فالتعليم الفني إذا لا يعرف الوحدة بين الكائنات، والتعليم النظري يستغل هذه الوحدة في دائرة الإدراك فحسب، وفي حدود العلوم الطبيعية التي تتعلق بقوانين العالم المادي؛ فنحن إذا بحاجة إلى مبدأ آخر للتوحيد - مبدأ يستطيع الفنيون والعلميون على السواء أن يستخدموه استخداما نافعا، ولا يقتصر على العلاقات العلمية التاريخية بين الأشياء، وهي العلاقات التي يهتم بها رجال الفكر في العصر الحديث . نريد مبدأ للوحدة جديدا يعاوننا على أن نتحول من مجرد متفرجين على منظر الإنسانية إلى مساهمين فيها مساهمة الأذكياء.
فماذا عسى أن يكون هذا المبدأ الجديد؟ الجواب على ذلك واضح. يجب أن يكون نفسيا خلقيا. المبدأ الجديد يوحد بين المعارف والتجارب في حدود إنسانية، وشبكة العلاقات بين الأشياء فيه نسيجها نفسي لا مادي. نريد مبدأ خلقيا يكترث للقيم، ولا يقتصر على الجانب الإدراكي، وإنما يشمل كذلك جانبي الوجدان والإرادة.
وإلى القارئ مثالا محسوسا يوضح ما قصدت إليه. هذا شاب يتعلم الهندسة والميكانيكا، إننا نرجح أن يتخرج في مدرسته وهو يجهل كل شيء ما خلا موضوع تخصصه؛ فلقد فشلت تربيته في إمداده بمبدأ يستطيع به أن يدرك الرابطة بين كل ما يحصل عليه في الحياة من علم وتجربة. إن رجال التربية الذين تعلموا في المدارس العلمية القائمة يعتقدون أننا نستطيع أن نحرر تربية مثل هذا الشاب بتزويده بجانب من النظريات العلمية العامة. وهذا اقتراح ظاهره حسن، ولكنه من الوجهة العملية غير ممكن التحقيق؛ لأن أكثر الشباب لا يجدون لذة في النظريات العلمية العامة، وليست لديهم القدرة - بحكم استعدادهم - على توحيد التجارب والمعارف في حدود قوانين العالم المادي. والواقع الذي يؤيده التاريخ أن تقدم النظريات العلمية قلما يتم على أيدي رجال الفنون الماهرين؛ لأن الرجل العملي الذي يتقن فنه ويهتم به وحده، أو يهتم معه بقدر يسير من النظريات التي تكمن خلف عمله، مما يمكنه من زيادة الإتقان في فنه، وهو قلما يتطور إلى رجل عالم. وقل من النظريات العامة ما نحن مدينون به لأمثال هؤلاء الرجال. ونستطيع أن نقول على وجه التعميم إن تقدم النظريات العلمية قد تم على أيدي رجال من طراز آخر - تم على أيدي رجال لم يشتغلوا بالمشاكل الفنية، وإنما وقفوا منها موقف المتفرج، محاولين تعليل ما يشهدون واستخلاص النظريات من وراء التجارب. وما أوسع الهوة التي تفصل بين الرجل العملي والرجل الذي يهتم بالنظريات العلمية التي تنتظم الكون بأسره. إنهما من طرازين مختلفين. وإذا فمحاولة تحرير التعليم الفني بقسر رجاله على إدراك الوحدة الكامنة بين الكائنات محاولة فاشلة.
