1 - أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
2 - معنى التفسير
3 - الإصلاح الاجتماعي الشامل
4 - الإصلاح الاجتماعي والعنف
5 - الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
6 - طبيعة الدولة الحديثة
7 - المركزية واللامركزية
8 - اللامركزية والحكم الذاتي
9 - الحرب
10 - عمل الأفراد في الإصلاح
11 - عدم المساواة
12 - التربية
13 - العادات الدينية
14 - المعتقدات
15 - قواعد الأخلاق
1 - أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
2 - معنى التفسير
3 - الإصلاح الاجتماعي الشامل
4 - الإصلاح الاجتماعي والعنف
5 - الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
6 - طبيعة الدولة الحديثة
7 - المركزية واللامركزية
8 - اللامركزية والحكم الذاتي
9 - الحرب
10 - عمل الأفراد في الإصلاح
11 - عدم المساواة
12 - التربية
13 - العادات الدينية
14 - المعتقدات
15 - قواعد الأخلاق
الوسائل والغايات
الوسائل والغايات
تأليف
أولدس هكسلي
ترجمة
محمود محمود
الوسائل والغايات
بقلم محمود محمود
وهو بحث لأولدس هكسلي في طبيعة المثل العليا، وفي الوسائل التي تستخدم لتحقيقها، نقدمه إلى قراء العربية.
تعريف بالمؤلف
بقلم محمود محمود
مؤلف هذا الكتاب أولدس ليونارد هكسلي
Aldous Leonard Huxley
ولد في إنجلترا عام 1894م، ولا يزال حتى اليوم على قيد الحياة، لا يني عن الكتابة والتأليف ولا يفتر. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرا، محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب المعاصرين. ونشر شعره أول الأمر في مجلة هويلز
Wheels ، ثم جمعه في ديوان عنوانه «العجلة المحترقة»
The Burning Wheel
نشره عام 1916م. وفي هذه السنة عينها اشترك مع غيره من الأدباء في جمع ديوان «شعر أكسفورد»
Oxford Poetry . وقد بقي شاعرا طوال حياته، مخالفا بذلك الكثيرين من أدباء عصره، الذين انحرفوا من الشعر إلى النثر. وهو الآن شاعر ثائر على العالم الذي يقوم على الأسس العلمية، كما أنه ثائر على ازدياد نفوذ العلم في الحياة. وفي إحدى رواياته يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم، وتكوين الأطفال بطريقة علمية داخل القوارير. وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها النفوس وتقشعر الأبدان. ولعل هذا التطرف في الخيال هو الذي جذب إلى هكسلي كثيرا من القراء.
وهو حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير الذي تلقى عليه العلم ه. ج. ولز، وبين الحفيد وجده شبه كبير في الصورة والقسمات. وينحدر هكسلي من ناحية أمه من أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي الشهير. ومن بين أقربائه من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فلو تصورنا هذه المجموعة من الرجال الممتازين حول فراش مولده عام 1894م أدركنا ما في دمائه من مواهب. وقد استطاع بقلمه وذكائه أن يرتفع إلى سماء الشهرة.
وهو رجل طويل القامة نحيل القوام، حتى إن أطفال هامستد
Hampstead
كانوا يتجمعون حوله في شبابه الباكر ويهزءون به. غير أن طول قامته يخيل للناظر إليه أنه يعيش في عالم غير عالمنا، وأنه شامخ بعظمته. وما أبعد هذا عن الصواب؛ فإن هكسلي يتحدث إلى كل من يلقاه في سهولة وتواضع. وهو رجل شديد المرح، لا يتصف بالتزمت. وهو يستعمل في أحاديثه كثيرا من غريب اللفظ، لا لأنه يتكلف في الحديث، ولكن لأن الرجل غريب في تفكيره، وهو بحاجة إلى هذه الألفاظ يعبر بها عما يختلج في نفسه. وهو مولع بلقاء الشواذ من الناس، ومشاهدة الشاذ من المناظر؛ لأن به ميلا نحو الشذوذ.
وقد قاسى كثيرا وهو في طفولته من ضعف بصره، الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا أعمى البصر. وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة، ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر فيها ويتأمل. وكان لهذه الفترة أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد. وزال الخطر، واسترد الكاتب بصره، ولكنه لا يزال ضعيف النظر. وتعلم في أكسفورد، وفيها نشر بعض قصائده كما قدمت. وبعدما أتم دراسته في الجامعة اشتغل بالصحافة، ونشر عدة مقالات جمعها في كتابه «على الهامش»
On the Margin
ثم جمع بعضا من قصصه في كتاب سماه «السجن
Limbo »، وهو فاتحة عهد جديد في حياته الأدبية.
وبعد «السجن» مارس كتابة الرواية الطويلة، مستوحيا فيها الكاتب توماس بيكوك
Thomas
المعروف بسعة الاطلاع وبروح التهكم. وقد أخذ هكسلي عنه منهجه في الرواية؛ فلم يكن في يوم من الأيام روائيا بالمعنى الصحيح، إنما هو رجل واسع الاطلاع متهكم من الناس. وله قدرة عظيمة على القصة القصيرة، ولكنه حينما يحاول القصة الطويلة يتخذ من خياله الروائي وسيلة لبث آرائه.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه جوليان
Julian
إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم. ولكنه - برغم اطلاعه الواسع - لا يقتصر عند حد النظر، بل يتعداه إلى العمل. يستمتع بالفكر كما يستمتع بالحس. فهو كثير الإدمان في القراءة، ولكنه رجل اجتماعي حي. وقل من الناس من يجمع مثله بين هاتين الصفتين.
وفي مجموعة قصصه التي جمعها تحت عنوان «السجن» وفي روايته «الكروم الأصفر»
Crome Yellow
تتبين قدرته العظيمة على السخرية من المتكبرين والأدعياء. ورواياته مليئة بالصور الإنسانية التي تتميز بالتهكم المرح، وقد خص بسخريته أبناء الطبقة الراقية، فأثار على نفسه سخطهم، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يكف عن الضحك منهم. وفي روايته «الكروم الأصفر» يعلن تلك المشكلة الكبرى التي حاول أن يحلها في كل ما كتب، جاء في هذه الرواية العبارة الآتية:
يدخل الرجل هذه الدنيا ومعه آراء مجهزة عن كل شيء، وله فلسفة يحاول أن يخضع لها الحياة. في حين أنه كان من الواجب أن يحيا المرء أولا، ثم يحاول بعد ذلك أن يلائم بين فلسفته وبين الحياة كما عرفها ... إن الحياة والحقائق والأشياء معقدة تعقيدا شديدا، مع أن الآراء - مهما تعسرت - تخدعنا ببساطتها. كل شيء غامض مضطرب في عالم الحياة، وكل شيء واضح في عالم الآراء. فهل من العجب بعد هذا أن يكون الرجل منا بائسا في حياته تعسا؟
ويتبين لنا من هذا أن هكسلي لا يحب أن يتشبث بالمبادئ والأصول وقواعد العلم، وإنما يقيم وزنا كبيرا للمعارف العملية وتجارب الحياة. كان هكسلي من رجال الفكر، وهو يفخر بذلك، ولكنه - برغم هذا - كان قادرا، بل ومتحمسا، على أن يستفيد من الخبرة والتجربة.
وصل إلى لندن بعدما أتم دراسته الجامعية ورأسه مفعم بالنظريات. ثم أحس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتتمم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حجرة المعلم لها جمال البساطة ، ولكن بالأرض والسماء كنوزا غنية من المعارف لا تخضع لأي نظام فلسفي، ولا يحلم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثب سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتعلم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة. فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.
وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمعدم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت. وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبر عن تقززه واشمئزازه من الفقر المدقع، وإن كان يعطف على الفقراء. وانتهى هكسلي إلى شيء من اليأس، لا يرى نفعا في أي شيء.
ثم مل النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته «عالم جريء جديد»
Brave New World ، وفيها يعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس. يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد - عالم العقاقير والآلات - تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال. في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم، أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم. ولعل هكسلي من بين الكتاب الأحياء جميعا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يصور نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورة مدهشة يتقزز منها القارئ كما تقزز منها الكاتب.
ونقدي لهذا الكتاب - بل ونقدي لأكثر ما كتب هكسلي - أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويتقزز دون أن يقدم لنا جديدا. فهو يهدم ولا يبني، إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينيه قذر بليد في جسمه وعقله. آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع. وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفة ومليئة بالآراء الوضيعة. وإن رحل إلى بلد جديد ألفى سكانه أغبياء بلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلفهم وراءه في أرض الوطن. وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنسة، وفي الروحية لم يجدها سوى مجرد «انتقال أفكار»
telepathy ، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك. وهكذا الأمر فيما يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئة من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.
ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مثله الأعلى الذي يرمي إليه. وهو يفعل ذلك إلى درجة ما في كتابه «عالم جريء جديد»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يلوث بالعلم والمادة، ولم يتعرض هكسلي لبحث المثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورة جدية إلا في كتابه هذا «الوسائل والغايات» الذي نقدمه اليوم إلى القارئ العربي.
ويتعجب هكسلي لكمية الجهل في العالم، ولضعف النظرة التركيبية عند المفكرين والباحثين. وهو يريد أن يعرف كل شيء، ويعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى قرار في شأن من شئون الحياة إلا إن أدرك كل شيء؛ ولذا تراه لا يني عن الدرس والتحصيل. ويميل هكسلي إلى إخضاع المظاهر المختلفة إلى قاعدة واحدة شاملة، وقد يستطيع في مقتبل العمر أن يقود العالم إلى الخير والسعادة.
وفي كتابه هذا «الوسائل والغايات» عرض ونقد وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة، وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق. وقد عرضناه على القارئ العربي مسهبين حينا وموجزين أحيانا. وقد أوجزت بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق؛ لأنه كان فيها هداما أكثر منه منشئا.
وإنا لنرجو أن يجد كل محب في الإصلاح الاجتماعي هداية في هذا الكتاب، والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
ليس من شك في أننا جميعا متفقون على الغرض الأسمى من مجهود الإنسان في المدنية الراهنة، وليس من شك في أن هذا الغرض هو عينه الذي سيطر على العقول خلال الثلاثين قرنا الماضية. وقد عبر الرسل والأنبياء والمصلحون جميعا عن هذا الغرض من عهد أشعيا في الزمان القديم إلى عهد كارل ماركس في العصر الحديث وليس بينهم من خلاف.
إن الإنسان ليتطلع إلى عصر ذهبي تسود فيه الحرية والسلام والعدل والحب الأخوي، عصر لا تسل فيه أمة على أمة سيفا ولا يقاتل الإنسان فيه أخاه الإنسان، عصر يؤدي فيه تطور كل أمة وتقدمها إلى تطور الأمم الأخرى جميعا وتقدمها، عصر يعرف الناس فيه جميعا ربهم حق المعرفة ويغمر عقولهم العلم بباريهم كما تغمر المياه البحار.
قلت إننا متفقون جميعا على الغرض الأسمى من مجهود البشرية. ولكن هل نحن متفقون على السبل والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق هذا الغرض؟ لا وربي. هنا تختلف الآراء وتتناقض وتتضارب، وهي آراء فطيرة غير ناضجة. ومن عجب أن كل رأي من هذه الآراء - على تناقضها وتضاربها - له أتباع يؤمنون به ويتحمسون له، ويعتنقونه بغير بحث أو تمحيص، ويتعصبون له أشد التعصب.
فمن الناس في الوقت الحاضر من يعتقد أن الطريق الذهبي إلى عالم خير من عالمنا هذا هو طريق الإصلاح الاقتصادي. ومن الناس من يعتقد أن أيسر السبل إلى المدينة الفاضلة والحياة المثلى هو الانتصار الحربي وسيادة دولة معينة على باقي الدول. وآخرون يؤمنون بالثورات الداخلية المسلحة وتسلط الطبقة الممتازة من الشعب على غيرها من الطبقات، وفرض إرادتها وآرائها على الناس أجمعين. وهؤلاء وأولئك جميعا تشغل أذهانهم حين يفكرون في الإصلاح الجماعة الإنسانية وطرق تنظيمها تنظيما شاملا واسعا، وينسون الفرد أو يتناسونه كأنه حجر في بناء شامخ، إذا استقل فقد قيمته، وإذا انضم إلى غيره كان جديرا بالتقدير والنظر. ولكن هناك طائفة أخرى من المصلحين تنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. هؤلاء يعتقدون أن الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق إلا بإصلاح الأفراد الذين منهم يتألف المجتمع، ومن بين هؤلاء الذين ينحون في التفكير هذا النحو من يعلق آماله على التربية ويضع فيها كل ثقته، ومنهم من يؤمن بالتحليل النفسي كوسيلة لإصلاح الفرد، ومنهم من يعتنق مذهب السلوكيين ويرى فيه سبيل الإصلاح. وهناك طائفة من الناس لا ترى خيرا إلا في العودة إلى الدين وقوة اليقين، ولكن أفراد هذه الطائفة يختلفون فيما بينهم على الدين الذي يجب أن يعتنقه الإنسان.
ومهما يكن من شيء فالكل مجمع على أن الإنسان لا بد أن يرقى، ولا بد أن يرتفع إلى المثل الأعلى. ولا بد لنا لزيادة الإيضاح من أن نقول كلمة في هذا الإنسان المثالي الكامل الذي تتطلع إليه الأنظار ويصبو إليه مريدو الإصلاح. إن لكل عصر وكل طبقة مثلها الأعلى. فالطبقات الحاكمة في بلاد اليونان كانت تقدس الرجل الكريم النبيل عالي النفس، الرجل «العالم المهذب». وكانوا في الهند قديما - كما كان نبلاء العصور الوسطى في أوروبا - يقدسون «الفارس». والمثل الأعلى للرجل في القرن السابع عشر هو «الرجل الأمين». أما في القرن الثامن عشر «فالفيلسوف» هو مثل الإنسانية الأعلى. والقرن التاسع عشر يقدس الرجل الرزين «الموقر». وفي مستهل القرن العشرين آمن الناس بالرجل «الحر»، ثم تطور الرأي العام واتجه إلى عبادة «الزعيم المؤله» الذي تسير وراءه الجماعة سير الأغنام. أما الطبقات الوضيعة الفقيرة فقد كانت خلال العصور جميعا تحلم بالرجل الحر السعيد صحيح البدن الذي لا يناله من غيره ظلم أو اعتساف.
هذه مثل مختلفة متعددة، وهي فوق هذا مضطربة تدعو من يتدبرها إلى الحيرة والارتباك، فأيها نختار لأنفسنا في هذا العصر الحديث؟ لا أظن أن واحدا من هذه المثل يلائم حياتنا الحاضرة؛ لأن كلا منها كان ثمرة لظروف اجتماعية معينة تختلف عن الظروف التي تحيط بنا اليوم.
بيد أنه ينبغي لنا ألا ننسى أن هناك أفرادا من ذوي العقول الممتازة الجبارة استطاعوا في فترات مختلفة من التاريخ أن يتحرروا من ظروف الزمان والمكان، وألا يقيدوا أنفسهم بملابسات عصورهم وبلادهم. وقد رسم كل فرد من هؤلاء الأفراد للإنسانية مثلا أعلى يختلف عن المثل السائد في عصره. ومما هو جدير بالاعتبار والنظر أن الآراء التي نادى بها هؤلاء الرجال جد متشابهة؛ وذلك لأن أهداف الإنسانية هي بعينها في كل زمان ومكان، وقد استطاع هؤلاء المصلحون أن يدركوها بما لديهم من بصيرة نافذة ، وأن يخطوا لتنفيذها خططا متقاربة متشابهة. وقد أمكن لهؤلاء الأفذاذ أن يتحرروا من تقاليد زمانهم لأنهم بدءوا بأنفسهم فحرروا عقولهم من التحيز والهوى، واخترقوا ببصائرهم حجب الحياة المعاصرة، ونفذوا بها إلى الحقائق الأبدية العليا. والواقع أن كلا منا لديه بصيص من هذه البصيرة الوقادة، ولكنه لا يستطيع أن يفيد منها أو يستغلها إلا إذا ترفع عن التحيز لرأي بعينه أو عقيدة بذاتها. غير أنه قل من الناس، بل قل من الفلاسفة الحاذقين، من نجح في تحرير نفسه كل التحرر من سجن عصره وجو بلده الخانق. وربما كان أقرب الناس إلى التحرر العقلي جماعة المتصوفين ومؤسسو العقائد والأديان؛ أولئك الذين يجمعون بين الفضيلة ونفاذ البصيرة.
وقد أجمع هؤلاء الرجال الأحرار - على كر الأجيال - على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الفرد كي يصبح إنسانا مثاليا. إن الرجل الذي يكبل نفسه بتقاليد عصره قد يعجب بهذا المثل حينا وبذاك حينا آخر، ولكن أحرار الرجال في كل زمان ومكان لهم رأي واحد يعتنقونه ولسان واحد ينطقون به.
ومن العسير أن نجد كلمة واحدة تصف وصفا كاملا هذا الرجل المثالي كما يتصوره الفلاسفة الأحرار والمتصوفة وواضعو العقائد والأديان. وربما كانت خير كلمة تعبر عن مجموع صفات مثل هذا الرجل هي «المتحرر». الرجل المثالي هو الرجل المتحرر، المتحرر من أحاسيسه البدنية ومن شهواته، المتحرر من الولع بالنفوذ وحب الامتلاك، المتحرر من الغضب والبغضاء، المتحرر من العشق والهيام، المتحرر من حب الثراء وبعد الصيت والشغف بعلو المركز الاجتماعي، بل المتحرر من قيود العلم والفن وحب الإنسانية. أجل، المتحرر حتى من هذه الصفات التي نحسبها حسنة مرغوبة؛ لأنها جميعا صفات لا تشبع النفس المتعطشة إلى الخير المحض. ويرى الفلاسفة وواضعو الأديان أن التحرر من الذات ومن شئون الدنيا يؤدي إلى الاتصال بحقيقة عليا أعظم من الذات وأكثر منها أهمية، بل أعظم وأكثر أهمية من خير ما تهبه لنا هذه الدنيا. ولا نحب أن نفصل القول في هذه الحقيقة العليا في هذا الموضع من الكتاب. إنما نحب أن نشير إلى أن فكرة التحرر تقتضينا أن نعترف بوجود حقيقة روحانية عليا تكمن خلف مظاهر الدنيا جميعا وتهيمن على كل الوجود.
وقد يظن القارئ أن «المتحرر» يقف من الحياة موقفا سلبيا، لا يتحرك ولا يعمل، ولكن الواقع غير ذلك؛ إذ إن المرء إن أراد أن يتحرر كان من واجبه أن يتحلى بالفضائل جميعا، بل وأن يمارسها عملا. عليه أن يتصف بالتسامح؛ لأن الغضب والحقد يعوقان النفس عن أن تتصل بما هو أعلى من النفس وأرقى. وعليه كذلك أن يتصف بالشجاعة؛ لأن الخائف ينصرف إلى التفكير في سلامة البدن. والتحرر - فوق ذلك - يربي في المرء قوة الذكاء وعادة الكرم وعدم الاكتراث أو المبالاة. ومن ثم ترى أن التحرر يفرض على من يتحلى به أن يقف من هذه الدنيا موقفا إيجابيا، ينزل إلى ميدان الحياة ولا يحجم عن خوض معركتها.
والتحرر بهذا المعنى معروف منذ ثلاثة آلاف عام. فهو من صميم الهندوسية والبوذية، كما أن لاوتسو الفيلسوف الصيني عرفه وعبر عنه أحسن تعبير. وبشر به الرواقيون في اليونان. وليس إنجيل المسيح سوى إنجيل التحرر من أعراض هذه الدنيا الزائلة حتى يتسنى للمسيحي أن يتصل بربه وبارئه. وقد نادى الفلاسفة المسيحيون بضرورة التحرر، فقال جون تولز
John Tauler : «إن التحرر طهارة تامة، وانفصال كامل عن شئون الدنيا يؤدي إلى البحث عن الله حتى يصبح المرء متحدا بربه أو متصلا به كل الاتصال.» ويقول فيلسوف آخر: «علينا أن نمر بالهموم كألا وجود لها، لا عن خمول أو كسل، ولكن عن حرية عقلية تدفعنا إلى عدم التمادي في حب مخلوق ما إلى حد التطرف.» وهناك أقوال أخرى كثيرة في هذا المعنى لسنا نرى داعيا لذكرها. كما أن علماء الأخلاق من غير رجال المسيحية يؤكدون ضرورة التحرر بدرجة لا تقل عما يحب المسيحيون. فالفيلسوف اسبينوزا يبشر به، وهو يقصد ب «العبودية الإنسانية» حالة المرء الذي يخضع لرغباته وعواطفه وأفكاره ويسمح لها أن تتحكم فيه.
والرجل المتحرر هو الرجل الذي يضع حدا للألم - على حد تعبير بوذا - فهو لا يتألم ولا يوقع بغيره الألم. ذلك هو الرجل السعيد، وذلك هو الرجل الطيب.
غير أن من بين رجال الأخلاق قلة تنكر قيمة التحرر. من هؤلاء نيتشه، ولعله أكثرهم شهرة وأبعدهم صيتا، ومنهم ماركيز دي ساد
Marquis de sade . ولكن هؤلاء الرجال من غير شك فرائس لأهوائهم ولظروف اجتماعية معينة أحاطت بحياتهم. إنهم كانوا لا يقدرون على التحرر فلم يستطيعوا التبشير به. كانوا هم أنفسهم أرقاء فلم يفهموا مزية الحرية. وهم في هذا شواذ من غير شك. وكذلك كان مكيافلي وهجل، وأمثالهما من فلاسفة الفاشستية والاشتراكية الدكتاتورية المعاصرين، فرائس لظروف اجتماعية معينة. وكلهم شواذ في عالم الفكر السياسي.
هذه هي المثل العليا للفرد والمجتمع، المثل التي اتخذت صيغتها منذ نحو ثلاثة آلاف عام في آسيا، والتي ما زال يتعلق بها الكثيرون حتى وقتنا الحاضر. ولكن أكثر شعوب العالم اليوم - رغم إعجابها بهذه المثل - أبعد ما تكون عن اتباعها أو الاهتداء بنورها.
يقول الدكتور مارت
Marett : «إن التقدم الحق هو أن يحب الناس بعضهم بعضا. أما جميع أنواع التقدم الأخرى فهي ثانوية.» وقد تقدمت الإنسانية خلال العصور التاريخية تقدما حقا، ولكن في فترات متباعدة وبغير نظام، وكان التقدم عظيما حقا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويحب أبناء القرن العشرين بعضهم بعضا في وجوه متعددة، ولكنهم في الأمور السياسية لا يعرفون تبادل الحب والتسامح؛ فرجال الحكم كثيرا ما يحيدون عن جادة العدل والاتزان. بل إن هناك من أصحاب النظريات من يبرر قسوة الدولة على الشعب، ولا يرى غضاضة في ضرب الناس بالسياط، أو في اضطهاد الأقليات أو شن الحروب.
ويترتب على تبادل البغضاء بين الناس انحطاط في نظرتهم إلى الحق؛ فالدكتاتوريون السياسيون والاقتصاديون في العصر الحاضر يخترعون الأكاذيب بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وهم يبثون أكثر هذه الأكاذيب في الدعاية المنظمة التي تنفث الكراهية والغرور في صدور الناس وتمهد العقول لقبول فكرة الحرب والقتال.
ويجب أن نذكر أن تبادل الحب لا يمكن أن يتمكن من القلوب إلا إذا عاد الناس إلى الدين الصحيح والعقيدة في إله واحد . ولكن العامة اليوم تعبد آلهة متعددة؛ فهي تعبد الأمة أو تعبد طبقة معينة من الناس أو قد تقدس الفرد.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه. إذا حكمنا عليه بمعيار التقدم الحق ألفيناه ينحدر في سبيل التأخر والانحطاط. إننا لا ننكر أن التقدم العلمي والفني يسير بخطى حثيثة، ولكن تبادل الحب بين القلوب لا يسير مع هذا التقدم جنبا إلى جنب؛ ولذا فليس من وراء التقدم العلمي والفني فائدة، بل إنه من بواعث التأخر والتدهور في كرم النفوس وطيب الأخلاق.
فكيف لنا إذا أن نتحاشى هذا التأخر الخلقي الذي يملك علينا نفوسنا والذي تقع علينا جميعا تبعته؟ كيف نحول الجماعة الراهنة إلى الجماعة المثالية التي ارتآها لنا الأنبياء والمصلحون؟ كيف يتحول الرجل الطامع إلى الرجل المتحرر الذي يستطيع وحده أن يخلق جماعة خيرا من الجماعة التي نعيش فيها؟ هذه هي الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في هذا الكتاب.
وفي خلال الإجابة عنها سأجدني مضطرا إلى علاج موضوعات كثيرة متنوعة ليس عنها من محيص؛ لأن مناحي النشاط الإنساني معقدة، والدوافع الإنسانية مختلطة كل الاختلاط. وكثير من الكتاب لا يعرفون حق المعرفة هذا التنوع والتعقيد في آراء الناس وأغراضهم وأعمالهم. إنهم يبسطون المسألة أكثر مما ينبغي؛ ومن ثم تراهم يقدمون لها حلا غاية في البساطة والسذاجة. ومن أجل هذا رأيت من الضروري أن أبدأ موضوعات الكتاب الأساسية بمناقشة ما نعنيه من كلمة «التفسير». ماذا نعني حينما نقول إننا فسرنا موقفا معقدا؟ ماذا نعني حينما نتحدث عن حادث معين كأنه سبب في حادث آخر؟ إننا إذا لم نعرف الجواب عن هذه الأسئلة كانت نظرتنا إلى طبيعة الاضطراب الاجتماعي وطرق علاجه قاصرة ناقصة.
ومن البحث في معنى التفسير يتبين لنا أن المشكلة الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى سبب واحد، بل إن لها لأسبابا متعددة. وينجم عن ذلك أن أمراض المجتمع لا يمكن أن يكون لها علاج واحد شامل. يجب أن نبحث عن علاج الاضطراب الاجتماعي في ميادين متعددة في وقت واحد . وفي الفصول التالية من الكتاب سأبحث في هذه الميادين، بادئا بالسياسي منها والاقتصادي ثم معقبا بالسلوك الشخصي. وسوف أقترح في كل حالة أنواع الإصلاح التي يمكن إدخالها إذا كان لا بد للناس من تحقيق الأغراض السامية التي يعترفون جميعا أنهم يبتغونها. ويضطرني هذا إلى البحث في علاقة الوسائل بالغايات. وسأبين في مواضع كثيرة من الكتاب أن الأغراض الطيبة لا يمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها، ولا يمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة. إن الغاية لا تبرر الوسيلة؛ وذلك لأن الوسائل التي نستخدمها تحدد طبيعة الغاية التي تنجم عنها.
الفصول التالية من الفصل الثاني إلى الفصل الثاني عشر تؤلف كتابا في الإصلاح، وهي تتضمن علاجا سياسيا، وآخر اقتصاديا، وآخر تعليميا، واقتراحا لتنظيم الصناعات والجماعات، وغير ذلك من ضروب الإصلاح. وهي تتضمن كذلك وصفا للطرق التي يجب أن نتحاشاها كي نبلغ ما نصبو إليه من أهداف.
وكتاب الإصلاح هذا يبلغ غايته في القسم الأخير منه، وهو القسم الذي أناقش فيه العلاقة الكائنة بين نظريات المصلحين وأعمالهم من ناحية وطبيعة العالم من ناحية أخرى. أي نوع من أنواع العوالم عالمنا هذا الذي يطمح الناس فيه إلى الخير ولكنهم لا يحققون إلا الشر في كثير من الأحيان؟ ما معنى هذا؟ وأين يقع الإنسان من هذا العالم؟ وما العلاقة بين مثله العليا ومعاييره ومقاييسه وبين العالم الفسيح الواسع؟ سأبحث في هذه المسائل في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. وقد يرى الرجل العملي أن هذه المباحث لا محل لها هنا، ولكنها في الواقع ليست بعيدة عما نرمي إليه من هذا الكتاب. إننا في ضوء معتقداتنا عن طبيعة الحقيقة نصوغ آراءنا في الصواب والخطأ. وفي ضوء آرائنا في الصواب والخطأ نوجه سلوكنا لا في حياتنا الخاصة فحسب، ولكن كذلك في عالم السياسة والاقتصاد. فلسنا نرى إذا أن معتقداتنا الميتافيزيقية لا محل لها هنا. بل على العكس من ذلك هذه المعتقدات هي العامل البعيد الذي يحدد لنا جميع أعمالنا. ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجا عمليا لأمراض المجتمع ببحث في المبادئ الأساسية والمعتقدات؛ فالفصول الثلاثة الأخيرة، قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرا، بل إنها من ناحية عملية بحتة قد تكون أهم ما فيه.
الفصل الثاني
معنى التفسير
أحب في مستهل هذا الفصل أن أكرر القول بأننا جميعا متفقون على الفرض الأسمى للحياة من قديم الزمن، وليس بيننا من خلاف في نوع المجتمع الذي نحب أن نكون أعضاء فيه، وليس بيننا من خلاف في المثل الأعلى للرجل أو المرأة الذي نحب أن نحتذيه. ولكننا حين نحاول أن نرسم الخطة التي تعيننا على بلاغ الهدف تتضارب آراؤنا وتتناقض؛ فلكل فرد دواؤه الخاص الذي يكفل به علاج أمراض الإنسانية جميعا، وكثيرا ما تشتد الحماسة لهذا الدواء الناجع، بل كثيرا ما تتطاحن الأمم في سبيله.
وإنا لنتساءل: لماذا يتشبث الناس بالعقائد التي يخترعونها ويعتنقونها؟ ولماذا يمقتون أشد المقت غيرهم ممن يعتنقون عقائد أخرى؟ والجواب على ذلك سهل ميسور؛ ذلك أن الثقة البالغة تريح الفؤاد وتنزل الطمأنينة بالنفس، كما أن الكراهية لها فائدة كبيرة في إذكاء العاطفة. بيد أنه ليس من السهل أن نفهم لماذا تنشأ أمثال هذه العقائد التي يتعصب لها معتنقوها ولا يقبلون سواها. ولماذا يراها فريق من الناس صادقة ويتحمس لها أشد الحماسة وتسيغها عقولهم حتى حينما يكون العقل غير متأثر بالعاطفة، ويراها فريق آخر كاذبة لا تشبع ولا تقنع؟
يجدر بنا هنا في هذا المقام أن نخصص بضعة أسطر لمعنى التفسير: ما معناه؟ ومتى ترضى به العقول وتقنع؟
إن العقل الإنساني يميل بطبعه ميلا شديدا إلى أن يجمع بين الشتيت المختلف في وحدة مؤتلفة. إن ما تقع عليه العين يبدو لحواسنا لأول وهلة متعددا متنوعا. غير أن العقل البشري الذي يتعطش دائما لتفسير الغامض وتوضيحه يحاول أن يجعل من الاختلاف ائتلافا. والفكرة التي ترمي إلى توحيد الأشتات، أو التي تصمد لتقلبات الزمان تلقى في نفوسنا رواجا. إن النفس لترتاح إلى الفكرة التي تخضع المتنوعات التي لا ترتبط في الظاهر برباط معقول إلى وحدة معقولة. وإلى هذه الحقيقة السيكولوجية الأساسية ترجع نشأة العلم والفلسفة وعلوم الدين. إننا إذا لم نحاول دائما أن نوجد من الاختلاف ائتلافا تعسر علينا التفكير كل العسر، وبات العالم فوضى لا نظام له، وأضحى سلسلة مفككة من الظواهر التي لا يمسكها رباط.
غير أنا كثيرا ما نغالي حينما نحاول أن نجمع الأشتات في وحدة مؤتلفة. وأكثر الناس ميلا إلى المبالغة في ذلك المفكرون الذين يعملون في ميادين لا تخضع لقواعد العلوم الطبيعية المنظمة. إن علماء الطبيعة يعترفون بأن الكون لا تزال به بقية من الظواهر المختلفة التي لم يستطع العقل حتى الآن أن يكتشف ما بينها من روابط، ولم يتمكن بعد من إخضاعها لوحدة مؤتلفة أو لحكم العقل والمنطق. أما في العلوم غير المنظمة، فالأمر ليس كذلك؛ إذ الاتجاه الأول فيها هو التوحيد وإيجاد الفكرة العامة. ويترتب على ذلك أن يلجأ الباحثون في هذه العلوم إلى المبالغة في التبسيط.
ومن ثم ترى أن الإنسان ينزع أحيانا نحو إدراك الوحدة بين الظواهر المختلفة، كما أنه في أحيان أخرى يرى ما بين هذه الظواهر من خلاف؛ فهو مثلا يرى أن الطباشير والجبن كلاهما مركب من إلكترونات، وكلاهما مظهر مادي وهمي للحقيقة المطلقة الخفية. ومثل هذه النظرة التي ترى من وراء الاختلاف ائتلافا قد تشبع رغبتنا في حب تفسير الظواهر. غير أن لنا جسوما كما أن لنا عقولا، وهذه الجسوم تجوع فتشتهي الجبن ولا تشتهي الطباشير، وحينئذ ندرك ما بينهما من خلاف. وما دمنا حيوانات تجوع وتعطش فلا مناص لنا من أن نعرف أن هناك فرقا ما بين هو نافع للصحة وما هو ضار بها، وقد يكون إخضاع هذا وذاك لوحدة مؤتلفة صحيحا عند الدراسة، ولكنه في غرفة الطعام لا يجدي نفعا.
إن زيادة تبسيط الأمور فيما يشبه ظاهرة الطباشير والجبن سرعان ما تؤدي إلى نتائج خطرة قاتلة؛ ولذا فإننا قلما نلجأ إلى مثل هذه المبالغة في التبسيط. ولكن هناك ظواهر أخرى لا تعود زيادة التبسيط فيها علينا بضرر، وليس الخطأ فيها جسيما أو مباشرا، بل إن مرتكبي الخطأ أنفسهم لا يحسون بالضرر؛ وذلك لأن الضرر الناشئ لا يحرمهم من خير هم بالفعل مستمتعون به، وإنما يمنع عنهم خيرا كانوا ينالونه لولا ارتكاب هذا الخطأ. خذ مثلا لذلك هذا التبسيط الزائد للحقائق الذي شاع في حين من الأحيان والذي كان يجعل الله مسئولا عن كل ظاهرة لا يمكننا أن نفهمها فهما كاملا. إن فريقا من الناس يغض الطرف عن الأسباب الثانوية ويرد كل شيء إلى الخالق. وهذا التبسيط الشديد في التعليل، وهذا التأليف الشامل بين المختلفات لا ينجم عنه أثر سيئ مباشر. غير أن أولئك الذين يرون سببا واحدا وراء جميع المظاهر لن يكونوا من رجال العلم الباحثين، ولكنهم لا يعرفون ما هو العلم الحق؛ ولذا فهم لا يحسون بأنهم يفقدون شيئا.
إن رد المظاهر جميعا إلى سبب واحد قد بات - في بلاد الغرب على الأقل - أمرا باليا عتيقا ولم يعد من الآراء الحديثة. إن الغربيين لا يحاولون اليوم أن يردوا كل شيء إلى الله ثم يقفون عند هذا الحد من التعليل والتفسير. إنما هم يحاولون أن يخضعوا المختلفات المعقدة التي تحيط بهم إلى نظريات جديدة. فهم مثلا حين يبحثون في الجماعة أو في الأفراد لا يقولون هذه هي إرادة الله، وبذا يبسطون كل أمر، وإنما هم يردون المظاهر إلى أسباب اقتصادية أو جنسية أو إلى عقدة من عقد النقص. وهذه النظريات هي كذلك تبسيط زائد للأمور، والضرر منها ليس كذلك مباشرا أو واضحا. إنما العقوبة التي يقاسيها الغربيون بسبب انتحائهم هذه الناحية من التفكير هي عجزهم عن تحقيق مثلهم العليا وعن الفرار من الحمأة الاجتماعية السيكولوجية التي يتمرغون فيها. إننا لن ولا نستطيع أن نعالج مشاكلنا الإنسانية علاجا نافعا حتى نتبع سبيل العلماء الطبيعيين، ونخفف من حدة رغبتنا في التبسيط العقلي، وذلك بأن نعترف بأن الأشياء والحوادث ما زالت فيها بقية معينة لا تخضع لتعليل العقل أو للتوحيد والائتلاف. إننا لن نستطيع أن نحول عصرنا هذا من عصر حديدي إلى آخر ذهبي حتى نتخلى عن أطماعنا في إيجاد سبب واحد لجميع الأمراض التي نشكو، وحتى نؤمن بوجود أسباب كثيرة تعمل كلها في آن واحد، وحتى نعتقد في وجود علاقات معقدة وفي تعداد المؤثرات والآثار.
وقد رأينا فيما سلف أن هناك آراء كثيرة متنوعة يتحمس لها معتنقوها أشد الحماسة ويتعصبون لها أشد التعصب، وهي آراء تتعلق بخير السبل التي تؤدي بنا إلى الهدف المقصود. ومن الخير أن نبحث هذه الآراء جميعا؛ إذ إننا إذا رفعنا إلى حد التقديس واحدا منها ارتكبنا خطأ شدة التبسيط الذي أشرنا إليه.
وفي الصفحات المقبلة سأتعرض لبعض الوسائل التي يجب أن تستخدم والتي يجب أن تستخدم كلها في آن واحد لو كنا نريد أن نحقق الغاية التي رسمها المصلحون والفلاسفة للبشر، وتلك الغاية هي أن نعيش في جماعة حرة عادلة تصلح لأن يكون الرجل المتحرر أو المرأة المتحررة عضوا فيها، وهي في الوقت نفسه جماعة لا يستطيع تنظيمها غير المتحررين من الرجال والنساء.
الفصل الثالث
الإصلاح الاجتماعي الشامل
هناك فريق من المفكرين لهم آراء طريفة جريئة نسميهم - أو يسمون أنفسهم - «المجددين» يرى هؤلاء المفكرون أن الغايات التي نصبو إليها جميعا يمكن أن تتحقق بمعالجة بناء المجتمع. إنهم لا يبشرون «بتغيير نفوس» الأفراد، وإنما ينادون بإنجاز إصلاح شامل معين، في السياسة وفي الاقتصاد بنوع خاص.
إن الإصلاح السياسي والاجتماعي فرع مما نستطيع أن نسميه «الأخلاق الواقية». والغرض من وضع قواعد هذه الأخلاق هو أن نخلق ظروفا اجتماعية معينة من طبيعتها أن تهيئ للفرد فرصة تمكنه من أن يسلك سلوكا طيبا، وتحرره من كل القيود. وكلنا يعلم أن الرجل المسيحي كثيرا ما يدعو الله ألا يدفع به في سبيل الإغراء. والمصلح السياسي والاقتصادي يرمي بإصلاحه إلى إجابة هذا الدعاء، إنه يعتقد أن البيئة التي يعيش فيها الفرد يمكن أن تنظم بحيث تمتنع جميع ضروب الإغراء، فيعيش الفرد في المجتمع حرا طاهر الذيل لا عن إرادة وقصد، بل لأن الفرص التي تهيئ له الخضوع لشهواته لم تسنح ولم تتيسر له. وليس من شك في أن نظرية المصلحين السياسيين والاقتصاديين هذه فيها من الحق الشيء الكثير. ففي إنجلترا اليوم قلت جرائم القتل كثيرا بالنسبة لعددها في الزمان القديم. وهذه القلة ترجع إلى عدد من الإصلاحات الاجتماعية الشاملة؛ ترجع إلى تشريع يقيد بيع السلاح ويمنع حمله، كما ترجع إلى نظام القضاء الذي يحكم على القاتل المذنب بالقتل وينتقم للضحايا الأبرياء. ثم إنا - فوق ذلك - ينبغي ألا ننسى التغير الذي طرأ على آداب المعاشرة؛ ذلك التغير الذي يجعلنا اليوم نستخف بالمبارزة التي كانت فيما مضى سببا في موت الكثيرين من المبارزين؛ فنحن اليوم لا ندافع عن الشرف الشخصي بالقتال كما كنا نفعل في العصور الوسطى. ويكفي هذا القدر من الأمثلة لكي نبين للقارئ أننا نستطيع عن طريق الإصلاح الاجتماعي أن نغير سلوك الفرد، وأن نخفف من دواعي الإجرام (وفي موضع آخر من الكتاب سأتكلم على بواعث الإجرام الحديثة التي تنشأ عن الإصلاح). وإذا ما اختفت من المجتمع بواعث الإجرام مدة طويلة من الزمن تعود الناس عادات جديدة وتخلقوا بخلق جديد. ومن طبيعة المرء أن ينظر إلى الجريمة التي لا ينساق إليها انسياقا نظرة نفور وتقزز، فلا يفكر البتة في ارتكابها، وهو حينئذ ينسب إلى نفسه فضل النزاهة الخلقية وهي في الواقع من خلق الظروف. خذ مثالا لذلك ميل الإنسان إلى القسوة: كانت كثرة الناس في إنجلترا لا تتورع عن القسوة على الحيوان وعلى الأطفال، فقامت - في وجه معارضة قوية - أقلية صغيرة من المصلحين ذوي القلوب الكبيرة تنادي بضرورة الرأفة بالإنسان والحيوان، وانتهى الأمر بوضع تشريع يعاقب كل من يخالف ذلك. وأزيلت البواعث التي كانت تدفع الناس إلى غلظة القلب فألف الناس الرحمة، وتطرقت الرأفة إلى قلوبهم وأحست النفوس بالعطف المتبادل. ومن ثم ترى أن التشريع قد أجدى في خلق عادة إنسانية جديدة. والإنجليز اليوم ينفرون أشد النفور من مشاهد القسوة، وقل أن ترى فيهم رجلا فظا غليظ القلب. وقد يظن بعض الناس أنهم بطبعهم رقاق القلوب يحبون غيرهم من الناس وليسوا بحاجة إلى تشريع يحرم عليهم القسوة ، ولكنهم في ظنهم مخطئون. فإنهم حين تتغير الظروف وتسنح لهم الفرص تغلظ قلوبهم وتقسو نفوسهم، وبخاصة حينما تكون القسوة وسيلة لغرض نبيل. ومن ثم كان من الضروري أن نبقي على عادات التأدب والاحتشام القديمة بغير مساس. ومن ثم كذلك كان من الضروري أن نتجنب الحرب - سواء كانت دولية أو أهلية - لأن الحرب حين تشتعل في نطاق واسع لا يقتصر ضررها على إزهاق الأرواح، إنما هي كذلك تهز كيان العادات المألوفة والقانون القائم والثقة المتبادلة بين الناس وآداب اللياقة التي تصدر عن المرء من تلقاء نفسها، والعطف المتبادل بين الأفراد، وحينئذ تصبح الحياة الاجتماعية شديدة لا تحتمل. والإنجليز على الجملة، شعب شفيق طيب المزاج. ولا يرجع هذا إلى أن جذور الفضيلة تمتد في نفوسهم أعمق مما تمتد في نفوس غيرهم من الشعوب، وإنما يرجع إلى أن آخر الغزوات الناجحة التي وجهت إلى جزيرتهم كانت في عام 1066 وإلى أن آخر حروبهم الأهلية حدثت في عام 1688، وقد كانت حربا هينة روعيت فيها أصول اللياقة والأدب إلى حد كبير. وكان من نتيجة ذلك أن فترت في نفوس الإنجليز الرغبة في القسوة من عهد بعيد؛ وذلك لانعدام الظروف التي تبعثها. وينبغي أن نلاحظ فوق ذلك أن الإنجليزي شفيق في بلده فحسب، وهو كذلك شفيق في تلك الأجزاء من الإمبراطورية التي انعدمت فيها الحروب أو أشباح الحروب فترة طويلة من الزمن. ولكنه في الهند على غير ذلك، والهنود لا يرون في حكامهم شفقة ولا رحمة. والواقع أن المقاييس الخلقية عند الإنجليز تتحول تحولا شديدا عندما ينتقلون من جو الهدوء والسلام الذي يخيم على بلادهم إلى جو الهند، وهي تلك البلاد التي فتحوها واحتلوها احتلالا حربيا. فهم يفعلون في الهند ما لا يحلمون بفعله في بلادهم، وقد كانت مذبحة آمر تسار من أشنع ما يسجله التاريخ.
إن انتفاء الحروب الخارجية والأهلية يبعث في القلوب رحمة ورأفة لا تبعثها فيها النصائح الخلقية والدروس الدينية، إن الحرب تبعث على الحرب، والعنف يولد العنف. فإسبانيا مثلا التي ألفت ألا يفتر فيها النضال الداخلي أكثر تعرضا للنزاع الداخلي من بلد تأصلت فيه عادة التعاون السلمي من زمن بعيد.
ومما تقدم نرى أن معالجة النظام الاجتماعي علاجا شاملا قد يباعد كثيرا بين الفرد وأسباب الإجرام، تلك الأسباب التي كان من المستحيل على الفرد أن يقاومها لولا هذا الإصلاح الاجتماعي. ولكن الإصلاح الاجتماعي ليس خيرا كله، وينبغي ألا ننسى أنه قد ينقذ الناس من مجموعة من الشرور ليسوقهم إلى شر جديد. وكثيرا ما يحول الإصلاح الاجتماعي الميول الشريرة عند الفرد من اتجاه قديم إلى اتجاه آخر جديد. إننا كثيرا ما نسد ثغرة قائمة لنفتح غيرها، والشر كثيرا ما يبقى في النفوس، إن عارضته من ناحية وجد له مخرجا من ناحية أخرى، وتستطيع أن تتبع هذا الميل الآثم عند الإنسان في كل مدنية من مدنيات العالم، وتستطيع أن تلمح وراء كل ثقافة من الثقافات عيبا من العيوب، وتستطيع أن تلمس ميل الإنسان نحو الشر في صورة من الصور في كل موقف من مواقف السياسة الدولية. خذ على سبيل المثال التاريخ الحديث لسبب أساسي من أسباب الشر عند الإنسان، وأقصد به شهوة السلطان، والرغبة الشديدة في النجاح الشخصي والسيطرة. نستطيع هنا أن نصف الانتقال من ظروف العصور الوسطى إلى ظروف العصر الحديث كأنه انتقال من العنف إلى الدهاء، ومن النظر إلى السلطان على أنه الشجاعة الحربية وحق الأرستقراطية المقدس إلى النظر إليه على أنه التفوق المالي، الداء واحد ولكنه يظهر في صور مختلفة. في العصر السابق كان السيف وامتياز الطبقة التي ينتمي إليها الفرد دليل السيطرة وأداتها في آن واحد، وقد حل المال في العصر الحديث محل السيف وامتياز الطبقات. ومنذ عهد قريب جدا أخذت رغبة السيطرة من جديد صورتها في العصور الوسطى؛ فقد عادت الدول الفاشستية إلى الحكم بالسيف وبالحق المقدس، ولا ننكر أن «الحق» هنا هو حق الزعماء الذين رفعوا أنفسهم إلى مكانة الزعامة، وليس حق الأرستقراطية الموروث، ولكنه حق مقدس على كل حال؛ فموسوليني لا يخطئ، وهتلر رسول من عند الله، وفي روسيا الجديدة الموحدة قام نظام رأسمالية الدولة، واختفت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، واستحال على الأفراد أن يستخدموا المال وسيلة للسيطرة على زملائهم، وليس معنى هذا أن شهوة السلطان قد أقمعت، بل لقد تحولت من اتجاه إلى آخر؛ ففي نظام روسيا الجديد أصبح المركز السياسي هو دليل السلطان وأداته، لا يصبو الرجال إلى الثراء، ولكنهم يتطلعون إلى المناصب، وما أشد اقتتالهم وتناحرهم على هذه المناصب. وقد ظهر التنافس الشديد على السلطان أثناء محاكمات الخيانة عامي 1936 و1937، في الروسيا - وكذلك إلى حد ما في البلدان الدكتاتورية الأخرى - يشبه الموقف كل الشبه نظام رجال الدين؛ حيث يكون المركز أكثر من المال أهمية. إن الاشتراكيين لم يتخلصوا من رغبة الطموح ولكنه ليس الطموح إلى جمع المال والثراء. إن شهوة السلطان لديهم منزهة عن المادة فهي شهوة خالصة.
