموسيقى والأحاديث يذيعها الراديو، أو من قصص المغامرات والحب. وحتى أذكياؤنا يعتقدون أن هذه المخدرات السيكولوجية مستحبة، بل ولا مفر منها، ولا يرون خطرا من اعتماد الفرد على المؤثرات الخارجية دون ثروته النفسية الخاصة. وقد قرأت من عهد قريب كتابا صغيرا لعالم أمريكي مبرز في علم الحياة يصور لنا فيه المستقبل كما يراه. يقول هذا الرجل: إن العلم سوف يزيد من سعادة الإنسان وذكائه، وذلك بطرق عدة منها اختراع سينماتوغرافات ميكروسكوبية يستطيع المرء أن يلبسها كما يلبس النظارة فيشاهد قصة شائقة يبعد بها عن نفسه الملل. وما من شك في أن العلم سيمدنا بزجاجات الخمر وبالمحاقن وبالسجاير وبجرعات المخدرات المتناهية في الصغر! ليحي العلم!
ولكنا لا نشجع على ذلك؛ فكيف نستطيع أن ندرب الأطفال على الاعتماد على ثروتهم الروحية وعلى مقاومة إدمان القراءة والاستماع إلى الراديو ومشاهدة السينما؟ أول ما ينبغي عمله أن نعلمهم كيف يسلون أنفسهم ببعض الصناعات اليدوية اليسيرة، وبالعزف على الآلات الموسيقية، وبالدراسات المفيدة التي ترمي إلى هدف معين، وبالملاحظة العلمية، وبممارسة فن من الفنون، وما إلى ذلك. غير أن هذا التدريب اليدوي والذهني لا يكفي. والنفس الإنسانية ينطبق عليها قانون جريشام الاقتصادي، وهو أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق؛ فأكثر الناس يميلون إلى أداء الأعمال التي تتطلب أقل مجهود، وأن يشغلوا أنفسهم بأسهل الأفكار، وأن يحسوا بالعواطف المبتذلة، وأن يطلقوا العنان لرغباتهم الحيوانية. وهم يميلون إلى ذلك حتى إن توفرت لهم المعرفة والمهارة التي تمكنهم مما هو أرقى من ذلك. وإنما يجب أن يلازم المعرفة والمهارة الضروريتين صدق العزيمة على استخدامهما في هذا الجو الذي يغري المرء بأن يمارس من الأعمال أيسرها. غير أن أكثر الناس يحبون أن ينغمسوا في هذا الجو، اللهم إلا إن كانت لديهم فلسفة للحياة متماسكة تدفعهم إلى غير ذلك، ثم توفرت لهم الوسائل لتنفيذ ما يريدون؛ لأن الرأي وحده بغير تنفيذ لا يأتي بفائدة. وماذا عسى أن تكون تلك الفلسفة التي تنقذ صاحبها من فساد الجو السائد، وتلك الوسائل التي تمكنهم من وضع فلسفتهم موضع التنفيذ؟ ذلك ما سنجيب عنه في فصل مقبل.
ونكتفي الآن بهذا القدر من الكلام على الطريقة الأولى التي تمكننا من مقاومة المخدرات النفسية التي أشرنا إليها - وتلك المخدرات هي الصحف والراديو وأنباء الألعاب الرياضية وقصص القتل وموسيقى الجاز والأشرطة السينمائية التي تعرض قصص الحب والمغامرات. والطريقة الأولى التي افترضناها للتخلص من ذلك كله هي تعليم الشبان أن يبعثوا السلوى إلى أنفسهم بأنفسهم. وقد ذكرنا أن المخدرات النفسية يمكن أن يستغلها الداعية لنشر رأيه في السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق؛ ومن ثم كان علاج هذه المخدرات علاجا من خطر الدعاية.
والطريقة الثانية:
للتخلص من أثر المخدرات النفسية عقلية محضة، وتتلخص في تدريب الشبان على نقد الحيل التي يلجأ إليها الدعاة. وأول ما ينبغي أن يعمله المربون لتحقيق ذلك أن يحللوا الكلمات الشائعة في الصحف والخطب والإذاعة. ما معنى كلمة «الأمة» مثلا؟ وإلى أي حد يجوز للخطباء والكتاب أن يتحدثوا عن الأمة كأنها شخص؟ ما هي إرادة الأمة وما مصالحها؟ وهل هذه الإرادة وهذه المصالح تمثل إرادة السكان جميعا ومصالحهم؟ أو تمثل إرادة الأكثرية ومصالحها؟ أو إرادة الفئة الحاكمة ومحترفي السياسة، وهم نفر قليل؟ وما الفرق بين الدولة وبين زيد وعمرو وغيرهما من أصحاب النفوذ السياسي؟ إن كانت الدولة هي هؤلاء فلماذا نقدسها كل هذا التقديس؟ وما معنى الكرامة القومية؟ لماذا تعد بريطانيا فقدان هنج كنج - مثلا - إهدارا للكرامة، ولا تعد الاستيلاء عليها بعد حرب حاولت فيها أن ترغم الصينيين على شراء الأفيون لوثة في الشرف البريطاني؟ و«الأمة» ليست سوى كلمة من مئات الكلمات الرنانة التي يقبلها الناس بغير تفكير، والتي لا بد لنا أن نخضعها للتحليل الدقيق إن أردنا ألا نخطئ في التفكير وألا نصل إلى نتائج غير صائبة ولا معقولة.
