ورثة الممالك المنسية: دیانات آفلہ فی الشرق الاوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
اصناف
حاول السياسي القبطي وليم مكرم عبيد الوصول إلى أرضية مشتركة مع الإخوان، وكان السياسي الوحيد الذي احتج عندما حلت الحكومة المصرية الحركة عام 1948. كما كان السياسي الوحيد الذي حضر جنازة حسن البنا بعد مقتل الأخير على يد عملاء حكوميين في العام التالي. وبدورهم، زعم الإخوان أنه ليس لديهم أي خلاف مع الأقباط. لكن من الناحية العملية، أرادت الحركات الإسلامية الجديدة تقويض خصومها العلمانيين. وقد ساعدتهم مهاجمة الأقباط، الذين غالبا ما لعبوا دورا في الأحزاب العلمانية في البلاد، في هذا المسعى. وفي أربعينيات القرن الماضي، أدى الخطاب الإسلامي إلى حرق الكنائس، والاعتداء على الكهنة، ومهاجمة الاحتفالات القبطية. وفي الوقت ذاته، أثر حتما تركيز البنا على النضال ضد الأجانب المسيحيين في خطاب الإخوان المسلمين حول المسيحية بشكل عام. ولم يشارك الإخوان إسماعيل حماسه لأن تكون مصر دولة يتساوى فيها جميع المواطنين. وبدلا من ذلك، كان البنا فخورا بمصر بالأساس؛ بسبب دورها التاريخي في الدفاع عن الإسلام في مواجهة الصليبيين، تلك الرؤية التاريخية التي لم تمنح الكثير من الكرامة الحقيقية للأقباط. فقد قدمت الحركة للأقباط موقف الدونية السلمية، وليس المساواة التي قدمها بعض القوميين العلمانيين.
وعندما حدث الاستقلال فعلا، لم يصعد إلى السلطة ليبراليون على غرار زغلول ولا إسلاميون. ففي عام 1952، أطيح بفاروق، حفيد حفيد محمد علي، على يد مجموعة من ضباط الجيش الذين لم يكونوا معروفين من قبل. وأصبح أحد هؤلاء، وهو محمد نجيب، رئيسا للبلاد. وبعد ذلك بأربع سنوات أطاح به البكباشي جمال عبد الناصر، الذي نجح بعد ذلك في تحقيق انسحاب جميع القوات البريطانية من البلاد، وحكم مصر من عام 1956 حتى عام 1970. ومع أنه خلص مصر من كل سيطرة أجنبية، إلا أن عنوان سيرته الذاتية ليس «أول المصريين» بل «آخر العرب». فقد كان المؤلف يشير إلى حقيقة أن عبد الناصر رأى نفسه عربيا وليس مصريا؛ إذ أراد للشعوب الناطقة بالعربية، التي تعيش في بلاد مختلفة تمتد من مراكش إلى بغداد، أن تتحد وتثور على حكامها الاستعماريين، وتشكل أمة واحدة.
لم يكن عبد الناصر مهتما جدا بمصر على هذا النحو. وبالفعل اختفى اسم «مصر» من على الخريطة أكثر من عقد، حيث غير ناصر اسم الدولة إلى الجمهورية العربية المتحدة وسعى إلى توحيدها مع سوريا. كما أعاد توزيع أراضي مصر، وسحق النظام الإقطاعي القديم. أثر هذا على ملاك الأراضي المسلمين والأقباط على السواء، ولكن بما أن النخبة القبطية العادية كانت تبلي بلاء حسنا في ظل النظام الملكي، فقد تأثرت بشدة؛ يشير أحد التقديرات إلى أن الأقباط فقدوا خمسة وسبعين بالمائة من ثرواتهم وممتلكاتهم. وكان الأقباط العاديون من الطبقة العليا الذين أفقرهم هذا الإجراء في كثير من الأحيان من قادة الطائفة السياسيين، ومن ثم لم تكن الطائفة أفقر فحسب، بل كانت أيضا أقل نفوذا. ولم يضم مجلس قيادة الثورة المؤلف من ثمانية عشر عضوا، والذي تولى إدارة مصر بعد الثورة، مسيحيا واحدا. ومع ذلك، لم يسمع أحد تقريبا بواقعات عنف ضد الأقباط بينما كان عبد الناصر على قيد الحياة. ويرجع ذلك جزئيا إلى أجهزته الأمنية المخيفة، التي قمعت الحركات الإسلامية بلا رحمة، وإلى شعبيته الكبيرة. لم يعبر ناصر أبدا عن أي تحيز ديني؛ فهناك مكان للمسيحيين وكذلك للمسلمين في القومية العربية (وفي الواقع، كان بعض مؤيديها الأوائل من المسيحيين السوريين). وكان ناصر على علاقة وثيقة بالبابا القبطي، وقام بمبادرات جيدة تجاه الأقباط مثل حضور افتتاح كاتدرائيتهم الجديدة في القاهرة.