من هذا نفهم معنى هذه العبارة: «إنك لا تستطيع أن تغير الطبيعة البشرية»، غير أن علماء الإنسان ينبهوننا إلى أن طبيعة الإنسانية - برغم أنها لا تتغير - تتخذ صورا جديدة غاية في الغرابة والطرافة. ومن الممكن أن ننظم مجتمعا لا تجد فيه شهوة السلطان مخرجا سهلا؛ فأفراد قبائل زوني في الهند مثلا لا يأبهون بالشهرة أو جمع الثروة أو بالنفوذ أو المركز الاجتماعي كما نفعل نحن أبناء المدنية الحاضرة. النجاح في الحياة عندنا مقدس معبود، ولكن هذه القبائل الهندية لا تكترث له أو تعيره التفاتا، وقل بين أعضائها من يفكر في الارتفاع على أقرانه، فإن حاول أحدهم أن يفعل نكلوا به وأوقعوا به أشد العقاب، ليس بين أبناء هذه القبائل من هو شبيه بهتلر أو كرجرز أو نابليون أو كالفن، ولا تتاح الفرصة لأحدهم لكي يتسلط على غيره. في هذه المجتمعات الهندية الهادئة المتزنة لا تجد المطامع الشخصية سبيلا إلى الظهور، إنهم لا يطمعون في النفوذ السياسي أو في جمع المال أو في السلطة الدينية أو الحربية مثلما نفعل نحن الذين نعد أنفسنا حملة لواء المدنية الحديثة.
غير أنا يجب أن نذكر أن أبناء المجتمع الصناعي الحديث في بلاد الغرب لا يستطيعون بأية حال أن يحذوا حذو قبائل الزوني أو ما شابهها من قبائل الهند؛ وذلك لأن ثقافة هذه القبائل تختلف عن ثقافتنا كل الاختلاف، بل إنا - إن استطعنا أن نحاكي هذه القبائل - لا نحب أن نسير سيرتها أو نتخذها لنا نموذجا ومثالا؛ وذلك لأن هذه القبائل الهندية قد دفعت في سبيل التغلب على شهوة السلطان ثمنا باهظا. أجل إنهم لا يتسابقون في سبيل الثراء أو التفوق الاجتماعي كما نفعل، ولكنهم يتكلفون من جراء ذلك ما لا نطيق، فهم يرزحون تحت عبء ثقيل من التقاليد الدينية، كما أنهم يرتبطون بكل ما هو قديم ويفزعون من كل جديد غير مألوف. إنهم ينفقون وقتا طويلا ونشاطا وافرا في أداء الشعائر السحرية، وفي تكرار صيغ خاصة لا تكاد تنتهي يحفظونها عن ظهر قلب. وإذا كنا نحن نتصف بالكبر والشره والحقد فهم يتصفون بالتراخي، وخاصة بالتراخي العقلي، أو الغباء، وهو ما يحذر علماء الأخلاق البوذيون تلاميذهم منه تحذيرا شديدا. والمسألة التي نواجهها الآن هي هذه: هل نستطيع أن نجمع بين مزايا ثقافتنا الغربية ومزايا ثقافة هذه القبائل الهندية؟ هل نستطيع أن نخلف نوعا جديدا من الحياة تنتفي فيه عيوب هذين اللونين المختلفين من الثقافة؛ الثقافة الهندية والثقافة الغربية الصناعية؟ هل في مقدورنا أن نكتسب عادات هؤلاء الهنود ونتحرر من حب الثراء ومن الرغبة الملحفة في النجاح الشخصي، مع احتفاظنا في الوقت نفسه بتنبهنا الذهني واهتمامنا بالعلم وقدرتنا على إحداث التقدم الفني السريع وتطور الجماعة؟
هذه أسئلة يتعسر علينا أن نجيب عنها إجابة المتمكن الواثق. ولا نستطيع أن نعرف إن كان من الممكن أن نجمع بين الثقافتين إلا بالخبرة والتجربة. إن كل ما نعرفه على التأكيد هو أن الشغف بالعلوم والقدرة على إحداث التطور الاجتماعي السريع يرتبطان حتى الوقت الحاضر؛ بمظاهر شهوة الحكم وعبادة النجاح في الحياة. وقد أثبت التاريخ أن التقدم العلمي كان دائما حليف العدوان وإيذاء الآخرين. فهل معنى هذا أن تقدم العلوم والاعتداء متلازمان لا ينفصلان؟ كلا ، لسنا نرى ذلك؛ فإن كل ثقافة من الثقافات ترتبط بألوان خاصة من السلوك والفكر والشعور ليست من طبيعتها، إنما هي تسري خلالها اتفاقا وعرضا. وهذا الارتباط قد يدوم طويلا ويعتبر - ما دام قائما - ضروريا وطبيعيا وصائبا. ولكن لا بد أن يأتي وقت - تحت ضغط الظروف المتغيرة - ينهار فيه هذا الارتباط المتين ويحل محله ارتباط جديد بألوان جديدة من السلوك والفكر والشعور، فتبدو هذه الألوان الجديدة طبيعية وضرورية وصائبة كما كانت الأولى كذلك. ولنعرض على القارئ قليلا من الأمثلة لزيادة الإيضاح. في المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى وفي أوائل العصر الحديث كان هناك بين الطبقات الغنية ارتباط وثيق بين الأفكار والعادات التي تتعلق بالجنس والزوجية والأفكار والعادات التي تتعلق بالملكية والمركز الاجتماعي، فكان النبيل في العصور الوسطى يتزوج طمعا في إقطاعية، والرجل المتوسط في أوائل العصر الحديث يتزوج طمعا في المهر، والملوك يتزوجون طمعا في دول بأسرها، وكانوا بحسن اختيارهم زوجاتهم يستطيعون بناء الإمبراطوريات. ولم تكن الزوجة تمثل الملكية فحسب، إنما هي نفسها كانت ملكا للزوج. وكانت الغيرة الشديدة (وهي شعور طبيعي يقره الناس أجمعون) ترجع إلى الإحساس بالاعتداء على الملك، كما ترجع إلى انحراف في العاطفة الجنسية، وكان لا يرضى الزوج الغيران إلا أن يقتل زوجته الخائنة. وكانت الزوجة المخلصة في الوقت نفسه تحلى بالجواهر، بدافع الحب الصادق أحيانا، ولإرضاء رغبة الزوج في حب الظهور في أغلب الأحيان. وكانت الزوجة التي تلبس فاخر الثياب نوعا من الإعلان المتحرك عن ثروة زوجها ومركزه الاجتماعي. كان الميل نحو ما يسميه فبلن
Veplen «التظاهر بالاستهلاك» يرتبط في تلك الثقافات بالسلوك الجنسي. كان الأمر كذلك في الماضي وهو لا يزال كذلك من مميزات العصر الحاضر إلى حد كبير، ولكنه الآن أقل منه في الماضي بدرجة كبيرة. لا ينظر الزوج إلى زوجه اليوم كأنها ملك خاص له بمقدار ما كان يفعل في الزمان القديم. ومن ثم لم يعد من الطبيعي أو من الصواب أن يقتل الزوج شريكته الخائنة. إن فكرة الارتباط الجنسي الذي لا يقوم على المال ولا يرتبط بالمهور والضياع تلقى اليوم رواجا حتى بين الأغنياء، ولم يكن الأمر كذلك في أيام التروبادور مثلا.
وهناك ألوان أخرى من الفكر والشعور كانت في وقت من الأوقات طبيعية لا مفر منها، ولكنها في أوقات أخرى أو في أمكنة أخرى لم تكن معروفة ولم يكن لها وجود. من ذلك أن الفن كان أحيانا يرتبط بالدين (كما كان في أوروبا في العصور الوسطى) ولكنه في أحيان أخرى كثيرة لم تكن له البتة صلة بالدين (كما هي الحال بين قبائل معينة من الأمريكان الهنود وبين الأوربيين في القرون الثلاثة الأخيرة). وكذلك الشئون الجنسية وأمور التجارة والزراعة والمأكل والمشرب، نراها ترتبط بالدين أحيانا وأحيانا لا ترتبط. ومن المجتمعات ما يستصوب الريبة والغيرة والحقد، ومنها ما تراها آثاما خلقية.
وقد يكون ارتباط التقدم الإنساني بروح العدوان اتفاقيا وعرضيا كالعادات العقلية والعادات العملية التي ذكرناها آنفا. وقد يكون لهذا الارتباط من ناحية أخرى جذور متأصلة في أعماق النفس البشرية. وسيتبين لنا فيما بعد أنه من العسير جدا، بل من المستحيل، أن نفصل بين التقدم والعدوان، وهذه المشكلة على كل حال ليست من المشاكل التي يمكن الجزم فيها يقينا. وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد - ونحن على شيء من الثقة - أن الارتباط بينهما لا يلزم أن يكون كاملا كل الكمال كما هو في الوقت الحاضر.
والآن دعنا نلخص ما فات لعلنا نصل إلى نتيجة:
أولا:
رأينا أن «الطبيعة الإنسانية التي لا تتغير» قد تتغير فهي ليست متحجرة كما يظن بعض علماء الإنسان، وكثيرا ما تغيرت تغيرا ملموسا.
ثانيا:
أن أنواع الارتباط المختلفة التي نشاهدها بين ألوان السلوك المتنوعة في المجتمعات البشرية يمكن فصمها ثم إعادة ربط عناصرها بطرق أخرى.
ثالثا:
أن علاج بناء المجتمع على نطاق واسع قد ينجم عنه تغير معين في الطبيعة الإنسانية. بيد أن هذا التغير قلما يكون أساسيا؛ فهو لا يستأصل الشر من جذوره، وإنما يحوله من مسلك إلى آخر.
رابعا:
إن شئنا أن نحقق الغايات التي نحبها جميعا فالأمر يقتضي أكثر من مجرد تحويل الروح الشريرة عند الإنسان من مجرى إلى مجرى. بل لا بد لنا من القضاء على الشر من منبته، ولا بد لنا من كبح الإرادة الفردية وهي في نشأتها.
ومن ثم نرى أن الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل لا يحقق لنا أغراضنا. ولا مندوحة لنا عن الهجوم على هدفنا المثالي الأعلى، لا من هاتين الناحيتين وحدهما، ولكن كذلك وفي نفس الوقت من جميع النواحي الأخرى. وقبل أن نتكلم فيما ينبغي عمله من هذه النواحي لا بد لي أن أصف في شيء من التفصيل طريقة الهجوم من الناحية الأولى؛ ناحية الإصلاح الاجتماعي الشامل.
الفصل الرابع
الإصلاح الاجتماعي والعنف
يقول بارتلمي دي لجت
Barthélemy de Ligt : «كلما اشتد العنف قلت الثورات.» ويجدر بنا أن نتدبر هذه العبارة.
إن بارتلمي في هذه العبارة ينصح باستخدام العنف وسيلة للإصلاح، ولكن العنف في الواقع لا يولد إلا العنف؛ عنف الحاكم يؤدي إلى عنف المحكوم، ويثير في نفسه الريبة والاستياء والحقد. إننا إذا تتبعنا التاريخ ألفينا نتيجة العنف واحدة في كل موقف من المواقف - السخط ومقابلة الشدة بالشدة.
إن الثورة لا تعد ناجحة إلا إذا أدت إلى التقدم، والتقدم في عبارة الدكتور مارت التي سلف ذكرها هو تبادل المحبة بين الناس. فهل من الممكن أن نحقق التقدم بهذا المعنى - تبادل المحبة - بوسائل أبعد ما تكون بطبيعتها عن تبادل المحبة؟ إن التجربة والتاريخ كلاهما يؤكد لنا استحالة ذلك، غير أن المرء يميل إلى أن يعتقد بأنه يستطيع بعمل حاسم جريء أن يرفع مستوى العالم إلى المدينة الفاضلة كما يتصورها، كما أنه في الوقت نفسه يميل إلى التحيز لمن يشاطره الرأي، ومن ثم تراه يميل إلى استخدام العنف ولا يطيق اللين والهدوء وهما من ضرورات الحكم الرشيد. إن أكثرنا يعتقد أن الغاية الطيبة تبرر الوسيلة الدنيئة. ومن العبارة الآتية التي نقتبسها من كتاب الأستاذ لاسكي عن الاشتراكية يتبين لنا مدى الخطأ الذي نقع فيه من جراء ذلك، يقول لاسكي في معرض حديث له عن تاريخ إنجلترا : «لولا دكتاتورية أسرة جيمس الحديدية لانهارت الجمهورية.» كأن العنف الذي لجأت إليه هذه الأسرة هو الذي حفظ للبلاد الحكم الجمهوري. والواقع الذي يسجله التاريخ هو أن هذه الأسرة بعينها هي التي كانت السبب في انهيار الجمهورية من جراء ما لجأت إليه من قسوة وشدة، بل لقد كانت هذه الأسرة بعينها بسبب عنفها واستبدادها عاملا من العوامل التي أدت إلى الحروب النابليونية الطاحنة، وإلى التجنيد الإجباري - وهو نوع من أنواع الإذلال والاستعباد - كما أدت إلى نشأة الروح القومية القوية التي تهدد كيان المدنية الحاضرة؛ تلك هي نتائج هذه الدكتاتورية الغاشمة التي يتمشدق بها لاسكي، وبرغم هذا كله لا يني أنصار الثورات عن الاعتقاد بأن هذه الوسائل العنيفة وأشباهها تؤدي إلى خير النتائج. إنهم يحسبون أنهم يستطيعون بالثورات أن يرفعوا لواء العدالة الاجتماعية، وأن ينشروا السلام بين الأمم.
إن العنف لا يؤدي إلى التقدم الحق إلا إذا أعقبته الأعمال العادلة اللينة التي تنطوي على حب الخير وحسن النية، حينئذ تصلح هذه الأعمال ما أفسد العنف وتعوض ما فقدته الجماعة من جرائه، والفضل عندئذ لا يرجع إلى العنف ذاته، وإنما يرجع إلى ما يعقبه عادة من إصلاح وتعويض، وعلى سبيل المثال نقول: إن غزو الرومان لبلاد الغال والغزو البريطاني للهند كلاهما عمل عنيف انتهى بالخير وأدى إلى التقدم، وإنما يرجع ذلك التقدم إلى الإصلاح الذي قام به رجال الإدارة من الرومانيين والبريطانيين بعدما ألقى رجال الحرب السلاح، ومع هذا فنحن نؤمن بأن هذا التقدم الذي حدث كان من الجائز أن يتم بغير الغزوات التي شنها المحاربون، أما إذا لم يتل أعمال العنف الأولى عمل إصلاحي - كما حدث في البلاد التي فتحها الأتراك - فإن البلاد تبقى على حالها من الهمجية والتأخر.
وكلما طال أمد العنف تعسر على القائمين به أن يقوموا بالأعمال الإصلاحية التي تستند إلى سياسة اللين؛ ذلك لأن أعمال العنف تصبح من تقاليد الحكم، كما تصبح الأعمال العنيفة - في أعين الجمهور - أعمالا فاضلة تنم عن الشرف الرفيع، وتدل على البطولة الجبارة، وهذا هو ما حدث أيام التتر، وهذا هو ما يحدث الآن في الدول الدكتاتورية الحديثة، وأقصد بها ألمانيا وإيطاليا والروسيا، وفي مثل هذه الظروف يضعف الأمل في تحويل آثار العنف إلى الأعمال الخيرية العادلة التي قد تعقب الشدة إن قصر أجلها.
ومما تقدم يتبين أن الإصلاح لا يحقق النتائج المرجوة إلا أن كان قائما على حسن النية وفي الوقت الملائم. إن القيام بالإصلاح الاجتماعي الذي يثير معارضة قوية تتطلب استخدام العنف والالتجاء إلى الشدة تهور وإجرام؛ لأن الإصلاح الذي يستدعي العنف لإقراره يفشل في تحقيق الخير المرجو، بل يجعل الحياة أسوأ مما كانت من قبل. إن العنف - كما قلت من قبل - لا يولد إلا آثار العنف، وهذا الآثار لا يمكن محوها إلا بأعمال الإصلاح اللينة التي تعقب العنف وتعوض بعض آثاره. وإن طال أمد العنف أضحى عادة في نفوس مرتكبيه وبات من العسير عليهم أن يسلكوا مسلكا آخر أو أن يتخذوا سياسة أخرى. وقد يقبل الحاكم على العمل العنيف عن قصد نبيل ونية حسنة، ولكن أعماله العنيفة تؤدي إلى نتائج لم تكن لتخطر على باله أو تدور بخلده. فقد انتهت دكتاتورية أسرة جيمس بالاستبداد الحربي، وبحرب دامت عشرين عاما، وبالتجنيد الإجباري في كل أنحاء أوربوا، وبظهور القومية المقدسة، وما كان لأحد من أفراد أسرة جيمس أن يحلم بشيء من هذا. وفي العصر الحديث نرى أن ظلم القياصرة الروس واستبدادهم الذي امتد إلى فترة طويلة من الزمن قد أدى، كما أدت أعمال القسوة في الحرب العظمى، إلى دكتاتورية البلاشفة الحديدية. وما كان للقياصرة أو لرجال الحرب العظمى أن يتصوروا هذه النتيجة البعيدة. ثم إن الخوف من اشتعال ثورة عالمية عنيفة دعا إلى قيام الفاشستية، وأعادت الفاشستية التسليح، وتطلبت إعادة التسليح من الدول الديمقراطية أن تخرج تدريجا عن قاعدة الحرية التي رسمتها لنفسها، وتشير كل الدلائل اليوم (يونيو 1937) على أن المستقبل مظلم كئيب.
1
إذا أردنا إذا أن نقوم بإصلاح شامل لا يثبت بطلانه عند تطبيقه فلا مندوحة لنا عن اختيار الوسائل التي لا تتسم بالعنف والشدة، أو - على الأقل - تلك الوسائل التي تقوم على الحد الأدنى منهما (ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الإصلاح الذي ينفذ تحت حافز الخوف من جار أجنبي قوي، والذي يرمي إلى استخدام العنف في الحروب الدولية المنتظرة، لا يبوء إلا بالفشل، ومثله كمثل الإصلاح الذي ينفذ بطريق الإرهاب الداخلي، وقد أدخل الدكتاتوريون تعديلا شاملا في بناء المجتمعات التي يحكمونها دون أن يلجئوا إلى وسائل الإرهاب، فقابلت شعوبهم هذا التعديل بالرضا لأنها آمنت - بفعل الدعاية المنظمة - أن هذا التعديل ضروري لتأمين الدول من العدوان الخارجي. وقد كان بعض هذا التعديل إصلاحا مستحبا، ولكن لما كان هذا الإصلاح موضوعا بقصد تمكين الدولة من إدارة عجلة الحرب، فقد حفز ذلك الدول الأخرى على الاستزادة من قدرتها الحربية، وبذا أصبح نشوب الحرب من جديد أمرا محتمل الوقوع. ولما كانت طبيعة الحرب الحديثة تجعل من المستحيل أن يبقى أي أثر من آثار الإصلاح بعد نهاية الحرب، فإن الإصلاح المرغوب، ذلك الإصلاح الذي لا يلاقي من الشعب معارضة، قد يفشل إذا كان القائمون بالأمر يحملون الجماعة على قبوله بطريق الدعاية التي تثير فيها الخوف من عدوان الآخرين، أو الدعاية التي تمجد العدوان، تقوم به الجماعة لمصلحة نفسها كي تحقق من ورائه خيرا ترجوه.
ولنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي - وهو ضرورة تجنب العنف الداخلي عند القيام بالإصلاح. نعود فنقول إن الإصلاح قد يكون مستحبا في حد ذاته، ولكنه لا يلائم الظروف التاريخية القائمة، فيصبح عديم الجدوى من الناحية العملية. ولا أحب أن يؤدي هذا إلى الخطأ الشنيع الذي ارتكبه هجل، وسار على نهجه الحكام المستبدون المحدثون، مرتكبين الجرائم يبررون بها أعمالهم، ومقدمين من القول سخفا يعللون به آثامهم - وذلك الخطأ الذي أعني هو الاعتقاد بأن الواقع هو المعقول، وأن الظروف المحيطة هي الظروف المثالية التي ينبغي أن تبقى بغير مساس. ليس الواقع هو المعقول وليس كل ما هو كائن حقا وصوابا. إن الواقع - في أية لحظة من لحظات التاريخ - يحتوي على عناصر معقولة وعلى عناصر أخرى تخرج عن حد المعقول. والإدراك السليم يقتضينا عند إدخال الإصلاح أن نبقي على المعقول وأن ننبذ كل ما عداه.
ولما كان نبذ أي تقليد من تقاليد المجتمع أمرا عسيرا على أكثر النفوس، فإنه يجمل بنا أن نبقي كذلك على التقاليد التي لا تنفع ولا تضر، أو التي لا يكون من ورائها ضرر محقق؛ وذلك لأن ميل الإنسان إلى المحافظة على القديم حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها. ويترتب على ذلك أن يمتنع المصلح الاجتماعي عن القيام بتعديل لا يراه جد ضروري، أو تعديل يدرك أنه يدعو إلى النفور الشديد. وواجب المصلح - كلما أمكن ذلك - أن يمد في حبل النظم القائمة التي يألفها الناس، وأن يجعلها أساسا للتطور الذي يرمي إليه حتى يتمكن من بلوغ مأربه. إن المبادئ القائمة التي يقرها العقل السليم ينبغي أن تجد لها محلا في الإصلاح المنشود، وواجب المصلح أن ينقلها من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع.
بهذه الطريقة وحدها تخف المعارضة التي لا بد تنشأ عند كل إصلاح جديد، كما تضعف الحاجة إلى استخدام وسائل العنف والشدة.
الفصل الخامس
الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
لم يتعرض قبل الحرب العظمى للكلام على الجماعة التي تسير على خطة مرسومة غير الفابيين (جماعة الاشتراكيين). وفي أثناء الحرب رسمت الخطة لجميع الجماعات المحاربة. وإذا نظرنا إلى السرعة التي تم بها رسم الخطط حكمنا أنها كانت خططا محكمة وضعت بقصد تمكين الدولة من مواصلة العداء. وما كادت الحرب تنتهي حتى قامت المعارضة في وجه سياسة الخطة المرسومة، وكان ذلك طبيعيا بعد حرب ضروس دامت أربعة أعوام. ثم كانت الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الحرب الكبرى، فآمن الناس من جديد بضرورة رسم الخطة للدولة. ومنذ عام 1929 أخذت فكرة تنظيم الدولة في الرواج والانتشار، فرسمت الخطط في نظام وإحكام وعلى نطاق واسع في الدول الدكتاتورية، ورسمت على نطاق ضيق في الدول الديمقراطية، وأخرجت المطابع سيلا جارفا من الكتب في التنظيم الاجتماعي. وكان لكل مفكر مجدد مشروعه في التنظيم. بل لقد أصابت العامة أنفسهم عدوى التفكير في هذا الموضوع. وتنظيم الجماعة اليوم من الأمور المستحدثة المستحبة؛ وذلك لأن العالم يتردى في حمأة من التدهور والضلال. ويبدو لمن يتدبر الظروف الراهنة أنه من المستحيل إنقاذ العالم من الشر الذي يسبح فيه، أو إصلاح ما به من عيوب، دون التفكير في وضع خطة لتنظيمه. غير أننا نخشى - ونحن نحاول إنقاذ العالم أو جزءا منه من اضطرابه الحاضر - أن تكون الخطة المرسومة خطة جهنمية. إننا إذا لا ننتشل العالم من وهدته، إنما نودي به إلى الخراب والدمار؛ فإن من ألوان العلاج ما هو شر من المرض.
لا بد من وضع الخطة لتنظيم المجتمع، ولكن ماذا عسى أن تكون تلك الخطة؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال، ولا نستطيع أن نحكم على أي مشروع للإصلاح إلا إذا رجعنا إلى مثلنا العليا التي نرمي إليها، فإن كان هذا المشروع يحقق لنا أملنا أو بعض أملنا فهو مشروع مستحب مرغوب، ينبغي لنا عند النظر في أية خطة أن نتساءل: هل تعين هذه الخطة على نشر العدالة والسلام بين الأمم؟ هل تعمل على التقدم العقلي والخلقي، هل تصوغ لنا جماعة من الرجال والنساء المتحررين المسئولين؟ إن كان الأمر كذلك فهي إذا خطة طيبة، وإلا فهي خطة خبيثة لا نرضاها لأنفسنا ولا نقبلها برنامجا لحياتنا.
والخطط الخبيثة في العصر الحاضر ضربان: هناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يختلفون عنا في نظرهم إلى المثل الأعلى للإنسان. وهناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يتفقون معنا في النظر إلى المثل العليا للحياة، ولكنهم يتصورون أن الغايات النبيلة يمكن أن تتحقق بوسائل دنيئة، إنهم يعبدون الطريق إلى جهنم وهم لا يشعرون، والضرر الذي ينجم عن أبناء هذه الطائفة الأخيرة ليس أقل شأنا من الخطر الذي ينجم عن أبناء الطائفة الأولى، وفي هذا تأييد لبوذا الذي كان يعد الجهل والغباء من أمهات الكبائر.
ولنضرب للقارئ بعض الأمثلة التي توضح ما نقول: من أبناء الطائفة الأولى الفاشستيون العسكريون الذين يختلفون عنا في مثلهم الأعلى للحياة الصحيحة، يقول موسوليني: «إن الفاشستية تعتقد أن الحرب وحدها هي التي ترفع النشاط الإنساني إلى أقصاه، والحرب وحدها هي التي تطبع بطابع الشرف تلك الشعوب التي تجد لديها من الشجاعة ما يدفعها إلى النزول إلى ساحة القتال.» ثم يقول في موضع آخر: «إن الفاشستية والسلام فكرتان متعاديتان.» الرجل الفاشستي إذا يعتقد أن ضرب المدن المكشوفة بالنار والقنابل، وإهلاكها بالسموم والمفرقعات (أو بعبارة أخرى الحرب الحديثة) عمل طيب في صميمه، هو رجل ينبذ تعاليم الرسل المصلحين، ويعتقد أن خير الجماعات جماعة قومية تعيش في عداء دائم مع المجتمعات القومية الأخرى، هو رجل لا يتورع عن النهب والفتك، ثم هو يحتقر الرجل المتحرر، ويعجب بالرجل الذي يخضع للحاكم المستبد الغاصب، والذي يتصف بالكبرياء والحسد والحقد وسرعة الغضب، وهي صفات أجمع الأنبياء والفلاسفة على أنها حقيرة لا يصح أن يتحلى بها الإنسان الراقي. إن الخطط الفاشستية جميعا ترمي إلى غاية واحدة: وتلك هي أن تجعل المجتمع القومي قادرا على أن يدير عجلة الحرب بنشاط ونجاح؛ فالصناعة والتجارة والمالية توجه نحو هذا الغرض، الدولة الفاشستية تعمل على أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية، وتحاول أن تكفي حاجات نفسها دون اللجوء إلى غيرها من الأمم؛ ومن أجل ذلك فهي تشجع الصناعات الوطنية التي قد تكون أقل جودة من الصناعات الأجنبية، كما أنها تحاول أن تستعيض عن الخامات التي تفتقر إليها بخامات مصطنعة محلية، وهي فوق ذلك تفرض الرسوم والضرائب على البضائع الواردة، وتشجع التصدير، وتقلل من تبادل السلع، وتعمل على خسارة منافسيها بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، وتسير السياسة الخارجية في تلك الدول على المبادئ المكيافلية صراحة وجهارا، وتدخل الدولة الفاشستية في اتفاقات جدية مع غيرها من الدول، وهي تعلم أنها سوف تنقضها في اللحظة التي يتبين لها فيها أن مصلحتها في نقض المعاهدة، ثم هي تحتمي بالقانون الدولي إن كان ذلك في مصلحتها، وتنبذه إذا كان هذا القانون يقف لها حجر عثرة في سياستها الاستعمارية، ويتحكم في الدولة دكتاتور يربي الشعب على الإخلاص لمبادئ الفاشستية، ويتعلم الأطفال الذلة والخضوع؛ كي ينشئوا على الطاعة لأولي الأمر، وعلى القسوة على من هم أدنى منهم مكانة في المجتمع. يبدأ الطفل بعد أن يترك روضة الأطفال ذلك التدريب العسكري الذي ينتهي بسنوات الخدمة العسكرية الإجبارية، التي تدوم ما دام الفرد قادرا على القيام بأعباء الجندية. ويتعلم الأطفال في المدارس الأكاذيب الملفقة في دروس التاريخ، فيمجد معلموهم الأسلاف من أبناء أمتهم، ويحطون من قدر العظماء في الأمم الأخرى جميعا. وتقوم على المطبوعات والكتب رقابة صارمة حتى لا يتسرب إلى الراشدين رأي لا يحب لهم الدكتاتور أن يعرفوه. وكل من يحاول التعبير عن رأي لا يتفق وأغراض الدولة يضطهد اضطهادا لا رحمة فيه ولا هوادة. وبالدولة نظام محكم للجاسوسية التي تتتبع الأفراد حتى في حياتهم الخاصة. وتشجع الدولة الغيبة والنميمة، وتكافئ كل من يبلغ أولي الأمر عن شخص يعادي النظام القائم. والإرهاب في هذه الدولة مشروع، والقضاء يجري سرا في أكثر الأحيان، والمحاكم أبعد ما تكون عن العدل، والعقوبات شديدة قاسية، والوحشية ووسائل التعذيب المختلفة من أساليب الحكم في البلاد.
هذه هي خطة الفاشست، وهي خطة قوم لا يعترفون بالمثل العليا للمدنية المسيحية، أو المدنيات الآسيوية القديمة التي سبقتها، قوم ساءت نياتهم، وهم لا يحاولون أن يستروا خبث مقاصدهم. ولننظر الآن في أمثلة من الخطط التي يرسمها قادة سياسيون أغراضهم نبيلة ووسائلهم وضيعة. إن أول ما نلاحظه على هؤلاء الرجال هو أن إيمانهم بمثلنا العليا واه ضعيف، وكلهم يعتقد أن الغايات النبيلة يمكن أن تحقق بوسائل دنيئة، إنهم يختلفون عن الفاشست كل الاختلاف في أهدافهم وأغراضهم، غير أنهم يسلكون الطرق عينها التي يسلكها الدوتشي والفوهرر، هم من دعاة السلم، ولكنهم يعتقدون أن السلم وسيلتها القتال، وهم قوم مصلحون، ولكنهم يتصورون أن العدالة الاجتماعية يمكن أن تكون وسيلتها الظلم والاستبداد. إنهم يحبون الحرية، ولكنهم يرون أن تركيز السلطة واستعباد الجماهير يمكن أن يحقق الحرية للجميع. إن روسيا الثائرة، التي تزعم أنها تعمل على نشر الحرية كاملة بين أفراد الشعب جميعا ، لديها أكبر جيش من جيوش العالم، ولديها بوليس سري يضارع في دقته وصرامته البوليس السري الألماني أو الإيطالي، ولديها رقابة شديدة على الصحافة، ونظام للتعليم ينبني على خضوع الصغير للكبير كالنظام الألماني الهتلري، ولديها نظام شامل للتدريب العسكري يطبق على النساء والأطفال كما يطبق على الرجال، ويحكمها دكتاتور يرتفع إلى مكانة التقديس في شعب ذليل، لا يختلف عما كان عليه رجال روما المتألهون أو رجال برلين المتغطرسون، وبها بيروقراطية لها امتيازات وحقوق، وهي تستخدم سلطة الدولة للاحتفاظ بامتيازاتها ولحماية مصالحها، وبها حزب أوليجاركي يسود الأمة كلها، ولا يتمتع أعضاؤه أنفسهم بالحرية داخل الحزب (إن معظم الطبقات الحاكمة في أكثر الأمم تمنح الحرية على الأقل لأعضائها وإن حرمتها عامة الشعب، ولكن الحزب الروسي الاشتراكي ينكر الحرية على أعضائه كما ينكرها على أفراد الشعب). ولا يسمح في الروسيا بالمعارضة؛ ولذا تكثر المؤامرات الخفية. وقد كانت تلك المؤامرات سببا في محاكمات الخيانة والتطهير التي انعقدت في الروسيا في عامي 1936 و1937. ومعالجة البناء الاجتماعي وتنظيم الدولة تسير في الروسيا على غير ما يحب الشعب ويرضى، وتستخدم في سبيل ذلك كل وسائل القسوة والاستبداد (في عام 1933 هلكت في الروسيا جوعا عدة ملايين من الفلاحين بإرادة أولي الأمر السوفيتيين ورغبتهم). إن القسوة تولد الحقد، والحقد لا يقمع إلا بالقوة الغاشمة، والعنف - كما قلنا من قبل - يولد الرغبة في الاستزادة منه. هذا هو التنظيم الروسي، إنه نظام نبيل في مقصده، دنيء في وسائله، وقد أنتجت هذه الوسائل نتائج تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كان يصبو إليها زعماء الثورة الروسية الأولون.
أما الدول الديمقراطية فهي التي تستخدم عادة الوسائل الطيبة لتحقيق الغايات النبيلة. وحتى هذه الدول كثيرا ما ارتكبت أخطاء شنيعة في الماضي، وهي ما زالت إلى اليوم ترتكب الأخطاء الجسيمة. ويرجع أكثر هذه الأخطاء إلى أن الحاكمين والمحكومين على السواء في هذه البلاد مشبعون بروح العسكرية والقومية برغم عقيدتهم في المثل العليا للإنسانية. حقا إن الإنجليز والفرنسيين يبثون الروح الحربية في البلاد رغبة في تحقيق الهدوء والسلام . غير أن هاتين الدولتين ظفرتا في الماضي بأملاك شاسعة واسعة بطريق النهب والسلب، وأمامهما اليوم منافسون يحبون أن يفعلوا في العصر الحاضر ما فعلوه هم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وشعرت إنجلترا وفرنسا بالسخط على مطامع هؤلاء المنافسين، فشرعتا - وهما كارهتان - في الاستعداد لهزيمة القوى الفاشستية بسلاحها، فهما تتأهبان للقتال، شأنهما في ذلك شأن الدول الفاشستية نفسها. ولكن الحرب الحديثة لا يمكن أن تنجح إلا إذا تركزت السلطة في يد حكومة مطلقة تستطيع أن تنفذ ما تريد بغير معارضة؛ ولذا فإن أكثر الخطط التي ترسم اليوم في الدول الديمقراطية تقوم على أساس تحويل هذه الدول إلى نظام أشبه ما يكون بنظام الدول الدكتاتورية التي تنظم للقتل والنهب. وقد سار هذا التحول حتى الآن ببطء شديد؛ لأن العقيدة في المثل العليا الرفيعة كانت دائما تكبح جماح كل من يريد أن يسارع الخطا نحو النظام الفاشستي، ولكن روح الفاشستية كانت - برغم ذلك - تقوى تدريجا وخلف ستار سميك. وإنا لنتوقع إذا ما أعلنت الحرب،
1
أو اقترب شبحها من هذه البلاد، أن يقوى ساعد الفاشستية، وتخرج من وراء الستار؛ وذلك لأن الدفاع عن الديمقراطية من خطر الفاشستية يستتبع بالضرورة تحويل الديمقراطية إلى فاشستية.
إن أكثر المحاولات التي قامت بها السلطات الديمقراطية لتنظيم الدول تنظيما شاملا قد أملتها رغبة قوية في تعزيز الروح العسكرية، ومن ذلك محاولة توحيد الإمبراطورية البريطانية في وحدة قائمة بذاتها من الوجهة الاقتصادية؛ فقد كانت خطة أملتها على القائمين بالأمر اعتبارات عسكرية. وأكثر من هذا تشبعا بالروح العسكرية النظم التي أدخلت على صناعة الأسلحة، لا في بريطانيا العظمى وحدها، ولكن كذلك في فرنسا وفي الدول الديمقراطية الأخرى بقصد زيادة الإنتاج، وهذه المحاولات في التنظيم وأشباهها - مثلها مثل الخطط الفاشستية التي تعمل على تقوية الروح العسكرية - لا بد تنتهي بتعقيد الأمور، وزيادة الموقف سوءا على سوء. فإن الإمبراطورية البريطانية بتحولها من رقعة حرة التجارة، إلى ضيعة خاصة تحميها أسوار من الرسوم الجمركية إنما تعزز العداوة الأجنبية للإمبراطورية البريطانية. ولما كان الإنجليز يملكون سيادة البحار غير منازعين فقد كان بوسعهم أن يظفروا برضا العالم بأسره لو أنهم تركوا أبواب مستعمراتهم مفتوحة للتجارة الخارجية. أما اليوم وقد فقدوا هذه السيادة البحرية، فقد أغلقت أبواب المستعمرات في وجه التجارة الخارجية. أو نستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن إنجلترا تدعو العالم لمعاداتها في اللحظة التي لم تعد فيها في مركز يمكنها من تحدي تلك العداوة، ولا يستطيع المرء أن يتصور حماقة أشد من هذه، ولكن ما أحرى أولئك الذين يفكرون تفكيرا عسكريا أن يرتكبوا أمثال هذه الحماقات!
أما فيما يختص بالتسليح، فإنه بالنسبة التي يسير عليها اليوم، وبهذا القدر العظيم الذي تصنع به الأسلحة، لا بد أن يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما أن تشتعل حرب عامة بعد فترة وجيزة من الزمن أو - إذا أجلت الحرب لبضع سنوات - ينتهي هذا التسابق في التسليح بفتور في هذه الصناعة وتحل بالعالم أزمة اقتصادية لا تقل حدة عن أزمة سنة 1929، والأزمة الاقتصادية تخلق في النفوس القلق. وهذا القلق يدفع الدول الديمقراطية إلى مسارعة الخطأ نحو الاصطباغ بالصبغة الفاشستية، وهذا التحول الفاشستي يجعل الحرب أمرا لا مفر منه.
ويكفينا ما ذكرنا عن الخطط التي تضعها الدول لأغراض عسكرية محضة. غير أن هناك خططا لم تكن أول الأمر عسكرية محضة في صبغتها. تلك خطط رسمتها الحكومات كي تعالج بها آثار الأزمات الاقتصادية، ولكن هذه الخطط - لسوء الحظ - في ظل النظام القائم، لا بد أن تدبر وتنفذ في جو مشبع بالروح العسكرية والقومية. وهذا الجو يعطي كل خطة دولية صفة حربية عسكرية، مهما حسنت نية القائمين بالأمر (ويجدر بنا هنا أن نشير إلى حقيقة عامة لم يفطن إليها علماء الإنسان القدامى، وتلك الحقيقة هي أن العادات والطقوس والتقاليد تتخذ لها لونا جديدا من الجو السائد، فقد يتخذ الشعبان عادة واحدة، ولكن هذا لا يعني أن هذه العادة تتخذ صورة واحدة عند هذين الشعبين؛ وذلك لأن الجو الاجتماعي السائد بين الشعبين قلما يكون متفقا. وإذا طبقنا هذه القاعدة العامة على المشكلة التي نحن بصددها، أدركنا أن الخطة غير العسكرية التي تنفذ في جو عسكري يرجح أن تتلون بلون يختلف كل الاختلاف عن اللون الذي تصطبغ به في جو غير عسكري).
ولما كانت كل الشعوب اليوم، حتى الديمقراطية منها، عسكرية في روحها، تتعصب للقومية بل تعبدها، فإن كل تنظيم اقتصادي تقوم به الحكومة يبدو للمشاهد الأجنبي استعماريا في صبغته. وهذا مما يفسد العلاقات بين الأمم. وقد لجأت الدول إلى فرض الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية وإلى غير ذلك من الحيل للترفيه عن رعاياها. ولكن أمثال هذه التدابير - في الجو الذي يسود العالم - تبدو للدول الأجنبية أعمالا تنطوي على سوء النية ووضاعة المقصد، فتثأر هذه الدول لنفسها، ويتعسر التفاهم بين الأمم، وتصبح الحرب ضرورة لا مندوحة عنها.
وإذا أنعمت النظر في هذه المشكلة ألفيت في الأمر تناقضا شديدا؛ ذلك أن تنظيم كل دولة على حدة يؤدي إلى الفوضى بين مجموع الدول، وتقوية الروح القومية تضعف الروح الدولية، وتماسك الأمة يفضي إلى تفكك مجموعة الأمم؛ فقد كان التبادل الاقتصادي بين الأمم خلال القرن التاسع عشر وفي السنوات الأولى من القرن العشرين سهلا ميسورا حينما كان الاقتصاد القومي يسير في جميع الأمم على غير خطة مرسومة، وكان من مصلحة الأفراد الذين يقومون بالتجارة الدولية أن يتبعوا خطة عادلة ليس فيها إجحاف بأحد؛ كانت الدولة إذا تسير على غير خطة معينة في الشئون الاقتصادية، فكانت النتيجة تعاونا اقتصاديا عالميا.
إننا اليوم على قمة ورطة كبرى؛ فالناس في كل بلد يكابدون حرمانا شديدا من جراء عيوب النظام الاقتصادي السائد. ولا بد لنا من معونة هؤلاء الناس، ولكنا لا نستطيع أن نعينهم معاونة فعالة إلا إذا تغير وجه النظام الاقتصادي من أساسه. غير أن الخطة الاقتصادية التي تسير عليها الحكومات القومية لمصلحة الشعوب سبب من أسباب الاضطراب في بناء الاقتصاد الدولي. إن الحكومات القومية - وهي ترسم خطة محلية لمصلحة شعوبها - تعرقل سير التجارة الدولية، وتخلق صورا جديدة من المنافسة الدولية، وأسبابا جديدة للشقاق بين الأمم . وفي السنوات الأخيرة الماضية كان لا بد لمعظم الأمم أن تختار أحد هذين الشرين: إما أن تترك ضحايا سوء النظام الاقتصادي لفعل القدر، وفي هذه الحالة يحتمل أن يصوت الضحايا ضد الحكومة فيسقطوها، أو ينفجروا في ثورة عنيفة تقلب نظام الحكم، وإما أن تعين الحكومة ضحاياها بأن تفرض خطة حكومية جديدة على النشاط الاقتصادي الداخلي. وفي هذه الحالة تسيء الحكومة إلى نظام التبادل الدولي، وتؤدي به إلى الفوضى، وتخلق أسباب اشتعال حرب عالمية عامة. وبين هذين الطريقين الشائكين طريق مفتوح واضح تستطيع الأمم المختلفة أن تسير فيه، وذلك أن تلجأ الدول إلى التشاور، وأن توحد نشاطها كي لا تعرقل خطة قومية معينة خطة قومية أخرى، ولكن الدول لا تستطيع أن تسلك هذا الطريق في ظل النظام القائم؛ فالدول الفاشستية لا تزعم أنها تريد السلام والتعاون الدولي، بل إن الحكومات الديمقراطية نفسها التي تنادي بالسلام بأعلى صوتها هي في نفس الوقت قومية في صبغتها، حربية استعمارية في صميمها. إن التفكير السياسي في القرن العشرين بدائي ساذج إلى حد غير معقول؛ فالأمة لا تزال تتصور أنها كائن حي له عواطفه ورغباته وإحساساته، وهذا الكائن الحي، أو هذه الشخصية القومية، أكبر من الإنسان العادي في حجمها ونشاطها، ولكنها أحط منه في أخلاقها، الشخصية القومية لا تعرف الصبر أو الاحتمال أو العفو، بل هي لا تعرف الإدراك السليم أو النظر إلى المصلحة الشخصية نظرة مستنيرة؛ ولذا فهي تسيء السلوك إلى حد كبير. والرجال الذين يسلكون في حياتهم الخاصة سلوكا معقولا قائما على قواعد الأخلاق يتحولون عندما يعملون كممثلين للشخصية القومية إلى رجال بدائيين، يتصفون بالغباوة والهستيريا، تراهم يغضبون لأتفه الأسباب أشد الغضب؛ ومن أجل ذلك فإننا لا نرتجي خيرا في الوقت الحاضر من المؤتمرات الدولية العامة، ولا يمكن أن يقوم نظام للتعاون الدولي إلا إذا كانت جميع الدول على أهبة لأن تضحي ببعض سيادتها وحقوقها، وهي لن تفعل ذلك ما دامت القومية تسيطر عليها وتتحكم فيها.
إذا فلا مناص من أن نتخلى - ونحن كارهون - عن خير الطرق التي يجدر بالأمم أن تسلكها، ونقصد به طريق التشاور وتوحيد الجهود. لتتخل الدول عن هذا الطريق الأسمى في الوقت الحاضر لتسلك طرقا أخرى غيره، وإن تكن أكثر التواء وأقل استواء. إن التنظيم القومي يؤدي - كما رأينا - إلى الفوضى في ميدان التجارة الدولية والسياسة الدولية، ونستطيع أن نعالج هذه الفوضى علاجا جزئيا بإحدى الطريقتين الاتيتين أو بكلتيهما:
أولا:
يمكن لبعض الدول التي تتقارب في وجهة النظر أن تنظم مشروعات للتعاون بين بعضها وبعض، وقد حدث ذلك فعلا بين الدول التي تتعامل بالإسترليني، وهي تشمل بلدانا رأى حكامها من الحكمة أن يوحدوا بين الخطط القومية المنفصلة حتى لا تقف إحداها في سبيل الأخرى، وربما رأت بعض الحكومات الأخرى في المستقبل القريب أن من مصلحتها أن تنضم في اتحاد كهذا. ولكننا لا نحب أن نكون شديدي التفاؤل من هذه الناحية. إن الزمن قد يبين للدول مزايا التعاون الدولي، ولكن الزمن كذلك يكسب المصالح المكتسبة التي أوجدتها الخطط القومية المختلفة قوة ومنعة. إن الاشتراك في مشروع تعاون دولي قد يكون في مصلحة الأمة عامة، ولكنه قطعا ليس في مصلحة بعض الطوائف المعينة داخل تلك الأمة. وإذا كانت هذه الطوائف قوية من الناحية السياسية فإن فائدة الأمة كثيرا ما يضحى بها في سبيل فائدة تلك الطوائف.
