ورثة الممالك المنسية: دیانات آفلہ فی الشرق الاوسط
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
اصناف
كانت محطة الحافلات مزدحمة، لكن غالبية الناس فيها كانوا متجهين إلى أماكن تقليدية؛ تل أبيب، ونتانيا، وإيلات. بعد مراجعة دليل الحافلات، وجدت أن حافلات الضفة الغربية كانت في ركن خاص عند أبعد نقطة في المحطة. وكانت الحافلة، كما لاحظت عندما استقللتها، مصفحة، وكان معظم الركاب جنودا ببنادق آلية. رأى منظرو حركة الاستيطان مجتمعاتهم المحلية عودة إلى أرض كانت توراتيا ملكا لليهود، وتحديا عنيفا للإرهاب. أما من منظور الفلسطينيين، فقد مثلت المستوطنات استغلالا عنصريا للاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، وعملية سلب تتقدم ببطء من شأنها أن تعوق طموحاتهم في إقامة دولة مستقلة. وعلى مدى السنوات كانت الاشتباكات بين المستوطنين والفلسطينيين متكررة ودموية.
اتجهت الحافلة شمالا ومرت عبر «جدار الفصل»؛ سياج من جهة، وجدار مرتفع من جهة أخرى، بني لتقليل الهجمات الإرهابية على الإسرائيليين. عزل الجدار الفلسطينيين عن القدس، مما قيد جدلا إمكانية وصولهم إلى أماكنهم المقدسة، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. على الجانب الآخر من الجدار، كنت داخل إسرائيل وخارجها في آن واحد. فقد كنت في حافلة إسرائيلية، تتجه إلى بلدة تبدو مثل أي بلدة إسرائيلية، على طريق بناه الإسرائيليون. ومع ذلك، كنت رسميا خارج إسرائيل؛ فالمنطقة التي دخلت إليها لم يكن يديرها مدنيون منتخبون بل حاكم عسكري، والأطفال غير اليهود المولودين هناك لا يحق لهم الحصول على الجنسية الإسرائيلية. كان طريق للفلسطينيين، وعر إلى حد ما ومليء بالحفر، يمضي بمحاذاة الطريق الإسرائيلي في نقاط معينة ثم يختفي. وصلتني رسالة على هاتفي الخلوي، الذي كان يبدل الشبكات تلقائيا: «مرحبا، استنشقوا رائحة الياسمين، وتذوقوا طعم الزيتون، فلسطين ترحب بكم!» لم تسمح النوافذ ذات الزجاج السميك بدخول الرائحة أو الطعم، لكن لم يكن من السهل حظر الإشارات اللاسلكية، تماما مثل الذكريات والشعور بالذنب. حتى شبكات الهاتف الخلوي الفلسطينية والإسرائيلية، بدت متداخلة ومتنافسة.
لسنوات، كان محور تركيز عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين على رسم حد بينهما. لكن الحد على الخريطة هو مجرد خط ثنائي الأبعاد، واقترح أثناء مفاوضات كامب ديفيد في عام 2000 أن ثمة حاجة إلى وضع حد ثلاثي الأبعاد. فقد كان الحرم الشريف (المعروف بالإنجليزية باسم
Temple Mount (جبل الهيكل))، الذي كان مقدسا عند المسلمين، بناء على هذا الاقتراح فلسطينيا، وكانت بقايا الهيكل اليهودي القديم تحته جزءا من إسرائيل. ربما حتى الأبعاد الثلاثية ليست كافية. فلفهم التعقيدات بين إسرائيل وفلسطين، ثمة حاجة إلى بعد رابع؛ غير مرئي بالعين المجردة، لكنه مألوف لكل من يعيش هناك: وهو التاريخ. فكل مكان في إسرائيل، والضفة الغربية، وغزة له اسم بالعربية واسم بديل بالعبرية؛ وبالمثل كل مكان له روابط وتاريخ يهودية وفلسطينية. لا تزال كلمتا «إسرائيل» و«فلسطين» غير مستخدمتين من قبل السكان لوصف دولتين منفصلتين، وإنما بالأحرى تستخدمان كاسمين بديلين للأرض التي تقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. ويتزايد باطراد عدد العرب، الذين يشكلون خمس المواطنين الإسرائيليين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون، بينما تجعل المستوطنات الإسرائيلية التي تنتشر في أنحاء الضفة الغربية «حل الدولتين» - أي فكرة وجود دولة فلسطينية مستقلة - أقل قابلية للتطبيق مع كل عام يمر.