وفيما يخص طائفة أخرى، كان صعود ناصر بمنزلة بداية النهاية. ففي عام 1956، بعد أن انضمت إسرائيل إلى بريطانيا وفرنسا في مؤامرة سرية لزعزعة استقرار مصر والاستيلاء على قناة السويس، جرد ناصر العديد من المصريين اليهود من جنسيتهم. وعمل على طرد الآلاف من البلاد، وتأميم - أي: مصادرة - أعمالهم التجارية. وكانت اليهودية هي الديانة الأقدم في البلاد؛ حيث كان هناك يهود في مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل. وقال لي طبيب مصري مسيحي يدعى أمين مكرم عبيد في شقته المطلة على النيل: «كان لدينا جيران يهود عندما كنت طفلا. رجل يدعى السيد شحيط وعائلته. أخبر والدي أنه وجد زوجا لأختي. وبعد ذلك ببضعة أشهر اختفى. اختفوا جميعا. كنا نشك فيما حدث» - كانوا قد رحلوا - تنهد الطبيب قائلا: «ولكن لم يكن لدى أي منا الشجاعة للسؤال؛ لأننا حينئذ كنا سنتورط بوصفنا مسيحيين. كيف يمكن أن يؤثر إيمان شخص ما داخل أربعة جدران على قبول المجتمع له؟» كان قد علق لوحة لرجل يرتدي شالا يهوديا للصلاة في موضع هو أول ما يراه الزائر، على أمل أن تصدم الناس وتبعد عنهم تحيزهم. لا يزال يوجد كنيس يهودي واحد في القاهرة، ولكن لم يتبق في البلد كله سوى عشرة يهود.
بعد وفاة عبد الناصر، واجه الأقباط تحديا جديدا. فقد كانت عمليات حرق الكنائس نادرة قبل عبد الناصر ولم يسمع بها أحد خلال مدة حكمه. وعندما أصبح أنور السادات رئيسا عام 1970، تغير هذا الحال. فقد نصب السادات نفسه على أنه «الرئيس المؤمن»، ولكي يطوق منتقديه اليساريين، تحالف مع الإسلاميين. ومنحت العصابات المتطرفة ترخيصا واسع النطاق للعمل في الجامعات المصرية، حيث هاجموا منتقدي السادات اليساريين وفرضوا أيضا نسختهم الخاصة من الشريعة الإسلامية في الجامعات. وفي عام 1972، كان الحرق المتعمد لإحدى الكنائس القبطية إيذانا ببداية حقبة جديدة من العنف الطائفي.
في الوقت ذاته، كان نهج الحكومة في التعليم يمر بتغيير أوسع نطاقا. تذكر يوسف سيدهم، المحرر بجريدة «وطني» القبطية، تلك المرحلة عندما تحدث معي في مكتبه بوسط القاهرة. «بعد أسلمة مصر في أواخر السبعينيات، حذف التاريخ المسيحي من المنهج الدراسي. فقد مورس ضغط من أولئك الذين تولوا شئون التعليم. وسلب التاريخ القبطي.» وفي الكتب المدرسية الجديدة، خصصت أربع صفحات فقط من 240 صفحة للتحدث عن ماضي مصر المسيحي. وحل القرآن محل الشعر الدنيوي في فصول اللغة العربية، مهمشا التراث الثقافي المشترك بين المسيحيين والمسلمين. وخصصت شبكات التلفزيون الحكومية للبرامج الدينية الإسلامية ثلاثين ساعة في الأسبوع، بينما خصصت للبرامج المسيحية مساحة زمنية مرة واحدة فقط في السنة (في عيد الميلاد المجيد). وفي مقال متعمق لصحيفة «الأهرام» المصرية في مايو 2013، تذكر الخبير التربوي كمال مغيث أنه في الثمانينيات، صرح أحد كتبه المدرسية بأن الكتاب المقدس ملفق. وأجبر زملاؤه المسيحيون على حفظ آيات من القرآن.
كذلك أشار لي جورج إسحاق، وهو معارض مخضرم للحكومة العسكرية المصرية، أن عصر السادات كان هو اللحظة المحورية. وقد ذاع صيت إسحاق، وهو رجل في الستينيات من عمره، قبل عشر سنوات بسبب احتجاجاته الصريحة على حكم الرئيس حسني مبارك. والتقيت به في مقهى للفنانين يسمى جروبي. ومن الواضح أنه كان يحظى بشعبية بين الزبائن؛ فأثناء حديثنا، كان يقاطعنا شخص ما كل دقيقتين ويصافحه، أو ينهض هو نفسه لتحية شخص ما على طاولة أخرى.