ثانيا:
يمكن لكل دولة أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية؛ بذلك يخف أثر الفوضى الاقتصادية الدولية، وتصل أسباب الاحتكاك السياسي إلى الحد الأدنى. ولما كان اتصال الدول بعضها ببعض - في ظل الروح القومية السائدة - غالبا ما ينتهي بالصراع الدولي، فإن التخفيف من أسباب الاتصال بين الأمم يؤدي - على الأرجح - إلى إبعاد شبح الحرب.
إن مثل هذا الاقتراح يبدو في أعين القائلين بحرية التجارة خطأ كبيرا، بل إجراما شديدا. إنهم يرون - وهم على حق - أن حقائق الجغرافيا والجيولوجيا لا مفر منها؛ فالأمم تختلف في إنتاجها بحكم طبيعة أرضها ومناخها، والشعوب تختلف في استعدادها بحكم الإقليم والبيئة؛ ولذا فمن أصالة الرأي أن يتقسم العمل بين الأمم، وأن تستبدل كل دولة بالسلع التي يسهل عليها إنتاجها تلك التي تتعسر عليها، وتتيسر في بقعة أخرى من الأرض.
هذا ما يرى أنصار حرية التجارة، وحجتهم في ظاهرها معقولة مقبولة. ولكنك إن أنعمت فيها النظر من ناحية عملية تبين لك ما فيها من شطط؛ ذلك أن أكثر الدول اليوم ترمي إلى توسيع نفوذها السياسي، وتخشى الحرب وما يترتب عليها من نتائج؛ لذلك تراها تبذل كل جهدها في إنتاج كل ما تستطيع من سلع داخل بلادها، مهما كلفها ذلك، ومهما كانت العقبات الطبيعية، وذلك رغبة منها في الاستغناء عن الدول الأخرى إن دعا إلى ذلك داع. وقد ساعد تقدم العلوم والفنون هذه الدول كثيرا على تنفيذ هذه السياسة الاستقلالية واتباعها في كثير من الأمور. أجل إن فكرة الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء بالإنتاج المحلي سخيفة جدا في نظر أنصار حرية التجارة، ولكنها ممكنة التحقيق إلى حد كبير نظرا لتقدم فنون الصناعة. إن العلم لا وطن له؛ ولذا فإنه إن تقدم في بلد من البلدان انتقل إلى البلدان الأخرى وانتفع به قوم آخرون. ويترتب على ذلك أنه إذا نجحت أمة من الأمم في تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي لتقدم العلم فيها كان من اليسير على غيرها من الأمم أن تنقل عنها علمها وفنها لتستقل هي بدورها استقلالا اقتصاديا. هذه حقيقة لا مفر منها، ومن الخير ألا نتجاهلها وأن نستغلها لمصلحة المجموع.
إن الدول الدكتاتورية في الوقت الحاضر تستغل التقدم العلمي في أغراض الحرب وحدها. ولكن ليس هناك ما يدعونا إلى استخدام فكرة الاستقلال الاقتصادي في الاستعداد للحرب دون غيرها؛ فنحن نستطيع أن نستخدمها في نشر لواء السلام؛ وذلك أن قوة الشعور بالقومية تهددنا بقيام النزاع بين الأمم، فإذا نحن استطعنا أن نباعد بين هذه الدول من الوجهة الاقتصادية أمكننا أن نبعد شبح الحرب ولو إلى حين. والمكتشفات العلمية الحديثة تعاوننا على تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي؛ ولذلك فمن الخير لنا أن نشجع هذه المكتشفات.
ولننظر على سبيل المثال في مشكلة الغذاء. إن كثيرا من الحكومات - ومنها إنجلترا وألمانيا وإيطاليا واليابان - تبرر استعدادها للحرب وحبها الاستعمار بنقص الأغذية في بلادها نقصا يجعل إمداد جميع السكان بالطعام الكافي أمرا مستحيلا. ومما يزيد الطين بلة أن هذا النقص الطبيعي يعززه نقص وضعي منشؤه سياسة خاطئة في نظام النقد تمنع بعض البلدان من الحصول على مواد الغذاء اللازمة من الخارج، وهذه السياسة الخاطئة في نظام النقد نتيجة للروح العسكري السائد. وتؤثر الحكومات في هذه البلدان أن تنفق كل مصادر الثروة القومية في شراء الأسلحة بدلا من أن تنفقها في شراء الغذاء والكساء، تؤثر أن تشتري المدافع بدلا من الزبد؛ ومن ثم ترى أن الدولة لا تستطيع أن تشتري الغذاء لأنها تستعد للحرب، كما أن الدولة لا بد لها أن تحارب لأنها لا تستطيع شراء الأغذية؛ فهي حلقة مفرغة.
إن سياسة النقد الخاطئة قد تحول دون شراء الأغذية من الأمم الأجنبية، ولكن هناك أسباب أخرى تحتم على بعض الأمم أن تشتري بعض أطعمتها من الخارج؛ فهناك دول - منها بريطانيا العظمى وألمانيا واليابان - لا يكفيها إنتاجها الداخلي في الوقت الحاضر، نظرا لازدحامها بالسكان إلى درجة كبيرة؛ ومن ثم فإن حكام هذه البلاد يرون الاستعمار ضرورة لا مندوحة عنها. ولكن هل يمكن اعتبار ازدحام السكان عذرا مشروعا للاستعداد الحربي ولضرورة الاستعمار؟ إن الخبراء الزراعيين المحدثين لا يرون ذلك، ونحن نحيل القارئ على كتاب الدكتور ولككس
Dr. Wilcox
وعنوانه «تستطيع الأمم أن تعيش في أوطانها»؛ فهو عرض منظم لآراء علماء الزراعة المحدثين. يزعم الدكتور ولككس أن الدولة التي تتبع في زراعتها نظم الإنتاج الحديثة تستطيع أن تكفي حاجة سكانها مهما كانت نسبة ازدحامهم؛ أي حتى إن بلغت كثافة السكان أقصى ما بلغته في أي زمان وأي مكان. وقد استخدمت بالفعل الطرق التي اقترحها ولككس في التجارة وأتت بفائدة جليلة. أما الطريقة الزراعية الجديدة التي اخترعها الأستاذ جرك
Gericke
في كاليفورنيا فلا تزال في دور التجربة، وإذا ثبت نفعها فإنا نرجو أن تمدنا بكميات كبيرة من الأطعمة بجهد يسير وعلى مساحة أصغر مما تتطلبه أية طريقة أخرى . وطريقة جرك هذه ثورة على النظم الزراعية المألوفة، إذا قورنت بها الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدت انقلابا تافها.
2
إن الاختراعات الفنية النافعة لا يمكن أن تقاوم. وإذا ثبتت فائدة طريقة جرك هذه فلا شك أنها ستعم جميع البلدان، وربما كان لذلك أثره في استتباب السلام العالمي. بل إني أرى أنه - سواء نجحت هذه الطريقة أو لم تنجح - في استطاعة الأمم بحسن الرأي والتدبير «أن تعيش في أوطانها.» كما يقول ولككس، بل وتعيش - إذا لم ترتفع نسبة المواليد ارتفاعا فجائيا - في رغد لم يسبق له مثيل. ويهمنا في هذا الصدد أن يتنبه القارئ إلى أن الحكومات على اختلافها لم تبذل حتى الآن مجهودا جديا للاستفادة من الطرق الزراعية الحديثة على نطاق واسع، حتى تستطيع أن ترفع مستوى الشعب المادي فتستغني بذلك عن ضرورة الغزو والاستعمار. وفي هذا وحده دليل على أن أسباب الحروب ليست اقتصادية فحسب، إنما هي سيكولوجية كذلك؛ فالأمم تتأهب للحروب لأسباب من بينها أن الحرب تقليد قديم له قوته وسلطانه على النفوس، ومنها أن الحرب مثيرة للشعور باعثة على الاهتمام، كأنها رواية مسرحية تمثل، ومنها تنشئة الشعب على الإعجاب بالروح العسكرية، ومنها كذلك أننا نعيش في مجتمع يعبد النجاح مهما تكن وسيلته، مجتمع يقوم على التنافس أكثر مما يقوم على التعاون. ومن هنا ينشأ النفور من اتباع السياسة الإنشائية التي تعمل على إزالة أسباب الحروب الاقتصادية على الأقل. ومن هنا كذلك يتدفق ذلك النشاط الوافر الذي يبذله الحاكم والمحكوم على السواء في الدعاية لسياسة الهدم وإثارة الحروب، مثل سياسة التسليح وسياسة تركيز السلطة التنفيذية وتجنيد الجماهير.
تحدثت حتى الآن عن النتائج الدولية للخطط القومية البحتة، وعن السياسة التي ينبغي لأولي الأمر أن يسلكوها كي يخففوا سوء هذه النتائج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وسأعالج فيما يلي تلك الخطط القومية من الوجهة الداخلية. لقد تعرض غيري من الكتاب بالتفصيل الدقيق وبالإسهاب العظيم لمشاكل تنظيم الدول من الوجهة الفنية المحضة. ولبحث هذه المشاكل أحيل القراء على الكتب العديدة التي كتبت في هذا الموضوع،
3
ولكني أحب هنا أن أتعرض لموضوع التنظيم القومي من حيث صلته بمثلنا العليا، كما أني أحب أن أتعرض للظروف التي ينبغي أن تتوفر كي ينجح هذا التنظيم ويحقق لنا تلك المثل.
لقد أوضحت في الفصل الذي كتبته عن «الإصلاح الاجتماعي والعنف» أن أكثر الناس محافظون على القديم، وأبنت أن كل تعديل في نظام المجتمع - مهما يكن طيبا - يثير المعارضة، وأن أية خطة تفرض على الناس بالعنف والشدة لا تؤدي إلى النتائج المرجوة منها. ويستتبع هذا أولا أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي إصلاح إلا إن كان ضروريا جدا، وثانيا ألا نفرض على الناس إصلاحا يثير فيهم المعارضة والمقاومة، مهما يكن هذا الإصلاح ضروريا، اللهم إلا إن كان ذلك تدريجا وبدرجة غير محسوسة. وثالثا عند الإصلاح ينبغي أن نتخذ الوسائل التي تعودها الناس وألفوها من قبل.
ولنطبق الآن هذه القواعد العامة على أمثلة معينة من التنظيم الاجتماعي، ولنطبقها أولا على الخطة الكبرى لكل المصلحين المحدثين - وهي تحويل الجماعة الرأسمالية التي تقوم على مبدأ الكسب الشخصي إلى الجماعة الاشتراكية التي تضع المصلحة العامة في المحل الأول.
القاعدة الأولى:
للإصلاح - كما ذكرنا من قبل - أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي تعديل إلا إن كان ضروريا جدا. فإن أردنا أن نصلح جماعة رأسمالية متقدمة، فما هو التعديل الذي لا يسعنا إلا أن ندخله؟ الجواب على هذا السؤال يسير واضح: إن التعديل الضروري الذي لا مناص منه لا بد أن يعالج إدارة الإنتاج الكبير، وإدارة هذا الإنتاج في العصر الحاضر تنحصر في أيدي أفراد غير مسئولين، كل همهم أن يضاعفوا أرباحهم، وكل وحدة إنتاجية كبيرة مستقلة تمام الاستقلال عن باقي الوحدات، وليس بين الوحدات اتحاد من أي نوع كان. وهذا التفكك القائم بينها هو الذي يؤدي إلى الأزمات الاقتصادية التي تحل بنا بين الحين والحين، وتنشأ عنها صعوبات جمة للطبقات العاملة في الأمم الصناعية. إن الإنتاج الصغير الذي يتولاه أفراد يملكون الآلات التي يستخدمونها بأنفسهم لا يتعرض لمثل هذه الأزمات التي يعانيها الإنتاج الكبير الفينة بعد الفينة، وللإنتاج الصغير - فوق ذلك - ميزة أخرى، وتلك هي أن الملكية الشخصية لوسائله لا تتبعها عواقب سياسية أو اقتصادية أو سيكولوجية وخيمة كتلك التي تترتب على الإنتاج الكبير - مثل استعباد صاحب العمل لعماله، وخوف العمال الدائم من خطر التعطل، واعتمادهم المطلق على أرباب الأعمال؛ ولذا فإني أرى أن نصبغ إدارة وحدات الإنتاج الكبير بالصبغة الاشتراكية، وأن نبقي على وحدات الإنتاج الصغير دون مساس. بذلك يمكننا أن نحتفظ بالفردية في العمل، وأن يبلغ الاعتراض على إصلاحنا الذي نريده حده الأدنى.
والقاعدة الثانية:
التي وضعناها للإصلاح هي ألا نحاوله البتة إذا كان يحتمل أن يثير المعارضة. ولنفرض على سبيل المثال أن الزراعة الجمعية أكثر إنتاجا من الزراعة الفردية، وأن الفلاح الذي يعمل في مزرعة جمعية هو من الوجهة الاجتماعية خير حالا من الفلاح الذي يملك أرضه ويدير أمرها بنفسه. إذا سلمنا بهذا كان إلغاء الملكيات الفردية أمرا لا بد منه. ولكن هذا الإصلاح - رغم أنه قد يكون مستحبا - لا ينبغي تنفيذه إلا إن كان ذلك تدريجا وبخطوات بطيئة. إنا إذا نفذنا هذه السياسة دفعة واحدة فإنا بذلك من غير شك نثير معارضة عنيفة تفتضينا استخدام العنف والشدة. إن إلغاء الملكيات الفردية في الروسيا وإخضاعها للنظام الجمعي اقتضى الحكومة أن تحكم على عدد كبير من الفلاحين المالكين بالسجن والإعدام والحرمان والجوع. ومن المحتمل أن يكون المعارضون المعروفون اليوم (1937) هناك باسم تروتسكيت
Trotskyite
شديدي الحقد على الحكومة لهذا ولغير هذا من أعمال الإرهاب. إن إقماع المعارضة يتطلب من الحكومة أن تلجأ إلى وسائل العنف، كما يتطلب منها على حد تعبير الأستاذ لاسكي تعزيزا ل «الدكتاتورية الحديدية». ووسائل العنف هذه والدكتاتورية الحديدية لا يمكن إلا أن تنتهي بالنتائج الطبيعية للوحشية والاستبداد - وتلك هي استعباد الناس وبث الروح العسكرية فيهم، وإخضاع الشعب وإذلاله وتخليه عن الشعور بالتبعات. والزراعة الجمعية أشد خطرا في البلدان الغربية المتقدمة في الصناعة منها في الروسيا؛ فإن المزارعين والفلاحين في أوروبا الغربية وفي أمريكا أقل عددا من سكان المدن. ولما كانوا قلة ملحوظة فإن لكل فلاح قيمته. فإذا نحن اكتسبنا عداوة هذه الأقلية التي لا غنى لنا عنها قل إنتاجها الزراعي، وربما كان في ذلك هلاك سكان المدن. يستطيع أولو الأمر في الروسيا أن يقضوا على حياة بضعة ملايين من الفلاحين دون أن يتأثر بذلك سكان المدن. أما في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة فإن إهلاك العدد اليسير من الفلاحين والمزارعين يقضي على عمال المدن جوعا.
والقاعدة الثالثة:
للإصلاح هي ضرورة إنجازه باستخدام الوسائل التي ألفها الناس من قبل. وسنذكر هنا أمثلة قليلة محسوسة للوسائل التي نستطيع أن نتخذها لتعديل نظام الرأسمالية. تستطيع الحكومة أن تضع حدا للأرباح، وقد طبقت الحكومة البريطانية بالفعل هذا المشروع في شركة الإذاعة البريطانية. ويمكننا أن نعمم مبدأ تحديد الأرباح في جميع ميادين العمل والتجارة. وتستطيع الحكومة كذلك أن تلجأ إلى مبدأ تعاون المستهلكين وتعاون المنتجين؛ فهو مألوف للناس وليس بجديد عليهم. وإذا عرجنا على نظام الضرائب رأينا أن الأغنياء في أكثر الدول قد قبلوا عن رضى أن يدفعوا ضريبة الدخل وضريبة الميراث. فما يمنع الدول الأخرى أن تفرض هذه الضرائب كي تخفف من حدة المفارقات الاقتصادية بين الأفراد والطبقات؟ وتستطيع الدولة كذلك أن ترفع من أجور العمال، وأن تتولى هي بنفسها الإشراف على تنظيم مصانع الإنتاج الكبير وأمواله، بدلا من أن يتولاه الأفراد.
لقد تحدثت فيما سلف عن الإصلاح القومي، وإني ما زلت أشعر أن المشكلة بحاجة إلى زيادة الشرح والإيضاح لأننا - من الوجهة العملية - لا نستطيع أن نفصل أي نوع من أنواع الإصلاح عن جوه الإداري والحكومي والتعليمي والنفسي. إن الشجرة تعرف بثمارها، وثمار أي إصلاح معين تتوقف كما ونوعا على جو الإصلاح بقدر ما تتوقف على نوع الإصلاح ذاته، كما أن الفاكهة تتوقف عددا وجودة على نوع الشجرة التي تنبتها كما تتوقف على الجو الذي تنبت فيه وتترعرع. إن فائدة الإصلاح لا تتحقق إلا إن كان الجو الاجتماعي من إدارة وحكومة وتعليم وغير ذلك جوا صالحا لا فساد فيه.
خذ مثالا لذلك الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج. هذا الإصلاح في حد ذاته معناه تحرير العمال المستعبدين، ولكن هذا التحرير - في الروسيا المعاصرة - ينمو في جو فاسد مكوناته استيلاء السلطات الحاكمة على المصانع والمزارع الكبيرة، والتربية العسكرية في المدارس، والتجنيد الإجباري في الجيش، واستبداد دكتاتور حاكم تؤيده أوليجاركية من حزبه، وتؤازره البيروقراطية ذات الامتيازات، وهو يسيطر على الصحافة والنشر، ويستخدم قوة كبيرة من رجال البوليس السري. إن الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج لا شك تنقذ العمال من خضوعهم التام لكثير من صغار الدكتاتوريين - وأعني بهم ملاك الأراضي، وأصحاب الأموال، وأرباب المصانع الكبيرة، ومن إليهم، فليسوا إلا كذلك. ولكن إذا كان جو هذا الإصلاح (الطيب في حد ذاته) فاسدا، فلن يظفر العمل بتلك الحرية التي ننشدها لهم، ولكنهم يعانون نوعا جديدا من الاسترقاق السلبي الذي لا يحملهم تبعة من التبعات. أجل إننا بهذا الإصلاح ننقذهم من ظلم كثير من صغار الدكتاتوريين الذين أشرنا إليهم، ولكننا نضعهم تحت وكلاء دكتاتورية واحدة مركزة أقوى من الدكتاتورية الأولى أثرا؛ لأنها تستغل القوى المادية، ويؤيدها نفوذ أدبي يكاد يكون مقدسا، وذلك هو نفوذ الدولة القومية.
إن جو الإصلاح في الدول الديمقراطية أكثر ملاءمة منه في الدول الدكتاتورية؛ ولذلك فالإصلاح في هذه الدول أنفع وأجدى، ولكن هذا الجو الملائم - في العصر الحاضر - يميل إلى التدهور والفساد، وهو بحاجة شديدة إلى رعاية نفر مخلصين حتى لا يتم فساده. وأسباب هذا الاتجاه نحو الانحطاط كثيرة؛ منها أن الشعوب الديمقراطية نفسها محبة للاستعمار، وهي شديدة الرغبة في هزيمة الدول الفاشستية بأسلوبها؛ أي بطريق الحرب والقتال. وفي سبيل الاستعداد الفعال للحرب الحديثة ترى الحكومة ضرورة تركيز السلطة في يدها، وإلغاء كثير من نظم الحكم الذاتي، والتضييق على حرية الرأي، وصبغ التعليم بالصبغة العسكرية. ومن أسباب فساد الجو في الدول الديمقراطية كذلك أن هذه الدول ما تزال تعاني إلى حد ما حدة الأزمة الاقتصادية التي حاقت بها عام 1929، مما ألجأ الحكومات إلى اتخاذ تدابير اقتصادية استثنائية تحاول بها الترفيه عن شعوبها ، وقد أدى ذلك إلى تعزيز سلطة الحكومة. فباتت السلطة التنفيذية والبيروقراطية والبوليس في إنجلترا اليوم أقوى نفوذا منها في أي عهد سبق. وكلما اشتد نفوذ هذه السلطات قل استعدادها لقبول الحرية الديمقراطية. وثمة نقطة أخرى نحب أن ننبه إليها الأذهان، وتلك هي أن البدء في التنظيم الاقتصادي يؤدي حتما إلى الاستزادة من هذا التنظيم؛ وذلك لأن الأمور معقدة إلى حد يجعل الخطأ ضرورة لا مندوحة عنها. ولا يستطيع أحد أن يضع خطة كاملة من أول الأمر لا عيب فيها ولا نقصان، ثم تعالج هذه العيوب ارتجالا وتوضع لها الخطط الجديدة، وهذه الخطط الجديدة لا تخلو من أخطاء، فتوضع لها خطط أخرى لملافاتها، وهكذا ترى أن التنظيم يستتبع التنظيم، والخطة تتلو الخطة، وكل ذلك يؤدي إلى خنق روح الحرية في البلاد. وإذا ما ارتباط التنظيم بتعزيز السلطة التنفيذية - وهذا هو ما يحدث في كل الدول الديمقراطية - فإن كل خطة تنظيمية جديدة تقتضيها الأخطاء القديمة تسير بالدولة خطوة إلى الأمام نحو الدكتاتورية. ثم إن التنظيم القومي الشامل - كما رأينا من قبل - يؤدي إلى تفكك الروابط الدولية، مما يؤدي إلى التطاحن بين الأمم. وتستطيع أن تقول بعبارة أخرى إن التنظيم القومي يقرب خطر الحرب منا. ولا يمكن إعلان الحرب، ولا يمكن الاستعداد لها، إلا من حكومة قوية مركزة ومن ثم ترى أن التنظيم القومي يؤدي - بطريق مباشر وبطريق غير مباشر - إلى فساد الجو الذي يمكن أن يتم فيه الإصلاح المنشود.
وفي الفصول التالية من هذا الكتاب سأحصر بحثي كله تقريبا في جو الإصلاح الملائم. ويدعوني إلى ذلك أن كبار المفكرين قد تحدثوا كثيرا وكتبوا طويلا في أنواع الإصلاح المطلوبة، وبخاصة الاقتصادي منها. وكلنا يعرف ما يقترحه هؤلاء المفكرون؛ فهم يرون اشتراكية وسائل الإنتاج، ويرون أن يكون الإنتاج للمنفعة العامة لا للمكسب الشخصي، كما يرون أن تشرف الدولة على المالية العامة للبلاد وطرق استغلالها والاستفادة منها، وما إلى ذلك. كلنا يعرف هذه الآراء، ونحن جميعا مجمعون على ضرورة تنفيذها وتطبيقها على المجتمع، ولكن قل منا من يلتفت إلى الجو الإداري والتعليمي والنفسي الذي ينبغي أن يتم فيه هذا الإصلاح. قل منا من يقف لحظة ليفكر في الوسائل التي يمكن أن تتخذ لإخراج الإصلاح من ميدان النظر إلى ميدان العمل، غير أن تجاربنا الشخصية ودراسة التاريخ تبين لنا أن الوسائل لا تقل أهمية عن الغايات، بل لقد تكون أكثر منها أهمية؛ لأن الوسائل التي نستخدمها تحدد طبيعة النتائج التي نبلغها، في حين أن الغايات مهما تكن طيبة في حد ذاتها لا يمكنها أن تصمد للوسائل الدنيئة التي قد تتبع لتحقيقها. ثم إن الإصلاح قد يكون مرغوبا فيه، ولكن البيئة جوها فاسد؛ ولذا فالنتائج لا بد أن تكون فاسدة. وهذه الحقائق - على شدة وضوحها وبساطتها - كثيرا ما تهمل ولا يلتفت إليها. وتوضيح هذه الحقائق، وبيان طريقة الاستفادة منها هي الغرض الأساسي الذي أرمي إليه في الصفحات المقبلة من هذا الكتاب. (1) ملحوظة بشأن الخطط التي نرسمها لمستقبل الأمة
إن المجتمعات التي تتقدم فيها فنون الصناعة عرضة للتطور الاجتماعي المستمر، وهذا التطور الاجتماعي كثيرا ما تصحبه الاضطرابات والقلاقل، فهل يمكننا أن نتفاداها؟
من عهد قريب ألف رئيس الولايات المتحدة جمعية للنظر في هذه المشكلة وقد نشرت تقريرها (الذي أشرنا إليه فيما سبق) في صيف عام 1937، وهذا التقرير وثيقة قيمة. يقول واضعو التقرير إن تقدم الفنون الصناعية لا يمكن أن يؤدي إلى انقلاب في نظام الجماعة لا نستطيع التنبؤ به قبل حدوثه بسنوات عديدة. إن الاختراع الجديد لا يطبق على نطاق واسع إلا بعد ربع قرن على الأقل من تاريخ ظهوره، وتستطيع الجماعة دائما أن تتنبأ بالنتائج الاجتماعية المحتملة لتقدم أي فن من فنون الصناعة قبل حلولها بوقت غير قصير. فإن حدث في الجماعة تطور غير متوقع ولا منظور، فإنما يرجع ذلك إلى أن أصحاب النفوذ لم يكلفوا أنفسهم مشقة التفكير في النتائج، أو في السبل التي يجب أن تتخذ لتفادي الخطوب. وقد نبهتنا جمعية الرئيس روزفلت إلى التطور الاجتماعي الذي قد ينجم عن المخترعات الحديثة. واقترحت خطة للآلة الإدارية المطلوبة لتخفيف الآثار السيئة لهذا التطور.
ويتناسب الأثر عادة مع قوة المؤثر. ولكن هناك شيئا واحدا، يسيرا في ظاهره، عظيما في آثاره الاجتماعية، وأقصد به صناعة الأسلحة. إن تعديلا طفيفا في رسم آلات الاحتراق الداخلي قد يدفع الملايين من الرجال الأبرياء والألوف من النساء والأطفال إلى هوة الهلاك بفعل النار والسموم والانفجار. وهذه المشكلة لا تخص الفنيين وحدهم، إنما تخص القائمين بالحكم جميعا. وأنا أحيل القارئ فيما يخص علاج هذه المشكلة إلى الفصول التي كتبتها عن الحرب وعن العمل الفردي في إصلاح الأمم.
وهناك مشكلة أخرى، وتلك هي ازدياد نسبة المواليد أو انخفاضها، فهي بالغة الأثر في نظام الجماعة. ولتوضيح الأمر نضرب هذا المثال: إن نسبة السكان في الأمم الصناعية بغرب أوروبا ينتظر بعد نصف قرن أن تقل عما هي الآن وعنها في دول شرق أوروبا؛ فعندما يصبح عدد سكان بريطانيا العظمى 35 مليونا، منهم الأطفال والمتقاعدون المسنون، يكون عدد سكان الروسيا زهاء 300 مليون، فهل تستطيع أمة قليلة السكان مثل بريطانيا في سنة 1990 أن تحتفظ بمركزها كأمة من الأمم العظمى ذات النفوذ الكبير؟ لقد حاولت في الماضي السويد والبرتغال وهولندا أن تقف في صف واحد مع الدول العظمى، ولكنها فشلت فيما حاولت لأنها أمم قليلة العدد. وهذه مسألة لا بد لبريطانيا أن تحسب حسابها من الآن وإلا فقدت ما تتمتع به من نفوذ في العالم. وفي هذا العالم العسكري الذي نعيش فيه لا أمل لأمة من الأمم قليلة العدد أن تؤسس لها إمبراطورية واسعة. ولقد استطاعت بريطانيا فيما مضى أن تنجح في سياسة الاستعمار حينما كانت كثيرة السكان بالنسبة للدول الأخرى، وساعدها على الاحتفاظ بمركزها انفصالها عن بقية القارة الأوروبية وصعوبة غزوها. ولكن إذا قل سكان بريطانيا أو سهل غزوها تعرضت لخطر ضياع مستعمراتها جميعا.
إن مشكلة السكان هذه كمشكلة الأسلحة، ليست مما يخص الفنيين وحدهم، إنما هي جزء من المشكلة العامة، مشكلة السياسة والحزب، ولا يمكن أن تحل إلا إذا حسنت النيات وطابت النفوس .
الفصل السادس
طبيعة الدولة الحديثة
أحب في هذا الفصل أن أحلل الحكومات في العهد الحديث بعض التحليل، وسأقتصر على ذكر الحقائق التي تهمنا في تحقيق أغراضنا التي نرمي إليها.
في كل أمة قلة حاكمة وكثرة محكومة. ويتشبع أفراد الطائفة الأولى بحب النفوذ والسلطان، وقلما يحرك نفوسهم الإحساس بواجبهم نحو المجتمع. وهم عادة يتصفون بالكبرياء والقسوة والشره. ومما يدعو إلى العجب أن المحكومين في أكثر الأحيان يتقبلون التبعية لأولي الأمر منهم دون ثورة أو اعتراض، بل ويسلمون بالظلم والاستبداد. والشعوب قلما تثور، فالقاعدة العامة هي الطاعة، والثورة هي الاستثناء.
إن من أهم حقائق التاريخ وأدعاها للعجب ذلك الصبر الذي يتحلى به عامة الناس. إن أكثر الرجال والنساء يحتملون ما لا يحتمل ويطيقون ما لا يطاق. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أولها الجهل؛ فإن أولئك الذين لا يعرفون إلا أن يحتملوا الصعاب والمشقات لا يدركون أن نصيبهم من هذه الحياة الدنيا يمكن أن ينقلب إلى ما فيه خيرهم ومصلحتهم. وهناك عامل آخر، وذلك هو الخوف؛ فالناس قد يدركون أن الحياة شاقة عصيبة، ولكنهم يخشون عواقب الثورة. ثم إن إحساس الناس بضرورة التماسك الاجتماعي يحملهم على تحمل الإذلال والمشقة دون ثورة أو عصيان؛ فالفرد العادي يشعر بعضويته في المجتمع حتى إن أساء معاملته أولو الأمر في الحكومة. وإنك لترى العمال (وهم من طبقة المحكومين) - إذا ما حزب الأمر - يناضلون في سبيل الأمة (أي في سبيل استقرار الحكم الذي هم عليه ساخطون) ضد العمال من أبناء الدول الأخرى.
كما أن العادة وسلطان الماضي لهما قوة لا تقاوم، والخروج من مأزق من المآزق الحرجة يتطلب من المرء مجهودا أكبر مما يستطيع أن يبذل. يقول برايس
bryce
في كتابه «دراسات في التاريخ والشرع»: إن أهم ما يدفع الناس إلى الخضوع للقانون هو الكسل؛ فالكسل هو الذي يجعل الغني والفقير على السواء جامدا لا يطمع في تغيير حاله. أليس من العجيب أن يتشبث الفقير بمركزه الوضيع كما يتشبث الغني بثروته؟ وقد أصاب البوذيون وبعض المسيحيين - حينما عدوا التراخي من أمهات الكبائر. ولقد قلت من قبل إن الشجرة تعرف بثمارها، وعلى هذا فقد كان البوذيون وأولئك المسيحيون على حق؛ فإن من بين الثمار السامة الكثيرة التي ينبتها التراخي الحكم الدكتاتوري والخضوع له؛ ولذا فإني أرى أن من واجب المصلحين أن ينقذوا الناس من وهدة التراخي والكسل، كما ينقذونهم من براثن الطمع والشره وشهوة الحكم والسلطان. إن أي إصلاح لا ينقذ الجماهير من حمأة الخضوع لأصحاب النفوذ والسلطان لا يعد رقيا في نظام المجتمع.
1
إن الإشادة بفائدة الكسل والخضوع والخوف، وتبريرها تبريرا عقليا، من العقائد الفلسفية؛ فالشعوب تطيع حكامها لأنها - بالإضافة إلى الأسباب الأخرى - تعتقد في بعض النظم الميتافيزيقية الدينية التي تلقي في روعهم أن الدولة يجب أن تطاع، وأن الثورة على أولي الأمر كفران بالله وبالدين. كما أن الحكام من ناحيتهم قلما يقنعون بتحقيق أطماعهم رضي الناس أم سخطوا، وإنما هم يطمعون كذلك في حكم الناس بالحق الشرعي. إن أكثرهم يصل إلى منصب الولاية بالعنف وبالمكر والخديعة، ولكنهم يحاولون بعدئذ أن يستندوا في حكمهم على تأييد الشرع والقانون. وبعضهم يزعم أنه يحكم بالحق الإلهي فيعزز بذلك مركزه أمام المحكومين، ويبرر لنفسه أمام ضميره القلق حقه في الحكم والسلطان. وليست الكثرة العظمى من النظريات السياسية سوى حيل عقلية يخترعها الفلاسفة لإثبات حق القائمين بالأمر في الحكم، وقليل من النظريات السياسية من وضع المفكرين الثائرين. وهذه النظريات الثائرة نفسها، إن كانت لا تبرر الحكم للحاكمين بالفعل، فهي تراه من حق زعماء الأحزاب التي ينتمون إليها، ولا يأبه واضعو هذه النظريات بالدعوة للعدالة واللين في وسائل الحكم. ولست أحب أن أناقش هذه الآراء لأنها تبعد بنا عن الغرض الأساسي من هذا الكتاب. إننا إن أردنا أن نفكر في النظام السياسي تفكيرا سليما، كان حتما علينا أن نفعل ذلك باعتبارنا من علماء النفس، وليس باعتبارنا مدافعين عن الحكام المستبدين، أو من نحب لهم أن يكونوا حكاما مستبدين. وإن أردنا أن نقدر للدولة قيمتها وجب علينا أن نحكم عليها في ضوء المثل العليا التي يريدها لنا كبار المصلحين والأنبياء . أجل إن هجل يعتبر هذه الأحكام «ضحلة» للغاية، ولكن إذا كان «التعمق» يؤدي بنا إلى تضحية الفرد في سبيل الدولة - كما أدى بهجل إلى ذلك - فمرحبا بضحولة الأحكام. وإني لأوثر أن أكون سطحيا إن كان ذلك في مصلحة المجموع. إننا لن نفهم شيئا عن مشاكل الحكومة إلا إذا درسنا الحقائق السيكولوجية والمبادئ الأولى للأخلاق.
ومما تقدم يتضح لنا أن كل المجتمعات المتمدنة في العالم الحديث تتألف من طبقة صغيرة من الحكام أفسدتها زيادة السلطة، وطبقة كبيرة من المحكومين أفسدتها شدة الخضوع والخنوع. ولا مراء في أن الاشتراك في مثل هذا النظام الاجتماعي يجعل من العسير على الفرد أن يكون حرا عاملا في حياته، فيصبح بذلك إنسانا مثاليا ممتازا. وإنا إذا لم نوفر للأفراد درجة لا بأس بها من التحرير، وإذا لم نفتح لهم مجال العمل، فلا أمل لنا في تحقيق المثل الأعلى للجماعة، الذي يريده لنا كبار المصلحين. إن النظام الاجتماعي الطيب هو ذلك النظام الذي ينقذنا من الشر الذي يمكن تفاديه، والنظام الاجتماعي الخبيث هو ذلك الذي يوقعنا في شرور ما كان أحرانا أن نتحاشاها لو أننا أحسنا تدبير الأمور. وهمي الآن أن أكشف عن الإصلاح الذي يمكننا من تفادي الشر الذي ينجم عن طغيان الحاكم وخضوع المحكوم. وقد بينت في الفصل السابق أن الإصلاح الاقتصادي - وهو عزيز جدا على المجددين من المفكرين - لا يكفي لترقية المجتمع أو ترقية الأفراد الذين يتألف منهم المجتمع. ثم إن أي إصلاح لا ينفذ في الجو الحكومي والإداري والتعليمي الصحيح لا يؤتي الثمرة المطلوبة. ولكي نوجد الجو الملائم للإصلاح الاقتصادي يجب أن نصلح آلتنا الحكومية، وطرقنا في الإدارة العامة والتنظيم الصناعي، ونظامنا في التعليم، ومعتقداتنا الميتافيزيقية والخلقية، وسأعالج التعليم والمعتقدات في الجزء الأخير من هذا الكتاب. أما الآن فسأتعرض للحكومة وإدارة الشئون العامة وشئون الصناعة، وهذه الموضوعات المنوعة هي في الواقع أجزاء من كل واحد لا يمكن فصل أحدها عن الآخر؛ فإن طرائق الحكم السائدة، والنظم الصناعية القائمة ، لا يمكن أن يقوم بإصلاحها إلا قوم تعلموا الرغبة في الإصلاح. كما أن الحكومات - بصورتها الراهنة - لا يمكن أن تصلح نظام التعليم السائد إصلاحا يؤدي إلى قلب طرائق الحكم رأسا على عقب؛ فالمشكلة هنا حلقة مفرغة، لا مفر لنا منها إلا بجهد عظيم يبذله في مصلحة المجموع أفراد أحرار أذكياء، على علم عظيم وخلق متين، ائتلفت قلوبهم واجتمعت على فعل الخير والجميل. وسأتحدث فيما بعد عن ضرورة ائتلاف هؤلاء الأفراد، وعلى الدور الهام الذي يستطيعون أن يلعبوه في مستقبل البشر وفي إصلاح المجتمع. أما الآن فسأبحث في الأداة الحكومية وفي إدارة الصناعات.
الفصل السابع
المركزية واللامركزية
اتضح لنا من الفصول السابقة أننا مجمعون على مميزات المجتمع المثالي والإنسان المثالي، بل إن أكثر المصلحين السياسيين في القرن الماضي على درجة عظيمة من الاتفاق على الوسائل التي يصح اتباعها في تنظيم الدول حتى تبلغ الغايات التي ترمي إلى تحقيقها. ولا ينكر أحد أن الحكم الاستبدادي وشدة تركيز السلطة من بين العقبات الكبرى في طريق التقدم الاجتماعي والفردي، وحتى الاشتراكيون أنفسهم يمقتون المركزية وحكم الاستبداد. وقد وصف ماركس الدولة بأنها «حيوان طفيلي يعيش على جسم المجتمع»، وكان يتطلع إلى الوقت الذي تتلاشى فيه الدولة من تلقاء نفسها. ولكن إلى أن يتم هذا التلاشي لا بد من دكتاتورية العامة ولا بد من تعزيز نفوذ السلطة التنفيذية المركزية؛ فالدولة الروسية الحديثة أوليجاركية تتركز في يدها السلطة، ويجند رعاياها رجالا ونساء وأطفالا تجنيدا إجباريا. وفي الروسيا نظام دقيق للبوليس السري لرعاية المدنيين، وهناك فوق ذلك رقابة على الطبع والنشر. ونظام التعليم يقوم على مبدأ الخضوع والروح العسكرية، وهو بعينه النظام التعليمي الذي كان معروفا في روسيا القيصرية، والذي يسود في إيطاليا تحت حكم موسوليني وفي ألمانيا قبل الحرب العظمى وتحت سيطرة هتلر. إن أعوان حكومة استالين يريدوننا أن نعتقد أن أقصر الطرق إلى الحرية وأحسنها هو الخدمة العسكرية! وأن خير استعداد لتأليف حكومة مسئولة مستقلة هو الحكم الاستبدادي الذي يستخدم الجاسوسية البوليسية والإرهاب ورقابة المطبوعات! وأن التعليم الملائم الذي ينشئ لنا رجالا أحرارا يحبون السلام هو ذلك التعليم الذي يستخدمه العسكريون البروسيون!
إننا نعيش على أرض كرية مستديرة؛ فيستطيع المرء أن يسافر من باريس إلى روان عن طريق شنغهاي. ولكننا نعيش في زمن مسطح مستو، ولن يستطيع المرء أن يصل إلى هدف تاريخي معين إلا إذا اتجه رأسا إليه، ومهما أمعن في السير في الطريق المضاد فليس ببالغ غايته في يوم من الأيام.
والهدف الذي يرمي إليه المصلحون الاجتماعيون هو الحرية والعدالة والتعاون السلمي بين الأفراد المتحررين، الذين يحملون التبعات برغم تحررهم، والذين يتوفر فيهم النشاط الجم والحركة الدائمة. فهل هناك ما يدعونا إلى أن نعتقد أننا نستطيع أن نبلغ هذا الهدف عن طريق تجسس البوليس، والرق العسكري، وتركيز السلطة، وتسلط طبقة على طبقة، وكم الأفواه، وحبس الحريات، وفرض نظام استبدادي للتعليم؟ إنا لا نظن ذلك، ولا نحسب أن أحدا عاقلا يظن ذلك.
كان ماركس يعتقد أن الدولة ستتلاشى من تلقاء نفسها في الوقت الملائم، وهذا رأي جدير بالنظر في شيء من التفصيل. إن الدولة في رأي ماركس تقوم في المجتمع لأسباب عديدة منها ضمان امتيازات الطبقة الحاكمة؛ ففي الجماعة الإقطاعية مثلا تكون الدولة أداة يضمن بوساطتها أصحاب الأراضي من النبلاء أن يمسكوا زمام الحكم. وعند الرأسماليين الدولة هي الأداة التي تمكن للبورجوازي من الاستيلاء على الحكم والاحتفاظ بالثروة. والدولة في ظل الاشتراكية القومية هي الأداة التي تدافع بها البيروقراطية الحاكمة عن المركز الذي ارتفعت إليه. والدولة الدكتاتورية التي تتركز فيها السلطة إلى حد بعيد قد تحطمها الحرب، وقد تقلبها ثورة داخلية، ولكنها لن تذوي من تلقاء نفسها كما يحسب كارل ماركس. كما أن دكتاتورية العامة ليست في الواقع سوى دكتاتورية فئة صغيرة من الناس لها في البلاد بعض الامتيازات. ومثل هذه الدكتاتورية لا تؤدي إلى الحرية والعدالة والتعاون بين الأفراد المتحررين العاملين المسئولين. إنما تؤدي إما إلى تقوية نفوذ الدكتاتورية أو إلى الحرب أو الثورة، أو تؤدي إلى هذه النتائج الثلاث على التتابع.
كلا، إن الطريق السياسي الذي يؤدي بنا إلى ترقية المجتمع (ولنذكر أننا إن كنا نريد أن نبلغ أهدافنا فعلينا أن نسلك طرقا أخرى متعددة غير الطريق السياسي) هو طريق اللامركزية والحكم الذاتي الذي يتحمل التبعات. أما الدكتاتورية التي نزعم أنها طريق قصير للإصلاح المنشود فلن تؤدي بنا إلى الغاية التي نحب. ينبغي أن نقصد إلى الهدف بغير التواء، فإن وليناه ظهورنا أطلنا المسافة التي تفصل بيننا وبينه.
وأقول ثانية إن الطريق السياسي لترقية المجتمع هو طريق اللامركزية والحكم الذاتي المحمل بالتبعات. غير أن الظروف الراهنة لا تتيح لأمة من الأمم أن تسلك هذا الطريق؛ وذلك لسبب يسير ذكرته من قبل، وأجدني مضطرا إلى إعادة ذكره هنا؛ وذلك أن الدولة التي تستعد للحرب لا يسعها إلا أن تجمع السلطة في أيديها؛ لأن توحيد القيادة ضروري قبل إعلان الحرب كما هو ضروري بعد إعلانها. إن الأمة التي تريد أن تستخدم الحرب الحديثة أداة سياسية لا بد لها من سلطة تنفيذية شديدة التركيز قوية النفوذ (ومن ثم كان من التناقض في القول أن نتحدث عن الدفاع عن الديمقراطية بقوة السلاح؛ فالديمقراطية التي تستعد استعدادا جديا لحرب علمية حديثة لا بد لها من التخلي عن ديمقراطيتها؛ فالدولة لا تستطيع أن تستعد استعدادا صحيحا للحرب الحديثة إلا إذا تولى أمرها حاكم مستبد على رأس بيروقراطية مدربة طيعة).
قلت إن الأمة التي تريد أن تستخدم الحرب الحديثة أداة سياسية لا بد لها من سلطة تنفيذية شديدة التركيز قوية النفوذ. ومثل هذه الدولة أقرب إلى إعلان الحرب من أمة السلطة فيها لا مركزية والشعب فيها يحكم نفسه بنفسه، ولذلك دواع عدة؛ منها أن الدكتاتوريات قلما تكون آمنة، وكلما أحس الحاكم المستبد بزوال سلطانه لجأ إلى العاطفة القومية يستغلها كي يقوي مركزه. ومحاكمات الخائنين والمذابح الكبرى وما إليها هي الحيل العادية التي يلجأ إليها الدكتاتور لإحياء حماسة شعبه الفاترة. فإن فشلت هذه الحيل لجأ إلى إعلان الحرب. وكلما اشتد نفوذ الحاكم ازداد رغبة في أن ينظر إلى نفوذ الأمة الأدبي على أنه نفوذه الأدبي الشخصي . وعبارة «أنا الدولة»
L’etat C’est moi
وهم كثيرا ما ينزلق فيه الملوك والدكتاتوريون، بل ومن أقل منهم من الحكام ورجال السياسة. وأمثال هؤلاء الحكام الواهمين يرون فقدان نفوذ الأمة الأدبي ضربة موجهة إلى كبريائهم الشخصي، كما أنهم ينظرون إلى انتصار الأمة كأنه انتصار شخصي لهم. إن شدة تركيز السلطة تهيئ للحكام الذين بيدهم الأمر أنهم والدولة شيء واحد. وحينئذ تصبح الحرب أو التهديد بها طريقة من الطرق التي يفرض الحاكم المستبد بها شخصيته على أبناء أمته. وتمسي الدولة أداة لتنفيذ الأغراض الشخصية، من اضطهاد الأعداء إلى التظاهر بالكبر والخيلاء؛ ومن ثم نرى أن المبالغة في تركيز السلطة أمر لا مندوحة عنه لنجاح الحرب بعد إعلانها، كما أنها كذلك عامل من عوامل شن الحروب.
وفي الظروف الراهنة خاصة تحس الطبقات الحاكمة في الأمم جميعا بضرورة الاستعداد للحرب. ومعنى هذا أن تسعى الحكومة نحو توسيع سلطتها التنفيذية، وهذا التوسع نفسه يشجع على إشعال نار الحرب، فيزداد تركيز السلطة بعد إعلان الحرب، وهكذا دواليك حتى يصبح الصراع قويا بين الأمم.
وما دامت الدول المتمدنة تواصل استعدادها للحرب فلا يحتمل البتة أن تتخذ إحداها اللامركزية سياسة لها، أو أن تتوسع في مبدأ الحكم الذاتي، بل على العكس من ذلك سيزداد تركيز السلطة لا في الدول الدكتاتورية وحدها، بل في الأمم الديمقراطية كذلك، فتفتر روح الديمقراطية والحرية. وهذه الحركة تجري الآن في الدول الديمقراطية؛ فهي آخذة في التباعد عن المبادئ الصحيحة ومقبلة على تركيز السلطة والاستبداد العسكري؛ ففي فرنسا مثلا اتخذت الحكومة لنفسها حق تجنيد كل فرد وتعبئة كل شيء في حالة اشتعال الحرب. وفي إنجلترا يدرب موظفو الحكومة سرا وبطريقة منظمة على وسائل الحيطة من الغارات الجوية. وفي بلجيكا وهولندا والدول الإسكنديناوية - كما هو الحال في الدول الديمقراطية الكبرى - تنفق على التسليح مبالغ طائلة، وزيادة التسليح معناها تقوية الروح العسكرية؛ فالدول الديمقراطية - في الواقع - تسير في طريق الفاشستية التي تمقتها وتعاديها.