مدينة نابلس، التي كنت متجها إليها، معروفة للإسرائيليين باسم شكيم؛ فهذا هو اسمها التوراتي القديم. وهي مدينة بها مساجد إسلامية تاريخية ولكنها تضم أيضا أماكن مقدسة يهودية مثل قبر يوسف. وبالمثل، تشتمل ضواحي تل أبيب على مدينة يافا الفلسطينية التاريخية؛ حيث تعود أصول العديد من اللاجئين الذين يعيشون في ضواحي نابلس إلى هناك. وهذا التداخل لا يقتصر على جغرافيا الشعبين فحسب. فاللغات أيضا متداخلة؛ فعندما اخترع ابن يهودا اللغة العبرية الحديثة ولم يتمكن من العثور على الكلمات التي يحتاج إليها في الكتاب المقدس، استعاض عن ذلك بأن استعارها من العربية. واستمرت العملية منذ ذلك الحين، مع تبني الإسرائيليين للمصطلحات العامية العربية مثل «ياللا»، والتي تعني «هيا بنا»، واستخدام الفلسطينيين للكلمة العبرية «محسوم» للدلالة على نقطة تفتيش. وكذلك يرتبط الحمض النووي للشعبين. فقد خلصت دراسة نشرت في عام 2010 - مع إقصاء التأثيرات الأوروبية الجنوبية على الحمض النووي اليهودي، والتي ربما قد حدثت نتيجة لحالات اعتناق الديانة اليهودية - إلى أن «الجيران الأقرب جينيا لمعظم السكان اليهود هم الفلسطينيون، والبدو، والدروز».
حتى لو كان اليهود والفلسطينيون ينحدرون من أسلاف مشتركين، فإن اختلافاتهم الدينية قد طغت على روابط القرابة. وأصبح الشعور بالثقة المكتسب من خلال الصلاة معا ومشاركة المعتقدات مهما أكثر من الثقة المكتسبة من خلال تشارك العائلة أو القبيلة ذاتها. يوما ما حدث شيء مشابه بين اليهود والسامريين. أظهرت دراسة جينية في عام 2004 أن اليهود الكوهينيم والسامريين مرتبطون ارتباطا وثيقا؛ وهو الأمر الذي يدعم الزعم السامري بأنهم بالفعل من نسل قبائل إسرائيلية أفلتت من أذى الآشوريين.
لم يكن من السهل الوصول إلى قرية السامريين. فقد كانت المستوطنة الأقرب إلى السامريين، كما أخبرني رفاقي الركاب، هي هار براخا. وهي مستوطنة صغيرة ومتعصبة دينيا. والوصول إليها يعني ركوب ثلاث حافلات مختلفة. أوصلتني أول حافلة إلى آرييل، وهي مدينة جامعية كبيرة ولطيفة أنشأها المنظرون الأيديولوجيون في السبعينيات من أجل منع إقامة دولة فلسطينية من خلال المكوث وسط الضفة الغربية؛ وقد تمكنت منذ ذلك الحين من جذب عدد كبير من السكان، الذين أراد الكثير منهم مساكن رخيصة. تجولت في شوارعها الهادئة التي تصطف على جانبيها الأشجار، جائعا أبحث عن مركز المدينة الذي لم أتمكن من العثور عليه. تخليت عن فكرة شراء الطعام وانتظرت الحافلة التالية. كانت أقل ازدحاما من الأولى، والآن أثناء سفرنا رأيت كروم العنب والحدائق التي تعهدها المستوطنون اليهود المحليون بالرعاية في محاولة لعيش حياة توراتية أكثر أصالة. فلو كانت علاقاتهم بالفلسطينيين أكثر سلمية، ربما كانوا سيروا مشاهد توراتية في قرية فلسطينية خلال موسم حصاد الزيتون، أو في مخيم بدوي مع شيخ يجلس عند مدخل خيمته في منتصف النهار. بدلا من ذلك، كان وجودهم حدوديا بكل ما في الكلمة من معنى.