قال إسحاق، بين هذه المقاطعات: «بدأت الطائفية في مصر مع السادات. فعندما قال السادات: «أنا مسلم وهذه دولة مسلمة»، تسبب هذا في خوف الناس بما يتجاوز المعنى الحرفي للكلمات. وسواء أكان ذلك من حسن الطالع أم العكس، فقد كان رئيس الكنيسة القبطية في ذلك الوقت رجلا يدعى شنودة» - كان يقصد البطريرك شنودة الثالث، الرجل الذي كرس كنيسة القديس مرقس - «وكان يتمتع بشخصية مؤثرة. وجذب الناس إلى الكنيسة، وأصبحت حياتهم كلها داخل الكنيسة.» أومأت برأسي موافقا. فقد رأيت آثار ذلك في الكنيسة في شبرا، التي كانت أكثر بكثير من مجرد مكان للصلاة. لقد أصلح شنودة الكنيسة القبطية، مانحا القوة لجيل جديد من رجال الدين المتعلمين والمتسمين بالحيوية؛ فقد كان هو ومعاصروه مصدر الإلهام لحدوث طفرة في أعمال الرهبنة. «ثم بدأ التوتر. وتظاهر الكهنة عندما منعوا من بناء الكنائس.» فقد اشترط قانون مصري قديم على الأقباط الحصول على تصريح قبل بناء كنيسة جديدة، أو حتى تجديد كنيسة قائمة. وكانت حكومة السادات بطيئة في منح هذه التصاريح؛ مما تسبب في حالة من الإحباط وسط الأقباط. وفي عام 1981، أدى خلاف حول خطة لبناء كنيسة قبطية إلى اشتباكات دامية في ضاحية فقيرة ومكتظة بالقاهرة؛ حيث قتل سبعة عشر شخصا في أسوأ حادث على الإطلاق من أعمال العنف بين الأقباط والمسلمين. وقاد البطريرك شنودة الثالث احتجاجا سلميا على ما اعتبره إخفاقا حكوميا في حماية الأقباط، واتهم الإسلاميون شنودة بالسعي لإقامة دولة قبطية، وقالوا إن الدولة الإسلامية وحدها هي التي ستوقف العدوان القبطي، ودعوا إلى فرض حظر كامل على الكنائس الجديدة. واستجاب السادات لذلك الأمر بوضع شنودة وعدد من رجال الدين المسلمين قيد الإقامة الجبرية. لكن في وقت لاحق من ذلك العام، اغتيل السادات على أيدي متطرفين إسلاميين غاضبين من اتفاق السلام مع إسرائيل. (صاح الرجل الذي أطلق عليه الرصاصات القاتلة وهو يفعل ذلك قائلا: «قتلت الفرعون!») حل حسني مبارك محل السادات وبنى ظاهريا علاقة أفضل بكثير مع الكنيسة القبطية، حيث منح تصاريح لبناء الكنائس وجعل عيد الميلاد القبطي عطلة رسمية. لكن إسحاق رأى الأمور بشكل مختلف. وتابع قائلا: «لقد وجد مبارك أن بإمكانه استخدام هذه القضية لتشتيت الانتباه. وقامت القوات الأمنية بتحالفات تكتيكية مع السلفيين.» كان السلفيون إسلاميين مثل الإخوان المسلمين لكنهم عزفوا عن السياسة.
وزاد عدد قوات الأمن زيادة كبيرة في مواجهة خطر الإرهاب. فبين عامي 1974 و2004، ومع تزايد الاعتداءات على الأقباط والشرطة نفسها، زاد عدد أفراد الشرطة المصرية من 150 ألفا إلى 1,7 مليون. ومع ذلك، ظل الأقباط محرومين من المساواة. فلا يوجد رؤساء جامعات أو رؤساء شركات حكومية أقباط. وأخبرني موظف بنك مصري، مسلم، أن الموقف تجاه الأقباط يشبه الموقف الذي «قد تتخذه تجاه أخ أصغر؛ غير شقيق، في الواقع. شخص تعرف أنه موجود، لكنك تفضل حقا عدم وجوده.» ولم توفر حكومة مبارك الحماية الكاملة للأقباط. فعلى سبيل المثال، في شهر يناير من عام 2000، قتل ستة عشر مسيحيا في قرية الكشح. وكانت أطول عقوبة أصدرت في جرائم القتل عامين، على الرغم من أن رجلا حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات إضافية لحيازته سلاحا ناريا غير مرخص.
ومع ذلك، لم تواجه الكنيسة القبطية مبارك أبدا بالطريقة التي واجهت بها السادات لمدة وجيزة. كما أنها لم تطالب بالديمقراطية في مصر، أو وافقت على مشاركة الأقباط في مظاهرات ميدان التحرير عام 2011. ويبدو أنها شعرت أن البديل لمبارك - وهو الإخوان المسلمون - سيكون أسوأ. ولم تفعل جماعة الإخوان شيئا يذكر لتهدئة مخاوف الأقباط عندما دعت في التسعينيات إلى إقصاء الأقباط من المناصب العليا في الجيش أو في عام 2007 عندما نص الدستور المصري على أن المسلم وحده هو الذي يمكن أن يكون رئيسا. وفي عام 2006، نقل عن المرشد الأعلى لجماعة الإخوان، مهدي عاكف، قوله: «طز في مصر»، التي تعني تقريبا «فلتذهب مصر إلى الجحيم» - وذلك على ما يبدو لأنه، بصفته إسلاميا، كان ينبذ الدولة الوطنية لصالح استعادة الخلافة الإسلامية.
نامعلوم صفحہ