وقد نجحت الحكومة المركزية نجاحا ظاهرا.
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
ولذا فإن سياسة المركزية في العالم المعاصر لم تظهر بمظهرها الصحيح، ولم يفهمها الناس - كما يجب أن يفهموها - على أنها شر محض فرضه على العالم خطر الحرب، شر لا يمكن التخلص منه إلا بعسر شديد وبعد مجهود ضخم وتضحيات بالغة. يعتقد الناس أن المركزية سياسة سليمة في حد ذاتها. ولما كان رجال الحكم آخذين في تركيز السلطة في أيديهم فإن الناس يميلون إلى تحبيذ هذه السياسة؛ وذلك لأن من طبيعة البشر أن يحسبوا الأمر الواقع خير الأمور.
ولكل دكتاتورية لغتها الخاصة، وقد تختلف الألفاظ في إحداها عن الأخرى، ولكن أغراض الدكتاتوريات جميعا واحدة، وذلك أن يكون الاستبداد سياسة مشروعة، وأن يعترف للقائمين بالأمر بالحق الإلهي في الحكم. وهذه الأغراض البعيدة لا تقل إيذاء للناس عن البوليس السري أو رقابة المطبوعات. وفي اللغة التي يستعملها الحكام المستبدون ألفاظ يبررون بها الظلم والجرائم. هؤلاء الحكام يصبون أغراضهم في قوالب لغوية تهيئ المظلوم لتحمل الظلم، بل إنها لتجعله يعبد الظالم المجرم المجنون.
ومما هو جدير بالملاحظة أن هناك كلمة واحدة شائعة بين اللغات الدكتاتورية كلها، وهي تستعمل لتبرير الفاشستية والنازية والاشتراكية على السواء. وتلك الكلمة هي «الأمر الواقع».
فدكتاتورية العامة «أمر واقع لا بد منه» وكذلك الفاشستية؛ إذ يدعي أنصارها أن لهم رسالة تاريخية عظمى يحتمها عليهم الواقع، وتلك الرسالة هي تكوين إمبراطورية عظيمة، أو بعبارة أخرى الفتك بالشعوب الضعيفة باستعمال الغازات السامة والمدافع. وكذلك يرى الألمان أن الجنس الآري - بحكم الواقع والتاريخ - أرقى من الأجناس الأخرى. وهذه الحقيقة الواقعة في نظرهم تبرر أن يرتكب الرجال ذوو الشعر الأشقر والعيون الزرقاء أشنع الجرائم وأشدها حماقة.
إن الاستناد إلى التاريخ والواقع أمر يفيد منه الطغاة كثيرا؛ وذلك لأن هذا الاتجاه معناه - تلميحا إن لم يكن صراحة - أن الواقع هو المعقول، كما يزعم هجل (أو بعبارة أخرى أن الحادث هو ما ينبغي أن يحدث). فإن انتصرت القوة على الحق - مثلا - فالقوة أمر واقع لا مناص من التسليم لها.
ثم إن السلطة المطلقة لها أثر عجيب في تخدير الأعصاب؛ ولذا فإن أصحاب هذه السلطة يستخدمون - وهم آمنون - أية وسيلة مهما تكن دنيئة للاحتفاظ بنفوذهم؛ فالتجسس والبلاغات السرية والتعذيب والسجن الاعتباطي والإعدام في كل أمة دكتاتورية هي الوسائل المألوفة للحكم الداخلي. إن هذه الأمور تحدث بالفعل؛ فهي «أمر واقع» ولذا فهي وسائل معقولة ومشروعة.
فلا عجب بعدئذ أن يرى الحاكم المستبد المطلق «أن الواقع هو المعقول» وأن يعلم الناس هذه العقيدة، وإنما الذي يدعونا إلى العجب أن الملايين من غير الحكام المستبدين، بل وممن يقاسون مغبة هذا الرأي يعتنقون هذا المبدأ. ولا شك أن العقيدة بأن الكائن هو ما ينبغي أن يكون تفسد المعايير الخلقية والسياسية وتعوق التقدم والإصلاح الاجتماعي.
ولنعد الآن إلى موضوع السلطة المركزية ولنضرب للقارئ مثالا محسوسا. إن الظروف التي تسود العصر الحاضر - العاطفة القومية، والتوسع الاستعماري الاقتصادي، وشبح الحرب، وما إلى ذلك - كلها عوامل تعمل على تركيز السلطة، وينشأ عن ذلك الحد من الحرية الفردية وتجنيد الجماهير، حتى في البلدان التي تمتعت حتى الوقت الحاضر بصورة من صور الحكم الديمقراطي. والرجل المثالي يرثي لهذا الاتجاه نحو الظلم والاستعباد، ويعتقد أن نتيجته سيئة ولا محالة. وليس كذلك من يحسب الأمر الواقع خير الأمور. وكلا الرجلين قد يرميان إلى غرض واحد، ولكن الرجل الثاني يرى - بناء على عقيدته - أن الطريق الذي تعينه له الظروف لا بد أن يؤدي إلى الغرض المنشود. إنه يعتقد أن حكم الاستبداد لا بد منته بالحكم الديمقراطي، وأن الاستعباد ينتهي بتحرير الفرد، وأن تركيز النفوذ السياسي والاقتصادي ينتهي بالحكم الذاتي؛ أو بعبارة أخرى أنه لا يرى مانعا من أن يأخذ بنصيب في أي عمل شرير؛ لأنه يعتقد أن هناك عناية ربانية «واقعية» تعمل على تحقيق الغايات الطيبة بالوسائل الدنيئة.
إن من واجبنا أن نبث في العالم هذا الرأي، وهو أن «الأمر الواقع» ليس بالمقياس الصحيح، وأن ما تحملنا الظروف على عمله ليس هو الواجب الذي ينبغي أداؤه. إن ذلك لخير للناس وأبقى. إن «الأمر الواقع » في العصر الحاضر شر محض ، فإذا نحن استسلمنا له وعملنا على تعزيزه وتأييده فإننا بذلك إنما ننصر الظلام على النور.
الفصل الثامن
اللامركزية والحكم الذاتي
يقترح علينا الفوضويون إلغاء الدولة. والواقع أن الدولة تستحق الإلغاء لأنها أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة للاحتفاظ بامتيازاتها، ولأنها وسيلة تمكن المولعين بحب السلطان من إشباع شهواتهم في التسلط والنفوذ، كما تمكنهم من تنفيذ أحلامهم الخيالية بالمجد والعظمة. غير أن الدولة في المجتمعات المعقدة، ومنها المجتمع الذي نعيش فيه، لها وظائف أخرى نافعة تؤديها؛ فمن الواضح - مثلا - أنه ينبغي أن تكون في المجتمع هيئة مسئولة عن توحيد نشاط الجماعات المختلفة التي يتألف منها المجتمع. ومن الواضح كذلك أنه ينبغي أن تكون هناك هيئة لها سلطة العمل باسم المجتمع بأسره. وإذا كانت لفظة «الدولة» مرتبطة ارتباطا كريها بفكرة الظلم الداخلي والحرب الخارجية، وبالسيادة الخالية من التبعات، وبخضوع العامة الذي لا يقل عن سيادة الحاكمين خلوا من التبعة، إذا فلنطلق على هذه الأداة الاجتماعية اسما آخر. وليس هناك في الوقت الحاضر اتفاق على ما عسى أن يكون هذا الاسم؛ ولذا فسوف أحافظ على استعمال هذه الكلمة القديمة المرذولة حتى نتفق على اسم جديد.
مما سلف ذكره في الفصول السابقة يتضح أن الإصلاح الاقتصادي - مهما يكن طيبا في حد ذاته - لا يمكن أن يؤدي إلى ترقية الفرد والجماعة إلا إذا تم في جو صالح وبوسائل صالحة، والجو الصالح للإصلاح فيما يختص بنظام الدولة هو اللامركزية والحكم الذاتي في جميع الشئون، والوسائل الصالحة لتنفيذ الإصلاح هي الوسائل الهينة اللينة.
وإذا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، ومن المعنوي إلى المحسوس، واجهتنا الأسئلة الآتية:
أولا:
بأي الوسائل يمكن تطبيق مبادئ الحكم الذاتي على الحياة اليومية للرجال وللنساء؟
ثانيا:
إلى أحد يطرد الحكم الذاتي للأجزاء المكونة للمجتمع مع قدرة المجتمع على وجه الإجمال؟
ثالثا:
إذا كانت هناك حاجة إلى هيئة مركزية لتوحيد نشاط الأجزاء المستقلة، فما الذي يمنع هذه الهيئة المركزية من أن تصبح أوليجاركية حاكمة من النوع الذي نألفه ونمقته؟
إن طريقة الحكم الذاتي للناس العاديين في أعمالهم العادية أمر لا يمكن مناقشته مناقشة جدية إلا إن كان لدينا فكرة واضحة عما يمكن أن نسميه التاريخ الطبيعي للجماعات وسيكولوجيتها. إن «الجماعة» تختلف عن «الجمهور» في العدد، كما تختلف عنه في نوع الحياة العقلية التي يحيياها الأفراد. الجمهور عدد كبير من الناس، أما الجماعة فقليلة العدد، والجمهور يحيا حياة عقلية أحط من الحياة العقلية للأفراد. والجمهور لا يستطيع أن يسيطر على عاطفته كما يستطيع الفرد. أما الحياة العقلية عند الجماعة فليست أحط ذهنيا ولا عاطفيا من الحياة العقلية للأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، بل لقد تكون في بعض الأحيان أعلى من عقلية الأفراد.
وهذه هي الحقائق السيكولوجية الهامة عن الجمهور: الجمهور يميل بطبيعته إلى اللهو والعربدة. إن الفرد في الجمهور يتحلل من قيود شخصيته، وهو أشبه ما يكون بالرجل الثمل. والمعروف أن أكثر الناس يحبون أن يفروا من شخصياتهم، وهم يضيقون بأنفسهم ذرعا فيلجئون إلى المخدرات أو إلى الاختلاط بالجمهور. ونجاح الدكتاتوريين يرجع إلى حد كبير إلى قدرتهم على استغلال رغبة الناس في الفرار من أنفسهم؛ فهم يهيئون الفرص لرعاياهم لأن يفلتوا من أنفسهم ولأن ينحطوا في ميولهم وعواطفهم؛ فالاشتراكيون يخدرون الناس بالجمع بينهم في مجتمعات سياسية. ويلجأ الدكتاتوريون الفاشستيون إلى هذه الطريقة كذلك؛ فالدول الدكتاتورية تتيح للناس أن يفروا من أنفسهم إلى العالم السفلي - عالم عواطف الجماهير. ومن الثابت أن الإنسان إما أن يفر من نفسه إلى عالم علوي كعالم الأديان، أو إلى عالم سفلي كعالم المخدرات. ويؤثر الدكتاتوريون أن يفر أتباعهم إلى العالم السفلي؛ لأنهم إذا فروا إلى العلا حرروا أنفسهم من عبادة الأمة والحزب والطبقة والزعيم. إن تخطي حدود النفس والفرار من سجن الذات إلى الاتحاد بما هو أعلى من الذات يتم عادة في العزلة، وهذا هو السبب في أن الحكام المستبدين يحبون أن يجمعوا رعاياهم في تلك الجماهير الكبيرة التي ينحط فيها الفرد إلى الدرك الأسفل.
والآن لنبحث في الجماعة. إن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو هذا السؤال: متى تصبح الجماعة جمهورا له مميزاته السيكولوجية؟ دلت التجربة على أن حركات الجماعة ومشاعرها تتعقد إلى حد كبير إذا زاد عدد أفرادها عن عشرين أو قل عن خمسة. والجماعات التي تتألف لأداء عمل يدوي معين يصح أن يفوق عددها تلك التي تأتلف لغرض سياسي أو للصلاة الدينية أو للهو والمرح. الجماعة في الأغراض العملية يمكن أن تؤدي عملها بنجاح إذا بلغ عددها العشرين أو الثلاثين. أما في الأغراض الأخرى فمثل هذا العدد الكبير قد يكون عاملا من عوامل الفشل. ومما هو جدير بالذكر أن رسل المسيح لم يزيدوا عن اثني عشر. وقد وجد أن اللجان التي يزيد عددها على اثني عشر عضوا تتعسر إدارتها لكثرة الأعضاء. وإني أرى أن حفلة العشاء تكون على أتمها إذا كان أفرادها ثمانية. ورجال التربية مجمعون على أن العدد الملائم للفصل الدراسي يتراوح بين ثمانية وخمسة عشر، وأصغر الوحدات في الجيوش تتكون من عشرة جنود. وإذا فكل الدلائل تدل على أن العدد الملائم لتكوين جماعة أغراضها اجتماعية أو دينية أو عقلية هو عشرة أفراد، والعدد الملائم لتكوين جماعة تؤدي عملا يدويا يتراوح بين العشرة والثلاثين. وعلى ضوء هذه الحقائق نرى أن الحكم الذاتي يجب أن يتألف من وحدات محدودة العدد.
وقد بحث الاقتصادي الفرنسي هياسنت دبريل
Hyacinthe Dubreuil
طريقة الحكم الذاتي في دوائر الصناعة وقدم لنا ثروة من الأمثلة المحسوسة في كتاب قيم عنوانه «لكل فرصته». يقول دبريل: إن أكبر دوائر الصناعات يمكن تنظيمها بحيث تتألف من عدد من الجماعات المستقلة في حكمها والمتحدة في عملها في آن واحد، كل جماعة منها تتكون من نحو ثلاثين عضوا، وكل جماعة تعمل داخل المصنع عمل المقاول الثانوي يتعهد بأداء جزء معين من العمل. وللجماعة حق توزيع الأرباح بين الأفراد، ولها كذلك حق حفظ النظام في داخلها، وانتخاب ممثليها وزعمائها. إن مثل هذا النظام يحبذه العمال لأنه يعيطهم قدرا من الاستقلال، كما أنه يؤدي إلى زيادة الإنتاج. ولهذا النظام مزايا أخرى مثل تدريب الأعضاء على التعاون وتحمل التبعات.
ولكن أكثر المصانع - في ظل النظام السائد - أشبه ما تكون بدكتاتوريات صغيرة بعضها يميل إلى الخير وبعضها يميل إلى الشر، وطاعة العمال لرؤساء فرضوا عليهم فرضا بغير انتخاب محتمة في كلتا الحالتين. وهؤلاء العمال قد يكونون - من الوجهة النظرية - تابعين لدولة ديمقراطية، ولكنهم - في الواقع - ينفقون حياتهم رعايا لحكام مستبدين هم أصحاب المصانع التي يعملون بها. ومشروع دبريل يدخل الديمقراطية الحقة داخل المصنع، وبغير هذا المشروع أو ما يماثله لا فرق عند العامل بين أن يكون المصنع ملكا للدولة أو ملكا لفرد أو لجمعية تعاونية؛ لأن طاعته واجبة في جميع الأحوال، ولكنا إذا وضعنا مشروع دبريل موضع التنفيذ ظفرنا برضى العامل عن الإدارة، حتى إن تولاها من لا يحسنها؛ وذلك لأن العامل يعلم في قرارة نفسه أنه هو الذي اختار رئيسه، وأنه اشترك في وضع لائحة مصنعه. فهو مطمئن من الناحية النفسية.
ويعتقد لينين أن العامل لا يهتم بالديمقراطية لأنه فقير يملك عليه فقره كل تفكيره. ولكنا ينبغي في الواقع أن نرفع من مستواه المادي حتى يتوفر له الفراغ والمعرفة والعلم فيهتم بالديمقراطية والسياسة. ويجب ألا ننسى أن الناس أنماط مختلفة، فلا بد من إيجاد أنظمة مختلفة من الديمقراطية والحكم الذاتي، حتى يجد الرجل ذو الفكر المحدود مجالا لنوع قدرته السياسية في الجماعات المستقلة استقلالا ذاتيا داخل دوائر الصناعة أو التجارة أو الإدارة المحلية. وهكذا يصبح كل فرد عضوا في جماعة مستقلة ولا يخضع لغيره خضوعا أعمى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى تطور اجتماعي طرأ علينا في العصر الحديث وكان له أثره في إحساسنا بروح الجماعة. وأسباب هذا التطور كثيرة أهمها ما يأتي:
أن تحديد النسل جعل الأسرة العادية قليلة العدد، ولأسباب متعددة سنبينها فيما بعد انتهى العهد الذي كان يتزوج فيه الابن ويقطن مع أبيه وجده. في ذلك العهد كانت الأسر الكبيرة والجماعات العائلية مجتمعات يتعلم فيها الأطفال فن التعاون وتحمل التبعات، غير أن هذه المدارس الساذجة التي كانت تبث في الفرد روح الجماعة قد زالت الآن من الوجود.
ثم إن طرق النقل الحديثة قد أدخلت تعديلا كبيرا على حياة القرى والمدن الصغيرة. إلى عهد قريب جدا كانت القرى تكفي حاجات نفسها بنفسها، فكان لكل مهنة رجل فني يمثلها. وكان الإنتاج المحلي إما يستهلك كله أو يستبدل به السكان محصولات أخرى من منتجات القرى المجاورة. وكان الرجل لا يغادر قريته، والأهالي يعتمدون على مواهب أبناء القرية أو المدينة في العلم واللهو وأمور الدين. أما اليوم فقد تغير كل شيء؛ ونظرا لما طرأ على طرق النقل من وسائل الترقية والتحسن اتصلت القرية ببقية العالم الاقتصادي؛ فهي تستورد حاجاتها كما تستورد الرجال الفنيين من بعيد، كما أن عددا كبيرا من السكان يخرج من القرية للعمل في المصانع والمكاتب والمدن الكبيرة النائية، وهم يستمتعون بالموسيقى والتمثيل غير معتمدين في ذلك على المواهب المحلية، بل على متن الأثير ودور الصورة المتحركة.
انقضى عهد كان فيه كل أفراد المجتمع يعيشون في بقعة واحدة. إنك اليوم - بفضل السيارات - قلما تجد القرويين في قراهم. فانحطت الجماعة القروية في لهوها وعبادتها وثقافتها؛ لأن الفرد يقضي شطرا كبيرا من حياته وفراغه في المدائن الكبرى. وقد عملت السيارة والتلفون على تفكيك روابط الجيرة. كما أن تقدم الصناعات قد أضعف كثيرا من الصلات الشخصية والروحية بين أعضاء المجتمع. وكذلك أدى تركيز الأعمال في أيدي الدولة إلى فتور الحب المتبادل بين القلوب والتعاون المشترك بين الأفراد؛ فالمستشفيات التي تتعهدها الدولة وتمدها بالأطباء والممرضات خير من معونة الجار، ولكنها تضعف من شعور الجار بالتبعة نحو جاره؛ ومن ثم فإن التنظيم الاشتراكي يقضي على التعاطف بين الناس.
وقد شهدت الأجيال الثلاثة الماضية زيادة عظيمة في حجم المدن الكبيرة وعددها. والحياة في المدن الكبيرة أشد إثارة للشعور وأكثر إدرارا للربح منها في القرن والمدن الصغيرة، وقد شجع ذلك أهل الريف على الهجرة إلى المدينة. وسار في مقدمة المهاجرين ركب من المغامرين الطموحين وذوي المواهب الممتازة، فأقفرت القرى وعمرت المدائن بالممتازين من الرجال.
ومن العسير أن نحث الفلاحين وصغار المزارعين على الاستفادة من الطرق العلمية الحديثة؛ وذلك لأسباب عدة؛ منها هجرة الأذكياء من القرويين إلى المدن. وترتب على ذلك كله أن ضعفت الحياة الاجتماعية في الريف، ولم تحل محلها حياة اجتماعية قوية في المدن؛ وذلك لأن الفوضى كانت تدب في المدن وهي آخذة في التضخم والاتساع. أجل هناك بين سكان المدن نوع من الصلة، ولكنها صلة سطحية آلية. الحياة في المدينة مفككة وكأن كل فرد فيها يقول لنفسه: «إن أحدا من الناس لا يهتم بي، فلماذا أهتم بسواي؟»
وفي ضوء هذه الأسباب الآنفة التي تعمل على انحلال المجتمع وإضعاف روح الجماعة عند الأفراد، أقدم هذا الاقتراح لعلاج الأمور. نستطيع أن نحول المدارس والكليات إلى جماعات عضوية، تعوض الفرد في فترة قصيرة من حياته عن ذلك التدهور الذي حل بحياة الأسرة والقرية الصغيرة، وذلك بأن يقوم الطلبة بحكم أنفسهم وبالاشتراك في الألعاب الجمعية والنشاط الثقافي. ولو أن القرية نفسها قامت بمثل ذلك لأصبحت الحياة فيها مستساغة مقبولة، وقلت الهجرة منها إلى المدن. ثم إن عدم تركيز الصناعة، وارتباطها بالزراعة، يمكن ساكن القرية من أن يكسب في القرية ما تدره عليه المدينة. ولكنا نلاحظ أن الصناعة في الوقت الحاضر ما زالت مركزة في وحدات كبيرة برغم تيسير توزيع القوى الكهربائية على البلاد. إن المدن المزدحمة بالسكان كثيرة العدد، مثل لندن وباريس، لها قدرة عجيبة على جذب الصناعات إليها وتركيزها فيها. وربما يرجع ذلك إلى أن كثرة السكان تدعو إلى توسيع السوق، وتوسيع السوق يجذب إليها الصناع. كما أن الصناعات الجديدة تنشأ عادة في ضواحي المدن الكبيرة فتزيد تضخما واتساعا. وإذا تنبهنا إلى سهولة الإغارة الجوية على المدن الكبيرة أدركنا أن عدم تركيز الصناعة فيها ضرورة ماسة لا مندوحة عنها.
إن الحياة في المدينة مفككة، ولا بد من إيجاد الرابطة بين الأفراد.
لقد حاولت فيما سلف من هذا الفصل أن أجيب عن السؤال الأول من الأسئلة التي وجهتها في مستهل الفصل، ووصفت الطرائق المختلفة التي نستطيع بها أن نطبق مبادئ الحكم الذاتي على الحياة اليومية للرجال والنساء. وسأحاول الآن أن أجيب عن السؤال الثاني، وهو: كيف نستطيع تنسيق مجهود الفروع المختلفة المستقلة بحيث لا يضعف التماسك الاجتماعي بوجه عام والإنتاج الصناعي بوجه خاص؟ لقد جربت الروسيا في السنوات الأولى من ثورتها استقلال الصناعات المختلفة وحكمها حكما ذاتيا فرديا، ولكنها عادت فركزت الإدارة في يد الدولة، وأشرف حزب الاشتراكيين على النظام داخل المصانع بعد أن كان يشرف عليه ممثلون منتخبون من جمعية العمال السوفييت. وقد ذكر كاجانووتش
Kaganowitch
الروسي في خطاب له أن الإدارة معناها السيطرة على الماديات وحق التعيين والفصل، والسيادة التامة على العمل. وهذا تعريف دكتاتوري للإدارة لا يختلف عما يراه زعماء الصناعة في البلدان الرأسمالية.
ويزعم أنصار الحكومة الروسية الحاضرة أن التحول من الحكم الذاتي إلى الإدارة المركزية يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وقد يكون ذلك صحيحا في بلد كالروسيا، العمال فيه جهال قليلو الخبرة غير قادرين على حكم أنفسهم أو على الإنتاج المثمر. ولكن الأمر ليس كذلك في غرب أوروبا وفي الولايات المتحدة. وقد برهن دبريل على أن الحكم الذاتي داخل المصنع يؤدي إلى زيادة الإنتاج. وإذا ففي البلاد التي تحسن فيها تربية الرجال والنساء وتدريبهم، والتي تعود الناس فيها النظم الديمقراطية، لا يؤدي الحكم الذاتي داخل المصنع إلى انهيار النظام أو قلة الإنتاج، اللهم إلا إن كان أولو الأمر يريدون تعبئة الأمة كلها، رجالها وصناعاتها، للأغراض الحربية العسكرية. حينئذ تفشل اللامركزية؛ لأن تعدد الهيئات المستقلة يجعل مهمة الدكتاتور عسيرة شاقة. ومن هنا كانت الحرب عاملا قويا في تركيز الحكم وإلغاء النظام اللامركزي. وسأعالج في الفصل المقبل هذا الشر الاجتماعي المستطير - وأقصد الحروب. أما ما بقي من هذا الفصل فسأخصصه لمعالجة المسألة الثالثة التي أثارها البحث في اللامركزية والحكم الذاتي، وأعني بها قدرة المجتمع المكون من وحدات «مستقلة متحدة» على الإنتاج، وطبيعة الهيئة التي يوكل إليها الجمع بين مجهود هذه الوحدات.
بين لنا دبريل أن أكبر الهيئات الصناعية يمكن أن تنظم بحيث تتألف من عدد من الجماعات المتحدة والمستقلة في نفس الوقت استقلالا ذاتيا. وقدم لنا البرهان على أن مثل هذه الهيئة يزيد إنتاجها على غيرها من الهيئات المركزة. وقد طبقت هذه الديمقراطية الصناعية في بعض المصانع الكبيرة وأتت بأطيب الثمرات، ولكن هذه الديمقراطية الصناعية تتعارض ونظام الرأسمالية والاشتراكية الوطنية؛ لأن الرأسمالية تخلق عددا من صغار الدكتاتوريين، كل منهم يسيطر على مملكته الصناعية الصغيرة. كما أن الاشتراكية الوطنية تتطلب لإدارتها دكتاتورا عظيما، يتركز النفوذ في يده، ويملك زمام السلطة كلها على الشعب بأسره مستعينا بعدد من العملاء البيروقراطيين.
إن الهيئات المتعاونة قائمة بالفعل، وعملها يسير بيسر تام. فإذا نحن أكثرنا من هذه الهيئات ووسعنا من دائرتها فلن يكون ذلك عملا ثوريا، ولن يبعث على المعارضة التي يثيرها مبدأ جديد على الناس كل الجدة.
وجلي أن الهيئات الصغيرة المستقلة لا بد لها من سلطة عليا توحد جهدها وتنسق عملها، فما الذي يكفل لنا أن هذه السلطة العليا لا تتحول إلى دكتاتورية مستبدة؟ الواقع أن هذا التحول شديد الاحتمال في الدول التي تتأهب للحرب. إن الروح العسكرية تفسد أي نوع من أنواع الإصلاح، وفي الأمم التي تستعد للقتال كثيرا ما يتجه الإصلاح الذي يرمي إلى نشر اللامركزية والروح الديمقراطية توجيها حربيا، فيتعزز مركز الدكتاتور أو الأوليجاركية الحاكمة.
وإذا ما ساد العالم جو عسكري، اتخذ الدكتاتور من الحاجة إلى الدفاع معذرة للاستيلاء على السلطة المطلقة. ثم يزول شبح الحرب، ولكن الدكتاتور يتشبث بنفوذه ويسيء استخدامه؛ لأن ذلك من شيم النفوس. فما هو السبيل إلى التخلص من هذا الشر؟ لقد بحثت هذه النقطة بشيء من التوسع في الجزء الأخير من الفصل الذي عقدته على عدم المساواة، وإني أحيل القارئ على هذا الفصل. إن مقاومة الطمع من أشد الأمور، وخير سبيل لذلك تعويد الطفل على الاعتدال وهو ما يزال في دور التربية. إن المجتمع الذي نعيش فيه يشجع على الاستزادة من النفوذ والسلطان؛ لأن صاحب النفوذ مهاب مقدس. ويكفي لتأييد ذلك أن تعلم أن الكتب التي كتبت عن نابليون أكثر من التي كتبت عن أي رجل آخر. فماذا عسى إذا أن تكون أحلام الرجل الذي يرى أن صاحب النفوذ هو البطل الذي يتردد اسمه على ألسنة الناس في كل زمان ومكان؟ إن الدوتشي والفوهرر وأضرابهما لن يكفوا عن إفساد العالم حتى ينظر الناس إلى أمثال هؤلاء المغامرين كأنهم من المخادعين المختالين، وما دام الناس يعبدون قيصر ونابليون فسيظهر من بينهم أمثال قيصر ونابليون يسومونهم سوء العذاب. كان كارليل يقدس البطل، أما بيكن
Bacon
فيقول عن الحاكم المستبد الطموح: «إنه كالقرد الذي كلما علا في تسلق الشجرة تفنن في ألاعيبه.» ولقد كان بيكن أصدق من كارليل نظرا. إننا نتطلع إلى اليوم الذي يمتنع فيه ظهور الدكتاتوريين، وإلى أن يحين هذا الوقت لا بد أن نقنع بوضع العراقيل الشرعية والإدارية في طريق الطامعين حتى لا يكون من ورائهم أثر أو خطر.
الفصل التاسع
الحرب
إن الحرب والاستعداد لها والتهديد بإثارتها تسد - إن عاجلا أو آجلا - كل طريق يؤدي إلى ترقية المجتمع. هذه هي الحقيقة المرة التي لا مفر منها، الحقيقة التي اتضحت لنا من البحوث التي قدمناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب.
والآن سوف نبحث بإيجاز شديد في طبيعة الحرب، وأسبابها، وما يمكن أن يحل محلها إذا أمكن لنا أن نستغني عنها، وطرق علاج هذا الجنون العسكري الذي أصاب الناس في هذه الأيام. (1) طبيعة الحرب (أ)
الحرب ظاهرة إنسانية محضة. إن الحيوانات الدنيا قد تتبارز، وهي في حرارة التهيج الجنسي، وقد تقتتل في سبيل القوت، أو لهوا ولعبا؛ فالذئب لا يلتهم الشاة إلا وهو جائع، وهو في هذا كالقصاب يقتل الذبيحة ليبيعها لنا طعاما نأكله. والهرة قد يحلو لها أن تلعب بالفأر فتقاتله من أجل ذلك، وهي حينئذ أشبه ما تكون بالصائد يخرج للصيد فيقتل في سبيل لهوه الحيوان. إن عمل الذئب والهرة، كعمل القصاب والصائد، ليس فيه من الروح الحربية - كما نعرفها - لمحة ولا إشارة. وكذلك القتال بين الكلاب الجائعة، أشبه ما يكون بالشجار بين السكارى في الحان - ليس من الحرب في شيء. إنما الحرب معناها الفتك بالألوف في نظام متعمد مقصود، أجل إن هناك حشرات اجتماعية تخرج إلى القتال في جيوش منظمة، ولكنها توجه هجماتها دائما نحو عدو من جنس آخر غير جنسها، إن الإنسان لفريد في تنظيم قتل الألوف من أبناء جنسه. (ب)
إن بعض علماء البيولوجيا - ومن أبرزهم سر أرثر كيث - يرون أن الحرب وسيلة الطبيعة في تطهير المجتمع، وهي الوسيلة التي تكفل له بقاء الأصلح من الأفراد والأمم المتمدنة. ولكن هذا زعم باطل؛ إذ إن الحرب تفتك بالشبان والأقوياء، وتبقي على المرضى والضعفاء. وليس هناك ما يحملنا على أن نعتقد أن الشعب الذي ألف وسائل العنف وأجاد فنون الحرب أرقى من الشعوب الأخرى؛ فليس أرقى الأمم أشدها جرأة على القتال. ولم يبرهن التاريخ على أن أقدر الناس على الحرب هم أصلحهم للبقاء. الحرب دائما تقضي على نخبة من الرجال الأقوياء الممتازين، وهي بالنسبة للأمم والشعوب لا تسير على قاعدة معروفة مرسومة؛ فهي أحيانا تضمن السيادة والبقاء للشعوب التي تجيد فن القتال، وأحيانا أخرى تنتهي بدمار هذه الشعوب وتبقي على الشعوب التي لا تتقن فنون الحرب. (ج)
توجد في العصر الحاضر مجتمعات إنسانية بدائية، مثل الإسكيمو، لا تعرف الحرب، بل ولا تخطر لها على بال. في حين أن كل المجتمعات المتحضرة مجتمعات محاربة، فهل الحرب والمدنية أمران متلازمان؟ وهل الحرب ضرورة للحضارة لا مفر منها؟ تدل البحوث الأثرية على أن المدنيات القديمة كانت تعرف الحرب وتجيدها، وأن الشعوب المتأخرة تتخذها وسيلة لتحقيق أغراضها؛ فهي إذا ليست من مستلزمات الحضارة وضروراتها. وأغلب الظن أن نشأة الحروب مرتبطة بظهور زعماء يحسون بالعظمة وتمتلئ رءوسهم بفكرة السيادة الشخصية والشهرة وخلود الاسم بعد الموت. وما تزال فكرة «المجد» و«الشهرة الخالدة» تختمر في رءوس الدكتاتوريين وقادة الحروب، وتلعب دورا هاما في إثارة الحروب، حتى في عصرنا هذا الذي تعد فيه الاعتبارات الاقتصادية ذات أهمية قصوى. (د)
يجب أن نعلم أن مدنيات العالم المختلفة قد وقفت من الحرب مواقف مختلفة؛ فالصينيون والهنود يختلفون في نظرتهم إليها عن أهل أوروبا. هؤلاء (أي الأوروبيون) يعبدون البطل العسكري، وهم منذ نشأة المسيحية يقدسون الرجل الذي يموت استشهادا في الجهاد. وليس كذلك الصينيون؛ فإن الإنسان المثالي عند كونفيوشس هو الإنسان العادل العاقل الشفيق المثقف، الذي يعيش مسالما في مجتمع منظم منسجم. والكنفوشية تؤثر حكمة العقل على الشجاعة البدنية، ويصرح أئمتها أن التضحية بالحياة قبل الأوان لا تليق بالرجل الحكيم. أما إعجاب الأوروبيين بالبطولة العسكرية وبالاستشهاد في القتال فقد حدا بأكثرهم إلى العقيدة بأن الميتة الطيبة خير من الحياة الطيبة، وأن المرء يستطيع أن يكفر عن حياة طويلة مليئة بالجرائم والآثام بعمل واحد ينم عن الشجاعة والبطولة. وصوفية لاوتسو
Lao Tsu
الصيني تتمم مذهب كونفيوشس العقلي؛ فالإنسان - عند لاوتسو - الذي يحب أن يعيش عيشة هادئة طيبة ينبغي له ألا يفرض شخصيته على غيره، وألا يشعر بأهميته، وألا يبدأ غيره بالعدوان، كما ينبغي له أن يتصف بالتواضع، وأن يرد الشر بالخير.
وقد باتت المثل الصينية العليا منذ عهد كونفيوشس ولاوتسو تجنح إلى الهدوء والمسالمة. أما الشعراء الأوروبيون فقد مجدوا الحرب وشادوا بها. كما أن رجال الدين الأوروبيين يبررون الاضطهاد الديني والاعتداء القومي. ولم يكن الأمر كذلك في بلاد الصين في العهود السالفة؛ فإن الفلاسفة والشعراء في تلك البلاد كانوا - وما يزالون - ينفرون من الروح العسكرية الحربية. الجندي في تلك البلاد رجل وضيع لا يرتفع إلى مستوى العالم أو رجل الإدارة. ومن مآسي التاريخ الكبرى أن إدخال المدنية الغربية على الصين كان معناه إدخال الروح العسكرية على ثقافة ظلت زهاء ثلاثة آلاف عام تدعو بغير توان إلى سياسة السلم والكف عن القتال. أما في العصر الحديث فقد تبدلت هناك الأمور، وفرض التجنيد الإجباري على عدد كبير من الصينيين عام 1936، والجندي هناك اليوم يظفر بإعجاب الجماهير. ومما ساعد على تقوية الروح الحربية في الصين وتعزيزها الاعتداء الياباني المتكرر. وقد تصبح الصين بعد جيلين دولة استعمارية معتدية.
ويعبر بوذا في تعاليمه أحسن تعبير عن حب الهنود للسلام؛ فالبوذية - كالهندوكية - تعلم المرء ألا يؤذي غيره من الكائنات. البوذية تحرم على الرجل أن يشتغل بصناعة الأسلحة أو بيعها أو بصناعة السموم والمخدرات، أو بالجندية، أو قتل الحيوان. البوذية وحدها من بين ديانات العالم العظمى هي التي شقت طريقها بغير قتال وبغير اضطهاد أو رقابة أو تعذيب؛ فهي من هذه الناحية أرقى من المسيحية التي شقت طريقها بين الناس بالسيف وإراقة الدماء. والغضب عند البوذيين مشين بكرامة الإنسان. أما المسيحيون فيرون أن من حق المرء أن يحنق وأن يغضب؛ ومن ثم فإن الأمم المسيحية ترى نفسها مصيبة إذا هي غضبت لكرامتها، فشنت من أجلها الحرب، وارتكبت في سبيلها الفظائع والآثام.
الحرب إذا ليست طبيعية، ولا يبررها العقل، ويمكن أن تزول من وجه الأرض، كما زالت المبارزة بين الفرسان من أجل المرأة، وقد كانت عادة مألوفة في العصور الوسطى، وكما زالت - إلى حد كبير - جرائم قتل الزوجة الخائنة أو عاشق الأم أو الأخت. وكان الناس فيما مضى يحسبون هذه الجرائم طبيعية ولا يحاسب عليها مقترفوها. الواقع أن طبيعة الإنسان مرنة يمكن تشكيلها على صور مختلفة؛ فالرجل المتمدن الآن قد يغار على حبيبته، ولكنه قلما يثور لخيانتها إلى حد قلتها. وعلى هذا القياس نقول إنه بوسعنا - إن صحت عزائمنا - أن نتخلص من وباء الحروب، كما تخلصنا من قتل الزوجات الخائنات وعشاقهن. ليست الحرب من قوانين الطبيعة، وليست من طبيعة الإنسان، إنما هي تشتعل لأن الناس يريدون إشعالها، ونستطيع أن نريد شيئا آخر غيرها فنستبدله بها. وأنا أعترف بأن تغيير الإرادة الإنسانية أمر شاق عسير، ولكنه ليس بالأمر المستحيل. (2) أسباب الحروب
أقول ثانية إن الحرب تشتعل لأن الناس يحبون إشعالها، وهم يحبونها لأسباب متعددة متنوعة، نذكر منها ما يلي: (أ)
كثير من الناس يحبون الحرب؛ لأن أعمالهم وقت السلم مذلة مخيبة لآمالهم، أو لأنها مملة لا تبعث فيهم اشتياقا ولا حماسة. وقد دلت البحوث الحديثة في أسباب الانتحار على أن نسبته تهبط إلى الثلثين بين المدنيين غير المقاتلين في أوقات الحروب،
1
ويرجع ذلك إلى بساطة العيش إبان القتال، وإلى الحماسة الوطنية التي تدفع الأفراد إلى البقاء للعمل في سبي الوطن ، وإلى أن الحياة في زمن الحرب ترمي إلى هدف معين - هو الانتصار على الأعداء. ويرجع تشبث الناس بالحياة كذلك إلى الأمل في انقلاب الأمور وتحسن الأحوال، وإلى التخفف من سآمة العمل وملل الوظيفة؛ لأن العمال والموظفين يشعرون أنهم يؤدون عملا نبيلا نحو أوطانهم بمعونتهم رجال الحرب على تسيير عجلة القتال. ثم إن اتساع الصناعات الحربية يوجد عملا للمتعطلين ويخلق نوعا من الرفاهية المؤقتة بين العمال. ويلاحظ - فوق ذلك - أن الأفراد يتحررون إلى حد كبير من قيود الأخلاق الجنسية؛ لأنهم - وسيف الموت مسلط فوق رءوسهم - يحبون أن يظفروا من الدنيا بخير ما فيها من متع. أضف إلى ذلك كله أن الحياة في زمن الحرب شائقة جدا، على الأقل في السنوات الأولى منها؛ وذلك لأن كثرة الإشاعات، وما تذيعه الصحف كل صباح من أنباء المعارك يرهف الحس ويثير المشاعر. وقد كان المدنيون حتى نهاية الحرب العظمى بعيدين عن أخطار القتال، إذا استثنينا سكان المناطق التي كانت عرضة للغزو المباشر. ولكنهم في الحروب المقبلة سيتعرضون لما يتعرض له الجندي في ساحة الوغى. وسوف يترتب على ذلك أن تفتر حماسة المدنيين للحرب. أما إذا برهنت الغارات الجوية على أنها أقل خطرا مما يرى الخبراء، فقد لا تنطفئ جذوة الحماسة للقتال بتاتا، على الأقل في الأشهر الأولى من اندلاع اللهيب.
ويدل تاريخ الحرب العظمى على أن عددا كبيرا من المحاربين أنفسهم كانوا يستمتعون ببعض ضروب القتال. وكان يرحبون بفرارهم من الأعمال المملة الميتة التي كانوا يمارسونها وقت السلم، حتى إن كان هذا الفرار على حساب التعب البدني والمخاطرة بالموت وبالتشويه الجثماني. غير أنا نرجح أن ظروف الحروب المقبلة سوف تكون قاسية مروعة مما يجعل ذلك النفر من البشر الذين يحبون المغامرة والقتال بطبعهم يمقتون الحرب ويخشون ويمجون النزول إلى ساحاتها. ولكن هذا الإحساس ببغض القتال لن يتولد حتى تشتعل الحرب فعلا بين الأمم. وإلى أن يحين هذا الحين ستعمل جميع الحكومات بجد ونشاط على نشر الدعاية القوية الخبيثة ضد من تتوسم فيهم العداوة لا ضد الحرب في حد ذاتها. هذه الحكومات تنذر رعاياها بأنها ستضرب بالقنابل من الجو تسقطها عليهم أساطيل محتشدة من طائرات الأعداء. وهي تقنعهم - أو ترغمهم - بضرورة التدريب على الاحتياط من الغارات الجوية، وعلى غير ذلك من ضروب التدريب العسكري. وهي تدعي ضرورة التسليح ضد الهجمات وللدفاع. وهي تنفق على هذا التسليح ما يقرب من نصف ميزانيتها. وهي تصنع ملايين الأقنعة الواقية وتوزعها على السكان للوقاية من الغازات السامة - وهي تعلم أن هذه الأقنعة لا تحمي حاملها ولا تقيه، كما أن الأطفال والمرضى والمسنين لا يستطيعون استعمالها، وهي لا تصلح وقاية من أكثر أنواع الغازات السامة. غير أن الحكومة تصم آذانها عن الاستماع إلى ما ينصح به الخبراء المحايدون.
وأعود فأقول إن مجهود الحكومات جميعا موجه إلى الدعاية ضد الأعداء، وإلى الدعوة لضرورة الحرب وإلى زيادة التسليح. وهناك سببان لنجاح هذه الدعاية: أولهما ما ذكرت من قبل وهو أن كثيرا من المحاربين وغير المحاربين يرحبون بالحرب لأنهم يجدون فيها مخرجا من ملل السلم الرتيب، وثانيهما سأذكره فيما يلي عندما أعالج وجها آخر من أوجه الأسباب السيكولوجية لاشتعال الحروب. (ب)
الشعور بالقومية وحب الوطن سبب قوي من أسباب الحروب. إن فكرة القومية محببة إلى النفوس لأن فيها إرضاء لبعض رغبات الإنسان؛ فالقومية عقيدة دينية، الإله المعبود فيها هو الدولة، ورمزها الملك أو الدكتاتور المقدس. والفرد في هذه الدولة المقدسة يعتبر نفسه أرقى من جميع الأفراد في جميع الشعوب الأخرى. وإذا ففي هذه العقيدة القويمة علاج لعقدة النقص. وقد أدرك الدكتاتوريون هذه الحقيقة، فتراهم يؤججون نيران الغرور القومي، فيجنون ثمار ما يعملون في اعتراف الملايين لهم بالجميل؛ لأن هذه الملايين تنعم بالاعتقاد بأنها تتشرف بالعضوية في أمة مقدسة مجدها أثيل. إن الفرد العادي فقير لا أهمية له ولا قيمة؛ ولذا فهو يجد في انتمائه إلى أمة مجيدة بعض العوض عن ضعته وتفاهته.
واحترام النفس ينشأ عنه دائما الحط من قدر الآخرين. والغرور والخيلاء والكبر تولد الاحتقار والكراهية لأبناء الشعوب الأخرى. ومن هنا ينشب القتال .
ويكمن وراء تقديس الدولة خطر آخر، وذلك أن أكثر الرجال والنساء يسلكون في الظاهر سلوكا حسنا، ولكنهم يضمرون في نفوسهم دوافع دنيئة لا يقرهم عليها المجتمع، وإنك لتراهم فرحين بقصص العصابات والقرصان والخداع؛ لأنهم عن طريقها ينفسون عما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة، وهم يجدون في الدولة ما يجدون في هذه القصص، بل يجدون فيها أكثر من ذلك؛ لأن الدولة شخصية معنوية مقدسة، عظيمة في قوتها وسلطانها، ولكنها منحطة من الوجهة الخلقية. إن أخلاق الساسة في الشئون الدولية لا تختلف في شيء عن أخلاق عصابات اللصوص والقرصان والمخادعين. ويستطيع المواطن أن ينفس عن رغبته في الإجرام لا في أشرطة السينما فحسب، بل في ميدان العلاقات بين الأمم أيضا. إن الدولة المقدسة - التي ينتمي إليها المواطن - تهدد غيرها من الدول وتخادع وتتبجح بطريقة ترضي فينا الطبائع الدنيئة المكبوتة. إن الرجل قد يحب زوجه وأطفاله، وقد يعطف على جيرانه، ويخلص في عمله، لا يضر أحدا ولا يصيب غيره بأذى، ولكنه يشعر بالنشوة حينما تنتصر بلاده على غيرها من البلدان، وحينما تتسع رقعتها وتخضع غيرها، أو بعبارة أخرى حينما تعتدي على غيرها من الأمم الوادعة وتخدعها وتسرق جهدها ومالها.
إن الأمة معبود عجيب، ولها على النفوس سلطان غريب، إنها تفرض علينا واجبات شاقة فنؤديها، وتطلب إلينا تضحيات عظيمة فنقدمها؛ وذلك لأننا نحبها ونقدسها، إننا نحبها لأنها تثير فينا الطبائع الدنيئة الخبيثة، وهي تقدم لنا المعاذير لتظاهرنا بالصلف والكبرياء على غيرنا من أبناء الأمم الأخرى، وهي تهيئ لنا الفرصة بما تشن من حروب لأن نشهد المذابح، فنروي برؤية الدماء نفوسا متعطشة إلى الفتك والدمار.