إن الإنسان هو الموضوع الوحيد الذي يهتم به الناس أجمعون، على اختلاف أمزجتهم ونفسياتهم وما لديهم من ذكاء. وقد يكون الطالب الذي يدرس الهندسة غير قادر على التعمق في دراسة قوانين العالم المادي، ولكننا لا نجد مشقة في حمله على الاهتمام بدراسة الإنسان؛ ولذا فإن خير وسيلة لتحرير تربيته الفنية هي أن نحمله على الاهتمام بالدراسات الإنسانية. ومن اليسير عليه أن يدرك الرابطة بين فنه وبين الدراسات الإنسانية والنفسية والخلقية. يجب أن تتمم الدراسة الفنية دراسة تشرح أثر هذا الفن في الحياة مقاسا بمقياس الخير والشر والسعادة والشقاء. يجب ألا يقتصر المهندس على دراسة الميكانيكا، بل ينبغي له كذلك أن يفهم كيف تؤثر الآلة في حياة الناس. ويستطيع أن يبدأ بدراسة تأثير الآلة على الفرد، ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة آثارها الاجتماعية، مثل أثرها في ترقية البلدان المتأخرة، وفي القضاء على المهن القديمة، وإنشاء صناعات جديدة. بذلك يمكن للطالب أن يدرك بعض ما بين الأشياء من صلات، حتى إن بدت له تلك الأشياء مفككة لا تجمع بينها صلة. ولا نقصد أن تحل العلاقات النفسية والاجتماعية والخلقية محل العلاقات العلمية، وإنما نريد أن تكون متممة لها. ينبغي لطالب الفن أن يدرك الرابطة بين فنه وبين الدراسات الإنسانية، كما ينبغي لطالب العلوم النظرية أن يدرك الرابطة بين نظرياته والعالم المادي المحسوس. بهذا ننهض بالتربية بنوعيها؛ التربية العلمية والتربية الفنية.
وليس في هذا الكتاب متسع يسمح بتفصيل القول في جميع التجارب الناجحة في التربية التي أجريت في السنوات الحديثة. ولكني سأتعرض للقليل منها. من هذه التجارب محاولة إدخال طريقة منتسوري في المدارس، ولكن هذه المحاولة لم تؤد إلى الغرض المطلوب لأن الطفل الذي يتعلم الحكم الذاتي والتعاون في بلد لا يتعاون مع غيره من البلدان يتعلم في الواقع أن يتعاون مع زملائه ضد بلد آخر، وهي نتيجة غير مرضية. ومثل الطفل المتعلم في ذلك مثل الجندي الذي يتعلم استغلال مواهبه وتعاونه مع غيره من الجند ضد الجيوش الأخرى.
وثمة محاولة أخرى قام بها دكتور مورجان
Dr. A. E. Morgan
كان يرمي من ورائها إلى أن يصبغ الدراسة العلمية بالصبغة الإنسانية، وذلك عقب الحرب العظمى في كلية أنطاكية
Antioch . يقضي الطالب - طبقا لنظام مورجان - فترة في الدرس، تعقبها فترة عمل في المصنع والمكتب والمزرعة، بل وفي السجن ومستشفى المجانين. ثلاثة أشهر دراسية تتمها ثلاثة أخرى عملية. بذلك يستطيع الطالب أن يدرك العلاقات النظرية والعملية بين الأشياء والحوادث، كما يستطيع أن يتصل بنماذج من الحقائق الإنسانية. وهو لا يوحد بين المعارف من الناحية الإدراكية وحدها، بل من ناحية الوجدان والنزوع كذلك.
وشبيه بنظام التربية الذي أخذت به كلية أنطاكية النظام المتبع في المدارس المتصلة بالمصانع في روسيا السوفيتية. وهذه النظم جميعا ليست سوى إحياء للنظام اليهودي القديم مع شيء من التوسع والتنظيم، جاء في التلمود أن «من يعلم ابنه حرفة، إنما يعلمه أن يسرق.» ولم يكن القديس بولس عالما، فحسب، وإنما كان كذلك صانع خيام. ولم تنشأ فكرة التفرغ للعلم دون العمل إلا عند فلاسفة أثينا وأيونيا الذين كانوا يملكون العبيد. ومن سخريات التاريخ أن العالم الحديث أخذ عن اليهود كل ما كان سيئا في تراثهم الثقافي، ونبذ نظريتهم الصحيحة في التربية التي تجمع بين العلم والفن، وآثرنا عليها التربية الضيقة غير الخلقية التي كان يؤمن بها الهلينيون المعتمدون على الرقيق. نبذنا نظام التربية عند اليهود، وأخذنا عنهم أدبهم الحوشي، وأناشيدهم التي يمجدون بها القتال، وقصصهم عن جرائم القتل والخيانة، وعقيدتهم الساذجة في إله مستبد لا يرحم.
نامعلوم صفحہ