ولكي نفيد من نظام كلية أنطاكية أكبر الفائدة ينبغي أن نمده من الطالب إلى المعلم؛ فيجب أن ينقطع المعلمون عن التعليم من آن إلى آخر بضع سنوات يمارسون فيها حرفة لا علاقة لها البتة بالعلم والتعليم.
وأنتقل بعد هذا إلى تربية العواطف فأقول إننا أعرنا في السنوات الحديثة أهمية كبرى لتربيتها عن طريق الفنون؛ ففي كثير من المدارس والكليات تستخدم الموسيقى وفنون التمثيل والشعر وغيرها من ضروب الفن الأخرى لتوجيه العواطف توجيها صحيحا؛ فالموسيقى مثلا تعلمنا دقة الفكر ونبل الشعور، كما تعلمنا المشاركة العاطفية. والغناء وعزف الموسيقى جماعة يعلماننا أداء الأعمال المعقدة التي تقتضي مهارة عقلية كبرى وتنبها ذهنيا كاملا، كما يعلماننا المشاركة في الشعور والاتحاد في العواطف.
ثم نأتي بعد ذلك إلى الأدب فنلاحظ أن تمثيل المسرحيات يمكن كذلك أن يكون وسيلة من وسائل التدريب العاطفي. إنك حين تمثل دور شخص يشبهك أو لا يشبهك تدرك طبيعتك على حقيقتها وعلاقتك بالآخرين. وربما أدت مشاهدة المسرحيات إلى مثل هذه النتيجة، ولو إلى حد، ولكن ينبغي ألا نعزو إلى المسرحيات فضائل تعليمية لا تتصف بها في الوقت الحاضر؛ فقد وصف أرسطو المسرحية بأنها «مطهر للنفس»، وهذا الوصف لا ينطبق على المسرحية الحديثة والشريط السينمائي الحديث. ولقد كانت المأساة اليونانية أكثر من مسرحية تمثل، كانت صلاة دينية عامة بين المشاهدين. وكان التمثيل توضيحا للعقائد الدينية. أما المسرحية الحديثة فليست من ذلك في شيء، موضوعها دنيوي، ويشاهدها الناس لا ليذكروا فلسفة حياتهم، ولا ليوطدوا الصلة بينهم وبين خالقهم، وإنما يشاهدونها لإدخال السرور على النفس.
إن أكبر قيمة تربوية للأدب أنه يمد القراء بأمثلة من السلوك يستطيعون احتذاءها إن أرادوا. والناس جميعا على حد تعبير جول دي جولتيير
Jules de Gaultier
بفاريون
bovaristic
أي إن لديهم القدرة على أن يروا أنفسهم على غير حقيقتها، وأن يلعبوا دورا غير الذي أعدتهم له وراثتهم وظروف الحياة التي يضطربون فيها. والكلمة مشتقة من بطلة رواية فلوبير «مدام بوفاري» التي بلغت نهاية مؤسية لأنها سلكت سلوكا لا يتفق وطبيعتها؛ ولذا فلنأخذ من هذه القصة درسا، فلا يحاول أحدنا أن يسلك طريقا لا يستطيع السير فيه. وقد أدرك رجال التربية هذه الحقيقة من قديم، وحاولوا أن يكيفوا شخصيات التلاميذ بعرض نماذج أدبية عليهم يقلدونها في حياتهم الواقعية. وهذه النماذج قد تكون من الأساطير القديمة، أو قد تستمد من التاريخ أو القصص؛ فهركيوليز من الطراز الأول، ورجال السياسة والقادة والقديسون الذين كتب عنهم فلوطارخس من الطراز الثاني، وهاملت وفرتر من الطراز الثالث الذي يحاول بعض الناس أن يصوغوا أنفسهم على غراره . ولا بد من شيء من الفن الأدبي عن عرض الأساطير أو النماذج التاريخية أو الروائية؛ فإنك إن رويت القصة للطالب رواية لا فن فيها ما تأثر بها وما شعر بالرغبة في تقليد بطلها؛ ومن ثم كانت أهمية الفن الجيد حتى في التعليم الخلقي، ثم إن كل جيل ينبغي له أن ينشئ نماذجه الخاصة التي تستحق التقليد ويعرضها في ثوب من الفن الحديث الجميل؛ وذلك لأن الفن الجيد القديم لا يؤثر فينا بمقدار ما يؤثر الفن الجيد الحديث، بل إنه - عند عدد كبير من الناس - لا ينافس الفن الحديث الوضيع. وأكثر الناس يعجبون بالشخصيات التي تصورها قصص المجلات الرخيصة أكثر مما يعجبون بشخصيات شكسبير؛ وذلك لأن هذه المجلات تعالج شخصيات معاصرة، بينما شكسبير قد انقضى عهده من ثلاثمائة عام. ثم إن شخصيات شكسبير تقتضي لتقليدها جهدا خلقيا لا تفتضيه شخصيات المجلات التي تصور أحلامنا الشائعة - الأحلام الجنسية، والنجاح المالي والترف، وعلو المركز الأدبي. أما شخصيات شكسبير فهي أعلى من ذلك مستوى لأنها تصور أحلام اليقظة التي يصعب تحقيقها - الأحلام المسرفة في الأمل والطموح - تصور أحلام أولئك الذين يحبون أن يتفردوا بإخلاصهم في العشق، أو الذين يحلمون بالمجد القومي، مكرسين حياتهم للوطن طامعين في عبادة الجماهير. أو الأوغاد الذين يملأ قلوبهم الحقد وحب الانتقام. شخصيات شكسبير - ما عدا شخصية واحدة، هي شخصية الدوق في رواية «دقة بدقة» - تمثل الشخص المتحرر من شئون الحياة، والواقع أنك قل أن تجد في الآداب العالمية بأسرها تصويرا لأمثال هذه الشخصيات، وأشخاص الروايات والمسرحيات - مهما طابت قلوبهم - لا يخلون من العيوب.