ونكتفي بهذا القدر من الكلام على الأسباب السيكولوجية للحروب. ولنبحث الآن في أسباب الحرب المباشرة، وهي أسباب - وإن تكن سيكولوجية كذلك إذا أخضعناها للتحليل الدقيق - سياسية واقتصادية في ظاهر أمرها. ونحن في الواقع إنما نلجأ إلى هذا التقسيم - سيكولوجي وسياسي واقتصادي - عند البحث في أسباب الحرب لسهولة التبويب. ولكنه تقسيم له مثالبه؛ لأننا بهذا الفصل بين الأسباب ننظر إلى شئون «السياسة » و«الاقتصاد» كأنها عوامل لم تنبع من داخل نفوسنا، وإنما هبطت علينا من عالم آخر، ونحسبها عوامل قد تنفصل عن الطبيعة البشرية. أجل إن للسياسة والاقتصاد أثرهما المستقل، ولكن الإنسان ليس بالآلة الصماء التي تتأثر ولا تؤثر؛ فهو كثيرا ما يتدخل في هذه العوامل السياسية والاقتصادية، ويمسها بالتعديل والتبديل حتى تلائم حاجاته؛ ولذا فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى السياسة والاقتصاد كأنهما عاملان لهما أثرهما المستقل، ولهما سلطانهما الذي لم يتفاعل مع نفوسنا؛ لأن هذه النظرة تؤدي بنا إلى نتائج خاطئة. وأنا أكرر القول بأننا حينما نفصل العوامل السياسية والاقتصادية عن العوامل النفسية فإنما نفعل ذلك لتيسير البحث فحسب؛ لأن عوامل السياسة والاقتصاد سيكولوجية في طبيعتها. (ج)
وأول الأسباب السياسية للحرب هي الحرب ذاتها؛ فكم من حرب اشتعلت نيرانها بسبب الاستيلاء على قطعة من الأرض لها قيمة حربية، أو بقصد الوصول إلى الحدود الطبيعية - أي الحدود التي يسهل الدفاع عنها، والتي تجعل الهجوم على الدول المجاورة أمرا ميسورا. إن المزايا الحربية المحضة لها عند حكام الأمم أهمية المزايا الاقتصادية. ثم إن مجرد حشد الجيوش وبناء الأساطيل البحرية والجوية سبب من أسباب نشوب القتال. يقول الرجل العسكري: «يجب أن نستخدم قوانا الحربية كي ندربها على إجادة القتال حتى تكون أقرب إلى النصر في الحرب المقبلة.»
ويجدر بنا هنا أن نقول كلمة في الدور الذي يلعبه التسليح في إثارة الحروب. إن كل رجال السياسة يزعمون أن تسليح بلادهم إنما هو لأعراض الدفاع فحسب، وأنه لا يقصد به الهجوم. ثم إنهم يزعمون - فوق ذلك - أن تسليح الدول الأجنبية يحتم عليهم تسليح بلادهم. إن كل أمة تتخذ الحيطة للدفاع عن نفسها ضد ما تتخذه الدول الأخرى من أسباب الاحتياطات الدفاعية! ولا مراء في أن هذا التسابق في التسليح لا بد ينتهي بإعلان الحرب والنزول إلى ميدان القتال. إن التسليح يؤدي حتما إلى القتال لسببين: أولهما نفسي؛ وذلك لأن تسليح بلد من البلدان يبعث الخوف والشك والحقد والبغض في البلدان المجاورة. وفي مثل هذا الجو الموبوء ما أسرع أن ينتهي الخلاف والجدال بالقتال والمعارك. والسبب الثاني فني؛ وذلك أن الأسلحة إذا لم تستخدم في حينها تصبح طرازا قديما قد لا يصلح لملاقاة العدو الذي يستخدم أسلحة حديثة الطراز. خذ مثلا لذلك الطائرة. إنها تتقدم كل يوم باطراد؛ ولذا فإن الدولة التي تحس بأنها خير من غيرها تسليحا تسارع إلى إعلان الحرب قبل أن يتفوق عليها غيرها في نوع السلاح، فتحاول أن تجاريها، ويكلفها ذلك مالا طائلا قد لا تتحمله إذا كانت من الأمم الفقيرة. ثم إن أكثر الأسلحة تقوم بصنعها الشركات الأهلية، ومن الجلي أن من مصلحة هذه الشركات الإكثار من صناعة السلاح، وبيعه لأمتها، وللأمم الأجنبية الأخرى بربح عظيم. وذلك من أسباب الحروب الهامة، وسأعود إلى الكلام فيه ثانية في موضع آخر من هذا الفصل. (د)
وقد تشتعل الحرب لنشر عقيدة دينية أو سياسية؛ فحروب الإسلام والحروب الصليبية والحروب الدينية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وحروب الثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الإسبانية الأهلية الأخيرة، كلها أمثلة لحروب الغرض منها نشر فكرة خاصة أو عقيدة بعينها. حقا إن بعض هذه الحروب قد يرجع إلى أسباب أخرى غير نشر العقيدة، مثل الطمع في جمع الثروة، أو السيادة وبلوغ المجد، أو غير ذلك. ولكن الغرض الأول في جميع هذه الحروب هو نشر الفكرة التي يتحمس لها المقاتلون؛ فلو لم تكن هناك رغبة في نشر عقيدة جديدة أو الدفاع عن عقيدة قديمة ما قامت هذه الحروب وما قاتل المحاربون فيها بالحرارة والحماسة والشجاعة التي يتصفون بها دائما. وقد حل التعصب القومي في العصر الحديث محل العقائد الدينية والسياسية في الزمان القديم. وتدل الدلائل على أن الحروب المقبلة كلها سوف تهب للدفاع عن رأي من الآراء، كما كانت الحروب في الزمن الخالي تنشب للدفاع عن الدين. (ه)
وثمة سبب آخر من أسباب الحرب ألمعنا إليه من قبل إيجازا، وذلك هو تحقيق «المجد» الذي يعقب النصر. والمجد حلم لذيذ يحلم به الملوك وقواد الجيوش؛ فمن أجل المجد كان ملوك آشور يقاتلون، ومن أجل المجد دوخ الإسكندر الأكبر المشرق والمغرب، ومن أجله قاتل ملوك العصور الوسطى ونبلاؤها، ولويس الرابع عشر، والأسر المالكة في أوروبا في القرن الثامن عشر، ونابليون بونابرت. ومن أجله يقاتل هتلر وموسوليني في العصر الحديث. إن الزهو والغرور والتعطش إلى العظمة والمجد كثيرا ما تدفع الحاكم إلى إقحام بلده في حرب ما كان أغناه عنها، وبخاصة إذا كان الحاكم دكتاتورا مستبدا على رأس أوليجاركية حربية. (و)
ولقد تحسب المجد من خصائص الملوك والقواد وحدهم. كلا؛ فإنه يعود على كل فرد من أفراد المجتمع في البلدان التي تشتد فيها العواطف القومية وتقوى؛ فالفرنسيون جميعا شاطروا لويس الرابع عشر مجده. وقد نجحت الثورة الفرنسية من أثر الدعاية التي كانت تحاول أن تقنع الناس بأن المجد لهم أجمعين. ومثل هذه الدعاية تعم العالم اليوم، فيتصور الرجل العادي أن في نصر أمته فخارا له ومجدا. والصحافة والراديو والسينما تشعر كل فرد أن له في المجد نصيبا. وعندما تسوء الأمور داخل البلد الدكتاتوري، ويبدأ الناس بالتذمر والضجر، كثيرا ما يرى الدكتاتور أن في مجد القتال علاجا لذلك. وقد كان المجد في الماضي أرخص منه في الحاضر؛ لأن المدنيين في العصر الحديث يكابدون مشقات الحرب كما يكابدها المحاربون، وذلك بعد استخدام الطائرة في القتال؛ فكلنا يدفع ثمن المجد إن كنا من الظافرين. والحرب بالوسائل الحديثة تهلك الحرث والنسل؛ فيقاسي منها الرجل في كسر بيته كما يقاسي منها الرجل في ساحة القتال. (ز)
من أهم الأسباب الاقتصادية في تقاتل الأمم الطمع في أرض خصبة تملكها أمة أخرى؛ فقد أعلن هتلر في خطبه مرارا أن ألمانيا بحاجة إلى أرض جديدة يقطنها السكان الزائدون عما تحتمله مساحة البلاد الألمانية.
وقد أصبحت رغبة السيطرة على البلدان الغنية بالمواد الخام التي لا يستغنى عنها في الصناعة أكثر أهمية في الأزمنة الحديثة من الرغبة في امتلاك الأراضي الخصبة؛ فقد كانت مناجم الفحم والحديد في اللورين سبب النضال بين فرنسا وألمانيا، وترجع حرب اليابان في منشوريا وشمال الصين إلى حاجة اليابان إلى المعادن . ولم تشترك ألمانيا وإيطاليا مع إسبانيا في حربها الأهلية لمجرد نشر آرائها الفاشستية، وإنما كان الدكتاتوران يطمعان في الحصول على مناجم النحاس والحديد في تلك البلاد، وهي المناجم التي كانت قبل اشتعال الحرب تحت السيطرة الإنجليزية. (ح)
وفي ظل الرأسمالية تحتاج الدول الصناعية الكبرى إلى أسواق خارجية؛ لأن الإنتاج يزيد على حاجة السكان، وعلى القوة الشرائية الداخلية. ولقد كان منشأ الرغبة في التوسع الاستعماري عند الدول العظمى في القرن التاسع عشر الحصول على أسواق خارجية تبيع فيها منتجاتها. وما إن ظفرت الدولة بالسوق - إما عن طريق الغزو أو عن طريق التدخل السلمي - حتى شرع أرباب الصناعة الذين يوردون السلع لتلك السوق في إمداد البلدان التي تقوم فيها بالآلات التي تمكنها من إنشاء المصانع والاستغناء عن منتجات الدولة الفاتحة. وهذا العمل من أعجب المتناقضات في نظام الرأسمالية. إن أكثر البلدان المتأخرة في الصناعة قد استوردت الآلات التي تكفيها سد حاجاتها، بل والتي تمكنها من تصدير السلع الزائدة عن حاجاتها إلى الخارج. وقد أمدها بتلك الآلات أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا من قبل يتخذون تلك البلاد أسواقا لسلعهم. وتلك ولا شك سياسة جنونية؛ لأن أصحاب رءوس الأموال يفقدون تلك الأسواق في النهاية، فيبحثون عن غيرها، ويثيرون من أجل ذلك الحروب الشعواء. (ط)
ويسوقنا ذلك إلى سبب آخر هام من أسباب الحروب، وذلك هو اهتمام الأقليات القوية بمصالحها الخاصة. وأقوى هذه الأقليات وأسوؤها أثرا جماعة صناع الأسلحة؛ فمما لا شك فيه أن الحرب والاستعداد لها تدر عليهم ربحا عظيما. ولا مراء في أن مصلحة هذه الطائفة في إشعال نار الحرب؛ ولذا تراهم لا يفتئون يثيرون الفتن ويخلقون أسباب الشقاق بين الحكومات، وذلك بشتى الوسائل - من الدعاية إلى الرشوة. وهم يخدمون كل صوت يرتفع مناديا بنزع السلاح؛ ومن ثم فإن أعضاء حزب اليسار ينادون دائما بضرورة استيلاء الدولة على هذه الصناعة. وقد استولت الحكومة الإنجليزية بالفعل على جانب كبير منها، فتحررت من نفوذ أصحاب رءوس الأموال الكبيرة الذين لا هم لهم إلا زيادة الأرباح . ولكنا يجب ألا ننسى أن التسليح تسليح على أية حال، سواء قامت به الحكومة أم الشركات؛ فإن الطائرة التي تصنعها الحكومة تفتك بالناس مثلما تفتك الطائرة التي تخرج من مصنع تديره شركة رأسمالية، بل إن صناعة الأسلحة في مصانع الدولة يجعل هذه الصناعة مشروعة ويبررها إلى حد كبير، وينجم عن ذلك أن إلغاء هذه الصناعة يصبح عسيرا إذا تولت إدارتها الحكومة. ومما يزيد الطين بلة أن الحكومات المركزية - بعدما تسيطر على صناعة التسليح - لا تحب أن تتخلى عنها لأنها وسيلة فعالة للاستبداد. ثم إن الدولة أقوى من كل صاحب مصنع بمفرده، كما أن العمال المشتغلين بصناعة الأسلحة في مصانع الدولة يمكن تحويلهم بسهولة إلى جيش مدرب تسيطر عليه الحكومة.
وأخيرا يجب ألا نغفل عن المشاكل الدولية التي تترتب على تحويل هذه الصناعة إلى صناعة قومية. إن الدولة التي تصنع الأسلحة تطمع في الربح كما يطمع الأفراد؛ ولذا تراها تبحث عن الدول الضعيفة في هذه الصناعة كي تبيعها أسلحتها. وهي لا تجني من وراء ذلك الربح فحسب، بل إنها تستطيع بذلك أيضا أن تسيطر على سياسة الحكومة المشترية. وهذا من دواعي المنافسة بين الدول الكبرى التي تصنع الأسلحة. وهو لون جديد من ألوان المنافسة، وسبب آخر للنزاع الدولي ولاشتعال الحروب؛ فاستيلاء الدولة على هذه الصناعة إذا معناه استبدال شر بشر. إننا لا نبغي نقل هذه الصناعة من أيدي الأفراد إلى أيدي الحكومات، إنما نبغي محوها محوا تاما. ولا يكون ذلك إلا إذا اقتنعت الأغلبية بضرورة الإلغاء، وسنتحدث فيما يلي عن طريقة إقناع الأغلبية.
ومن خطل الرأي أن نصب اللوم على صناع الأسلحة وحدهم؛ فإننا جميعا لملومون، وكلنا يتجر بالموت؛ لأننا نؤيد الحكومات التي تسير على سياسة إعادة التسليح، ونعضد سياسة البلاد الاقتصادية والدبلوماسية والحربية التي ترمي إلى التوسع الاستعماري. غير أن التبعة التي تقع على عاتق الأقوياء والأغنياء أجسم من التبعة التي تقع على كواهل الضعفاء والفقراء. وتبعة التاجر الذي يستغل ماله في المستعمرات لا تقل عن تبعة الرجل الذي يصنع السلاح؛ لأن التاجر والصانع كلاهما يجد في المستعمرات مرتزقا ومغنما.
وطائفة التجار والصناع كثيرا ما تجر الدول إلى التطاحن لأنها ترى مصلحتها في هذا التطاحن. وهي تستطيع عن طريق الصحافة أن تقنع العامة الجاهلة البريئة. وإنه ليسيء هذه العامة الساذجة أن ترى دولة أجنبية (لمصلحة أغنيائها) تهدد مصالح الأغنياء من أبناء أمتهم! فتقاتل بحماسة شديدة وتريق دماءها في مصلحة الأقلية الغنية. (3) العلاج والسياسة الجديدة
نكتفي بما قدمنا عن طبيعة الحرب وأسبابها، ونبحث الآن في الطرق التي يمكن اتباعها لمنع اشتعال الحروب، وفي طرق إخمادها بعد أن تشتعل، ثم نبحث بعد ذلك في السياسة الجديدة التي يمكن أن تحل محل السياسة القديمة، وفيما يمكن أن يقوم مقام الحرب من الناحية السيكولوجية.
ويجمل بنا أن نذكر الطرق القائمة الآن فعلا لمنع الحروب. وهي طرق برهنت كلها على الفشل، ولا بد أن نستبدل بها غيرها.
من هذه الطرق عصبة الأمم، وقد انتهت بالفشل والخذلان؛ وذلك لأنها لم تؤسس على المبادئ الصحيحة، وساعد على فشل العصبة أن أمريكا رفضت أن تنضم إليها، كما أن الروسيا والدول المعادية أبعدت عنها عدة سنوات. ولكن العصبة - حتى إن ضمت إليها أمريكا وألمانيا والروسيا - لن تنجح في تحقيق الغرض منها، لأسباب أخرى. إن العصبة تسمح بعضوية الجماعة التي تمتلك جيشا، مهما تكن هذه الجماعة قليلة العدد، في حين أن الجماعة التي ليس لها جيش لا يكون لها حق العضوية في العصبة، مهما تكن كبيرة. إن العصبة تعرف الأمة عمليا ونظريا «بأنها مجتمع منظم للحرب». والواقع أن هذا التعريف ينطبق على كل أعضاء العصبة. أما أي تعريف آخر يبنى على أساس العنصر أو اللون أو اللغة أو الثقافة، أو حتى الحدود الجغرافية، فهو تعريف ناقص غير جامع ولا مانع؛ فالعصبة إذا إن هي إلا عصبة من مجتمعات منظمة للحرب.
والروح العسكرية التي تسود العصبة تتبين واضحة في الوسيلة التي تقترحها العصبة لضمان السلام؛ فلقد وضع مؤلفو العصبة عبارة في قانونها تقضي بفرض العقوبات الاقتصادية أولا، ثم العقوبات العسكرية ثانيا ، على كل دولة معتدية؛ فالعقوبات العسكرية هي الحرب بعينها. والعقوبات الاقتصادية إذا كانت صارمة أدت في النهاية كذلك إلى إعلان الحرب من جانب الدولة التي تفرض عليها، فتقابلها الدول الأخرى بالمثل. ويسمي مؤيدو فكرة العقوبات الحرب بأسماء مختلفة؛ فهم يسمونها «سلامة المجموع» أو غير ذلك. ولكنا يجب ألا تخدعنا الألفاظ؛ فإن «سلامة المجموع» معناها تحالف حربي في وجه تحالف حربي آخر، وتسمى دول الحلف الأول بدول العصبة، ودول الحلف الثاني بالدول المعتدية.
ويعتقد أصحاب فكرة العقوبات أن مجرد إظهار القوة العسكرية من جانب أعضاء العصبة يكفي لإرهاب الدول التي تعتزم الاعتداء، فتكف عن عزمها. إنهم يزعمون أن القوة كلما زادت قل احتمال استخدامها؛ ولذا فهم يقولون بإعادة التسليح في سبيل السلام. بيد أن حقائق التاريخ لا تؤيد هذا الزعم؛ فإن التهديد لا يرهب أمة قويت عزيمتها، واليائس لا ينكمش من رؤية القوة الساحقة. وليس هناك ما يحملنا في العصر الحاضر على الفرض بأن القوة المتجمعة ضد الدولة المعتدية ستكون قوة ساحقة، نصرها محقق عند الاحتكاك؛ إذ المنظور أن تكون دول العصبة والدول التي تعاديها طرفين متكافئين من مجموعتين من الدول المتحالفة، بل إن هذين الحلفين قد أخذا الآن فعلا في الظهور؛ ففرنسا والروسيا، وقد تنضم إليهما إنجلترا، سوف تمثل دول العصبة. وإيطاليا وألمانيا واليابان هي المعادية. وستبقي الدول الصغيرة محايدة، أو تنضم إلى الطرف الذي تتوقع له النصر. والخلاصة أن من يستعد للحرب يبدأ سباقا في التسليح، ويؤجج في النهاية سعير الحرب التي كان يستعد لها.
وبناء على نظرية العقوبات تقوم العصبة بالعمل العسكري كي تصل إلى تسوية عادلة بين الخصمين، ولكن الأمل في الوصول إلى تسوية عادلة في نهاية حرب تشنها العصبة أمل واه ضعيف. إنما تنتهي الحروب بالتسوية العادلة حينما يتشبع الظافرون بروح العدل والتسامح وحسن المعاملة. وإذا كانت الحرب شديدة طويلة الأمد، والخسائر التي تسببها فادحة كبيرة، كان الظافر أبعد ما يكون عن العدل والتسامح؛ ففي الحرب الماضية مثلا، اشتدت الحماسة والعداوة إلى حد بات معه من المستحيل من الناحية النفسية أن يرضى المنتصرون بصلح إنساني عادل. وبرغم ولسن وشروطه الأربعة عشر انتهت الحرب بمعاهدة فرساي، وهي المعاهدة التي جعلت من الضروري أن يظهر في ألمانيا رجل مثل هتلر يطالب بالانتقام لما لقيت ألمانيا من ذل وهوان. وإن حربا يشنها أعضاء العصبة المتحالفون كي يفرضوا عقوبة عسكرية على المعتدي لا بد أن تنتهي كما انتهت حرب 1914-1918 بالفتك والدمار، بل لقد تكون أشد فتكا. فهل هناك ما يدعونا إلى افتراض أن دول العصبة المنتصرة ستكون أشد تسامحا من الحلفاء في عام 1918؟ كلا ليس هناك ما يدعونا إلى مثل هذا الفرض. إن أصحاب فكرة العقوبة يعتنقون ذلك الوهم القديم الذي يقول: «إن الحرب تنهي الحرب» أو «القتال أنفى للقتال» وهذا رأي بعيد عن الصواب؛ فالحروب لا تنهيها الحروب، بل إنها كثيرا ما تنتهي بسلم ظالمة تجعل اشتعال حرب انتقامية أمرا لا مفر منه.
ويجدر بنا هنا أن نذكر كلمة عن مشروع «القوة البوليسية الدولية» ويجب أولا أن نشير إلى أن هذه العبارة مضللة إلى حد كبير؛ وذلك لأن عمل البوليس ضد الفرد المجرم يختلف كل الاختلاف عن العمل الذي تقوم به أمة أو جماعة من الأمم ضد أمة مجرمة. البوليس العادي يعمل في دقة بالغة؛ فهو يلقي القبض على المجرم دون سواه. أما الأمم التي تحب أن تتخذ لنفسها سلطة الشرطة على الأمم الأخرى فهي تؤدي عملها باستخدام قواتها المسلحة، وهذه القوات لا تستطيع إلا أن تعمل بغير دقة، فهي تقتل الملايين أو تشوهم أو تفتك بهم جميعا، وأكثر هذ الضحايا أبرياء لم يرتكبوا جرما من الجرائم؛ ولذا فإن المشابهة بين الجيش وقوة البوليس، وبين الحرب ومنع الجرائم مضللة خاطئة. إن قوة البوليس الدولية ليست في حقيقتها قوة بوليسية، وأولئك الذين يطلقون عليها هذا الاسم إنما يخدعون الجماهير. والمرء لا يستطيع أن يفكر تفكيرا سليما إلا إذا سميت الأشياء بأسمائها الصحيحة. وقوة البوليس الدولية - إذا هي أنشئت - لن تكون قوة بوليسية بالمعنى الذي نفهمه من هذه العبارة، بل ستكون قوة للفتك بالناس بغير تمييز، وهذه خطة لا يقرها أحد. وليس من حقنا أن نخدع الشعوب البريئة بأن نطلق على قوة كهذه نفس الاسم الذي نطلقه على القوة التي تدير حركة المرور، وتلقي القبض على اللصوص.
إن هذه القوة الدولية لم تنشأ بعد، ولا يحتمل أن تنشأ، ولكن من حقنا أن نسأل مقترحيها: كيف يمكن تجنيدها؟ وكيف نمدها بالضباط؟ وكيف نسلحها؟ وأين نضعها؟ ومن ذا الذي يقرر متى تستخدم، وضد من تستخدم؟ ولمن يكون ولاؤها، وكيف نضمن إخلاصها؟ هل من المحتمل أن الضباط الملتحقين بهذه القوة يشتركون في غزو بلدهم وهزيمته؟ وهل يحتمل أن يقذف الطيارون أبناء أمتهم بالقنابل؟ وكيف يمكن إقناع جميع الأمم بمساعدة هذه القوة بالرجال والمواد؟ وهل تقدم كل دولة من المعونة مثلما تقدم الأخرى؟ وإذا لم تكن المعونة متساوية، وأمد عدد قليل من الدول الكبرى الجزء الأكبر من هذه القوة، فماذا يمنع هذه الدول من استبدادها بالعالم بأسره؟ ومن هذه الأسئلة يتبين لنا أن المشروع خيالي غير عملي.
ولذا فلا داعي للتفكير فيه، ويجب أن تلغى المادة السادسة عشرة من قانون العصبة؛ لأن محاولة وقف القتال - بعد نشوبه - بفرض العقوبة العسكرية، أو باستخدام جيش دولي وقوة جوية دولية أمر مقضي عليه بالفشل. إن الحرب لا توقفها الحرب، والقتال لا ينفي القتال. إن محاربة الدول المتحاربة إنما يوسع رقعة التخريب، ويضع عقبات جديدة في طريق الوصول إلى تسوية عادلة للنزاع الدولي. وينبغي أن تجعل العصبة من واجبها تركيز جهودها لمنع الحرب من الاشتعال، ولا يكون ذلك بإعلانها الحرب على الأمة المعتدية، إنما يكون بالتسوية السلمية للنزاع الدولي، وبتوسيع نطاق التعاون الدولي في دراسة المشاكل الاجتماعية البارزة ومحاولة حلها، ثم بالتفكير في وسائل منع أسباب النضال. وهذه الوسائل قائمة بالفعل اليوم بصورة نظرية، وإنما تحتاج منا إلى قوة العزيمة وصدق النية كي نجعلها وسائل فعالة ذات أثر.
وليست بنا حاجة إلى الإفاضة في القول في طريقة التسوية السلمية والتعاون الدولي. إن هذه الطريقة قد تكون أداة حسنة حقا ، ولكنها تمسي عديمة النفع إذا رفضها الناس أو أساءوا استخدامها. وكثيرا ما ترفض الدول استخدامها إذا كان في الأمر ما يمس «الشرف القومي» أو «المصالح الحيوية». وتؤثر الدول حينئذ أن تسلك طريق العنف والقتال. وحتى في الأحوال التي تقبل فيها الدول التسوية السلمية وسيلة لحسم النزاع تراها تقدم عليها بنية سيئة تقضي على كل أمل في نجاحها. وقد حدث هذا في الخلاف الذي نشب بين شيلي وبيرو عام 1883، والذي لم ينته بالصلح - رغم كل محاولات التسوية السلمية - إلا عام 1929، وذلك حينما تدخل الرئيس هوفر في الأمر وأمكنه أن ينقع الفريقين. وحدث هذا أيضا في مؤتمر القوات البحرية سنة 1927، ومؤتمر نزع السلاح الذي انعقد بين عامي 1932 و1934؛ حيث لم يمكن الاتفاق بين الدول لأنها لم تقبل على المؤتمرات بنية حسنة. وقد فشلت كذلك مؤتمرات أخرى كثيرة اقتصادية ومالية لسوء نية المؤتمرين، مع أن وسيلة المؤتمرات في حد ذاتها وسيلة حسنة للتفاهم.
وهناك نظام آخر يلائم الدول المتأخرة، وهو نظام الانتداب، ولكن الدول المستعمرة لا تحب أن تتنازل عن مستعمراتها لتنفيذ هذا النظام، كما أن الدول المنتدبة كثيرا ما تحول الانتداب إلى استعمار. وثمة مثال آخر لسوء نية الدول، وذلك حينما وضعت عصبة الأمم مشروعا لضمان حقوق الأقليات، فرفضت الدول ذات الأقليات المشروع، وأصرت على ظلم الأقليات.
ومما تقدم يتبين أن العصبة لا يمكن أن تعمل على نشر السلام؛ لأنها بتعريفها وفي حقيقتها عصبة من أمم متأهبة للقتال؛ ولذا فلا يمكن تحويل الأمم الحربية الحاضرة إلى أمم ترغب في السلام وتعمل على تحقيقه إلا بجهد الأفراد المستقلين الذين يعملون وحدهم أو في جماعات. وهؤلاء عملهم شاق عليهم عسير، وسأتحدث عنه في الفصل المقبل. أما ما بقي من هذا الفصل فسأعود فيه إلى ذكر أسباب الحرب السيكولوجية التي تحدثت عنها فيما سلف، ثم أبين كيف يمكن لنا أن نعالج هذه الأسباب: (أ)
وأول هذه الأسباب أن الكثيرين من الناس يرحبون بالحرب لأن أعمالهم وقت السلم مملة مذلة، تافهة لا معنى لها. فلو أنا طبقنا مبدأ الحكم الذاتي في الصناعة وميادين العمل الأخرى استطعنا بذلك أن ننقذ العمال من إحساسهم بالذلة التي تبعثها ضرورة الطاعة للأوامر التحكمية التي يمليها عليهم رؤساء لا يحسون بالتبعة. ثم إن عضوية الفرد في جماعة تعاونية صغيرة تجعل حياة العامل محتملة مقبولة. ويجب - فوق ذلك - لكي نحبب العمل إلى العامل ألا نرغمه على أداء عمل لا يحبه ولا يرضاه. وقد أصر فوريي
Fourier
منذ أمد بعيد على ضرورة تنويع العمل. وقد أخذت بعض المصانع برأيه في السنوات الأخيرة، وجربت نظريته في عدد من مصانع ألمانيا وأمريكا والروسيا وغيرها من الدول، فكانت النتيجة طيبة تبعث على التفاؤل؛ إذ خف الملل وزاد الإنتاج. ويمكننا أن ننوع للعامل عمله تنويعا طفيفا، فينتقل العامل في مصنع السجاير مثلا من عملية لف التبغ في لفافاته إلى حزمه ووزنه. ويمكننا كذلك أن ننوع العمل تنويعا كبيرا، فننقل العامل من الصناعة إلى الزراعة. والآثار النفسية في كلتا الحالتين حسنة طيبة. (ب)
والسبب الثاني السيكولوجي لاشتعال الحرب، أن الناس يشعرون أثناء الأزمات القومية أن للحياة أهمية وهدفا (ومن ثم كان النقص في نسبة الانتحار أثناء الحرب كما ذكرت من قبل). في أوقات الأزمات يكون الغرض الذي نرمي إليه جميعا واضحا جدا، وهو الانتصار القومي، وتكون الواجبات بسيطة ومحددة. وينتهي ذلك الغموض في المثل العليا، وتلك القلقلة في الأغراض التي تسود أيام السلم، وتحل محلها أثناء القتل مثل عليا محدودة معروفة، وهي: النصر بأي ثمن. كما أن الحياة الاجتماعية المعقدة في زمن السلم تقف عند حد أو تحل محلها حياة اجتماعية بسيطة جذابة تنشأ عن قتال الجماعة من أجل البقاء؛ ذلك أن الخطر يزيد من الإحساس بالتماسك الاجتماعي، ويلهب فينا الحماسة الوطنية، فيصبح للحياة مغزى ومعنى، ويحيا المرء حياته وقلبه مفعم بالعاطفة القوية الحارة.
قلت إن الحياة الحديثة في زمن السلم ليس لها أهمية ولا غرض. ويرجع ذلك إلى أن النظام الذي يسود العالم الغربي على الأقل في هذه الأيام نظام يسميه مستر جرلد هيرد
Mr. Gerald Heard
نظام العلم الحديث الآلي
mechanomorphic ، وهو نظام يشبه الكون بآلة كبرى تسير بنا نحو الموت والفناء، مما يجعلنا لا نقيم وزنا إلا للحياة المادية، ونعتبر العقل دون الجسم في الأهمية. في هذا النظام ينظر المرء إلى النجاح الشخصي والرفاهية الحسية وسد حاجات البدن كأنها الأغراض التي ينبغي لأجلها أن يعيش. ولكنا بدأنا نمل هذا النظام، فباتت الحياة من جديد خلوا من المعنى والغرض، ولجأنا إلى وسائل مصطنعة مفتعلة نملأ بها فراغ نفوسنا، كقراءة الصحف، والاسترسال في الأحلام أثناء عرض الشرط السينماتوغرافية، والاستماع إلى الموسيقى والأحاديث تذاع بالراديو، والاشتراك في الألعاب أو مشاهدتها، وغير ذلك من أنواع التسلية الأخرى بجميع ضروبها. ويحاول بعض الزعماء أن يردوا للحياة معناها ومغزاها، ويقدمون لنا المبادئ المختلفة لهذا الغرض فنرحب بها ونصفق لها، ولكنها مبادئ خطرة على السلام العالمي، ومن أمثلتها القومية والاشتراكية؛ فقد كانت القومية هي الباعث المباشر لنشوب الحرب العظمى التي رحبت بها الجماهير؛ لأنها كانت لا ترى لحياتها معنى ولا معزى. وقد فرجت الحرب أول نشوبها عن النفوس قليلا، ولكن سرعان ما تبددت الأوهام، وعاد إلى الناس سأمهم وتشاؤمهم، وعاد إليهم الشعور بأن الحياة لا ترمي إلى غرض. وهذا الشعور أشبه ما يكون بفجوة شاغرة تتطلب الامتلاء بأنواع التسلية المختلفة التي تصرف الذهن عن هموم الحياة، وليست ضروب التسلية هذه في حد ذاتها غرضا للحياة ولا هدفا لها، ولا يمكن أن يمتلئ بها فراغ النفس. فوجدت مبادئ الاشتراكية والقومية نفوسا مستعدة للإيمان بها، لعلها تلتمس فيها شيئا من الطمأنينة، واعتنق الملايين من الشبان هذه العقائد الجديدة، وأحسوا للحياة بمعنى ولوجودهم بالغرض، فبعثهم ذلك إلى التضحية بالنفس وإلى تحمل المشاق وإظهار الشجاعة والتقشف في سبيل بث هذه العقائد المقدسة. ولكن هذه الفضائل التي تحلى بها الشبان تعد كلها ثانوية، وظلت تنقصهم الفضائل الأولية الضرورية لنشر لواء السلام فوق العالم، وأهمها المحبة والمعرفة الصحيحة. أما الوطنية والاشتراكية فهما من العقائد التي تغرس في النفوس الكبرياء والبغضاء والقسوة، وتضيق دائرة التفكير والتعاطف.
فالاشتراكية والقومية إذا ليستا بالعلاج الناجع لخلو الحياة من المعنى والغرض؛ لأنه علاج يؤدي إلى الحرب، وإنما العلاج الصحيح للداء الذي يشكوه العالم هو أن ننشر بين الناس عقائد جديدة تحل محل العقيدة في النظام الآلي
Mechanomorphic
السائد، أو الفلسفة التي تنطوي عليها القومية والاشتراكية.
هذه العقائد الجديدة ونتائجها الخلقية سوف نبحثها بالتفصيل في فصل آت. أما في الفصل التالي فسوف نبحث في الدور الذي يستطيع الأفراد المستقلون أن يلعبوه في ترقية المجتمع.
الفصل العاشر
عمل الأفراد في الإصلاح
رأينا من قبل أن الطريقة الفعالة الوحيدة لتنفيذ الإصلاح الاجتماعي الشامل هي طريقة اللين وعدم العنف؛ لأن العنف لا يؤدي إلا إلى نتائجه، ومحاولة فرض الإصلاح بالوسائل العنيفة مقضي عليها - ولا محالة - بالفشل الذريع. ولا تنجح وسائل العنف إلا إذا أعقبتها الأعمال التي ترمي إلى نشر العدالة بين الناس؛ فالحكمة إذا تقضي علينا باستخدام الوسائل اللينة كي لا يفشل الإصلاح الذي ننشده.
ولا تنجح وسائل اللين إلا إن كان أكثر الناس مؤيدا للإصلاح غير معارض له. أما إن كانت الأغلبية لا توافق على الإصلاح المقصود، أو إن وقفت منه موقف الحياد، فإن كل محاولة لفرضه لا بد أن تبوء بالفشل. وقد حاول بعض الملوك في التاريخ القديم أن يصلحوا رعيتهم في نواح مختلفة، ولكن الرعية كانت جامدة لا تريد الإصلاح، ففشلوا فيما حاولوا. ومن هؤلاء الملوك أخناتون الذي أراد أن يفرض على شعبه إصلاحا دينيا، فثار الشعب في وجهه.
أما في البلاد الانتخابية التي يحكمها رجال اعتلوا مناصب الحكم برضى الشعب، فإن الحكومة قلما تحاول إدخال إصلاح طريف لا يقبله الجمهور. في مثل هذه البلاد تسير حركة الإصلاح في محيط الدائرة إلى مركزها، أي إن الأفراد المستقلين أو الجماعات تصوغ فكرة الإصلاح، ثم تذيعها بين الناس، وبعدما يسيغها الجمهور يأخذ بها رجال الحكم ويدخلونها في تشريع المجتمع.
وقد رأينا أن الحرب في العالم الحديث هي العقبة الكئود أمام كل إصلاح منشود؛ ولذا فالإصلاح الأساسي الذي لا بد منه هو إصلاح في السياسة الحاضرة للأمم من حيث علاقة إحداها بالأخرى. إن جميع الأمم في العصر الحاضر تسير سياستها الخارجية على المبادئ الحربية، إما في ضجيج أو في هدوء. ولا تستثنى من ذلك الدول التي تسمي نفسها ديمقراطية أو مسالمة؛ ولذا فليس من المحتمل أن يتم أي إصلاح في هذا السبيل على أيدي أصحاب النفوذ السياسي في هذه الأيام، ومن ثم ترى أن حركة الإصلاح ينبغي أن تبدأ من الأفراد المستقلين. ومن واجب هذه الفئة من الناس أن تقنع الأكثرية بأن سياسة السلم خير من سياسة الحرب، فإن نجحت هذه الفئة في مهمتها أمكن تغيير تلك السياسة الحربية القومية التي تجعل نشوب حرب أخرى أمرا قريب الاحتمال، والتي تقف عقبة في سبيل كل إصلاح.
ولرب معترض يقول إن أكثر الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم يحبون السلام؛ ولذا فليس ثمة حاجة بالأفراد المستقلين إلى القيام بدعاية في سبيل السلام. وردا على هذا الزعم أقول: «إن جميع الناس يرغبون في السلام، ولكن قل منهم من يرغب في وسائله.» أجل إن أكثر الناخبين في مختلف البلاد يحبون السلام، ولكن قل منهم من يحب أن يدفع ثمن السلام، وثمنه في هذه الأيام نزع السلاح من جانب أمة واحدة دون الأمم الأخرى إن اقتضت الضرورة ذلك، والتنازل عن الإمبراطوريات العريضة والتخلي عن سياسة القومية الاقتصادية، والعزم في كل الظروف على استخدام وسائل اللين وعدم العنف، والتدريب المنظم على هذه الوسائل، فكم ممن يزعمون أنهم من محبي السلام في العالم يقبلون هذه الشروط التي لا محيص عنها إن كنا نريد للعالم سلاما ووفاقا؟ إنهم نفر قليل؛ ومن ثم كان من واجب الأفراد المستقلين أن يقنعوا مواطنيهم بأن الوسائل التي تؤدي إلى السلام ليست مرغوبة لما تؤدي إليه من غايات طيبة فحسب، وإنما هي كذلك مرغوبة في حد ذاتها لأنها تدريب للناس على «التحرر» من القيود.
ويستطيع الفرد أن يعمل وحده أو منضما إلى غيره ممن يشاطره الرأي والعقيدة، وليس عمل الفرد الواحد إلا مقدمة لعمل الأفراد متعاونين. ويستطيع المصلح الفرد أن يأتي بنظرية جديدة، أو أن يوضح عقيدة قديمة. يستطيع أن ينشر الدعاية لرأي طريف من بنات أفكاره، أو لرأي نادى به غيره من قبل. وهو يستطيع ذلك إما عن طريق الكتابة أو الخطابة. ولكني أقول ثانية إن عمل الفرد تمهيدي لعمل الأفراد متعاونين. وعلى الجماعة المتعاونة أن تطبق على نفسها - وعلى غيرها إن استطاعت - النظريات الصحيحة لترقية الفرد والمجموع، عليهم أن يكونوا نماذج حية للإنسان الكامل الذي يصوره لنا الأنبياء والمصلحون.
وقد نشأت أمثال هذه الجماعات المتعاونة في كل عصر وكل بلد، وحاولت أن تشق لنفسها في الحياة طريقا أرقى من الطرق التي يسلكها معاصروهم. وقد لعبت هذه الجماعات في التاريخ دورا هاما، ولها في حفظ المدنية فضل كبير. وستلعب - فيما أعتقد - مثل هذا الدور في المستقبل. ولننظر الآن بإيجاز في الدروس التي نستمدها من تاريخها.
إن أول شرط لنجاح هذه الجماعة أن يعتنق أفرادها جميعا فلسفة واحدة للحياة، وأن تصح منهم العزائم على المساهمة في العمل الذي تأسست من أجله الجماعة. وقد تحقق هذا الشرط في مناسبات عديدة وفي فترات طويلة من تاريخ الرهبانية المسيحية والبوذية، ولكنه لم يتحقق في كثير من الجماعات السياسية والدينية التي تأسست في أمريكا في القرن التاسع عشر.
والشرط الثاني للنجاح هو أن تؤسس هذه الجماعات لأغراض نبيلة. وإن الفرد ليستعذب التضحية والآلام في سبيل الغرض النبيل؛ فالرجل النازي أو الاشتراكي قد يلاقي الموت راغبا في سبيل المبدأ الذي يؤمن بصحته.
وأعضاء هذه الجماعات لا يخشون الفقر، وإن كانوا كثيرا ما يحصلون على منح مالية كبيرة من الجمهور، فيكونون الثروات الطائلة؛ وذلك لأن الجمهور يعجب بهذه الجماعات ويخشى بأسها في آن واحد. غير أن هذه المنح والعطايا كثيرا ما تؤدي إلى فساد الجماعة؛ لأن الثراء والتحرر النفسي نقيضان لا يتفقان. ثم تظهر طوائف جديدة مغامرة تبدأ العمل من جديد بقليل من المال وكثير من الحماسة، وتنهال عليها العطايا فتفسد، ثم تظهر غيرها، وهكذا؛ فالواقع الذي يؤيده التاريخ أن أمثال هذه الجماعات لا تنقرض البتة من وجه الأرض.
ويلاحظ أن الجماعات الهامة كلها تحمل أعضاءها تبعات مشتركة؛ فهي تعلمهم الاستقلال الشخصي، ويحتم نظامها الاقتصادي أن يتخلى العضو عن ملكه الخاص ليساهم في ملك المجموع. والجماعة أحرص ما تكون على عدم تضخم ثروتها، حتى لا تصبح المادة غرضا من أغراضها، كما أنها لا تحب أن تتضاءل ثروتها إلى الحد الذي يحتم على الأعضاء أن ينفقوا نشاطهم في كسب قوت الغد.
ثم نأتي بعد ذلك إلى مشكلة تنظيم الجماعة. دل التاريخ على أن الجماعة قد تنجح تحت نظم مختلفة بعضها عن بعض كل الاختلاف؛ فقد نجحت جماعة ليولا
Loyola
في ظل نظام عسكري. وخطاب ليولا في وجوب الطاعة مشهور معروف. وقد كانت جماعته مؤسسة على نظام الطاعة العمياء للزعيم. وبين النظام العسكري الذي فرضه ليولا وديمقراطية «جماعة الأصحاب»
Quaker Cmmittee
بون شاسع، وقد نجح النظامان لأن كلا منهما نشأ في ظروف خاصة.
وبدراسة خصائص الجماعات التي سلفت في التاريخ نستطيع أن نتبين ما ينبغي أن تكون عليه الجماعات المقبلة، وما ينبغي أن تفعل، ينبغي أن تتألف الجماعة من أفراد أكفاء، متحدين في العقيدة وفي الإخلاص لمثل أعلى مشترك. وينبغي كذلك أن يشترك الأعضاء في الأملاك والإيراد، ولا بد لهم جميعا أن يشتركوا في التبعة. وقد يتنوع تنظيم الجماعة، ولكن النظام الديمقراطي خير النظم جميعا. ومن الخير للجماعات أن تقوم بعمل يدوي بالإضافة إلى الدراسة النظرية والرياضة الروحية.
وسأعالج في الفصول المقبلة المعتقدات الدينية والفلسفية والطرق التي يمكننا أن ندرب بها الإرادة ونضيء ظلام الأذهان. أما الآن فسأتعرض للكلام على العمل الذي يصح لأعضاء الجماعة أن يمارسوه:
إن المجتمع لا يرقى إلا إذا استقر السلام واستتب أولا، ثم تخلى الناس بعد ذلك عن التكالب على المال والنفوذ، وقد تبين أن الحكومات لا تشجع على ذلك، والأفراد لا تعمل عليه؛ فهو إذا من واجب الجماعات. إن الفرد قد يصوغ الحقائق النظرية ويذيعها بين الناس، ومن واجب أفراد الجماعة بعد ذلك أن يعيشوا طبقا لهذه الحقائق، وأن يحولوا النظر إلى العمل، وأن تكون حياتهم صورة مصغرة للمجتمع الراقي الذي يحقق لنا المثل العليا الرفيعة.
والآن فلننظر فيما عسى أن تقوم به الجماعات التي تريد إقرار السلام، وتعمل على إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي جديد لا يكون للمال والنفوذ فيه شأن كبير. الواقع أن السلام وهذا النظام الاقتصادي الاجتماعي مرتبطان أحدهما بالآخر أشد الارتباط. والجماعة التي تحاول أن تجعل من حياتها نموذجا عمليا لمجتمع لا تخلب لبه شهوة النفوذ، توجد في الوقت نفسه نموذجا عمليا لمجتمع يعيش في سلام بعيدا عن أسباب الحروب. ولسهولة البحث فقط سأفصل بين نشاط الجماعات في سبيل السلام ونشاطها في الشئون الاقتصادية والاجتماعية.
أما نشاطها في سبيل السلام فينبغي أن يقوم على أساس اتباع سياسة اللين التي تحدثت عنها في فصل سابق من هذا الكتاب. وفيما يلي خلاصة لنقط الضعف في سياسة العنف:
إننا إذا رددنا العنف بالعنف انتهينا إلى نضال مادي لا ينتهي، وأثرنا في النفوس الكره والخوف والغضب والحقد. وفي حرارة النضال يتلاشى تأنيب الضمير، ولا تجد الرأفة والتسامح والرحمة محلا في القلوب، وينسى الناس كل شيء سوى النصر. وليس النصر تسوية نهائية لأسباب النزاع، إن الحرب لا تنتهي بشيء من التسوية إلا في الأحوال الآتية: (1)
إذا فني المهزوم فناء يكاد يكون تاما، كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية. ولما كانت الحرب الحديثة تنشب عادة بين أمتين كثيفتي السكان، فإن الفناء غير محتمل؛ ولذا فإن الحرب تؤدي إلى غيرها. (2)
إذا كانت القوات المحاربة صغيرة جدا، بحيث يبقى مجموع سكان البلد المعادي سليما لم يصبه أذى، قلوبهم نقية لم تدنسها مرارة النزاع. حينئذ قد ينتهي نصر أحد الفريقين بالتسوية الدائمة. أما اليوم فإن مجموع السكان معرض لخطر القتال، ولم تعد الحرب - كما كانت في الماضي - من شأن الجند وحدهم، ولا يتعرض لأذاها غيرهم. (3)
والنصر قد يؤدي إلى سلم دائمة إذا أقام الظافرون بين المهزومين كأقلية حاكمة تهضمها البلاد المحكومة على مر الزمان. وهذا أيضا لا ينطبق على الحرب الحديثة. (4)
إن النصر قد تعقبه أعمال إصلاحية من جانب الظافرين، وهذه الأعمال تخفف من حدة غضب المهزومين ، وتؤدي إلى تسوية دائمة. وهذه هي السياسة التي اتبعها الإنجليز بعد حرب البوير. ومثل هذه السياسة هي بطبيعتها تطبيق لمبادئ اللين وعدم العنف. وكلما طال أمد الحرب وازداد لهيبها تعسرت الأعمال الإصلاحية بعد النصر؛ فقد كان التسامح مستحيلا من الناحية النفسية بعد معاهدة فرساي؛ ومن ثم يتضح أن مبادئ اللين لا ينبغي أن تطبق بعد الحرب حينما يكون ذلك عسيرا، ولكن قبل أن تشتعل نار النضال، حتى لا تلجأ الأمم إلى النضال.