وليس أقل من هذا أهمية أن ندرب الأطفال على إدراك ما وراء الاستعارات والكنايات والكلمات المعنوية التي ترد في المقالات التي يقرءونها والخطب التي يستمعون إليها. يجب أن يتعلموا أن يترجموا هذه الكلمات الجوفاء إلى الحقائق المحسوسة؛ فعندما يقول إسكويث - مثلا - «لن نغمد السيف؛ لأننا لم نسله بغير عناء.» يجب أن يفهم الناس أن «السيف» لم يعد هاما في الحروب الحديثة؛ فلقد كان سيف إسكويث سنة 1914 معناه المفرقعات والقنابل والمدافع والسفن الحربية والغواصات، ومعناه اليوم إلى جانب ذلك الدبابات والطائرات وغيرها من آلات القتل الفتاكة. وكثيرا ما يكون من مصلحة الحكام أن يحجبوا الحقيقة الواقعة وراء قناع كثيف من الألفاظ المضللة. ومن واجب المربين أن يعلموا تلاميذهم أن يترجموا هذه العبارات البراقة الجوفاء إلى لغة الواقع المحسوس.
وليست الدعاية اللفظية بالصورة الوحيدة للإيحاء، وإنما هناك صور أخرى غيرها قد تكون أقوى منها أثرا. من ذلك ربط الفكرة برسم أو وصف أدبي يبعث في النفس السرور؛ فقد يعلن التاجر عن نوع من أنواع الصابون - مثلا - برسم شابة شهوانية مقبلة على حمام من الرخام ومعها قطعة من هذا الصابون. وقد يعلن بائع التبغ عن لفافاته برسم أشخاص يتناولون العشاء في زي فاخر، أو أنجم سينمائية مشهورة، أو أصحاب الملايين، وبأيديهم تلك اللفافات يدخنونها. وقد يعلن بائع الخمر عن النبيذ برسم صورة من الشبان المتأنقين، مسترخين في حجرة فاخرة التأثيث والفراش، يتناولون النبيذ من أيدي سقاة حسني الصورة والهندام. والغرض من هذه الأمثلة جميعا هو ربط البضائع المعروضة للمبيع بصور بهيجة ممتعة تثير في الأذهان متعة الحب أو الثروة أو قوة النفوذ والسلطان. وقد يلجأ المعلن إلى ربط السلع بصور المناظر الطبيعية الجميلة، أو الأطفال الذين يثيرون الشفقة أو يبعثون على الضحك، أو الزهور، أو الحيوانات المدللة، أو مناظر من حياة الأسرة. وقد يرتبط الإعلان التجاري بالتمثيل الهزلي أو بالموسيقى. والملوك يدعون لأنفسهم بعرض الجند وبالمواكب والقصور الشاهقة، وبكل ما هو فاخر وجميل وكذلك يفعل القواد؛ فهم يعلمون أن الموسيقى العسكرية تلعب بالرءوس كما تلعب الخمر، كما يعلمون أن العرض العسكري يثير في النفوس الشجاعة والحماسة. ويستخدم رجال الدين لدعوتهم مختلف الفنون؛ فالموسيقى تعزف في الكنائس، وكثير من المعابد آيات من آيات البناء! والأزياء التي يرتديها رجال الدين مزركشة مزخرفة. وهم يظهرون كذلك بمظهر الثراء والنفوذ، ويلعبون بالعواطف، فيثيرون في الناس الفرح والفزع، أو القسوة والشهوة.
وقد ثبت أن هذا اللون من ألوان الدعاية لا يقاوم؛ فتدخين التبغ آخذ في الشيوع، والجماهير تحتشد حول العرض العسكري وحول المواكب الملكية والدكتاتورية، والحفلات القومية. ويجدر بنا في هذا المقام أن نعيد ما ذكرناه من قبل من أن أمثال هذه الدعايات يمكن تخفيف وطأتها بتقوية الملكة الناقدة، وواجب المعلمين أن يدربوا أطفالهم على استكناه الحقائق وتخليصها من الشوائب. ويجب أن ينشأ الشبان على النظر في مشاكل الحكم والسياسة والدين وما إليها بعد عزلها عن جو الدعاية الذي يحيطها به نفر من ذوي المصالح. ويمكن أن يبدأ التدريب بالبحث في طرق الإعلان الشائعة. ويجب أن يدرك الأطفال أنه ليست هناك علاقة ثابتة بين الفتاة الجميلة في زيها وبين مزايا دواء الأسنان الذي تعلن عنه. ويمكننا أن نقدم للتلاميذ هذا الدرس بصورة عملية؛ فنقدم الحلوى الجيدة للأطفال في ورق نقشت فوقه صور بشعة كئيبة، كما نقدم لهم الأدوية الكريهة في ورق رسمت فوقه صور الممثلات المحبوبات. وبعدما تنحل الرابطة بين الشيء المعلن عنه والصورة التي يقدم بها في الإعلان التجاري، نشرع في تدريب الشبان على تطبيق هذه الطريقة في ميدان السياسة والدين. ويمكننا أن نبين للأطفال أن الرجل قد يستمتع بروعة الحفلات والمواكب العسكرية والدينية دون أن يكون لهذه المتعة أثر في حكمه على قيمة الحرب كأداة سياسية، أو على صدق عقيدة معينة أو فائدتها الخلقية. يجب أن نعلمهم أن يقدروا الملكية والدكتاتورية ونظم الحكم الأخرى بمزاياها السياسية والخلقية، لا بما ترتبط به من حفلات ومواكب، ولا بفخامة القصور، أو بلاغة الخطب، أو ما إليها. ويجب أن يعلم الأطفال ذلك بعيدا عن إشراف الدولة؛ لأن الدولة لا يمكن أن تخلص في إشرافها ما دامت تقوم على رأي سياسي معين؛ ومن ثم كانت فائدة التعليم الحر، وضرر إشراف الحكومة على التعليم.
نامعلوم صفحہ