نزلت من الحافلة الثانية خارج نابلس مباشرة، عند ظلة على جانب الطريق محمية بجدران خرسانية بالقرب من محطة وقود؛ كان ذلك عند سفح جبل جرزيم الذي تقع على قمته مستوطنة هار براخا. كان العثور على أي تاريخ أو قداسة هناك أمرا يستلزم أن يمتلك المرء خيالا واسعا، لولا مجموعة الأطفال الواقفين بجانبي في انتظار الحافلة التالية. كان لديهم «بيئوت» مثل اليهود المتزمتين، كالرجل اليمني الذي تعرفت إليه في المطار، ونظروا إلى بنظرات فضولية. من الواضح أن الغرباء لا يسلكون عادة هذا الطريق. وصلت الحافلة التالية، واستقللناها - صبيان صاخبون في المقدمة، وفتيات رزينات في الخلف - صاعدين الجبل إلى مجموعة المنازل التي كانت تتألف منها هار براخا. ومن حافة المستوطنة، كان بإمكاني رؤية قرية السامريين على بعد ثلاثمائة أو أربعمائة ياردة؛ وكان يوجد طريق يؤدي إليها، تصطف الأشجار على أحد جانبيه ويمتد حقل مفتوح على الجانب الآخر. ترجلت من الحافلة وبدأت أسير.
يسمي الإسرائيليون القرية السامرية كريات لوزة، في حين أن اسمها الفلسطيني هو الطور. كان السامريون يطلقون عليها اسما ثالثا أيضا: اللوز. وفي هذا الأمر كما هو الحال في كثير من الأمور الأخرى، حاولوا بجد أن يكونوا محايدين بين الجانبين. يحمل سكان اللوز أوراق هوية من الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية - ويمكنهم أيضا حمل جوازات سفر من الأردن المجاورة. ومن الواضح أنهم ليسوا مسلمين، لكنهم ليسوا يهودا أيضا. وقد تمكنوا، في معظم الأحيان، من البقاء منفتحين على كلا المجموعتين. كنت قد أتيت إلى القرية لأول مرة في عام 1998 مع مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين. هذه المرة، دخلت القرية بصحبة رجل يهودي، أوقف شاحنته أمامي بينما كنت أسير وعرض علي توصيلة. كانت تتناثر على مقعده الأمامي أوراق أزاحها جانبا. وقال مازحا: «غالبا لا يأتي أحد هنا سوى أنا والرب»، وأوضح أنه بائع متجول يزور المستوطنات والبلدات الفلسطينية. وقال إن الوضع لم يكن خطيرا جدا؛ فقد أصبحت الأمور هادئة الآن.
بدت القرية ذاتها وكأنها صممت لتكون واجهة للتنوع. فقد كان بها شارع واحد فقط، حيث كان شباب القرية من المراهقين يتواصلون اجتماعيا. وكانت مجموعة من الفتيان تتحدث بالعربية؛ بعض الطلاب من جامعة نابلس يلتقون بصديق سامري. وفتيات يرتدين تنورات قصيرة جالسات على طاولة في المتجر الرئيسي ويتحدثن العبرية. كن سامريات من ضواحي تل أبيب وكن أكثر اندماجا في المجتمع الإسرائيلي (بدا ذلك واضحا من ملابسهن؛ فقد كان سكان القرية العاديون يرتدون ملابس أكثر تحفظا). خمنت أن هذه الزيارات قد تكون فرصة جيدة لهن للعثور على أزواج، حيث لا يسمح للسامريين - وخاصة النساء السامريات - بالزواج من أشخاص من خارج دينهم.
نامعلوم صفحہ