وتقوم سياسة اللين على فلسفة سأناقشها في فصل مقبل. وبغض النظر عن هذه الفلسفة فإن اللين له قيمة عملية. وكلنا - ولا شك - يدرك فائدته في المعاملات الخاصة. كلنا يعرف أن الغضب يثير الغضب، ولكن حدة الغضب تضعف بالصبر والحلم الشديد. وكلنا يعلم أن المرء يخجل من وضاعته حينما يلقى رجلا كريم الأخلاق، حتى إنه كثيرا ما يتخلى عن وضاعته كي يقابل كرم الأخلاق بما يماثله. وكلنا يعرف أن المرء لا يقسو على الرجل الذي لا يتصف بالأنانية وحب الذات. إن استخدام العنف يصحبه الغضب والبغض والخوف والقسوة والحقد الشديد. أما أولئك الذين يتبعون سياسة اللين فهم يتجملون بضبط النفس والشجاعة، لا يغضبون ولا يحقدون، نياتهم حسنة، وعطفهم على الناس شديد. العنف يجعل الناس أسوأ مما هم، واللين يجعلهم خيرا مما هم.
وينظم مبادئ سياسة اللين في الحياة الاجتماعية العادية قانون «آداب المعاشرة» تنظيما لا بأس به، وإن يكن ما زال ناقصا غير كامل. أما فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية المعقدة التي لا تنحصر في حجرات الاستقبال وفي الطرقات العامة فإن قواعد الدين والأخلاق هي القانون الذي ينظم لها سياسة اللين.
وقد أثبت التاريخ أن قوة اللين تتغلب على الشر وتغلب الغضب والبغضاء. وقد نجحت سياسة اللين في حل مشاكل الجنون والإجرام والتوحش في القرن التاسع عشر. وقد كانت من قبل من المشاكل التي لا تحل. وكانت القسوة على المجانين تؤدي إلى زيادة جنونهم، وكان المجانين في غرب أوروبا حتى عام 1840 يعاملون كأنهم مجرمون ، ولكن الأمر تبدل في منتصف القرن التاسع عشر، وأخذ الأطباء يعاملون المجانين بالعطف والشفقة.
وقصة إصلاح السجون شبيهة بقصة إصلاح مستشفيات المجانين. وقد بحث جون هوارد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حالة السجون في أوروبا فوجد أن سجون أمستردام في هولندا هي خيرها وأحسنها معاملة للمساجين، وأن الجرائم في هولندا - من أجل ذلك - أقل منها في أي بلد آخر. كانت السجون بيوتا للتعذيب تنحط فيها أخلاق السجين البريء، ويصبح فيها المجرم أشد إجراما. ولم تصلح السجون إلا في القرن التاسع عشر. وما تزال هناك بقية من المعارضين للإصلاح، ولكن هؤلاء - في الواقع - يريدون أن يروا غيرهم مجرمين مذنبين، كي تظهر إلى جانبهم فضيلتهم وطهارتهم، وبعضهم - فوق ذلك - يستمد اللذة من آلام الآخرين. ولكن السجون - برغم هؤلاء - قد أصلحت إصلاحا كبيرا. ولم يقف الإصلاح إلا في الدول الدكتاتورية؛ وذلك لأنها لا تقوم على مبدأ التسامح، وإنما تقوم على مبادئ الشدة والقسوة.
وقد اكتشف حكام المستعمرات، وعلماء الإنسان، ما اكتشفه من قبل طبيب الأمراض العقلية، ورؤساء السجون. اكتشفوا أن اللين المنظم المعقول هو السياسة العملية التي تؤدي إلى خير النتائج. واستطاع علماء الإنسان بحسن معاشرة المتوحشين أن يكسبوا صداقتهم، فيعلموا عن طرق تفكيرهم ومشاعرهم الشيء الكثير. وكذلك تعلم المستعمرون من علماء الإنسان أن اللين أجدى من العنف وأنفع.
وكما أن سياسة اللين أجدى الوسائل في علاقة الأفراد بالأفراد، فهي كذلك في علاقة الأهالي بالحكومات. وقبل أن نذكر أمثلة لذلك يجمل بنا أن نعيد النظر بإيجاز في موضوع سبق أن تعرضنا له في فصل سابق، وذلك هو النتائج التي تنجم عن محاولة تنفيذ الإصلاح بالعنف. يدل التاريخ دلالة واضحة على أن الثورة إذا اصطحبت بالعنف الشديد لا تؤدي إلى النتائج التي يرمي إليها مؤججوها، وإنما تؤدي إلى نتائج العنف السيئة المعروفة؛ فالثورة الفرنسية مثلا بعد حكم الإرهاب انتهت بدكتاتورية نابليون العسكرية. كما أن رغبة فرنسا في التوسع الاستعماري انتهت بتقوية الروح القومية في الدول الأوروبية، وبالاستعباد العسكري، والتجنيد الإجباري، والمنافسة الاقتصادية الحادة بين الأمم. وفي الروسيا كان الغرض الأساسي للثائرين أن يتمتع المجتمع بأكبر قسط من الحكم الذاتي في جميع نواحي النشاط. غير أن حكام البلاد لجئوا إلى وسائل العنف التي ورثوها عن النظام القيصري العتيق، فماذا كانت النتيجة؟ إن الروسيا الآن دولة دكتاتورية، الحياة العسكرية والاقتصادية فيها شديدة التركيز، وحكومتها أوليجاركية تستغل وسائل البوليس السري والتجنيد الإجباري والرقابة على المطبوعات والدعاية القوية؛ وذلك لإخضاع الناس والسيطرة عليهم.
ولنذكر بعض الأمثلة لزيادة الإيضاح، ولنبين للناس أن الثورة التي تسلك سبيل اللين وعدم العنف تكون ثورة ناجحة. ولعل أشهر الثورات من هذا القبيل تلك التي نظمها غاندي في جنوب إفريقيا أولا، وفي الهند ثانيا. وقد نجحت حركة جنوب إفريقيا كل النجاح؛ فألغي قانون التمييز بين الهنود والأوروبيين سنة 1914. وكان ذلك الإلغاء نتيجة للمقاومة السلبية وعدم التعاون من جانب السكان الهنود. وكذلك نجح غاندي في الهند إلى حد كبير. وتبين أنه من الممكن لجماعات كبيرة من الرجال والنساء أن يتدربوا على مقابلة المعاملة الوحشية بهدوء النفس وكرم الأخلاق، مما يكون له أثر كبير في نفوس الظالمين. وقد أحرزت هذه الجماعات إعجاب العالم بأسره، ونجح غاندي في تدريب عدد كبير على المقاومة السلبية في زمن وجيز. وقد نجحت في مصر في العهد الحديث حركة المقاومة السلبية وعدم التعاون مع بريطانيا.
من وسائل عدم التعاون الناجحة المقاطعة التجارية التي استخدمها الصينيون ضد البضائع الإنجليزية بعد ما قتل الجنود الإنجليز بعض الطلبة الصينيين، والتي استخدمها في الهند أتباع غاندي.
ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة لفائدة الوسائل اللينة في علاقات الأفراد بالأفراد، وفي العلاقات بين مجموع السكان والحكومات. والآن لننظر في فائدة اللين إذا اتخذ وسيلة للتفاهم بين الحكومات.
من العجيب أن العالم يقر نوعين مختلفين من الأخلاق، نوعا خاصا بعلاقات الأفراد، وآخر خاصا بالأمم والجماعات؛ فالرجل قد تلقاه في حياته الخاصة أمينا رحيما يراعي شعور غيره من الناس، ولكنه يعتقد أن من حقه - حينما يكون ممثلا لجماعة - أن يخرج على هذه القواعد النبيلة. والأمة في خيالنا تتجسد - كما رأينا - في صورة إنسان أعلى من الإنسان العادي في القوة والمجد، ولكنه أحط منه في الأخلاق؛ فلا نتوقع منها إلا أن تسلك السبل الدنيئة. ولما كان الأمر كذلك، فليس لنا أن نعجب إذا ندرت الأمثلة التي تسلك فيها الدول سلوكا مبنيا على سياسة اللين؛ فكلما كان موضوع النزاع هاما أطلقت الأنانية القومية لنفسها العنان، وتعذر الصلح بين الأمم.
لقد تحدثت طويلا عن سياسة اللين حتى بعدت عن الموضوع الرئيسي. ولكني أرى ذلك أمرا لا مندوحة عنه؛ لأن اللين كثيرا ما يعتبر وسيلة غير عملية لتحقيق الأغراض، أو على الأقل وسيلة لا يستطيع استخدامها إلا القادرون من الرجال والنساء؛ ولذا رأيت من الضروري أن أبين أولا أن اللين وسيلة عملية نافعة، وثانيا أنه يمكن للأفراد العاديين أن يستخدموه. بل إن الملوك والسياسيين وممثلي الأمم أنفسهم يستطيعون استخدامهم بصفتهم الرسمية. (ويلاحظ أن هذه الفئة من الرجال قد تكون منحطة خلقيا في ساعات العمل، ولكنها من أرقى الطبقات خلقا في ساعات الفراغ.) إن الجماعات التي ترغب جادة في الإصلاح لا بد لها من التدريب المنظم على السلوك اللين في جميع علاقات الحياة - العلاقات الشخصية، والعلاقات الاقتصادية، وعلاقات الجماعات بالجماعات، أو الجماعات بالحكومات. ومما يكفل لأعضاء الجماعات أن يتحلوا باللين أن ينظم البناء الاجتماعي للمجتمع بحيث لا يستهوي الأفراد حب النفوذ والسلطان. وكذلك يجب أن يدرب الأفراد على كبح الخوف والغضب والبغضاء في نفوسهم. إن العضو في الجماعة كما نريدها يجب أن يقابل العنف باللين والشجاعة والإقدام. وسنعالج وسائل تدريب الأفراد على ذلك في فصل آت.
وعلى الأفراد المدربين واجبان أساسيان. عليهم أولا أن يجعلوا حياة الجماعة في مستوى أعلى من مستوى حياة المجتمع المحيط بها. وبذلك يكون منهم لهذا المجتمع نموذج رفيع من التنظيم الاجتماعي. وعليهم ثانيا «أن يخرجوا إلى العالم» حيث تنفعهم كفايتهم المدربة في تهدئة العنف إذا اشتعلت نيرانه، وفي تنظيم المقاومة السلبية للظلم الداخلي وللاستعداد لشن الحروب.
وهناك جماعات أخذت على عاتقها ألا تشترك في أية حرب مقبلة . ومن هذه الجماعات ما هو قائم اليوم بالفعل، مثل الجماعة الدولية لمقاومة الحرب، واتحاد السلام، ولكن هذه الجماعات لا تزال مفككة، أعضاؤها كثيرون مشتتون؛ بحيث لا يمكن اعتبارها جماعات بالمعنى الذي بيناه. وهي - برغم ذلك - تقوم بخدمات هامة جدا للقضية التي يجاهد من أجلها المصلحون؛ فهم في أحاديثهم الخاصة وفي خطبهم في المجتمعات العامة وفي المقالات التي ينشرونها في الصحف دعاة لمبدأ اللين. وقد انبث بين العامة هذا المبدأ - إلى حد كبير - بتأثير هذه الجماعات. وأخذ الكثيرون يعتقدون أن هناك وسيلة أخرى للكفاح غير الثورة والحرب والعنف وضروب الوحشية المختلفة - وتلك هي المقاومة السلبية.
إن الجماعات التي تقاوم الحرب إذا كان عدد أفرادها معقولا، وإذا كانت عند اشتداد الأزمات متحدة في الرأي متفقة، تستطيع أن تمنع الحكومة من إخراج الجيش إلى القتال. وقد حدث هذا فعلا سنة 1920 حينما أرغم «مجلس العمل» لويد جورج على أن يتراجع عن تهديده السوفيت بالهجوم. ولكن هذه الجماعات لا تزال إلى الوقت الحاضر ضعيفة ليس بوسعها أن تقف في وجه الحكومة إن هي أرادت أن تعلن الحرب، وتبررها بأنها حرب دفاعية، أو حرب لإنقاذ الديمقراطية، أو لمناهضة الفاشستية، أو لحسم النزاع وإنهاء القتال. غير أن هذه الجماعات - برغم هذا كله - تستطيع أن تعرقل عمل الحكومة ولو إلى حد.
ويزعم بعض كبار المفكرين أن أسباب الحرب اقتصادية قبل كل شيء، وأن الحرب - بناء على ذلك - لا غنى عنها إلا إذا نحن أدخلنا على النظام الاقتصادي السائد تعديلا شاملا؛ ولذلك يرى هؤلاء أن سياسة مقاومة الحرب من جانب الأفراد سياسة غير مجدية؛ وهم لذلك يقترحون بدلها الاشتراكية أو إصلاح نظام النقد. ولكن الاشتراكية وإصلاح نظام النقد كليهما لا يكفل لنا امتناع الحروب، بل قد يؤديان إلى تقوية الأمة اقتصاديا إلى حد يثير المخاوف في الأمم الأخرى وينتهي بالنزول إلى ساحة القتال.
ومن ثم ترى أن أولئك الذين يقاومون الحرب، أفرادا وجماعات، عليهم دور هام لا بد من أدائه في المستقبل القريب. وليس معنى هذا أن إصلاح النظام الاقتصادي أو نظام النقد أمر لا ضرورة له، بل هو على النقيض من ذلك من الأمور التي لا غنى عنها، وقد يعاون في النهاية على استتباب السلام. ولكن العاطفة القومية لا تزال قوية في النفوس؛ ومن ثم فإن الإصلاح الاقتصادي والمالي قد يزيد من تحاقد الدول واحتمال وقوع الحرب؛ فمن واجب الفئة التي تقاوم الحرب، أفرادا وجماعات، أن تمنع - إن استطاعت - التعديل الاقتصادي والمالي من أن ينتهي بالنزاع الدولي ثم بالقتال.
ويلاقي المبشرون بسياسة اللين مقاومة شديدة من الحكومات التي ينتمون إليها؛ ولذا فهم مضطرون في كثير من البلدان إلى العمل سرا، ولكن البوليس السري الحكومي المنظم يستطيع في كثير من الأحيان أن يطاردهم. ووسيلتهم الوحيدة بعد هذا هي الدعوة إلى سياسة عدم التعاون مع الحكومة وإلى العصيان المدني. ويدعوهم هذا إلى نشر مبدأ المقاومة السلبية على نطاق واسع؛ لأن العصيان المدني لا يصلح إلا إذا قام به مجموع الأمة. أما الثورات فيمكن في الوقت الحاضر وبالوسائل الحديثة قمعها في الحال. فإن كان الثائرون مسلحين تسليحا قويا انقلب الأمر إلى حرب أهلية كما حدث في إسبانيا. ولا يرجى من الحرب الأهلية خير؛ ولذا فإن سبيل الخلاص الوحيد هو المقاومة السلبية، فهي تستطيع - إن هي نظمت - أن تتغلب على أقوى الدكتاتوريات، لأن الدكتاتورية - أو أية حكومة أخرى - إن لجأت إلى الشد فقدت عطف الجمهور، وهي أشد ما تكون حاجة إليه. غير أن تأليف جماعات المقاومة السلبية عسير في البلدان الدكتاتورية؛ ولذا فلا أمل في تأسيسها إلا في البلدان الديمقراطية التي يباح فيها للأفراد حرية الاجتماع، وحرية الرأي، والاستقلال عن تدخل الدولة إلى حد كبير.
وليست الشرطة وحدها هي وسيلة الحكومات في اضطهاد هذه الجمعيات ومطاردتها؛ فإن الحكومة تستغل الصحافة والإذاعة، وستستغل التلفزيون في المستقبل القريب، وتتخذ منها جميعا وسائل للتأثير في الرأي العام وضمه إلى جانبها.
وإذا فالواجب الأول للجماعات - كما ذكرت - هو إقرار السلام باتباع وسائله فعلا، وببث هذه الوسائل بين الناس. أما الواجب الثاني فهو أن تعالج الجماعة نفسها ، وأن تحاول علاج العالم بأسره بعد ذلك، من التكالب على المال والنفوذ. وعلى هذه الجماعات أن تفكر في الإصلاح الاقتصادي مع مراعاة ضرورة بقاء رءوس الأموال، ووجود الآلات، واستحالة التخلص منها. وليس لهذه الجماعات أن تفر من التفكير في الاقتصاد، كما كانت تفعل قديما؛ إذ كانت تترفع عن التفكير فيه، في حين أنها تعيش على مجهود غيرها وعمله.
ولا يكفي أن يتصف أفراد الجماعة بطيب القلب؛ فالعالم لم يخل من القديسين الذين طابت قلوبهم، ولكنهم عجزوا عن الإصلاح، إما لغبائهم أو لجهلهم. وقل من القديسين من كان عالما أو منظما اجتماعيا، والعالم قد لا يكون مصلحا والمصلح قد لا يكون عالما. وإصلاح العالم يتطلب الجمع بين الطرق العلمية وحسن النية والإخلاص. ولا ينفع أحدهما وحده للسير بالعالم في طريق الخير. وفي الظروف الاقتصادية الحاضرة لا يمكن لجماعات الإصلاح أن تؤدي عملها كاملا إلا إذا تدخلت في شئون الصناعة والزراعة. ويتطلب منها ذلك أن تساهم في رءوس الأموال حتى يكون لها نفوذ كاف، فإذا توفر لها هذا النفوذ كان من واجبها أن تحل لنا كل مشاكل الاجتماع والاقتصاد، ومن أمثلة هذه المشاكل ما يأتي: (1)
على الجماعة أن تبين لنا خير الطرق للجمع بين استقلال العمال وحكمهم أنفسهم حكما ذاتيا وبين الكفاية الفنية - أي أن يتمتع العمال بالحرية ويتحملوا التبعة مع بقاء الإدارة العلمية مركزة في أيدي من يستطيعون القيام بها. (2)
عليها أن تبين لنا خير سبيل لتنويع أعمال الفرد، بحيث نبعد عنه الملل ونزيد من صلته الثقافية بغيره من الأفراد الذي يعملون في جماعات أخرى مستقلة عليها تبعاتها الخاصة. (3)
عليها أن ترسم لنا خير الطرق للتصرف في الثروة التي تنشأ عن إنتاج الآلات (وقد رأينا من قبل أن صورة من الصور الملكية المشتركة للأموال والإيراد شرط ضروري لنجاح الجماعات التي تأتلف على مبدأ من المبادئ). (4)
أن تبين لنا كيف نستغل الثروة الفائضة. (5)
أن تبين لنا كيف نستغل مواهب الأفراد من العمال، وكيف نحدد لكل فرد ما يلائمه من العمل وفقا لطبيعته النفسية (انظر الفصل الخاص بعدم المساواة ). (6)
أن تبين لنا أحسن صورة من صور حياة الجماعة، وخير السبل لاستغلال الفراغ. (7)
ما هي أحسن الطرق لتربية الأطفال، ولقيام الراشدين بإتمام النقص في تربيتهم (انظر الفصل الخاص بالتربية والفصل الخاص بالعادات الدينية). (8)
ما هي أحسن صورة من صور الحكومة التي يشترك فيها الجميع وأحسن طريقة لاستغلال مواهب الزعماء، دون أن تغريهم شهوة النفوذ بإساءة استخدام ما بأيديهم من سلطان (انظر الفصل الخاص بعدم المساواة).
إن الأفراد المخلصين لمبدأ من المبادئ، الأذكياء العقلاء، الذين يعيشون في جماعة واحدة، ويعملون وفقا لخطة مرسومة، يستطيعون في زمن وجيز أن ينشئوا نموذجا عمليا لصورة من صور المجتمع التي نحبها ونرضاها لأنفسنا.
الفصل الحادي عشر
عدم المساواة
إن العالم الذي يقطنه الرجل الفقير يختلف عن العالم الذي يقطنه الرجل الغني. وإذا كان لا بد من التعاون بين جميع أعضاء المجتمع فلا بد لهم أن يتفقوا على الأغراض التي يعملون من أجلها، ولا بد لهم من شيء من المساواة الاقتصادية حتى لا تختلف العوالم التي يعيشون فيها.
إن تحقيق المساواة الاقتصادية التامة بين الجميع أمر ترجح استحالته، وقد لا يكون مرغوبا فيه، ولكن شيئا من المساواة المادية يمكن - بل ولا شك ينبغي - أن يتحقق. وقد اعترفت أكثر الدول، حتى الرأسمالية منها، بمبدأ تحديد الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور. وفي الثلاثين سنة الأخيرة أجمع رجال الاقتصاد على أن هناك حدودا لا ينبغي أن يتخطاها الدخل ورأس المال الشخصي؛ ففي فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة تتناقص الثروة عند كل وفاة بنسبة معينة. وبين الوفاة والوفاة يدفع صاحب المال ضريبة عن ماله تتراوح بين ربع الإيراد وثلاثة أخماسه. والآن بعدما قبل الأغنياء مبدأ تحديد الثروة لم تعد ثمة صعوبة في فرض حد أقصى لا يتجاوزه المالك.
ولكن ماذا ينبغي أن يكون الحد الأقصى لدخل الفرد. قال أحد القضاة الإنجليز في العلاقة بين الدخل والسعادة: إنه لاحظ أن زيادة الإيراد تزيد من السعادة الشخصية، إلى أن يصل الإيراد خمسة آلاف جنيه في العام. أما بعد هذا فإن السعادة تبدأ في الانحدار (ويجب أن نذكر هنا أن المرء لا يستطيع أن يتحرر من قيود العيش إذا قل دخله عن ذلك بمبلغ كبير، وأن الثروة الطائلة - كالفقر المدقع - تصرف الأذهان إلى التفكير في الماديات؛ فالفقير يكابد الجوع والحرمان، والغني يفكر في طرق الاستزادة من المال).
ويمكن النظر في مشكلة الحد الأقصى للأجور من ناحية أخرى. يمكن أن نضع السؤال في هذه الصيغة: كم يحتاج المرء - في الظروف الحاضرة - كي يعيش في أعلى مستوى مادي وعقلي يسمح به استعداده البدني والذهني؟ دل البحث على أن الفرد إذا تغذى غذاء صحيحا، وسكن في مسكن صحي، وتعلم تعليما ملائما، وتوفر له فراغ كاف، وعناية طبية كافية، وقام بالرحلات المفيدة، يحتاج إلى دخل يقدر بستمائة جنيه أو سبعمائة في العام، أو ما يقابل ذلك من الخدمات. وإذا كان الفرد عضوا في أسرة أمكن تخفيض هذا المبلغ دون أن تقل وسائل العيش. ولكن أكثر الناس في الوقت الحاضر لا يبلغ إيرادهم هذا الحد.
وليست درجة المفارقة الاقتصادية واحدة في جميع الأمم؛ فالفروق في إنجلترا أكبر منها في فرنسا، حتى بين طبقات الموظفين. إن كبار موظفي الحكومة الإنجليزية يتقاضون قدر ما يتقاضاه صغار الموظفين أربعين أو خمسين مرة. أما في فرنسا فإن رئيس العمل يتقاضى قدر ما يتقاضاه الكاتب على الآلة الكاتبة عشرين مرة فقط. ومن العجيب أن عدم المساواة الاقتصادية أكبر في الروسيا السوفيتية منه في كثير من الدول الرأسمالية؛ فبينما يتقاضى مدير شركة التعدين في أمريكا قدر ما يتقاضاه عامل المنجم أربعين مرة، يتقاضى مثل هذا المدير في الروسيا قدر ما يتقاضاه أصغر العمال ثمانين مرة.
ويصح لنا - بعد هذا - أن نتساءل: ما مقدار المفارقة الاقتصادية التي ينبغي لنا أن نسمح ببقائها في المجتمع؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال إجابة صحيحة في الظروف الحاضرة؛ ففي المجتمعات الفقيرة التي يتقاضى فيها العمال أجورا متواضعة يكون الفرق بين الفقراء والأغنياء أكبر منه في المجتمعات التي تعلو فيها أجور العمال . ولا بد في كل مجتمع من طبقة من الناس يبلغ إيرادها حدا يمكن أفرادها من تنمية شخصياتهم إلى أقصى ما تستطيع من كمال، وإلا ما تقدم المجتمع.
ولا يختلف الناس في القدرة الاقتصادية وحدها، بل هناك من أنواع الخلاف ما هو أكبر وأشق علاجا، ومن ذلك اختلاف الناس في الاستعداد النفسي؛ فالناس تختلف في المدارك «والأبله لا يرى الشجرة عينها التي يراها الرجل الحكيم». إن دنيا زيد تختلف عن دنيا عمرو كل الاختلاف، حتى إن تساوى الرجلان في الدخل السنوي؛ ذلك أن الطبيعة والتربية والبيئة تباعد بين فرد وآخر كل التباعد. وكثيرا ما يتعسر التقريب بين الأفراد؛ فأنا مثلا لا أستطيع أن أتصور شعور الفرد ينبغ في الشطرنج، أو شعور العالم الرياضي العظيم، أو الموسيقي البارع الذي يفكر في حدود الأنغام. ومن الناس من هو حاد البصر، ومنهم من هو دقيق الشم يميز من الروائح ما لا يميزه غيره. ومنهم من هو حاد السمع يجد في الأصوات فروقا لا تدركها الأذن العادية.
وقد قام العلماء بمحاولات كثيرة لتقسيم الناس أنماطا إنسانية حسب مميزاتهم الجسمانية والسيكولوجية؛ فهناك مثلا تقسيم هبقراط
Hippocrat
على أساس الأمزجة الأربعة، وقد سيطرة هذه النظرية على الطب في أوروبا أكثر من ألفي عام. والمنجمون وقارئو الكف يقسمون الناس خمسة أقسام على أساس النجوم. وما زلنا إلى اليوم نقسم الناس إلى مرح ومكتئب وما إلى ذلك. وقد كتب أرسطو رسالة في الفراسة حاول فيها أن يقسم الأفراد على أساس الصفات المميزة للحيوانات التي يشبهونها. وهذا التقسيم الحيواني للإنسان كان يظهر في علم الفراسة من حين إلى حين خلال العصور التاريخية.
وفي العصر الحديث حاول كثيرون تقسيم الناس على أسس جديدة؛ فمثلا ستكارد
Stockard
في كتابه «الأساس الجثماني للشخصية» يقسم الناس قسمين، ويقسمهم الدكتور وليم شلدن
Dr. William Sheldon
إلى ثلاثة أقسام وهي
Cerebrotonic
و
Viscerotonic
و
Samatotonic
وهو التقسيم الذي أعترف به. وهذه كلها محاولات قد تنتهي إلى علم صحيح؛ فلا ينبغي أن نغض من شأنها.
ومما يجدر ذكره أن في الأمزجة طرزا جديدة، كما أن هناك في الطب والملابس والمعتقدات وجسم المرأة مستحدثات جديدة؛ فكان الناس في القرن الثامن عشر مثلا يعجبون بالمزاج اللمفاوي - مزاج الرجل الحريص بطبعه، المفكر، الذي لا يهتز بسهولة. ثم أفسح فولتير المجال لروسو، وتحول الناس من الإعجاب بالحكمة الباردة إلى الإعجاب بالعاطفة الحارة. وفقد المزاج اللمفاوي نفوذه، وحل محله المزاج الحار - العاطفة القوية والدموع التي لا تجف. وبعد جيل من الزمان أخلى المزاج الحار السبيل لمزاج بيرن - وهو مزيج من حرارة العاطفة والاكتئاب، وخليط عجيب من المتناقضات، هو كالحرارة والرطوبة ممزوجتين بالبرودة والجفاف. ثم قامت محاولة جديدة أيام الحركة الأدبية الإبداعية ترمي إلى إحياء المزاج اللمفاوي. وعقب ذلك المزاج الصفراوي - مزاج الرجل المقحام الجريء في العمل.
ومن الخطأ أن نميز مزاجا على مزاج، إنما ينبغي أن نستغل الأمزجة جميعا؛ فمن حق الفرد أن يكون لمفاويا كما أن من حقه أن يكون بدينا. ولكنا لجهلنا وتعصبنا نحب أن نصوغ جميع الناس في قالب المزاج الحديث، فيصبحون جميعا مكتئبون - مثلا - كما نحبهم أن يكونوا جميعا ذوي قدود رشيقة هيفاء. ويبلغ بنا السخف أحيانا أن نتطلب من الناس مزاجا خاصا لا يتفق وتكوينهم الجثماني.
وكل أنواع التقسيم متفقة على أن الفرد لا ينتمي من جميع نواحيه إلى طراز واحد؛ فكل إنسان مزيج من عدة أمزجة، وقد يغلب عليه مزاج ما ولكنه لا يعدم بعض الصفات المميزة للأمزجة الأخرى، وإذا كان بالفرد ميل شديد نحو مزاج معين كان التفاهم بينه وبين غيره من أفراد الطرز الأخرى شاقا عسيرا.
وأستطيع هنا أن أضرب مثلا توضيحيا من تجربتي الخاصة. إن طبيعتي بوجه عام لمفاوية المزاج؛ ولذا فمن العسير علي أن أفهم عالم أولئك الذين تثور عواطفهم لأتفه الأسباب، وأنا لا أقف من الكتب العاطفية موقف المتعجب، بل موقف المتحير، ولا أعرف لماذا يهتز الناس في هياج شديد إذا أثرتهم إثارة طفيفة. قرأت مثلا ديوان بليك
Blake
فألفيته مفعما بتشبيهات مستمدة من الرعد والبرق والسحاب والعواصف لوصف آرائه ومشاعره العادية، فقلت لا بد أن تكون لهذا الشاعر عقلية خاصة أو مزاج خاص لا أدركه ولا أستطيع أن أبلغ كنهه، ولكني موقن في الوقت نفسه أني لو التقيت ببليك لوجدت بيني وبينه أرضا مشتركة نستطيع أن نقف عليها متفاهمين، ونرتبط فيها بعلاقات إنسانية قوية. لو لاقيته لعاملته بالرأفة والاحترام والتكريم والثقة، ولقابل معاملتي بمثلها. ومن هذا يتبين أننا نستطيع أن نجمع بين الأفراد المختلفين في الطبيعة والمزاج في ميدان الأخلاق العملية. إن الهوة التي تفصل بين الأفراد المختلفين في المزاج وفي المقدرة لا تغرق الشخصية بأسرها، ومن واجب المصلح الكبير أن ينظم بنيان المجتمع بحيث يضيق الفجوة التي تفصل بين الأفراد المختلفين في المزاج فيسهل بين الناس التفاهم. ومن واجب المربين ورجال الدين أن يقنعوا الأفراد أن التفاهم أمر مستحب، وأن يعلموهم حسن النية في المعاملة.
ويتعسر التفاهم بين الأفراد في المجتمعات التي يبلغ فيها عدم المساواة الاقتصادية والتربوية مبلغا كبيرا، وكذلك في المجتمعات التي يسود فيها النظام الدكتاتوري. ويسهل التفاهم في المجتمعات التي يسود فيها نظام الحكم الذاتي، والتي تتحمل فيها التبعات الجماعات دون الحكومات، وحيث تقل الفروق الاقتصادية والتربوية؛ ولذا فإن النظام الإقطاعي والرأسمالي والدكتاتوري مما يعمل على سوء التفاهم بين الأفراد والطبقات؛ ففي ظل هذه النظم تقوى الفروق الطبيعية، وتتولد فروق جديدة مصطنعة. وأكثر البيئات ملاءمة لتحقيق المساواة بيئة يملك فيها وسائل الإنتاج أفراد المجتمع جميعا متعاونين، والسلطة فيها لا مركزية، والمجتمع مقسم إلى جماعات صغيرة بينها روابط شديدة، تحكم كل منها نفسها حكما مستقلا محملا بالتبعات.
إن المساواة في المعاملة - أو بعبارة أخرى تبادل السلوك الحسن - هي النوع الوحيد من المساواة الذي له وجود حقيقي. ولكن هذا الضرب من المساواة لا يتم ولا يكمل إلا إذا توفرت الفرص للأفراد المختلفين في النزعة النفسية وفي العمل والمهنة ليجتمعوا فترات طويلة بغير كلفة. ومن واجب المصلح الاجتماعي أن ينظم بناء المجتمع بحيث يمكن للأفراد حرية الاتصال ويهيئ لهم فرصته. وتحويل الجماعة من النظام الاستبدادي إلى نظام التعاون يتطلب منا أن نحطم الحواجز التي تفصل طبقة عن أخرى ، والتي تجعل من العسير على الأفراد في الوقت الحاضر أن يجتمعوا كما يشاءون. وهناك طرق متنوعة لإيجاد الصلة بين الأفراد، وقد رسم
Dr. A. E. Morgan
خطة تعليمية لكلية أنطاكية في أوهيو لهذا الغرض. وسأشرح هذه الخطة في الفصل الذي سأخصصه لنظام التربية. ويمكن تطبيق خطة مورجان على المجتمع والاستفادة منها في دائرة أوسع من المدرسة.
إن الفرصة لا تتهيأ للفرد لكي ينشئ بينه وبين غيره من الناس صلات طيبة خلال فترة التربية وحدها. وإنما نحن نستطيع ذلك أيضا إذا مكنا للفرد أن يتنقل في حياته العملية من وظيفة إلى وظيفة؛ فيتعرف إلى زملاء جدد كما يكتسب خبرة جديدة، ويقلل ملله من العمل الرتيب الذي لا يتنوع ومن الجو المحيط الذي لا يتغير (وقد رأينا من قبل أن الملل أحد أسباب الحروب وأن أي تعديل - سواء في بناء المجتمع أو في بناء شخصية الفرد - يعمل على تخفيف الملل، يعمل كذلك على تخفيف خطر نشوب القتال).
وهناك سبل أخرى غير هذه لتعزيز الروابط بين الأفراد مما يؤدي إلى تدريب الرجال والنساء على تحمل التبعات وعلى التعاون المشترك.
ويلاحظ أن الأفراد المتفقين في المزاج يستطيعون تبادل التفاهم بينهم حتى إن كانوا يحملون لبعضهم بعضا حقدا في النفوس دفينا. ولكن الأفراد المختلفين في المزاج لا يستطيعون التفاهم إلا إن تبادلوا حسن المعاملة. ويلاحظ كذلك أن أرباب المهنة الواحدة يستطيعون التفاهم فيما بينهم، وما أيسر أن يصادق الرياضي أو الموسيقي زميله في العمل. وما أيسر أن ينضم الشواذ بعضهم إلى بعض فإنما الطيور على أشكالها تقع. يجب أن ينظم المجتمع بحيث يهيئ الفرص للناس الذين يختلفون مهمة ومزاجا للاجتماع والتعاون، وهذا - بطبيعة الحال - لا يمنع الأفراد الذين ينتمون إلى لون واحد من ألوان المزاج أن يكونوا جماعاتهم الخاصة بهم. ويستطيع الإنسان أن يكون عضوا في جماعات متعددة في آن واحد؛ فالفرد قد يكون عضوا في أسرة، وفردا في جماعة من الأصدقاء، وعضوا في جماعة فنية أو رياضية أو دينية أو علمية.
ومن المعروف أن الأفراد يختلفون قدرة وذكاء ومزاجا؛ فواجب المجتمع أن يحدد للفرد العمل الذي يلائم مواهبه، وأن يمنع الزعيم الموهوب من استغلال موهبته استغلالا غير مشروع. وقد بين دبريل في كتابه «لكل فرصته» أنه عندما تشتغل الجماعات الصغيرة بعمل معين يتحملون فيه التبعة متعاونين، ويتناولون فيه جزاءهم جماعة لا أفرادا، لا يكون اختيار الزعيم أو تعيين عمل معين لكل فرد من الأمور العسيرة الشاقة. إن كل إنسان - بطبيعته - حكم نافذ البصيرة، يستطيع أن يحكم على المقدرة المهنية والخلقية لزملائه في العمل؛ ولذا ففي الحياة العملية يمكن للأفراد المتعاونين دائما أن ينتخبوا لزعامتهم خيارهم، دون أن يستغل الزعيم نفوذه في غير مصلحة الآخرين. وهذا لا يمكن أن يتم في ظل النظام الدكتاتوري (ويلاحظ أن الهيئات الصناعية دكتاتورية حتى في البلدان الديمقراطية) وذلك لأن الزعيم الدكتاتوري مشبع بروح الانتقام ممن دونه كي يعوض الإساءة التي لحقت به ممن فوقه في تاريخ حياته الباكر؛ فإن الجماعات الإنسانية تشبه جماعات الدجاج في نظامها، تنقر الدجاجة «أ» الدجاجة «ب» فتنقر «ب» الدجاجة «ج» وتنقر «ج» الدجاجة «د» وهكذا. وكذلك الحال في المجتمعات الإنسانية؛ لأن الرئيس المستبد إنما يفعل ذلك لأن غيره استبد به من قبل. إن كبار الدكتاتوريين يولدون صغارهم، كما تولد العقارب العقارب والحية الحية. غير أن الجماعة المتعاونة التي تتمتع بالحكم الذاتي محصنة من وباء الاستبداد.
إن الزعامة السيئة ممقوتة في المجتمعات الصغيرة، بله المجتمعات الكبيرة؛ لأنها حينئذ تأتي بشر الكوارث. وقد يرتفع إلى عرش السلطان والنفوذ أفراد معتوهون بالحق الوراثي، أو لأن لديهم صفات خاصة تعاونهم على التسلط على الناس، أو لأن مصالح بعض الهيئات في المجتمع تتطلب هذا الزعيم الأبله. وكثيرا ما ترى صاحب المال أو مدير المصنع رجلا شاذ الخلق سيئ السلوك.
وأرى من واجب الجماعة أن تختبر الرجل قبل أن توليه شأنها؛ إذ ليس من المعقول أن تتطلب في الخادم والملاح والكاتب الصغير خلقا خاصا ولا تتطلب مثل ذلك من الرجل الذي تملكه زمام أمرك. ونحن في أكثر الوظائف اليوم لا نقبل الرجل إلا إن توفرت لديه مؤهلات علمية خاصة وكان صحيح البدن، حسن السير والسلوك. ثم إن الموظف بعد هذا كله يتخلى عن العمل عندما تتقدم به السن؛ فلا أقل من أن نفعل ذلك عند اختيار رجال السياسة، وبذلك نتخلص من حكم الأغبياء، الذين يعملون لأنفسهم قبل أن يعملوا لغيرهم، ومن حكم المسنين الجامدين غير القادرين، ومن حكم الخائنين ومن إليهم، مما يؤدي إلى فساد المجتمع.
بيد أن عملية الانتقاء قد تخلصنا من تسلط البلهاء، ولكنها لا تخلص الزعيم من الطموح والطمع. إن الزعامة لن تكون رشيدة حتى ننشئ المعاهد لتخريج مديري الأعمال الأكفاء، والسياسيين ورجال الحكم والإدارة.
ومما تقدم يتبين أن الاختبارات والعضوية في جماعة مهنية تعيننا كثيرا على رفع مستوى الزعامة السياسية والاقتصادية، وعلى إيقاف أطماع الرؤساء عند حد. وإذا فلنحافظ على نظام الامتحانات ونظام الهيئات المهنية، بل لنتوسع في تطبيق هذين النظامين. بذلك نتخلص من كثير من الأخطار الاجتماعية التي تنجم عن عدم المساواة الطبيعية بين الأفراد.
الفصل الثاني عشر
التربية
إن رجال التربية الفنيين وعلماء النفس يميلون إلى المبالغة في أثر التدريب في زمن الطفولة، وفي أثر الحوادث التي تمر بالإنسان في باكورة الحياة. ويعزو فرويد كل متاعب الفرد العقلية إلى تجاربه في الصغر. وكان الجزويت يفخرون بأنهم يستطيعون - إذا تولوا أمر الطفل في سن باكرة - أن يخلقوا منه الرجل الذي يريدون. ولكن الجزويت - برغم هذا الزعم - قد تخرج على أيديهم رجال خارجون على الدين ورجال ثائرون، كما تخرج على أيديهم رجال يتبعون أصول الدين. وقد بدأ الكثيرون من علماء النفس يتخلون عن زعمهم بأن جميع الأمراض العصبية ترجع إلى التجارب القاسية التي مرت بالمريض في حداثة العمر، حتى إن يونج يقول: «إن العلاج بالتحليل النفسي كثيرا ما يكون ضارا بالمريض؛ لأنه يضطر إلى أن يبحث في زوايا ذاكرته لمدة تزيد أحيانا على العامين عن حادث وقع له في عهد الطفولة، في حين أن هناك أمورا قريبة العهد ومن الأهمية بمكان لها أثر كبير ولا تنال منه التفاتا.» والواقع أن الإنسان لا يتأثر بماضيه فحسب، إنما يتأثر كذلك بحاضره، وبما يتوقع لمستقبله. إن تجارب الطفولة لا توجه سلوك الرجل الراشد كل التوجيه. وسلوك المرء يمكن - إلى حد ما - أن يعاد تشكيله بتأثير ظروف الحياة في عهد المراهقة والبلوغ. والإنسان حر في إرادته إلى حد ما، ويستطيع أن يعدل من سلوكه باختياره إن أراد، وإن اهتدى إلى الطريق الصحيح. وهذا التعديل قد يكون إلى الخير، كما قد يكون إلى الشر. ونحن كثيرا ما نصب الأطفال في قوالب طيبة وهم في مدارس الحضانة، فإذا ما خرجوا منها إلى المدارس المتقدمة أعيد تشكيلهم في قوالب خبيثة مرذوله. ونلاحظ - برغم الجزويت وفرويد - أن سوء التربية في عهد المراهقة يلغي أثر التربية الحسنة في عهد الطفولة. إننا نربي أطفالنا الصغار على الحرية والذكاء وتحمل التبعات والتعاون الاختياري، في حين أننا نربي الكبار من أطفالنا على قبول التقاليد القديمة بغير جدل، وعلى السيادة إن كانوا من أبناء الطبقة العليا، أو الخضوع إن كانوا من أبناء الطبقة الدنيا. ومن ثم كان نجاح مدارس الحضانة، وفشل المدارس الابتدائية والثانوية،
1
وتدل هذه الحقيقة على أن الغرض من التربية في بلدان غرب أوروبا الديمقراطية غير ثابت أو محدود. إننا نحب أن نحتفظ بالتقاليد القديمة كما نحب أن ندعم أركان الحرية والديمقراطية. ومن أجل هذا ترانا ندرب أطفالنا الصغار على الحرية والحكم الذاتي، ثم يتولانا شيء من الخوف، ونذكر أن مجتمعنا لا يزال يقوم على أساس التسلط والخضوع إلى حد كبير، فنكرس نشاطنا لتعليم كبار الأطفال على أن يكونوا حكاما متسلطين أو محكومين خاضعين. وينبغي أن نلاحظ أن بعض مدارسنا «الحديثة» تغالي في إعطاء الحرية للأطفال، ولكنا يجب ألا ننسى أن الأطفال يحبون أن يشعروا بالحماية، وأن يستندوا إلى قوانين خلقية معروفة؛ ولذا فإن تدريبنا إياهم على الاستقلال والتعاون وتحمل التبعات يجب أن يكون في حدود قواعد الآداب المرسومة إلى حد كبير. يجب أن نتحاشى المبالغة في الناحيتين: المبالغة في منح الحرية مع المسئولية، والمبالغة في التقيد بالقديم، وبخاصة ما كان منه خاطئا؛ لأن التقاليد القديمة قد تكون صالحة في وقت من الأوقات، وغير صالحة في أوقات أخرى، والأطفال قد يطمئنون إلى النظام العسكري، وقد يطمئنون إلى الحرية، ولكن نتيجة التربية لا تظهر إلا في عهد الرجولة.
ويجمل بنا أن نقف هنا متسائلين: هل لو واصلنا نظام التربية في مدارس الحضانة (التربية المؤهلة للحكم الذاتي والتعاون وتحمل التبعات) إلى عهد المراهقة، نستطيع - في الظروف الحاضرة - أن ننجح في ترقية المجتمع والأفراد؟ إننا لا نظن ذلك. ولو أننا أخذنا المراهقين الناشئين على الحكم الذاتي والتعاون وقذفنا بهم في مجتمع قائم على نظام الاستبداد والمنافسة وعبادة النجاح مهما تكن وسائله، لتلاشت تربيتهم المدرسية، واستجابوا للحياة العملية، وحاولوا أن يلائموا بين أنفسهم وبين ظروف الحياة؛ ذلك لأن الحياة متشعبة النواحي. وإصلاح التربية إصلاح لجانب واحد من جوانب الحياة؛ فلا يكفي أن نعدل نظام التربية، ثم نبقي على نظام الحكم والاقتصاد بغير مساس. إننا بذلك لن نبلغ المرمى ولن نصيب الهدف.
فالتربية إذا ليست علاجا ناجعا لجميع العيوب الاجتماعية كما قد يحسب المتحمسون لها، إنها لا تأتي بثمرة طيبة إلا إذا نبتت في ظروف طيبة من نواحي الحياة الأخرى. إنها لا تأتي بثمرة طيبة إلا إذا كانت عقائد الناس صحيحة ومشاعرهم طيبة. وعكس ذلك صحيح: أي إن المعتقدات والمشاعر لن تطيب إلا إن كان هناك نظام صحيح للتربية.
وقد حان الوقت الذي ينبغي أن نسأل فيه أنفسنا هذا السؤال: ما هي التربية الصحيحة؟
في الأشهر الأولى والسنوات الأولى من حياة الطفل تكون التربية بدنية أكثر من أي شيء آخر، ويقوم البيت مقام المدرسة. وللتربية المنزلية الأولى كذلك أثر كبير في الحياة العاطفية. أما التربية الخلقية والعقلية فلا تأتي إلا في سن الطفولة المتأخرة. ولا يمكن الفصل بين التربية الخلقية والعقلية، ولكنا سنضطر إلى ذلك اضطرارا لتسهيل البحث وزيادة الإيضاح، ولنبدأ بهذا السؤال: ما هي التربية الخلقية الصحيحة؟ لنذكر دائما أن الهدف الذي ترمي إليه هو تنشئة الناس على حب الحرية والعدل والسلام. فما السبيل إلى ذلك؟ قال برتراند رسل في كتابه الحديث «أين السبيل إلى السلام» ما يأتي: «لقد ارتقت المدارس كثيرا في القرن الحاضر وبخاصة في البلدان الديمقراطية. أما في الدول التي قامت فيها الدكتاتورية العسكرية - بما فيها الروسيا - فقد تأخرت كثيرا في السنوات العشر الأخيرة، وعادت إلى النظام الصارم في التربية، وإلى إخضاع الطلبة لمعلميهم إخضاعا مذلا مشينا. كما أنها اتبعت في التعليم الطرق السلبية دون الإيجابية (أي أن يفرض العلم على الطالب فرضا، ولا يطلب إليه أن يبذل جهدا في تحصيله). ويرمي أولو الأمر من وراء ذلك إلى خلق العقلية العسكرية التي لا تعرف غير السيطرة أو الخضوع، والتوحش أو الجبن ... فالحكام المستبدون في هذه البلاد يدركون العلاقة بين التربية النظامية في المدارس، وحب القتال في سن الشباب والرجولة.»