والواقع أن المثال الأدبي أداة قوية لصياغة الشخصية. ولكن أكثر الأمثلة الأدبية مثل عليا للرجل العادي. وأكثر الشخصيات التي تتميز بالبطولة تتصف بشيء من الجنون، ومنها ما هو طيب القلب غير ذكي، أو فاضل يعيش في وسط دنيء، ولا يدرك الحاجة إلى ترقيته. وربما كانوا أشخاصا تحررت نفوسهم من أوطار الحياة، غير أنهم يخلصون لعقيدة من العقائد مثل الفاشستية أو الاشتراكية أو القومية. ولا شك أن هذه العقيدة تتطلب منهم أحيانا أن يخرجوا على قواعد الأخلاق. نحن بحاجة ماسة إلى الأدباء الفنانين كي ننهض بالناس ونخلق منهم نوعا جديدا من البشر. ولكن أكثر الأدباء الفنانين - لسوء الحظ - أفراد من الطراز القديم، مشبعون بالروح الحربي، حتى إن تأججت في صدورهم رغبة الإصلاح، ولا سبيل إلى تعديل نفوس هؤلاء الأدباء ما دام يتحكم في الدولة دكتاتوريون مستبدون يتطلبون من الناس الطاعة والخضوع، ويحاولون أن يطفئوا جذوة الذكاء في نفوسهم؛ ومن ثم كانوا في مسيس الحاجة إلى استخدام الدعاية.
وفي المجتمعات المتأخرة، التي تسود فيها عقيدة عتيقة أو قانون تقليدي لا ينازع، لا تنشأ الحاجة إلى الدعاية المقصودة؛ لأن الناس يسلكون الطريق التقليدي بالغريزة، ولا يقفون أمامه لحظة ناقدين أو مفكرين. وحتى في مجتمع بلغ من الرقي ما بلغنا، هناك أنواع من السلوك والتفكير والشعور يقبله الناس بغير جدل. وكم من رجل ذكي يستغل ذكاءه في العمل الذي فرضته عليه التقاليد، وقلما يستخدمه في الحكم على قيمة العمل في حد ذاته. ولا عجب - بعدئذ - أن ترى علماء وفنيين يضعون مواهبهم تحت تصرف حكام البلاد، ويستغلونها في الفتك بالناس بغير تمييز. ولا عجب كذلك أن ترى جماعة من الأدباء يمتهنون مواهبهم في تعزيز الروح القومية بالأكاذيب المفتراة وبقوة التعبير والأسلوب. حتى في الدول الديمقراطية نفسها كثيرا ما يستخدم الذكاء في خلق الوسائل الطيبة لتنفيذ الأغراض الدنيئة، وقلما تجد رجلا ذكيا يستخدم موهبته في خلق الوسائل الطيبة لتنفيذ الأغراض الطيبة. وهؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون ترقية المجتمع، ولكنهم لا يجدون في الدول الدكتاتورية تشجيعا؛ لأن الدكتاتور يحب أن يستغل الأذكياء في تحقيق مآربه الشخصية؛ ومن ثم كان اضطهاده الأفراد المبتكرين، وتكميم الصحافة، ومحاولة إيجاد رأي عام مناصر للاستبداد عن طريق الدعاية، والتدريب العسكري منذ الطفولة، ومراقبة الصحافة والسينما والأدب والإذاعة. ومن يدري! لعل العقاقير تستخدم في المستقبل مع علم النفس للتأثير في الجماهير. ومن المعروف أن من العقاقير ما يزيد في استعداد الشخص لقبول الإيحاء . وليس من شك في أن الدكتاتوريين سوف يستخدمون هذه العقاقير في مستقبل الأيام لتقوية العقيدة التي يحبون أن يعتنقها الشعب.
نامعلوم صفحہ