وتعرضت الدكتورة منتسوري لنفس الموضوع في كتيب صغير أصدرته حديثا، جاء فيه: «إن الطفل الذي لم يتعلم قط أن يعمل وحده، وأن يوجه أعماله بنفسه، وأن يتحكم في إرادته، يصبح - وهو راشد - سهل الانقياد، معتمدا على غيره في كل الأمور. إن الطفل الذي لا يلقى في المدرسة تشجيعا وإنما يتلقى الإهانة تلو الإهانة، ينشأ على عدم الثقة بنفسه وعلى الخوف الذي يسمى خجلا، والذي يتخذ فيما بعد - في سن الرجولة - صورة الخضوع والجبن. إن الطاعة التي نتطلبها من الطفل في البيت والمدرسة - وهي طاعة لا يبررها عقل ولا عدالة - تجعل منه رجلا يخضع للقوة العمياء بغير جدل. كما أن العقوبة الشائعة في كثير من المدارس التي تقضي بتقريع المذنب علنا أمام قرنائه، تملأ النفس بخوف شديد من الرأي العام، وهو خوف لا يقوم على أساس من العقل، حتى إن كان الرأي العام واضح الظلم والخطأ. وهذه الظروف التي تخلق في النفس عقدة نقص ثابتة تولد روح الإخلاص - بل العبادة - للزعماء.» وكانت تستطيع الدكتورة منتسوري أن تضيف إلى ذلك أن عقدة النقص كثيرا ما تجد منفذا للتعبير عن نفسها في الوحشية والقسوة لتعويض النقص. إن التربية التقليدية تدريب على الحياة في مجتمع عسكري يتسلط فيه الأفراد بعضهم على بعض، مجتمع يخضع فيه الناس خضوعا مذلا لكل من هم أعلى منهم وأرقى، ويقسون على من دونهم قسوة لا هوادة فيها ولا رحمة. والعبد يعوض شعوره بالذلة بتسلطه على من دونه من عبيد.
وفي ضوء هذين الاقتباسين نستطيع أن نفهم بشكل أكثر وضوحا لماذا سار التاريخ في مجراه الذي يسلكه في السنوات الحديثة. إن تقوية الروح العسكرية والقومية، ونشوء الدكتاتورية، وانتشار الحكم الاستبدادي على حساب الحكم الديمقراطي - كل هذه ظواهر كغيرها من حوادث التاريخ لها أسباب متنوعة متداخلة. وأبرز هذه الأسباب - من غير شك - الأسباب الاقتصادية والسياسية، ولكن هناك إلى جانب هذه الأسباب أسبابا أخرى تعليمية وسيكولوجية. وينبغي أن نذكر من بينها خضوع الأطفال في خلال الستين سنة الأخيرة لنظام مدارس الدولة الصارم الاستبدادي. أجل، لقد كان نظام الأسرة جد صارم في عصور مختلفة من التاريخ وبين طبقات معينة من الناس، ولكن نظام التربية لم يكن في عهد من العهود مثلما هو عليه اليوم في البلدان الدكتاتورية خاصة، ومهما يكن نظام الأسرة صارما فلن يبلغ أثره مبلغ ما ينجم عن النظام الذي يخضع مدارس الدولة بأسرها للجد والصرامة. ومما يدل على أن التربية في العصر الحاضر تعمل على تربية الروح العسكرية أن أبناء الأغنياء الذين تطول مدة دراستهم يكونون أشد ميلا إلى الحرب من أبناء الفقراء الذين يقضون في المدارس سنوات معدودات. ويترتب على ذلك أن نشر التعليم بين الطبقات الفقيرة وإطالة مدة الدراسة يؤدي إلى تعزيز الروح الحربية وانهيار الديمقراطية.
وكان رجال التربية السابقون يعتقدون أن تعميم التعليم الأولي والابتدائي والثانوي - إن أمكن - ينهض بمستوى الأمة، ويمهد الأذهان للديمقراطية. غير أن آمالهم لم تتحقق لأن المدارس لم تعلم الأطفال الحرية والحكم الذاتي، بل علمتهم الذلة والخضوع. والغايات الطيبة - كما ذكرت من قبل - لا تتحقق إلا بالوسائل الطيبة. إن الحق أبلج، ولكننا لا نحب أن نسلك طريقه، ومن أجل ذلك تورط العالم في هذه المآزق التي لا يجد اليوم منها مهربا.
وفي البلدان الغربية الديمقراطية نوعان من المدارس: نوع ينشئ الأطفال على الحرية وتحمل التبعات، ونوع ينشئهم على الخضوع والخنوع؛ فمدارس الحضانة من النوع الأول، وأكثر المدارس الأخرى من النوع الثاني. أما الدول الفاشستية فإن جميع المدارس من النوع الثاني. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن البوليس السياسي في ألمانيا أمر بحل جماعة منتسوري عام 1935. وفي سنة 1936 قرر وزير المعارف في عهد موسوليني إيقاف كل الحركات المنتسورية في إيطاليا. وفي عهد لينين أسست التربية الروسية في كل مراحلها على مبادئ شبيهة بمبادئ منتسوري؛ فألغي نظام تقدير معارف الطفل وسلوكه بالدرجات، كما ألغيت العقوبات والامتحانات ونظام توحيد الأزياء. ولكن حكومة ستالين ضربت صفحا عن كل ذلك وعادت إلى نظام التربية العسكرية الذي تسير عليه الدول الفاشستية. وإذا بقي الخطر بإعلان الحرب وشبوبها، فلا شك أن الدول الديمقراطية نفسها سوف تأخذ كذلك بهذا النظام العتيق.
ولسنا بحاجة إلى أن نذكر أن التربية السيئة تفسد عقول ملايين البشر، وتحدد سلوك الراشدين، لا أقول إلى كل حد، وإنما إلى حد كبير. وإذا كانت الظروف الاجتماعية لا تختلف عن النظام السائد في التربية، فإن الثورة على النظم الممقوتة قد تمسي أمرا مستحيلا. وقد أكد ستالين أن الروح العسكرية سوف تسود جميع مناحي الحياة الروسية من جراء النظام التربوي السائد.
وليست الطاعة وحدها هي التي تعلم الأطفال متانة الأخلاق، بل لقد يقوم اللعب مقامها. وأثر اللعب في تربية الخلق الإنجليزي واضح غير منكور، ولكن اللعب - ككل أداة أخرى اخترعها الإنسان - يمكن أن يستخدم في أغراض طيبة أو خبيثة. إننا إذا استخدمنا اللعب استخداما حسنا أمكننا أن نستغله في تعليم الأطفال الاحتمال والشجاعة والعدل واحترام القانون والتعاون وإخضاع المصالح الشخصية لمصلحة المجموع. أما إذا استخدم استخداما سيئا فهو يشجع على غرور الفرد والجماعة، وعلى الرغبة الملحة في النصر، وبغض المنافسين، وتكوين روح للجماعة لا تقبل التسامح، واحتقار من دوننا من الناس. وفي كلتا الحالتين يبث فينا اللعب روح التعاون مع تحمل التبعات، ولكن التعاون قد يكون في سبيل الشر كما قد يكون في سبيل الخير؛ فاللعب قد يكون تدريبا على القتال، وقد يكون فيه غناء عن القتال؛ فهو قد يكون وسيلة لحب الحرب أو حب السلام، وقد يخلق رجالا مشبعين بالروح العسكرية، أو رجالا مسالمين في كل نواحي الحياة. وقد اختارت الدول الدكتاتورية أن تجعل من اللعب وسيلة لتدريب الأطفال على الروح العسكرية، كما اتخذته أداة لبث الدعاية القومية؛ فمباريات كرة القدم مع الدول الأجنبية تعد من الأمور التي تقرر الكرامة القومية، والانتصار في اللعب انتصار على العدو، ودليل على التفوق العنصري أو القومي. وينظر المتفائلون إلى اللعب كأنه رابطة قوية بين الأمم، ولكنه في ظل الشعور القومي السائد اليوم سبب جديد من أسباب سوء التفاهم الدولي. إننا نعيش في عالم ليست له عقيدة دينية واحدة أو فلسفة للحياة واحدة، في عالم تعبد فيه كل جماعة قومية وثنها الخاص؛ ومن ثم فإن مباريات كرة القدم والمباريات الرياضية الأخرى لا ينجم عنها إلا الضرر.
قلت إن الدول الدكتاتورية قد اختارت اللعب وسيلة للتدريب على القتال. أما الدول الديمقراطية ففيها اتجاهان: الأول لا يرمي إلى استغلال اللعب وسيلة للتأهب للقتال، والثاني ديكتاتوري النزعة؛ فهو يرى غير ذلك. وما زال الاتجاه الأول أضعف من الثاني؛ فالإنجليز مثلا يقولون: «إننا كسبنا معركة واترلو فوق ملاعب إيتن.» ولكنا نستطيع كذلك أن نقول إن الإنجليز الذين يحكمون الإمبراطورية في أنحائها المختلفة تعلموا حسن الإدارة فوق هذه الملاعب عينها، والإمبراطورية البريطانية في العصر الحديث أميل إلى الاتجاه الثاني منها إلى الاتجاه الأول.
لقد تحدثت عن التربية حتى الآن كأن هناك لونا واحدا من ألوان التربية الصحيحة، ولكنا رأينا في الفصل الذي عقدناه على عدم المساواة أن الناس أنماط مختلفة. ولما كان الأمر كذلك فمن الخطأ أن نضع لتدريب الأخلاق نظاما واحدا، بل ينبغي أن تكون هناك نظم متعددة تلائم الأمزجة المختلفة، وإن كان هناك - كما رأينا من قبل - قدر مشترك من الميول النفسية عند مختلف الطوائف نستطيع أن نختار له من القواعد الخلقية ملا يلائمه، ونعلم الناس أجمعين هذه القواعد بتدريبهم جميعا على الحكم الذاتي وعلى التعاون وتحمل التبعات في حجرة الدرس وفي ساحات الألعاب. ولا أحب أن أفصل القول في هذه النقطة، وسأنتقل بالقارئ بعد هذا إلى التربية من ناحيتها التعليمية.
التعليم الأولي والابتدائي عام إجباري في أمم الغرب المتمدنة منذ أكثر من ستين عاما، والتعليم الثانوي والعالي ميسر لعدد كبير من الشبان، وبرغم ذلك فإن الناس لا يزالون يقتتلون، ولم يؤد تعميم التعليم الأولي إلى منع اشتعال الحروب كما كان أنصاره يأملون. ولا تزال القلوب قاسية - برغم هذا التعليم - وما زالت العامة تعبد الأبطال من الرجال، وما برحت السياسة الدولية تقوم على التشاؤم إلى حد بعيد؛ ذلك لأن التربية العقلية كالتربية الخلقية فاسدة من أساسها.
إن خير إنتاج العقل البشري قد كرره ملايين المعلمين ملايين المرات على ملايين الآذان، وساعد المعلمين على ذلك نشر الكتب والصحف. وبرغم ذلك ما برحت إلى اليوم تظهر الصحف والكتب المتبذلة، والقصص الوضيعة، والأشرطة السينمائية المنحطة. وهناك إلى جانب ذلك الراديو يذيع الموسيقى الوضيعة، والدعاية الكاذبة ليل نهار - وهذه أدوات كان يمكن أن تستغل لخير البشر، ولكنها تستغل لنشر السخافات والأباطيل.
وهذه هي الثمار الخلقية والذهنية لنظامنا التعليمي! لقد آن الأوان لأن نقوم بعمل نبدل به طبيعة الشجرة التي تحمل هذه الثمار.
بينت فيما سلف ما ينبغي عمله إن أردنا أن ننشئ جيلا من الناس المتحررين العاملين على حب السلام. والآن لنبحث في خير الطرق لتربية الذكاء وتوصيل المعارف إلى الأذهان.
يتخذ التعليم في الوقت الحاضر صورتين مختلفتين؛ هنالك التعليم العلمي أو «التعليم الحر»، والتعليم الفني. والمفروض أن التعليم العلمي يؤدي للمتعلم غرضين؛ فهو أولا تدريب رياضي يمكن المتعلم من تنمية مواهبه العقلية - من القدرة على التحليل المنطقي إلى القدرة على تقدير الجمال. والتعليم العلمي من ناحية أخرى يمكن المتعلمين من إدراك الروابط القائمة بين المعارف المتنوعة، التاريخية منها والمنطقية والطبيعية والكيميائية والبيولوجية. أما التعليم الفني فهو عملي محض، والمقصود به أن يمد الشبان المتعلمين بالكفاية والمقدرة في مهنة معينة أو فن معين.
وقد دلت البحوث الحديثة يؤيدها الإحصاء أننا نفرض التربية العلمية على عدد كبير من البنين والبنات ممن لا يستسيغونها أو يستمدون منها فائدة تذكر. وقد أدرك المعلم هذه الحقيقة بخبرته الشخصية من زمان بعيد. ولا شك أن عدم القدرة على الاستفادة من التربية العلمية يرجع - إلى حد ما - إلى عيوب طرق التدريس أو إلى عيوب المدرسين (والتعليم فن وليس بعلم، والمعروف في كل الفنون أن الفنانين المجيدين قلة مسحوقة)، وبرغم هذا فمن الواضح الذي لا يحتاج إلى بيان أن كثيرا من الشبان - وربما كانت أغلبيتهم المطلقة - لا يصلحون بحكم استعدادهم الوراثي لأن يسيغوا ما تقدمه لهم التربية العلمية. وليس أقل من ذلك وضوحا أن أكثر أولئك الذين يستطيعون أن يستفيدوا من التربية العلمية يخرجون بعد سني الدراسة ببغاوات يكررون عبارات بنصها لا يفهمونها حق الفهم - وإن فهمومها فهم إما متخصصون يعرفون كل شيء عن موضوع ما ولا يجدون لذة في غيره، أو رجال فكر يعرفون كل شيء من الناحية النظرية، ولكنهم عاجزون عجزا مطلقا في شئون الحياة العادية. وشبيه بذلك ما يحدث لتلاميذ المدارس الفنية؛ فهم يخرجون إلى العالم خبراء في فن من الفنون، ولكنهم لا يعرفون من الأمور الأخرى غير النزر اليسير ولا يدركون العلاقات المختلفة بين المعارف المتنوعة.
فهل يمكن علاج هذه العيوب في نظم التربية السائدة؟ أظن ذلك. وينبغي أن نبدأ بالاعتراف بأن الناس ينقسمون إلى أنماط مختلفة، وأن لهم استعدادات ودرجات مختلفة من الذكاء. وقد ارتقت اختبارات الذكاء في السنوات الأخيرة، غير أننا لا نفيد منها كثيرا لأنها إن بينت لنا أن «أ» من الناس أذكى من «ب» فلا يكاد يدل ذلك على شيء؛ لأننا يجب إلى جانب ذلك أن نعرف هل ينتمي «أ» و«ب» إلى نمط نفسي واحد أو يختلفان. وإذا فاختبار الذكاء أداة ناقصة، ولكنه أثبت لنا بوجه قاطع أن الناس يختلفون نباهة وذكاء، وإذا ما اقتنعنا بأن الناس ينتمون إلى أنماط مختلفة، وأن لهم مواهب مختلفة ودرجات مختلفة من الذكاء وجب علينا أن نحاول أن نقدم لكل فرد التربية التي تلائمه. وهذا ما تحاوله بعض الحكومات اليوم، ولكن بصورة غير منظمة؛ فالأطفال الذين ينجحون في الامتحانات بتفوق يمنحون مجانية في التعليم الثانوي أو الجامعات. والأطفال الذين لهم مهارة يدوية يرسلون إلى المدارس الفنية كي يتعلموا مهنة من المهن. ولكن لا يزال لهذا النظام عيوب؛ منها أن الطرق التي تستخدم في اختيار الطلاب لأنواع التعليم المختلفة ليست البتة مرضية، ومنها أن أنواع التعليم التي يتلقاها الطلبة الناجحون ليست خالية من النقائص.
أما عن نظام الامتحانات فلست أرى لزاما علي أن أتحدث فيه بشيء من التفصيل. إن معظم المربين مجمعون نظريا أن امتحانا واحدا قاطعا ليس بالاختبار الكامل. وقد تخلى بالفعل كثير من المربين عن الاختبار الواحد القاطع، واستعاضوا عنه بسلسلة من الاختبارات الدورية للمعارف والذكاء، كما أنهم يقيمون لتقارير المعلمين والمفتشين وزنا كبيرا. وإذا ما أكملنا ذلك بتقسيم المتعلمين إلى أنماط مختلفة على أساس صفاتهم النفسية والجسمية كانت هذه الطريقة الثانية في اختبار الطلاب لأنواع التعليم المختلفة طريقة صالحة موفقة كل التوفيق.
والآن فلنبحث في أنواع التربية المختلفة التي ينبغي أن يتلقاها الشبان كل وفقا لمزاجه. رأينا أن نوعي التعليم السائدين، الفني والعلمي (أو الحر) ناقصان نقصا كبيرا. والمشكلة التي نواجهها الآن هي أن نصلح هذين النوعين بحيث يصبح التعليم الفني أكثر حرية، والتعليم الحر أكثر إعدادا للحياة اليومية في المجتمع الذي نريد أن نصلحه.
التعليم الحر يدرب العقل على التفكير، ويبين للمتعلم العلاقات بين فروع المعرفة المختلفة، أو بعبارة أخرى هو طريقة لتنمية الذكاء، ومصدر لإيجاد الوحدة بين شتيت المعارف، وهذه الوحدة اليوم وحدة علمية تاريخية أكثر من أي شيء آخر، هي وحدة عمادها الحقائق الواقعة والمنطق. والحقائق التي ندرب عليها الذهن المنطقي أكثرها حقائق عن العالم المادي وعن الإنسانية كجزء من العالم المادي (والتاريخ كما يعلم في المدارس والكليات نوعان: تاريخ غير علمي وهو فرع من الدعاية القومية، وتاريخ علمي، ويكاد أن يكون فرعا من فروع علم الطبيعة. ويعالج المؤرخون العلميون الحقائق البشرية كأنها حقائق مادية ، ويكتبون عن الإنسان كأن الناس ذرات غازية يمكن أن تدرس درسا علميا بحتا).
والرجل الذي يتلقى تعليما علميا قد ينقلب ببغاء، يردد ما لا يفهم، وحينئذ نقول إن التربية فشلت في تحقيق الغرض منها. أو قد ينقلب إخصائيا، وحينئذ نقول إن التربية نجحت نجاحا جزئيا. أو قد يصبح من رجال الفكر فيستطيع أن يدرك العلاقات القائمة بين العناصر المختلفة التي تتألف منها مجموعة معارفه. وقد نحسب حينئذ أن التربية قد نجحت كل النجاح. وهذه العلاقات إذا عرفناها بالنسبة إلى المعارف قلنا إنها علمية أو تاريخية، وإذا عرفناها بالنسبة إلى المتعلم قلنا إنها إدراكية أو وجدانية أو إرادية.
إن المتعلم الببغاوي يكرر ما يسمع دون أن يفهم له معنى، والمتخصص في فرع واحد من العلوم يفهم موضوع تخصصه فحسب، ورجل الفكر المهذب يدرك العلاقات الكائنة بين أجزاء المعارف المختلفة من الناحية النظرية وحدها. إنه يعرف، ولكنه لا يحب أن يعمل وفقا لمعارفه، بل ولم يتعلم أن يفعل ذلك؛ ومن ثم نرى أن التعليم الحر لا يخرج لنا رجلا كاملا نرتضيه.
ونحن من ناحية أخرى لا نعلم أبناءنا في المدارس الفنية أن يدركوا الوحدة التي تربط شتيت المعارف، وإنما نكتفي بتعليمهم حرفة من الحرف. إننا نسلحهم بفن من الفنون وبقدر يسير من النظريات الكامنة وراء هذا الفن يمكنهم من إتقان فنهم؛ فهم يخرجون إلى العالم رجالا ناقصين. وأشتات المعارف في نظر الرجل الذي تعلم تعليما فنيا ليست أجزاء من كل متناسق، وإنما هي أجزاء متناثرة ليس بينها رباط؛ فهي - عنده - كالنجوم التي تسطع وسط تيه من ظلام الجهل. وإذا تكونت في ذهن مثل هذا الرجل صورة للكل المتسق المنسجم فهي صورة رجل العصر البرنزي، أو هي صورة مستعارة من فلسفة الصحف والأشرطة السينمائية؛ ومن ثم ترى أن التعليم الفني الناجح - كالتعليم العلمي الناجح - لا يخرج لنا الرجل الكامل الذي نرتضيه.
فهل لهذه المشكلة من علاج؟ لقد اقترح بعضهم أن تحرر التربية الفنية، كالتربية العلمية، وأن تصبغ بصبغة تعميم المعرفة، وبخاصة معرفة الحقائق العلمية والنظريات، وأن يتعلم الفنيون إدراك الوحدة التي تربط أشتات المعارف. غير أن هذا الاقتراح معيب لأسباب عدة؛ منها أن أكثر الذين يتلقون التعليم الفني غير قادرين - لنقص في استعدادهم الذهني - على إدراك وحدة الكائنات. وأن هذه الوحدة ليشق إدراكها حتى على أولئك الذين يتعلمون التعليم العلمي؛ فإن أكثرهم - كما ذكرنا - يخرج إما ببغاء أو إخصائيا (وعدد كبير من هؤلاء يعودون إلى المدارس معلمين، ويواصلون تدريب ببغاوات جدد وإخصائيين آخرين). قل من العقول ما يدرك العلاقات الكائنة بين الأشياء والحوادث المتباعدة في المكان والزمان، والتي تبدو كأنها متقطعة الأوصال، ليس بين متفرقاتها رباط. والتربية العلمية تحاول أن تخلق في الرجال والنساء الرغبة في إدراك الوحدة الكائنة بين المعارف المختلفة. ولكنها قلما تنجح، وقل من يتخرج فيها ولديه هذه الرغبة؛ ولذا فمن الحمق أن نحاول تدريب الناس على إدراك وحدة الوجود، ونحن على ثقة بأنهم لن يدركوها ولن يستطيعوا أن يستخدموها.
وليس هذا كل ما في الأمر؛ فقد رأينا أن رجال الفكر أنفسهم ناقصون، ولا ترضينا تربيتهم العقلية. صلتهم بالعالم صلة إدراكية فقط، ليس فيها من الوجدان أو الإرادة شيء. ثم إن الرابطة التي ينشئونها بين الأشياء مستمدة من العلوم الطبيعية والتاريخ الذي يدرس كأنه فرع من هذه العلوم. هذه طائفة من الناس لا تأبه بغير العالم المادي والإنسانية باعتبارها جزءا من هذا العالم. وينجم عن ذلك أن هؤلاء الأفراد عندما يتصلون بالحقائق الإنسانية اتصالا وجدانيا أو إراديا يساورهم قلق شديد. وهم عادة قساة القلوب يرون أن يعامل الناس كغيرهم من أجزاء العالم المادي.
فالتعليم الفني إذا لا يعرف الوحدة بين الكائنات، والتعليم النظري يستغل هذه الوحدة في دائرة الإدراك فحسب، وفي حدود العلوم الطبيعية التي تتعلق بقوانين العالم المادي؛ فنحن إذا بحاجة إلى مبدأ آخر للتوحيد - مبدأ يستطيع الفنيون والعلميون على السواء أن يستخدموه استخداما نافعا، ولا يقتصر على العلاقات العلمية التاريخية بين الأشياء، وهي العلاقات التي يهتم بها رجال الفكر في العصر الحديث . نريد مبدأ للوحدة جديدا يعاوننا على أن نتحول من مجرد متفرجين على منظر الإنسانية إلى مساهمين فيها مساهمة الأذكياء.
فماذا عسى أن يكون هذا المبدأ الجديد؟ الجواب على ذلك واضح. يجب أن يكون نفسيا خلقيا. المبدأ الجديد يوحد بين المعارف والتجارب في حدود إنسانية، وشبكة العلاقات بين الأشياء فيه نسيجها نفسي لا مادي. نريد مبدأ خلقيا يكترث للقيم، ولا يقتصر على الجانب الإدراكي، وإنما يشمل كذلك جانبي الوجدان والإرادة.
وإلى القارئ مثالا محسوسا يوضح ما قصدت إليه. هذا شاب يتعلم الهندسة والميكانيكا، إننا نرجح أن يتخرج في مدرسته وهو يجهل كل شيء ما خلا موضوع تخصصه؛ فلقد فشلت تربيته في إمداده بمبدأ يستطيع به أن يدرك الرابطة بين كل ما يحصل عليه في الحياة من علم وتجربة. إن رجال التربية الذين تعلموا في المدارس العلمية القائمة يعتقدون أننا نستطيع أن نحرر تربية مثل هذا الشاب بتزويده بجانب من النظريات العلمية العامة. وهذا اقتراح ظاهره حسن، ولكنه من الوجهة العملية غير ممكن التحقيق؛ لأن أكثر الشباب لا يجدون لذة في النظريات العلمية العامة، وليست لديهم القدرة - بحكم استعدادهم - على توحيد التجارب والمعارف في حدود قوانين العالم المادي. والواقع الذي يؤيده التاريخ أن تقدم النظريات العلمية قلما يتم على أيدي رجال الفنون الماهرين؛ لأن الرجل العملي الذي يتقن فنه ويهتم به وحده، أو يهتم معه بقدر يسير من النظريات التي تكمن خلف عمله، مما يمكنه من زيادة الإتقان في فنه، وهو قلما يتطور إلى رجل عالم. وقل من النظريات العامة ما نحن مدينون به لأمثال هؤلاء الرجال. ونستطيع أن نقول على وجه التعميم إن تقدم النظريات العلمية قد تم على أيدي رجال من طراز آخر - تم على أيدي رجال لم يشتغلوا بالمشاكل الفنية، وإنما وقفوا منها موقف المتفرج، محاولين تعليل ما يشهدون واستخلاص النظريات من وراء التجارب. وما أوسع الهوة التي تفصل بين الرجل العملي والرجل الذي يهتم بالنظريات العلمية التي تنتظم الكون بأسره. إنهما من طرازين مختلفين. وإذا فمحاولة تحرير التعليم الفني بقسر رجاله على إدراك الوحدة الكامنة بين الكائنات محاولة فاشلة.
إن الإنسان هو الموضوع الوحيد الذي يهتم به الناس أجمعون، على اختلاف أمزجتهم ونفسياتهم وما لديهم من ذكاء. وقد يكون الطالب الذي يدرس الهندسة غير قادر على التعمق في دراسة قوانين العالم المادي، ولكننا لا نجد مشقة في حمله على الاهتمام بدراسة الإنسان؛ ولذا فإن خير وسيلة لتحرير تربيته الفنية هي أن نحمله على الاهتمام بالدراسات الإنسانية. ومن اليسير عليه أن يدرك الرابطة بين فنه وبين الدراسات الإنسانية والنفسية والخلقية. يجب أن تتمم الدراسة الفنية دراسة تشرح أثر هذا الفن في الحياة مقاسا بمقياس الخير والشر والسعادة والشقاء. يجب ألا يقتصر المهندس على دراسة الميكانيكا، بل ينبغي له كذلك أن يفهم كيف تؤثر الآلة في حياة الناس. ويستطيع أن يبدأ بدراسة تأثير الآلة على الفرد، ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة آثارها الاجتماعية، مثل أثرها في ترقية البلدان المتأخرة، وفي القضاء على المهن القديمة، وإنشاء صناعات جديدة. بذلك يمكن للطالب أن يدرك بعض ما بين الأشياء من صلات، حتى إن بدت له تلك الأشياء مفككة لا تجمع بينها صلة. ولا نقصد أن تحل العلاقات النفسية والاجتماعية والخلقية محل العلاقات العلمية، وإنما نريد أن تكون متممة لها. ينبغي لطالب الفن أن يدرك الرابطة بين فنه وبين الدراسات الإنسانية، كما ينبغي لطالب العلوم النظرية أن يدرك الرابطة بين نظرياته والعالم المادي المحسوس. بهذا ننهض بالتربية بنوعيها؛ التربية العلمية والتربية الفنية.
وليس في هذا الكتاب متسع يسمح بتفصيل القول في جميع التجارب الناجحة في التربية التي أجريت في السنوات الحديثة. ولكني سأتعرض للقليل منها. من هذه التجارب محاولة إدخال طريقة منتسوري في المدارس، ولكن هذه المحاولة لم تؤد إلى الغرض المطلوب لأن الطفل الذي يتعلم الحكم الذاتي والتعاون في بلد لا يتعاون مع غيره من البلدان يتعلم في الواقع أن يتعاون مع زملائه ضد بلد آخر، وهي نتيجة غير مرضية. ومثل الطفل المتعلم في ذلك مثل الجندي الذي يتعلم استغلال مواهبه وتعاونه مع غيره من الجند ضد الجيوش الأخرى.
وثمة محاولة أخرى قام بها دكتور مورجان
Dr. A. E. Morgan
كان يرمي من ورائها إلى أن يصبغ الدراسة العلمية بالصبغة الإنسانية، وذلك عقب الحرب العظمى في كلية أنطاكية
Antioch . يقضي الطالب - طبقا لنظام مورجان - فترة في الدرس، تعقبها فترة عمل في المصنع والمكتب والمزرعة، بل وفي السجن ومستشفى المجانين. ثلاثة أشهر دراسية تتمها ثلاثة أخرى عملية. بذلك يستطيع الطالب أن يدرك العلاقات النظرية والعملية بين الأشياء والحوادث، كما يستطيع أن يتصل بنماذج من الحقائق الإنسانية. وهو لا يوحد بين المعارف من الناحية الإدراكية وحدها، بل من ناحية الوجدان والنزوع كذلك.
وشبيه بنظام التربية الذي أخذت به كلية أنطاكية النظام المتبع في المدارس المتصلة بالمصانع في روسيا السوفيتية. وهذه النظم جميعا ليست سوى إحياء للنظام اليهودي القديم مع شيء من التوسع والتنظيم، جاء في التلمود أن «من يعلم ابنه حرفة، إنما يعلمه أن يسرق.» ولم يكن القديس بولس عالما، فحسب، وإنما كان كذلك صانع خيام. ولم تنشأ فكرة التفرغ للعلم دون العمل إلا عند فلاسفة أثينا وأيونيا الذين كانوا يملكون العبيد. ومن سخريات التاريخ أن العالم الحديث أخذ عن اليهود كل ما كان سيئا في تراثهم الثقافي، ونبذ نظريتهم الصحيحة في التربية التي تجمع بين العلم والفن، وآثرنا عليها التربية الضيقة غير الخلقية التي كان يؤمن بها الهلينيون المعتمدون على الرقيق. نبذنا نظام التربية عند اليهود، وأخذنا عنهم أدبهم الحوشي، وأناشيدهم التي يمجدون بها القتال، وقصصهم عن جرائم القتل والخيانة، وعقيدتهم الساذجة في إله مستبد لا يرحم.
ولكي نفيد من نظام كلية أنطاكية أكبر الفائدة ينبغي أن نمده من الطالب إلى المعلم؛ فيجب أن ينقطع المعلمون عن التعليم من آن إلى آخر بضع سنوات يمارسون فيها حرفة لا علاقة لها البتة بالعلم والتعليم.
وأنتقل بعد هذا إلى تربية العواطف فأقول إننا أعرنا في السنوات الحديثة أهمية كبرى لتربيتها عن طريق الفنون؛ ففي كثير من المدارس والكليات تستخدم الموسيقى وفنون التمثيل والشعر وغيرها من ضروب الفن الأخرى لتوجيه العواطف توجيها صحيحا؛ فالموسيقى مثلا تعلمنا دقة الفكر ونبل الشعور، كما تعلمنا المشاركة العاطفية. والغناء وعزف الموسيقى جماعة يعلماننا أداء الأعمال المعقدة التي تقتضي مهارة عقلية كبرى وتنبها ذهنيا كاملا، كما يعلماننا المشاركة في الشعور والاتحاد في العواطف.
ثم نأتي بعد ذلك إلى الأدب فنلاحظ أن تمثيل المسرحيات يمكن كذلك أن يكون وسيلة من وسائل التدريب العاطفي. إنك حين تمثل دور شخص يشبهك أو لا يشبهك تدرك طبيعتك على حقيقتها وعلاقتك بالآخرين. وربما أدت مشاهدة المسرحيات إلى مثل هذه النتيجة، ولو إلى حد، ولكن ينبغي ألا نعزو إلى المسرحيات فضائل تعليمية لا تتصف بها في الوقت الحاضر؛ فقد وصف أرسطو المسرحية بأنها «مطهر للنفس»، وهذا الوصف لا ينطبق على المسرحية الحديثة والشريط السينمائي الحديث. ولقد كانت المأساة اليونانية أكثر من مسرحية تمثل، كانت صلاة دينية عامة بين المشاهدين. وكان التمثيل توضيحا للعقائد الدينية. أما المسرحية الحديثة فليست من ذلك في شيء، موضوعها دنيوي، ويشاهدها الناس لا ليذكروا فلسفة حياتهم، ولا ليوطدوا الصلة بينهم وبين خالقهم، وإنما يشاهدونها لإدخال السرور على النفس.
إن أكبر قيمة تربوية للأدب أنه يمد القراء بأمثلة من السلوك يستطيعون احتذاءها إن أرادوا. والناس جميعا على حد تعبير جول دي جولتيير
Jules de Gaultier
بفاريون
bovaristic
أي إن لديهم القدرة على أن يروا أنفسهم على غير حقيقتها، وأن يلعبوا دورا غير الذي أعدتهم له وراثتهم وظروف الحياة التي يضطربون فيها. والكلمة مشتقة من بطلة رواية فلوبير «مدام بوفاري» التي بلغت نهاية مؤسية لأنها سلكت سلوكا لا يتفق وطبيعتها؛ ولذا فلنأخذ من هذه القصة درسا، فلا يحاول أحدنا أن يسلك طريقا لا يستطيع السير فيه. وقد أدرك رجال التربية هذه الحقيقة من قديم، وحاولوا أن يكيفوا شخصيات التلاميذ بعرض نماذج أدبية عليهم يقلدونها في حياتهم الواقعية. وهذه النماذج قد تكون من الأساطير القديمة، أو قد تستمد من التاريخ أو القصص؛ فهركيوليز من الطراز الأول، ورجال السياسة والقادة والقديسون الذين كتب عنهم فلوطارخس من الطراز الثاني، وهاملت وفرتر من الطراز الثالث الذي يحاول بعض الناس أن يصوغوا أنفسهم على غراره . ولا بد من شيء من الفن الأدبي عن عرض الأساطير أو النماذج التاريخية أو الروائية؛ فإنك إن رويت القصة للطالب رواية لا فن فيها ما تأثر بها وما شعر بالرغبة في تقليد بطلها؛ ومن ثم كانت أهمية الفن الجيد حتى في التعليم الخلقي، ثم إن كل جيل ينبغي له أن ينشئ نماذجه الخاصة التي تستحق التقليد ويعرضها في ثوب من الفن الحديث الجميل؛ وذلك لأن الفن الجيد القديم لا يؤثر فينا بمقدار ما يؤثر الفن الجيد الحديث، بل إنه - عند عدد كبير من الناس - لا ينافس الفن الحديث الوضيع. وأكثر الناس يعجبون بالشخصيات التي تصورها قصص المجلات الرخيصة أكثر مما يعجبون بشخصيات شكسبير؛ وذلك لأن هذه المجلات تعالج شخصيات معاصرة، بينما شكسبير قد انقضى عهده من ثلاثمائة عام. ثم إن شخصيات شكسبير تقتضي لتقليدها جهدا خلقيا لا تفتضيه شخصيات المجلات التي تصور أحلامنا الشائعة - الأحلام الجنسية، والنجاح المالي والترف، وعلو المركز الأدبي. أما شخصيات شكسبير فهي أعلى من ذلك مستوى لأنها تصور أحلام اليقظة التي يصعب تحقيقها - الأحلام المسرفة في الأمل والطموح - تصور أحلام أولئك الذين يحبون أن يتفردوا بإخلاصهم في العشق، أو الذين يحلمون بالمجد القومي، مكرسين حياتهم للوطن طامعين في عبادة الجماهير. أو الأوغاد الذين يملأ قلوبهم الحقد وحب الانتقام. شخصيات شكسبير - ما عدا شخصية واحدة، هي شخصية الدوق في رواية «دقة بدقة» - تمثل الشخص المتحرر من شئون الحياة، والواقع أنك قل أن تجد في الآداب العالمية بأسرها تصويرا لأمثال هذه الشخصيات، وأشخاص الروايات والمسرحيات - مهما طابت قلوبهم - لا يخلون من العيوب.
والواقع أن المثال الأدبي أداة قوية لصياغة الشخصية. ولكن أكثر الأمثلة الأدبية مثل عليا للرجل العادي. وأكثر الشخصيات التي تتميز بالبطولة تتصف بشيء من الجنون، ومنها ما هو طيب القلب غير ذكي، أو فاضل يعيش في وسط دنيء، ولا يدرك الحاجة إلى ترقيته. وربما كانوا أشخاصا تحررت نفوسهم من أوطار الحياة، غير أنهم يخلصون لعقيدة من العقائد مثل الفاشستية أو الاشتراكية أو القومية. ولا شك أن هذه العقيدة تتطلب منهم أحيانا أن يخرجوا على قواعد الأخلاق. نحن بحاجة ماسة إلى الأدباء الفنانين كي ننهض بالناس ونخلق منهم نوعا جديدا من البشر. ولكن أكثر الأدباء الفنانين - لسوء الحظ - أفراد من الطراز القديم، مشبعون بالروح الحربي، حتى إن تأججت في صدورهم رغبة الإصلاح، ولا سبيل إلى تعديل نفوس هؤلاء الأدباء ما دام يتحكم في الدولة دكتاتوريون مستبدون يتطلبون من الناس الطاعة والخضوع، ويحاولون أن يطفئوا جذوة الذكاء في نفوسهم؛ ومن ثم كانوا في مسيس الحاجة إلى استخدام الدعاية.
وفي المجتمعات المتأخرة، التي تسود فيها عقيدة عتيقة أو قانون تقليدي لا ينازع، لا تنشأ الحاجة إلى الدعاية المقصودة؛ لأن الناس يسلكون الطريق التقليدي بالغريزة، ولا يقفون أمامه لحظة ناقدين أو مفكرين. وحتى في مجتمع بلغ من الرقي ما بلغنا، هناك أنواع من السلوك والتفكير والشعور يقبله الناس بغير جدل. وكم من رجل ذكي يستغل ذكاءه في العمل الذي فرضته عليه التقاليد، وقلما يستخدمه في الحكم على قيمة العمل في حد ذاته. ولا عجب - بعدئذ - أن ترى علماء وفنيين يضعون مواهبهم تحت تصرف حكام البلاد، ويستغلونها في الفتك بالناس بغير تمييز. ولا عجب كذلك أن ترى جماعة من الأدباء يمتهنون مواهبهم في تعزيز الروح القومية بالأكاذيب المفتراة وبقوة التعبير والأسلوب. حتى في الدول الديمقراطية نفسها كثيرا ما يستخدم الذكاء في خلق الوسائل الطيبة لتنفيذ الأغراض الدنيئة، وقلما تجد رجلا ذكيا يستخدم موهبته في خلق الوسائل الطيبة لتنفيذ الأغراض الطيبة. وهؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون ترقية المجتمع، ولكنهم لا يجدون في الدول الدكتاتورية تشجيعا؛ لأن الدكتاتور يحب أن يستغل الأذكياء في تحقيق مآربه الشخصية؛ ومن ثم كان اضطهاده الأفراد المبتكرين، وتكميم الصحافة، ومحاولة إيجاد رأي عام مناصر للاستبداد عن طريق الدعاية، والتدريب العسكري منذ الطفولة، ومراقبة الصحافة والسينما والأدب والإذاعة. ومن يدري! لعل العقاقير تستخدم في المستقبل مع علم النفس للتأثير في الجماهير. ومن المعروف أن من العقاقير ما يزيد في استعداد الشخص لقبول الإيحاء . وليس من شك في أن الدكتاتوريين سوف يستخدمون هذه العقاقير في مستقبل الأيام لتقوية العقيدة التي يحبون أن يعتنقها الشعب.
ولا تزال بالدول الديمقراطية بقية من الحرية للرجال الأذكياء، ولكنا نخشى أن تختنق هذه الحرية بعد حرب أخرى؛ ولذا فمن واجب المربين أن يبذلوا قصارى جهدهم قبل فوات الأوان. عليهم أن يعودوا التلاميذ على مقاومة الإيحاء. وإذا لم نخلق في الأطفال هذه المقاومة، فسيقع رجال الجيل المقبل تحت رحمة أي داعية ماهر يحاول أن يسيطر على أدوات الإذاعة والنشر. ويمكن تدريب الأطفال على المقاومة بطريقين:
أولا:
نستطيع أن نعلم الأطفال الاعتماد على ذكائهم الخاص دون المؤثرات الخارجية. وبذلك تتكون شخصية الطفل، ولا تخدعه أساليب الدكتاتوريون الخلابة التي تأخذ بالألباب. ومن اليسير على أي دكتاتور في بلاد الغرب أن يبث دعايته بين أفراد شعبه؛ لأن الناس أشبه ما يكونون بالمخدرين من إدمان القراءة التي لا ترمي إلى غرض، ومن أثر الاستماع إلى الإذاعة اللاسلكية، ومشاهدة أشرطة السينما بغير غرض؛ فإن هذه المؤثرات تفعل في النفوس فعل الكحول والمورفين. وقد بلغ بأكثر الناس إدمان القراءة والاستماع إلى الراديو والموسيقى ومشاهدة السينما مبلغا لا يستطيعون معه أن ينقطعوا عن هذه الأشياء بضعة أيام بل بضع ساعات. مثلهم في ذلك مثل مدمن المخدرات يميل إلى الاسترسال في رذيلته لا لأنه يستمد من الإدمان متعة حقيقية، بل لأنه تعود الإدمان ولا يستطيع التخلي عنه. وهؤلاء المدمنون على الصحف والأشرطة السينمائية والراديو يحسون بنقص إذا أبعدت عنهم هذه الأشياء، أو إذا حرمتهم من أنباء الألعاب الرياضية وأخبار الجرائم والمحاكمات، أو من الموسيقى والأحاديث يذيعها الراديو، أو من قصص المغامرات والحب. وحتى أذكياؤنا يعتقدون أن هذه المخدرات السيكولوجية مستحبة، بل ولا مفر منها، ولا يرون خطرا من اعتماد الفرد على المؤثرات الخارجية دون ثروته النفسية الخاصة. وقد قرأت من عهد قريب كتابا صغيرا لعالم أمريكي مبرز في علم الحياة يصور لنا فيه المستقبل كما يراه. يقول هذا الرجل: إن العلم سوف يزيد من سعادة الإنسان وذكائه، وذلك بطرق عدة منها اختراع سينماتوغرافات ميكروسكوبية يستطيع المرء أن يلبسها كما يلبس النظارة فيشاهد قصة شائقة يبعد بها عن نفسه الملل. وما من شك في أن العلم سيمدنا بزجاجات الخمر وبالمحاقن وبالسجاير وبجرعات المخدرات المتناهية في الصغر! ليحي العلم!
ولكنا لا نشجع على ذلك؛ فكيف نستطيع أن ندرب الأطفال على الاعتماد على ثروتهم الروحية وعلى مقاومة إدمان القراءة والاستماع إلى الراديو ومشاهدة السينما؟ أول ما ينبغي عمله أن نعلمهم كيف يسلون أنفسهم ببعض الصناعات اليدوية اليسيرة، وبالعزف على الآلات الموسيقية، وبالدراسات المفيدة التي ترمي إلى هدف معين، وبالملاحظة العلمية، وبممارسة فن من الفنون، وما إلى ذلك. غير أن هذا التدريب اليدوي والذهني لا يكفي. والنفس الإنسانية ينطبق عليها قانون جريشام الاقتصادي، وهو أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق؛ فأكثر الناس يميلون إلى أداء الأعمال التي تتطلب أقل مجهود، وأن يشغلوا أنفسهم بأسهل الأفكار، وأن يحسوا بالعواطف المبتذلة، وأن يطلقوا العنان لرغباتهم الحيوانية. وهم يميلون إلى ذلك حتى إن توفرت لهم المعرفة والمهارة التي تمكنهم مما هو أرقى من ذلك. وإنما يجب أن يلازم المعرفة والمهارة الضروريتين صدق العزيمة على استخدامهما في هذا الجو الذي يغري المرء بأن يمارس من الأعمال أيسرها. غير أن أكثر الناس يحبون أن ينغمسوا في هذا الجو، اللهم إلا إن كانت لديهم فلسفة للحياة متماسكة تدفعهم إلى غير ذلك، ثم توفرت لهم الوسائل لتنفيذ ما يريدون؛ لأن الرأي وحده بغير تنفيذ لا يأتي بفائدة. وماذا عسى أن تكون تلك الفلسفة التي تنقذ صاحبها من فساد الجو السائد، وتلك الوسائل التي تمكنهم من وضع فلسفتهم موضع التنفيذ؟ ذلك ما سنجيب عنه في فصل مقبل.
ونكتفي الآن بهذا القدر من الكلام على الطريقة الأولى التي تمكننا من مقاومة المخدرات النفسية التي أشرنا إليها - وتلك المخدرات هي الصحف والراديو وأنباء الألعاب الرياضية وقصص القتل وموسيقى الجاز والأشرطة السينمائية التي تعرض قصص الحب والمغامرات. والطريقة الأولى التي افترضناها للتخلص من ذلك كله هي تعليم الشبان أن يبعثوا السلوى إلى أنفسهم بأنفسهم. وقد ذكرنا أن المخدرات النفسية يمكن أن يستغلها الداعية لنشر رأيه في السياسة أو الاقتصاد أو الأخلاق؛ ومن ثم كان علاج هذه المخدرات علاجا من خطر الدعاية.
والطريقة الثانية:
للتخلص من أثر المخدرات النفسية عقلية محضة، وتتلخص في تدريب الشبان على نقد الحيل التي يلجأ إليها الدعاة. وأول ما ينبغي أن يعمله المربون لتحقيق ذلك أن يحللوا الكلمات الشائعة في الصحف والخطب والإذاعة. ما معنى كلمة «الأمة» مثلا؟ وإلى أي حد يجوز للخطباء والكتاب أن يتحدثوا عن الأمة كأنها شخص؟ ما هي إرادة الأمة وما مصالحها؟ وهل هذه الإرادة وهذه المصالح تمثل إرادة السكان جميعا ومصالحهم؟ أو تمثل إرادة الأكثرية ومصالحها؟ أو إرادة الفئة الحاكمة ومحترفي السياسة، وهم نفر قليل؟ وما الفرق بين الدولة وبين زيد وعمرو وغيرهما من أصحاب النفوذ السياسي؟ إن كانت الدولة هي هؤلاء فلماذا نقدسها كل هذا التقديس؟ وما معنى الكرامة القومية؟ لماذا تعد بريطانيا فقدان هنج كنج - مثلا - إهدارا للكرامة، ولا تعد الاستيلاء عليها بعد حرب حاولت فيها أن ترغم الصينيين على شراء الأفيون لوثة في الشرف البريطاني؟ و«الأمة» ليست سوى كلمة من مئات الكلمات الرنانة التي يقبلها الناس بغير تفكير، والتي لا بد لنا أن نخضعها للتحليل الدقيق إن أردنا ألا نخطئ في التفكير وألا نصل إلى نتائج غير صائبة ولا معقولة.
وليس أقل من هذا أهمية أن ندرب الأطفال على إدراك ما وراء الاستعارات والكنايات والكلمات المعنوية التي ترد في المقالات التي يقرءونها والخطب التي يستمعون إليها. يجب أن يتعلموا أن يترجموا هذه الكلمات الجوفاء إلى الحقائق المحسوسة؛ فعندما يقول إسكويث - مثلا - «لن نغمد السيف؛ لأننا لم نسله بغير عناء.» يجب أن يفهم الناس أن «السيف» لم يعد هاما في الحروب الحديثة؛ فلقد كان سيف إسكويث سنة 1914 معناه المفرقعات والقنابل والمدافع والسفن الحربية والغواصات، ومعناه اليوم إلى جانب ذلك الدبابات والطائرات وغيرها من آلات القتل الفتاكة. وكثيرا ما يكون من مصلحة الحكام أن يحجبوا الحقيقة الواقعة وراء قناع كثيف من الألفاظ المضللة. ومن واجب المربين أن يعلموا تلاميذهم أن يترجموا هذه العبارات البراقة الجوفاء إلى لغة الواقع المحسوس.
وليست الدعاية اللفظية بالصورة الوحيدة للإيحاء، وإنما هناك صور أخرى غيرها قد تكون أقوى منها أثرا. من ذلك ربط الفكرة برسم أو وصف أدبي يبعث في النفس السرور؛ فقد يعلن التاجر عن نوع من أنواع الصابون - مثلا - برسم شابة شهوانية مقبلة على حمام من الرخام ومعها قطعة من هذا الصابون. وقد يعلن بائع التبغ عن لفافاته برسم أشخاص يتناولون العشاء في زي فاخر، أو أنجم سينمائية مشهورة، أو أصحاب الملايين، وبأيديهم تلك اللفافات يدخنونها. وقد يعلن بائع الخمر عن النبيذ برسم صورة من الشبان المتأنقين، مسترخين في حجرة فاخرة التأثيث والفراش، يتناولون النبيذ من أيدي سقاة حسني الصورة والهندام. والغرض من هذه الأمثلة جميعا هو ربط البضائع المعروضة للمبيع بصور بهيجة ممتعة تثير في الأذهان متعة الحب أو الثروة أو قوة النفوذ والسلطان. وقد يلجأ المعلن إلى ربط السلع بصور المناظر الطبيعية الجميلة، أو الأطفال الذين يثيرون الشفقة أو يبعثون على الضحك، أو الزهور، أو الحيوانات المدللة، أو مناظر من حياة الأسرة. وقد يرتبط الإعلان التجاري بالتمثيل الهزلي أو بالموسيقى. والملوك يدعون لأنفسهم بعرض الجند وبالمواكب والقصور الشاهقة، وبكل ما هو فاخر وجميل وكذلك يفعل القواد؛ فهم يعلمون أن الموسيقى العسكرية تلعب بالرءوس كما تلعب الخمر، كما يعلمون أن العرض العسكري يثير في النفوس الشجاعة والحماسة. ويستخدم رجال الدين لدعوتهم مختلف الفنون؛ فالموسيقى تعزف في الكنائس، وكثير من المعابد آيات من آيات البناء! والأزياء التي يرتديها رجال الدين مزركشة مزخرفة. وهم يظهرون كذلك بمظهر الثراء والنفوذ، ويلعبون بالعواطف، فيثيرون في الناس الفرح والفزع، أو القسوة والشهوة.
وقد ثبت أن هذا اللون من ألوان الدعاية لا يقاوم؛ فتدخين التبغ آخذ في الشيوع، والجماهير تحتشد حول العرض العسكري وحول المواكب الملكية والدكتاتورية، والحفلات القومية. ويجدر بنا في هذا المقام أن نعيد ما ذكرناه من قبل من أن أمثال هذه الدعايات يمكن تخفيف وطأتها بتقوية الملكة الناقدة، وواجب المعلمين أن يدربوا أطفالهم على استكناه الحقائق وتخليصها من الشوائب. ويجب أن ينشأ الشبان على النظر في مشاكل الحكم والسياسة والدين وما إليها بعد عزلها عن جو الدعاية الذي يحيطها به نفر من ذوي المصالح. ويمكن أن يبدأ التدريب بالبحث في طرق الإعلان الشائعة. ويجب أن يدرك الأطفال أنه ليست هناك علاقة ثابتة بين الفتاة الجميلة في زيها وبين مزايا دواء الأسنان الذي تعلن عنه. ويمكننا أن نقدم للتلاميذ هذا الدرس بصورة عملية؛ فنقدم الحلوى الجيدة للأطفال في ورق نقشت فوقه صور بشعة كئيبة، كما نقدم لهم الأدوية الكريهة في ورق رسمت فوقه صور الممثلات المحبوبات. وبعدما تنحل الرابطة بين الشيء المعلن عنه والصورة التي يقدم بها في الإعلان التجاري، نشرع في تدريب الشبان على تطبيق هذه الطريقة في ميدان السياسة والدين. ويمكننا أن نبين للأطفال أن الرجل قد يستمتع بروعة الحفلات والمواكب العسكرية والدينية دون أن يكون لهذه المتعة أثر في حكمه على قيمة الحرب كأداة سياسية، أو على صدق عقيدة معينة أو فائدتها الخلقية. يجب أن نعلمهم أن يقدروا الملكية والدكتاتورية ونظم الحكم الأخرى بمزاياها السياسية والخلقية، لا بما ترتبط به من حفلات ومواكب، ولا بفخامة القصور، أو بلاغة الخطب، أو ما إليها. ويجب أن يعلم الأطفال ذلك بعيدا عن إشراف الدولة؛ لأن الدولة لا يمكن أن تخلص في إشرافها ما دامت تقوم على رأي سياسي معين؛ ومن ثم كانت فائدة التعليم الحر، وضرر إشراف الحكومة على التعليم.
تكلمت فيما سبق على التربية الخلقية والتربية العلمية وتربية العواطف. والآن سأقول كلمة في التربية البدنية، وهي عماد كل أنواع التربية الأخرى. إن الجسم والعقل يكونان كلا عضويا واحدا. ما يحدث في العقل يؤثر في الجسم، وما يحدث في الجسم يؤثر في العقل؛ ولذا وجب أن تكون التربية عملية تدريب بدني وعقلي معا.
فماذا عسى أن تكون طبيعة هذا التدريب البدني؟ هذا سؤال لا تمكن الإجابة عنه إلا في حدود القواعد الأساسية التي قدمناها في هذا الكتاب. ولقد قلت من قبل إن الإنسان المثالي هو الإنسان «المتحرر»؛ وعلى ذلك فإن كل تربية - بما فيها التربية البدنية - يجب في النهاية أن ترمي إلى تحرير الطلاب؛ فإذا أردنا أن نعرف خير أنواع التربية البدنية وجب أن نبدأ ببيان الشروط البدنية للتحرير.
من الواضح أن الرجل العليل لا يمكن أن يكون حرا من القيود؛ ذلك أن الجسم العليل يؤثر في العقل بعدة وسائل؛ وذلك لأن آلام المرض تلزم العليل أن يفكر في علته. والمريض يحسب نفسه دائما دون غيره من الناس، ويرى نفسه ناقصة بمقدار ما في أعضائها من نقائص، وعناء الجسم يسبب عناء النفس.
والجسم هو الأداة التي يستخدمها العقل لإيجاد الصلة بينه وبين العالم الخارجي، وإذا فصحة هذه الأداة تستتبع صحة تلك الصلات. والرجل المريض لا يمكن أن يدرك حقائق الكون، ويقول المتصوفون في الشرق والغرب إن الرجل لا يستطيع التأمل في الوجود إلا إن اتبع قواعد معينة في طعامه وشرابه، واتخذ أوضاعا بدنية معينة؛ ومن ثم كانت خير وسيلة للتربية البدنية هي تلك التي تبعد الناس عن العلة الجسدية.
والإدراك شرط آخر من شروط التحرير. وينبغي أن تعاوننا التربية البدنية على ذلك. ولا شك أن كثيرا من الألعاب يدرب اللاعبين على حصر الذهن ودقة الملاحظة؛ فلاعب الكرة لا يجيد اللعب إلا إذا تدرب على الحركة السريعة الدقيقة، ولا يتوفر له ذلك إلا بالتفكير السريع الدقيق.
وحكم النفس شرط آخر من شروط التحرير. وهو يكون عقليا لأننا لا نستطيع سلامة التفكير إلا إذا تعلمنا أن نبعد عن أذهاننا الأفكار التي ليست لها علاقة بالموضوع الذي نفكر فيه. ويكون حكم النفس كذلك عاطفيا لأننا لا نستطيع صحة الحكم إلا إذا تخلصنا من الحقد والغرور والشهوة والطمع والغضب والخوف وما شابه ذلك. ويكون حكم النفس كذلك بدنيا؛ وذلك كي نتمكن من أداء الحركات في دقة ورشاقة، وعلى صورة لا يمجها الناظرون. والعقل والجسم - كما قلت - شيء واحد؛ ولذا فإن حكم النفس من الناحية البدنية يعاوننا على حكمها من الناحيتين العقلية والعاطفية.
الفصل الثالث عشر
العادات الدينية
الدين وسيلة من وسائل تربية النفس، يعيننا على ترقية الفرد والمجتمع كما يعيننا على الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وعلى توثيق العلاقة بين أنفسنا وبين الكون الذي نحن أجزاء فيه.
هذا هو الدين. فهل تؤدي العقائد والعادات الدينية السائدة إلى هذا الغرض؟ هل تؤدي إلى تقوية الخلق وتقوية الإدراك؟ كلا، وإن أكثر ما نتعلمه ونعمل بمقتضاه باسم الدين فاسد لا يساعد على نشر الخير والفضيلة، ولا ننكر أن هناك عددا قليلا من الناس يستطيعون أن يجعلوا من الدين وسيلة لتحقيق الأغراض النبيلة، وطريقا للوصول إلى بواطن الأشياء وعدم الاكتفاء بظواهرها؛ وذلك لأن الناس يتفاوتون في القدرة على الفهم؛ ولذا فإن الكتب المقدسة والطقوس والشعائر الدينية لها في أذهان الناس معان مختلفة، يصوغونها وفقا لإدراكهم وتجاربهم في الحياة، بل إنهم يستمدون من الكتب المقدسة والشعائر الدينية ما يعزز أهواءهم وميولهم ومعتقداتهم الخاصة.
ونحن نتساءل: إلى أي حد يمكن في العصر الحديث الاستفادة من الشعائر والطقوس الدينية؟ إن الطقوس والشعائر تنشأ من تلقاء نفسها كلما تجمعت الجماهير للاشتراك في حركة عامة تثير فيهم العواطف. ولن تستطيع أن تحمل شخصا لا تهمه هذه الحركة العامة على أن يؤدي طقوسها وشعائرها؛ فالطقوس تقوي العواطف والأهواء، ولكنها لا تخلقها.
إن شعائر المسيحية التقليدية لم يعد لها أثر في بلدان الغرب الصناعية في الوقت الحاضر، إنها لم تعد تربط الدول المسيحية بعضها ببعض. ولا تستطيع أن تنافس الطقوس الجديدة التي أوجدها الشعور بالقومية؛ فالشعوب الغربية اليوم ألمانية أو إنجليزية أكثر مما هي بروتستنتية، وفرنسية أو فاشستية أكثر مما هي كاثوليكية. وأكثر الناس يمارسون الشعائر الدينية لأنهم يجدون فيها مفرا من مجابهة حقائق الحياة، وهم لا يتخذون من شعائر الدين وسيلة لبث الخير في العالم، مع أنهم يستطيعون ذلك إن أرادوا.
هذه هي أوجه الضرر في شعائر الدين. فهل العادات الدينية (ولا أقول المعتقدات) ليست لها قيمة اجتماعية؟ إنها تمدنا ببعض الوسائل التي نستطيع بها أن نهذب النفوس ونصلح الأخلاق ونوسع دائرة الإدراك. وبعض هذه الوسائل بدني وهي على ضروب مختلفة.
إن أكثر المتوحشين بل وبعضا ممن يعتنقون الديانات الراقية يقومون بأداء حركات متزنة كي يحدثوا بها حالة عقلية خاصة. وهذه الحركات قد تتخذ شكل الخطو البسيط إلى الأمام وإلى الخلف كما يفعل بعض القسس الكاثوليك، وقد تتخذ شكل الرقص المعقد كما تفعل الشعوب البدائية في جميع أنحاء العالم. والظاهر أن تكرار الحركات الموزونة يحدث في النفس ما يحدثه تكرار ألفاظ خاصة أو عبارات موسيقية معينة. إنها تهدئ النفس وتبعث العقل على التأمل العميق، كما يفعل قسس الكاثوليك في عزلتهم، وتدفع المرء إلى الشعور بالاتحاد مع الله ومع غيره من الناس (كما يفعل البدائيون في رقصهم الديني). وقد أخطأت المسيحية حينما سمحت للناس أن يجعلوا الرقص من شئون الدنيا.
والزهد وسيلة بدنية أخرى لتهذيب النفس؛ فإن الصوم والسهر والمشقة، والألم الذي يوقعه الشخص على نفسه، كلها وسائل استخدمها أنصار الديانات المختلفة لتدريب الإرادة وترقية الإدراك، كما اتخذوها وسائل للتكفير عن الآثام.
ويتدرب بعض الزهاد الهنود تدريبا منظما على أداء حركات جثمانية معينة حتى يستطيعوا السيطرة على بعض الوظائف الجسمية التي تحدث عادة بطريق لا شعوري فتقوى بذلك إرادتهم، وتحدث لهم حالات عقلية غير عادية.
وهناك ما يدل على أن هذه العادات الدينية وأشباهها قد تأتي بخير النتائج؛ فتمكن الشخص من التحرر من هذه الدنيا، ومن الاتصال بالله. ولكن من الناس من يقوم بهذه الحركات الدينية لمجرد المنافسة والظفر بإعجاب الآخرين، وليس لذلك الغرض السامي المقصود منها. كما أن بعضا ممن يعذبون أنفسهم يفكرون في أنفسهم، ولا يفكرون في الله؛ لأن ذلك يقتضي مرانا طويلا ونفسا قوية؛ ولذا يرى بعض المفكرين ضرورة تحاشي هذه الحركات الدينية؛ لأنها تؤدي في النهاية إلى التفاخر بها، ولا تؤدي إلى الغرض النبيل المقصود منها.
والوسيلة الثانية من وسائل تهذيب النفس بالنفس التي تعلمنا إياها الديانات المختلفة هي محاولة إيجاد علاقة عاطفية قوية بين العبد وربه. وهي الطريقة التي يتبعها أكثر المسيحيين. غير أن بعضهم يوجد هذه العلاقة بينه وبين بطل من الأبطال ؛ ومهما يكن البطل عظيما فهو لا يخلو من العيوب والنقائص، حتى إن المسيح نفسه يصوره المؤرخون رجلا لا يأبه بالفلسفة أو الفن أو الموسيقى أو العلم، يتجاهل شئون السياسة والاقتصاد، والعلاقات الجنسية؛ ولذا فإن التشبه بالمسيح يؤدي إلى احتقار الابتكار الفني، والتفكير الفلسفي، ومشاكل الاقتصاد والسياسة.
وفي كثير من الأحيان لا يتوجه الفرد بإخلاصه إلى رجل من الأحياء أو الأموات، ولكن إلى إله أبدي، بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير. ولكنه يضفي عليه بعض الصفات الآدمية ويتخيله على صورة الإنسان؛ ولذا فالاتصال الروحي هنا له عيوبه؛ لأن العبد يعزو إلى ربه بعض صفات الأفراد. وبعض المسيحيين ينظرون إلى الله كأنه إنسان يحس بالغيرة والحقد ولا يستطيع أن يكبح جماح غضبه، وهو في سلوكه أشبه ما يكون بحاكم شرقي مستبد. وكثيرا ما يسلك الفرد سلوكا مشينا تشبها بهذا الإله الذي له بعض صفات الإنسان، وكثير من الجرائم يرتكب باسم الدين.
وهكذا ترى أن العقائد الدينية الفاسدة تؤدي إلى أسوأ النتائج. يقول أحد الكتاب: «كل ما نحن عليه نتيجة لما فكرنا فيه من قبل.» فإن كان تفكيرنا سيئا كانت أعمالنا سيئة كذلك. كان الأزاتقة يعتقدون أن الشمس كائن حي، غذاؤه الضحايا البشرية، فإذا لم ترق في سبيلها الدماء ماتت، وكان في ذلك الفضاء على كل صورة من صور الحياة فوق الأرض؛ ولذا فإن الأزاتقة قد خصصوا شطرا كبيرا من نشاطهم لإشعال نار الحرب؛ كي يظفروا بالأسرى يقدمونهم طعاما للشمس.
وثمة مثال آخر: إن العقيدة الهتلرية تؤكد أن الجنس النوردي أرقى من الأجناس الأخرى جميعا؛ ومن ثم كان من حقهم أن ينظموا أنفسهم للقتال، وأن يبذلوا قصارى جهدهم للقضاء على قوم كاليهود؛ لأنهم أحط منهم عنصرا.
إذا تخيل الناس ربهم في صورة إنسان أدى بهم ذلك إلى الخطأ والإجرام.
ذكرت حتى الآن طريقتين لتهذيب النفس؛ إحداهما بدنية والأخرى عاطفية. وهناك طرق أخرى غير هذه، منها التأمل. وسنعود إلى الكلام عليه في الفصل المقبل. وتؤدى الطقوس البدنية جماعة في حالة الرقص، وانفرادا في حالة التزهد. وتؤدى الطقوس العاطفية على صورتين. أما التأمل فيحسن أن يكون انفرادا، ولكنه قد يؤدى جماعة إذا كان العدد محدودا، والمجتمعون مدربون على التأمل، وليس بينهم أطفال أو شبان طائشون.
ويلاحظ أن الدكتاتوريين دائما يعارضون الدين؛ لأن التدين يؤدي إلى الانفصال عن الجو المحيط، وهو ما لا يحبه الدكتاتوريون الذين يقدسون الأمة. ثم إنهم لا يحبون أن يروا نفوذ رجال الدين إلى جانب نفوذهم. وهم كذلك لا يحبون أن تخلص الرعية لفكرة غير الفكرة التي يبشرون بها. والدكتاتور - فوق ذلك - لا يطيق أن يرى أشخاصا يميلون إلى العزلة؛ لأنه يحب أن يقوي في شعبه روح الجماعة، كي يسهل عليه التأثير فيهم بما يشاء وقتما شاء.
رجال السياسة عامة - والدكتاتوريون خاصة - يهاجمون الدين؛ ومن ثم كان اضطهاد هتلر للمسيحيين، بروتستانت وكاثوليك. وقد قامت الروسيا ضد الدين بحملات شعواء كما أن مصطفى كمال في تركيا، وابن سعود في بلاد العرب، قد شتتوا الدراويش، وفضوا جماعاتهم. وكذلك موسوليني يستخف بالدين، ويضع قيصر فوق الله، ويدرب الأطفال على الإخلاص للأمة وللحزب الفاشستي وله من دون الله.
الفصل الرابع عشر
المعتقدات
في الفصول السابقة كنت أحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة:
أولا:
ما هو المثل الأعلى الذي نريد أن نبلغه؟
ثانيا:
إلى أي حد بلغنا اليوم؟
ثالثا:
كيف ننتقل من الحالة الراهنة إلى الحالة المثالية التي نحب أن نبلغها؟
وقد أجبت عن هذا السؤال الأخير بطريقة منظمة في سلسلة من البحوث المعقدة في الطرق والوسائل. أما السؤال الثاني فقد أجبت عنه عرضا في مناسبات مختلفة خلال هذه البحوث. أما السؤال الأول فقد وجهته في الفصل الافتتاحي وأجبت عنه في إيجاز شديد. وأحب هنا أن أتعرض لهذه الإجابة بالنقد والتحليل. سأبحث هنا في المثل العليا التي وضعها المصلحون الاجتماعيون، وفي تلك التي وضعها مؤسسو الأديان، وقد قلنا من قبل: «إن ما نحن عليه اليوم نتيجة لما فكرنا فيه من قبل.» فالناس يعيشون طبقا لفلسفتهم في الحياة وفكرتهم عن الدنيا . وكل فرد - حتى أقل الناس تفكيرا له فلسفته الخاصة. ويستحيل على المرء أن يحيا بغير عقائد ميتافيزيقية، وقد تكون هذه العقائد طيبة وقد تكون خبيثة، وقد تتفق والحقيقة وقد لا تتفق وإياها. ولكنها موجودة على أية حال. وكان ينبغي - بحكم المنطق - أن يسبق هذا البحث في طبيعة الدنيا البحث في الطرق والوسائل العملية للنهوض بأنفسنا وبالمجتمع الذي نعيش فيه، ولكن الترتيب المنطقي ليس دائما هو الترتيب الملائم. وقد آثرت لأسباب عدة أن أرجئ هذا البحث في المعتقدات والمبادئ إلى الفصول الأخيرة من الكتاب.
ولنبدأ بملخص غاية في الإيجاز عما نعرف عن العالم الذي نعيش فيه. العلم في عبارة ميرسن
Meyerson
هو الجمع بين المختلفات في وحدة شاملة.
1
وحواسنا هي التي تهدينا إلى المختلفات، وإلى الحقيقة الساذجة التي لم ينظمها العقل. ولكننا لا نقنع بما تهدينا إليه الحواس، إنما نحن نتعطش إلى تفسير المظاهر. والتفسير معناه إيجاد الائتلاف الكامن خلف الاختلاف الظاهر. وكل نظرية تصل إلى توحيد مختلف المظاهر تبدو لنا نظرية طيبة مقبولة.
والطبيعة تروي فينا هذا التعطش العقلي؛ لأن البحث فيها يهدينا إلى ذلك الائتلاف الذي ننشده من وراء الاختلاف. ولكن هذا التفسير ليس في الحقيقة كاملا؛ فكثير من الحقائق الحسية والحوادث تخرج عن حد المعقول ولا يمكن الجمع بينها في وحدة شاملة مؤتلفة. والعلم يعترف بأن للأشياء خصائص مميزة، كما يعترف بأن بينها تشابها يكمن وراء اختلافها الظاهري. وقد أخطأ هجل حينما تصور أن الطبيعة كلها تخضع لأحكام العقل، وخلص من ذلك إلى إمكان استنتاج الحادث قبل وقوعه، وكم كنا نود لو كان الأمر كذلك!
لقد استطعنا إلى حد كبير أن نخضع العالم المادي إلى وحدة شاملة؛ فعالم الطبيعة يرى المادة كلها اليوم مكونة من عدد محدود من أشكال الطاقة، تختلف في صفاتها متفرقة عنها وهي متجمعة. إن بين ملايين الوحدات الذرية متجمعة والوحدة الذرية المفردة خلافا في النوع كما أن بينهما خلافا في الكم. والعلوم الطبيعية، كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة، تدرس المادة باعتبارها مكونة بدرجات مختلفة من الذرات مما يظهرها في صور مختلفة. والخصائص المميزة للأشياء - كما ندركها بالحواس - تتوقف على عدد الوحدات الذرية وترتيبها.
والعلم يصور العالم المادي على أنه مكون من صور مختلفة من مادة واحدة. أما الإدراك العام فينظر إلى هذه الصور المختلفة كأنها مستقلة، لكل منها وجودها الفردي، ولا علاقة بين إحداها والأخرى. وهذا خطأ؛ لأن هذه الصور المفردة المنفصلة بينها شبكة من العلاقات والروابط، كهربية ومغناطيسية وجاذبية وكيميائية، وعقلية في حالة الكائنات ذات الحس، وهذه الشبكة هي التي تعطي وجودها وحقيقتها معنى. إن الكائن المفرد لا معنى له إلا باعتباره جزءا من كل. أو بعبارة أخرى إنه ليس كائنا فرديا. والأشياء التي نسميها عادة كائنات أو مفردات - كالشجرة أو الرجل أو المنضدة - ليست - حقائق حسية كما قد يحسب الخياليون أعداء العقل، إنما هي مجردات من حقيقة مؤلفة من شبكة من العلاقات القائمة بين الأجزاء التي يتوقف وجود أحدها على الآخر، وهي أجزاء من كل كبير غير محدود؛ فالرجل مثلا لا يعد رجلا إلا بفضل علاقته بالكون المحيط، وجوده كله متوقف على جواره للأرض، وجاذبيتها القوية، وعلى إشعاعات من أنواع مختلفة تجعله معتمدا على أجسام سماوية نائية، وهو نتيجة لعملية كيميائية مستمرة. وهو من الناحية العقلية يتوقف وجوده على عقول معاصريه وأسلافه. إن الزعم القائل بأننا كائنات مستقلة، نعيش بين كائنات أخرى مستقلة، لا يقوم إلا على أساس من الجهل. وفي الوقت الحاضر فئة من الناس تصر على اعتبار الأفراد كائنات «حسية» مستقلة، وهم يزعمون أن هذه العقيدة - وإن تكن خاطئة - لا تضللنا بمقدار ما يضللنا أصحاب النظريات السياسية الذين يرون أن الأفراد يجب أن يضحى بهم في سبيل كليات عامة، كالأمة والدولة والحزب ومصير العنصر وما إلى ذلك. والواقع أن هناك درجات مختلفة من المجردات المشتقة من الحقائق الفردية؛ فالكليات التي تعالجها النظريات السياسية تنتمي إلى مجردات أرقى من المجردات التي تتمثل في الكائنات المفردة المستقلة، والتي يحسبها الرأي العام كائنات مستقلة حسية فعلا؛ فالنظريات السياسية أشد تجريدا من الكائنات المفردة. وأما الخطر الذي ينجم عن الاهتمام بالمجردات البعيدة ، كالأمة والدولة، فيمكن تفاديه إلى حد ما بإصرارنا على أن الأفراد من رجاء ونساء كائنات حسية، أشد حساسية من الأمة والدولة.
وقد دلت البحوث العلمية الحديثة على أن العالم الذي ندركه بالتجارب الحسية والإدراك الفطري العام ليس إلا جزءا صغيرا من العالم بوجه عام وهو جزء صغير منه لأننا نعيش في نقطة ضئيلة من الكون الواسع، ومعرفتنا بالأجزاء النائية من الكون ضيقة محدودة. ثم إن الأعضاء التي نستخدمها في الاتصال بالعالم الخارجي لا تستطيع فهم الحقيقة كلها. وحتى إن استطعنا أن نقوم برحلات كشفية في عالم الكواكب فسنظل عاجزين عن أن ندرك من الذبذبات الكهربية المغناطيسية ما هو أقصر من البنفسجية أو أطول من الحمراء، وسنظل عاجزين عن رؤية الجزئيات أو الإحساس بها برغم حجمها الكبير. ولا نستطيع أن ندرك الحد الأدنى من وحدة الزمن، وسوف نظل صما بالنسبة للأصوات التي تزيد في الارتفاع على حد محدود وسوف نظل محرومين من تلك الموهبة التي تعين الطيور المهاجرة على معرفة الاتجاه الصحيح، وهكذا. إن كل نوع من أنواع الحيوان يسكن كونا من صنعه الخاص، يشتقه من عالم الحقيقة عن طريق قواه الذهنية وأعضاء الإدراك لديه. والإنسان - بطبيعة الحال - أقوى ذهنا من الحيوان؛ فهو يستطيع أن يدرك شيئا عن العالم الأكبر الذي يحيطه بكونه الخاص. إنه قد لا يرى من الأشعة ما هو فوق البنفسجية، ولكنه يستنتج وجود الأشعة البنفسجية، بل ويستغلها، برغم أنه لا يدركها بإحدى حواسه، ولا بإدراكه الفطري العام. فالعالم المادي كما نتصوره إذا أوسع مما تدركه الحواس.
وأكتفي بهذا القدر عن الصورة العلمية للعالم المادي. ثم أحاول الكلام على الصورة العلمية للعقل. ليست هناك صورة علمية واحدة للعقل، بل هناك صور متعددة لا يمكن التوفيق بينها. يعتقد بعض العلماء أن العقل ليس إلا مظهرا من مظاهر المادة، يشبهها في كل صفاتها، وأن المخ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. وأن النشاط العقلي كله يمكن تفسيره بالأفعال الشرطية المنعكسة. والعقل عندهم ليس سوى آلة تكونت أثناء التطور للحصول على الطعام، ولإرضاء الرغبة الجنسية، ولتوفير أسباب البقاء. ويرى آخرون - على العكس من ذلك - أن العقل لا يمكن إدراكه عن طريق المادة التي هي من خلق العقل، وإنما المرء لديه نوع من «الوعي» يمكنه من إصدار الحكم الصحيح على طبيعة العالم، فأي هذين الفريقين على صواب؟
إن البحث الحديث في الطب وفي علم النفس التجريبي قد ألقى ضوءا على طبيعة العقل، وعلى قيمته في العالم. يعتقد الأطباء أن كثيرا من حالات المرض ينشأ عن حالات عقلية خاصة؛ فالعقل كثيرا ما يحب أن يصاب صاحبه بعلة من العلل، أو قد يكون العقل مضطربا فيعجز عن أن يقي البدن شر المرض. ومهما تكن طبيعة العقل فإن مقاومة المرض تتوقف إلى حد كبير على الحالة النفسية للمريض. ولقد كان من الأبحاث التي دارت في المؤتمر الأمريكي لأمراض الأسنان الذي انعقد عام 1937 أن فساد الأسنان نفسه قد يكون ناشئا من أسباب عقلية. وكما أن العقل يسبب العلة فهو كذلك يجلب الشفاء، ولا شك أن المريض المتفائل أقرب إلى الشفاء من المريض القلق التعس. وقد دلت تجارب التنويم المغناطيسي على أن المنوم يستطيع في بعض الحالات أن يعالج النائم بما لديه من قوة التأثير، ويستعمل التنويم المغناطيسي كذلك للتخدير؛ فيمكن إجراء العمليات للنائم دون أن يحس.
وأمكن كذلك إثبات «انتقال الأفكار»
Telepathy ، ورؤية الأشياء قبل حدوثها، فكيف يتم انتقال الفكر؟ من الواضح أن هذه العملية تختلف عن انتقال الحديث بالراديو؛ لأن قوة الرسالة الفكرية لا تضعف بطول المسافة كما يضعف الحديث المذاع بالراديو. وقد قرر الأستاذ برود
C. D. Broad
أن هناك وسطا عقليا محضا تسبح فيه العقول والأفكار، ولما كنا نستطيع أن ننظر إلى الشيء قبل وقوعه فلا بد لنا أن نفرض وجود الوسط العقلي مستقلا عن الجسم وعن ظروف الحياة الجسمية المتصلة بالزمان والمكان. وإذا فأصحاب نظرية «الوعي» أقرب إلى الصواب من السلوكيين ومن أولئك الذين يعتقدون العقل مظهرا من مظاهر المادة. (ثم يحاول هكسلي بعد ذلك أن يثبت أن الإنسان هو أقدر الكائنات على التطور؛ ولذا فهو أقدرها على تحقيق المثل العليا، ولا أرى ضرورة لتلخيص هذا الجزء من هذا الفصل.)
الفصل الخامس عشر
قواعد الأخلاق
لكل فلسفة قواعدها الخلقية، والقواعد الخلقية التي نستنبطها من الفلسفة التي قدمناها في هذا الكتاب تقوم على المبادئ الآتية: الخير هو ما يعمل على الاتحاد، والشر هو ما يعمل على الانفصال. أو بعبارة أخرى، إذا استعملنا الألفاظ التي اصطلحنا عليها في الفصول الأولى، قلنا إن الانفصال هو عدم التحرر، وبغير التحرر لا يستطيع الفرد أن يتحد مع الله أو مع الأفراد الآخرين عن طريق اتحاده بالله. وسوف أحاول في هذا الفصل أن أطبق قواعدنا الخلقية على الحياة.
الخير والشر يقعان في دائرة الحس، وفي دائرة العواطف، وفي دائرة العقل. وهذه الدوائر الثلاث لا يمكن من الوجهة العملية فصلها. ويجب علينا أن نضع هذه الحقيقة دائما نصب أعيننا حينما نقسم المظاهر إلى بدنية وعاطفية وذهنية، كي نتحاشى الخطأ في التفكير.
ولنبدأ بالنظر إلى الخير والشر في دائرة الحس ... نستطيع أن نقول إجمالا أن أي إحساس بدني قوي، سواء كان سارا أو أليما، يدفعنا إلى أن نحصر الفكر فيه، ويكاد المرء أن يصبح ذلك العضو الذي يقع عليه الإحساس دون غيره من الأعضاء، وحينئذ يصبح التسامي بالنفس أمرا عسيرا. إن فرط الألم والسرور يعمل على حرمان النفس من لذة التحرر، ولعل هذا هو ما حدا بالمفكرين الشرقيين إلى الإصرار على صحة البدن كشرط أساسي للاتحاد الروحي بالله. أما المسيحيون فهم على رأيين في ذلك؛ منهم من يرى ضرورة تعذيب الجسم، ومنهم من يصر على ضرورة صحته. ويمثل مؤلف كتاب «سحب الجهل» الرأي الثاني، ويمثل باسكال الرأي الأول؛ فالمرض - عند باسكال - شرط للمسيحية الصادقة؛ لأن المرض يحررنا من النزوات الطائشة، وينقذنا من تشتيت الذهن؛ لأن المرض يحررنا من النزوات الطائشة، وينقذنا من تشتيت الذهن؛ إذ لا شك أن المريض يحصر ذهنه في مرضه، ولا شك أن المرض يبعده عن أماكن اللهو والفساد. ولكن باسكال يتجاهل أن المرض قد يكون عاملا من عوامل تشتيت الذهن ؛ لأنه يبعث على القلق ويسبب الألم. على أن هناك عنصرا من الحقيقة في رأي باسكال؛ فالمرض أو العيب الجثماني - حينما لا يكون كبيرا - قد يذكرنا بأن الدنيا ليست كما يصورها الجانب الحيواني في الإنسان، أو كما تخيلها لنا رغبتنا الشديدة في العلو على الجماعة التي نعيش فيها. والعقل الذي يصل إلى هذا يمكن صاحبه من تركيز إرادته تركيزا لا يستطيعه الرجل العادي، ولما كان باسكال يشيد بقيمة المرض فهو يدافع عن ضرورة إحداث الألم والتدريب على مقاومته. ولكن هذه الطريقة من الخطورة بمكان؛ لأن الألم كثيرا ما نغالبه فيغلبنا، وحينئذ ننتهي إلى عدم التحرر، وهو ما لم نقصد إليه.
أما صاحب كتاب «سحب الجهل» فهو يرى أن المرض عقبة كأداء في طريق الإخلاص لله؛ ولذا فهو إثم من الآثام.
ولا بد لنا ونحن نتكلم عن الخير والشر في دائرة الحس، أن نتعرض للكلام عن الشهوة الجنسية. ليست الشهوة الجنسية نشاطا بدنيا فحسب، إنما هي كذلك نشاط عقلي وعاطفي، وهي قد تكون خيرا في بعض الأحيان، وشرا في أحيان أخرى؛ فهي شر إذا استرسل فيها الشخص، وأدمنها كما يدمن تعاطي الكحول أو المورفين. وذلك لأن المدمن لا يكاد يفكر في شيء سوى وجوده الحيواني المنفصل. والمدمن نهم لا يشبع، وهو عبد لشهوته، تتحكم فيه ولا يتحكم فيها. المدمن يعمى عن صلته بالله وبالكائنات الأخرى، وهو يدرك هذا النقص في نفسه، وهذا الإدراك يضنيه.
والشهوة شر كذلك حينما يتخذها صاحبها وسيلة لإشباع شهوة السلطان والنفوذ؛ فالحب قد يكون وسيلة لفرض إرادة العاشق على معشوقه. ولا فرق في ذلك بين الماركيز دي ساد الذي كان يجد لذة في ضرب النساء بالسياط وإيذائهن بالسكاكين، وبين الأم التي تتودد إلى ابنها كي تبسط نفوذها عليه؛ فالفرق في الحالتين فرق في الطريقة والدرجة وليس في الطبيعة والنوع. إن الإدمان يحط من قدر المدمن وحده، ولكن شهوة السلطان يمتد ضررها منه إلى أولئك الذين يشبع على حسابهم شهوته.
وقد تتخذ الشهوة الجنسية وسيلة لإشباع الغرور الاجتماعي، وذلك - مثلا - حينما يتزوج الرجل من أجل المال أو الألقاب أو النفوذ الاجتماعي؛ فالشعور الجنسي هنا أداة للشره والطمع، وهما رغبتان ملحتان تحجبان الحقيقة عن الفرد الذي يتصف بهما. ومن الناس من يتزوج من المرأة الجميلة أو ذات الامتياز لمجرد التفاخر أمام الناس، وهذا كذلك نوع من الشره، لا يطمع صاحبه في امتلاك المال، وإنما يطمع في امتلاك إنسان بما لديه من صفات ممتازة.
وتساعد الرغبة الجنسية صاحبها أحيانا - فوق إشباع اللذة وشهوة النفوذ - على الاتحاد بالناس وبالعالم المحيط به. من الأقوال المأثورة: «كل الدنيا تحب العاشق.» وعكس ذلك صحيح؛ فالعاشق يحب الدنيا كلها كذلك. ويقول تراهيرن
Traherne : «إن شدة الشغف بمخلوق واحد ليس سوى شرارة صغيرة من ذلك الحب الذي يحمله المحب نحو العالم بأسره.» والعشق - فوق ذلك - يلهم المرء بإدراك الحقائق العليا. تقول العامة: «الحب أعمى.» ونحن نقول: «الحب مبصر.» لأن المحب يتصل بالعالم وبحقائق الأشياء.
والآن لننظر بإيجاز شديد في العلاقة بين النشاط الجنسي والنشاط العقلي. بحث هذا الموضوع الدكتور أنوين
Dr. J. D. Unwin
في كتابه القيم «الجنس والثقافة»، وتلخص النتائج التي وصل إليها أنوين مدعمة بالبراهين الدامغة فيما يأتي:
يمكن تقسيم العالم تقسيما ثقافيا أربعة أقسام: الحيواني، والإنساني، والإلهي، والعقلي. أحطها الحيواني، وأرقاها العقلي. وقد دل البحث على أن النشاط الثقافي يساير العفة الجنسية قبل الزواج وبعده؛ ذلك لأن العفة الجنسية تبعث من يلتزمها على التفكير والنشاط. غير أن هذا النشاط أحيانا قد يتخذ صورة الاعتداء، ولكنه - بعد بضعة أجيال - سوف يتجه نحو الإنتاج العلمي والفني والاجتماعي. ولا شك أن هذا الإنتاج سوف يكون له أثر كبير في تهذيب الناس وترقيتهم.
ومما يدعو إلى الأسف أن التاريخ يهدينا إلى أن المجتمع لا يستطيع احتمال العفة الجنسية أجيالا عديدة؛ فسرعان ما يدب الفساد الجنسي في جسم الجماعة، وحينئذ يفتر نشاطها العلمي والاجتماعي. يقول الدكتور أنوين: «للمجتمع الإنساني أن يختار أحد أمرين: إما أن يكون جم النشاط، أو أن يستمتع بالحرية الجنسية، والدليل قائم على أنه لا يحتمل الأمرين معا فترة طويلة من الزمن.»
ومن الحقائق التاريخية القاسية كذلك أن التزام العفة الجنسية والزواج بواحدة يؤديان إلى ظلم النساء والأطفال، والنظر إلى المرأة كأنها من الرقيق، أو كأنها خلقت لمتاع الرجل. ويقول الدكتور أنوين في هذا الصدد: «إن عدم مساواة المرأة بالرجل - لا التزام العفة الجنسية - هو الذي أدى إلى إباحة الزواج بأكثر من واحدة. ولم يفلح مجتمع من المجتمعات في تنظيم الصلات بين الجنسين بحيث تبقى الأعمال الجنسية عند حدها الأدنى زمنا طويلا. والنتائج التي نستخلصها من الشواهد التاريخية أننا إذا أردنا أن نصل إلى هذه الغاية وجب أن يوضع الجنسان على قدم المساواة التامة في الحقوق الشرعية.»
هذا موجز مقتضب جدا لآراء أنوين. وأول ما نستخلصه منها «أن العفة الجنسية تبعث على التفكير، ولا يبعث التفكير عليها.» ثم نلاحظ أن المجتمع في المرحلة الأولى - المرحلة الحيوانية - يسترسل في الاستهتار الجنسي، ولا يدرك الخير والشر، ولا يستطيع أفراده أن يتصلوا بالله أو يتصل بعضهم ببعض اتصالا اجتماعيا نبيلا. والإنسان لا يعلو بفكره إلا إذا أدرك العلاقة بينه وبين العالم، وبينه وبين غيره من الناس؛ ولذا فإن قدرا من العفة الجنسية يجب أن يسبق هذا الإدراك، كما يسبق أي لون من ألوان النشاط الذهني. ولكن التاريخ يدلنا على أن هذا النشاط الذهني الناشئ عن العفة الجنسية قد يتجه اتجاها غير خلقي، وما أشبه النشاط الذهني والاجتماعي بالمياه المتدفقة، يمكن أن تستخدم لتهديد الضعيف واستغلال الفقير، كما يمكن أن تستخدم في اكتشاف أسرار الطبيعة وخلق آيات فنية كبرى وإيجاد الصلة بين الإنسان وبين الحقيقة النهائية.
العفة إذا فضيلة، وهي من الفضائل الكبرى لأنها توفر للجماعات النشاط الذهني كما تمكن الأفراد من سعة الإدراك والتحرر من الحيوانية، ولكنها تعد من ناحية أخرى من الفضائل الصغرى التي يستطيع المرء أن يستغلها في الخير أو في الشر، كالشجاعة والمعرفة. إنها فضائل إذا لم تستند إلى الفضائل الكبرى - الحب والذكاء - فقد تكون سلاحا ذا حدين. ومن الأمثلة التاريخية لذلك أن البيورتان الإنجليز (المتطهرين) اتجهوا اتجاها حربيا وتشبعوا بالروح العسكرية وحب الاضطهاد والاستغلال الاقتصادي والميل إلى الشدة والقسوة. العفة لا تستلزم بطبيعتها التسامح، بل إنها كثيرا ما تدفع صاحبها إلى ارتكاب الشرور.
وأكتفي بهذا القدر من البحث في مشكلة الخير والشر في دائرة الجسم، وعلاقتهما بالشهوة الجنسية. وأنتقل الآن إلى الكلام على الخير والشر في دائرة العواطف. وليست بنا حاجة إلى الإسهاب في هذه النقطة؛ لأن أحدا لا ينكر أن أكثر الآثام والشرور نتيجة للغضب والحسد والخوف؛ فهي إحساسات تدفع المرء إلى الاهتمام بنفسه دون غيره من الناس.
ولعل أسوأ الرذائل جميعا حب النفوذ والسلطان؛ فالشهوة الجنسية لها حد تقف عنده، أما شهوة النفوذ فلا تعرف الحدود. والظروف الحاضرة تشجع على هذه الرذيلة؛ فالأطفال في أوروبا وأمريكا ينشئون على الإعجاب بالرجل الذي يرقى اجتماعيا وبالرجل الذي ينجح في حياته. إنهم يحسدون الغني المشهور، ولكنهم يحترمونه ويطيعون أمره. أو تستطيع بعبارة أخرى أن تقول إن الطمع يعد من الفضائل! إن عالمنا لن يرتقي حتى يعتقد الناس أن الرجل الذي يطمع في السلطان رجل منحط كزميله النهم أو كالبخيل، وإن شهوة السلطان كإدمان الشراب أو الشذوذ الجنسي. الطمع رذيلة من أحط الرذائل. يقول لاروشفوكو: «إن الرجل قد يتخلى عن الحب في سبيل الطمع، ولكنه لا يتخلى عن أطماعه في سبيل الحب.» ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن الرذائل النفسية قد تختلط بالفضيلة، حينما يزعم صاحبها أنه يتخذها وسيلة لتحقيق أغراض نبيلة. ولكننا رأينا من قبل أن الغايات الطيبة لا تتحقق إلا بالوسائل الطيبة.
وأنتقل بعد هذا إلى الكلام عن الخير والشر كما يتبينان في دائرة العقل. قلت من قبل: إن الذكاء أحد الفضائل الكبرى، وإن التسامح وغيره من الفضائل الصغرى لا تجدي بغير ذكاء. ويمكن تقسيم الذكاء إلى نوعين بالنسبة إلى الغرض الذي يرمي إليه؛ ذكاء ينحصر في معرفة الأشياء والحوادث التي تقع في العالم الخارجي، وفي القدرة على علاجها. وذكاء ينحصر في معركة مظاهر العالم الداخلي، وفي القدرة على علاجه. أو بعبارة أخرى: هناك ذكاء يتعلق بالنفس وذكاء يتعلق بما لا يمت إلى النفوس بصلة. والرجل الذكي حقا هو الذي يأخذ من نوعي الذكاء بنصيب. ولكن قل من الناس من تستطيع أن تسميه كامل الذكاء؛ فكم من رجل يستطيع أن يتعرض للعالم المحس بالنقد والتحليل، ولكنه عاجز عن فهم الآراء المجردة والعلاقات المنطقية والمشاكل العاطفية والخلقية. وكم من رجل متخصص في علم من العلوم أو في الفن أو الفلسفة، ولكنه يجهل طبيعته ودوافعه الباطنة جهلا فاضحا، ويعجز تماما عن السيطرة على ميوله. الفيلسوف هو الرجل الذي يحب الحكمة ويعيش وفقا لها. كم من فيلسوف يملأ قلبه الحقد والحسد والغرور ... ويقول أحد مؤرخي نيتشه الفيلسوف إنه في الوقت الذي كان يكتب فيه عن الإنسان الكامل كان يعجز عن أن يكبح جماح شهوته إلى الكعك والحلوى، وكان يتناول منها حتى يتخم بها. كان نيتشه مشغوفا بالحلوى، ولكنه يمقت المرض والموت! فهل تستطيع أن تسمي نيتشه إنسانا كاملا؟ ثم إنه كان يرفع فلسفة كانت إلى مرتبة التقديس، وفي تقديس أية فلسفة من الفلسفة نزعة صبيانية. وما نشاهده في نيتشه نشاهده في هجل وغيره من الفلاسفة؛ فهم أذكياء في ناحية، أغبياء في نواح أخرى عديدة. هؤلاء هم من نسميهم الحمقى الأذكياء. ونظامنا التعليمي اليوم يخرج لنا عددا كبيرا منهم، يفهمون العالم الخارجي، ولا يفهمون أنفسهم، أو لا يسيطرون عليها.
ومن هذا ترى أن الخير في دائرة العقل هو ما يعمل على زيادة معرفتنا بأنفسنا. •••
حاولت في هذا الكتاب أن أبحث في مشاكل السياسة الداخلية والدولية، وفي الحرب والاقتصاد، وفي شئون التعليم والدين والأخلاق، وقد قدمت ما هداني إليه الفكر من حلول، ولا أقول إني وفقت كل التوفيق، ولكن المحاولة خير من عدمها في كل حال.
نامعلوم صفحہ