الإهداء
مقدمة
1 - كيف يفسر القرآن؟
2 - الإسلام التعددي
3 - الأرض
4 - العدالة الاجتماعية
5 - الدين والمنفعة
6 - العمل
7 - الحرية
8 - المعرفة
9 - الحوار
10 - فلسفة السؤال
11 - الزمان
12 - المجتمع
الإهداء
مقدمة
1 - كيف يفسر القرآن؟
2 - الإسلام التعددي
3 - الأرض
4 - العدالة الاجتماعية
5 - الدين والمنفعة
6 - العمل
7 - الحرية
8 - المعرفة
9 - الحوار
10 - فلسفة السؤال
11 - الزمان
12 - المجتمع
الوحي والواقع
الوحي والواقع
تحليل المضمون
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى المهمشين.
حسن حنفي
مدينة نصر،
أكتوبر 2009
مقدمة
هذه محاولات قصيرة لنظرية في التفسير تقوم على تسليط الواقع على النص وتسليط النص على الواقع فيما يعرف بمنهج «تحليل المضمون» بعد إكماله وعدم الاكتفاء باللغة وتحليل الخطاب بل إضافة الواقع الإحصائي عليه حتى يحدث التطابق بين الخطاب والواقع، بين النص والتجربة. هي مجرد تمرينات مؤقتة حتى تصدر الجبهة الثالثة من مشروع «التراث والتجديد»، الموقف من الواقع، القائم على التنظير المباشر له أو نظرية التفسير التي تعيد بناء النص موضوعيا حول الإنسان والمجتمع والعالم، بدلا من تقطيعه طوليا وتكرار موضوعاته من «الفاتحة» إلى «الناس». هنا يبرز النص مستجيبا لحاجات الناس، وتبرز حاجات الناس سائلة النص، والناس هم المهمشون، الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمحرومون والسائلون. والحاجات هي تحرير الأرض، وتحرير المواطن، والعدالة الاجتماعية، والوحدة، والدفاع عن الهوية، والتنمية، وحشد الجماهير. ومن ثم ينتهي الصراع بين السلفيين والعلمانيين بإيجاد الرابطة بينهما في «اليسار الإسلامي» كأحد اختيارات التعددية الإسلامية، هي مجرد نماذج جزئية حتى يظهر التفسير الكلي «التفسير الموضوعي» للقرآن.
1
حسن حنفي
مدينة نصر،
أكتوبر 2009
الفصل الأول
كيف يفسر القرآن؟
(1) كيف يفسر القرآن؟
ليس اليسار الإسلامي فقط اتجاها فكريا إسلاميا اجتماعيا سياسيا تقدميا يجمع بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد مثل كل الحركات الإصلاحية. بل هو أيضا نظرية أو منهج في التفسير يجمع بين النص والمصلحة، بين مقاصد الشريعة المستقرأة من الأصول وتفعيلها في الواقع المعاش في الزمان والمكان. وقد كان تقدم العلم باستمرار باكتشاف المناهج أكثر من معرفة الموضوعات. الموضوع نفسه منهج، وليس فقط بنية. والحياة نفسها منهج وليست فقط تجربة معاشة. والعالم كله منهج وليس فقط نسقا أو نظرية.
وهو ليس منهجا جديدا بل يضم معظم مناهج التفسير السابقة ويعيد استخدامها كأجزاء من منهج كلي أشمل. فهو يضم المنهج التاريخي الذي يعتبر النص مصدرا للمعلومات التاريخية يستقيها من خارجه، ومعظمها من الإسرائيليات وتاريخ الأديان السابقة في شبه الجزيرة العربية؛ لذلك ارتبط بعلم التاريخ، وكان المفسرون الأوائل مؤرخين مثل الطبري وابن كثير. لا يستعمل التاريخ إلا بقدر معرفة أسباب النزول وسياق الآيات، والناسخ والمنسوخ وتطور الأحكام الشرعية في الزمان وطبقا لتغير الظروف والأحوال لقد النص على الواقع، والحكم الشرعي على الطاقة.
ويضم المنهج اللغوي ليس من حيث الإعراب كالزجاج. فليست اللغة غاية في ذاتها. وليس القرآن كتابا للإعراب لاختبار قواعد النحو ورصد الاستثناءات بل تستعمل اللغة من خلال تحليل المضمون لمعرفة دلالتها على المعاني وكما هو الحال في فلسفة اللغة، دلالة الأسماء والأفعال والحروف والضمائر والإضافة، والفاعل والمفعول بأنواعه المختلفة، والمعرفة والنكرة، والشرط والمشروط، وأقسام الكلام، الخبر والإنشاء والمنادى والاستفهام.
ويحتوي على المنهج الفقهي ليس لتجميع الأحكام الشرعية كما هو الحال في علم الفقه حول محاور رئيسية، العبادات والمعاملات، بل لمعرفة مقاصد الأحكام وغاياتها، والحكمة منها والباعث عليها باعتبارها معايير للسلوك بعيدا عن الطابع التشريعي الصوري للفقه، الأوامر والنواهي، وكأن الإنسان مجرد آلة للتنفيذ بصرف النظر عن مشاعره ورغباته وميوله وبواعثه وحريته في الاختيار.
ويتضمن أيضا التفسير الكلامي العقائدي الذي يعرض لأصول العقيدة أو قواعد العقائد، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، كما تفعل التفسيرات الكلامية مثل الزمخشري والدخول في عقائد الفرق، دفاعا عن فرقة أو نقدا لفرقة أخرى، معتزلة أو أشعرية، سنية أو شيعية أو خارجية. فالعقائد ليست أشياء بل هي بواعث على السلوك. وليست موضوعا للجدل العقلي حول تصورات تقوم على التنزيه أو التشبيه وأحيانا التجسيم بل هي تحليل لأعماق النفس البشرية لمعرفة بواعث السلوك. فالعقائد تمثل تصورات عامة للحياة، للإنسان والمجتمع، للفرد والجماعة كما تفعل الأيديولوجيات الحديثة. تستنبط منها نظم سياسية واجتماعية واقتصادية. وهي معنى العبارة الشهيرة «الإسلام عقيدة وشريعة».
كما يحتوي على التفسيرات الفلسفية مثل الرازي دون الإيغال فيها حتى لا يبعد النظر عن العمل. وقد تغيرت الفلسفة من الفلسفة اليونانية القديمة التي تمت فيها التفسيرات الفلسفية الأولى إلى الفلسفة الحديثة التي ما زالت خارج التفسير باستثناء بعض النظرات هنا أو هناك في بعض التفسيرات الحديثة كمعلومات أو اكتشافات جديدة خاصة في العلوم الطبيعية. ومن هنا خرجت معظم التفسيرات العلمية للقرآن. يكفي أن يكون الإنسان في المجتمع وفي العالم وفي التاريخ.
كما يتضمن التفسيرات الصوفية التي تقوم على التمييز بين الظاهر والبواطن، بين الشريعة والحقيقة والطريقة، بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب دون إيغال في الباطنية بل بالعودة إلى العالم من جديد. فقد كان التصوف حركة مقاومة سلبية ضد مظاهر البذخ والترف والتكالب على الدنيا والصراع حول السلطة السياسية واستشهاد أئمة آل البيت ضد الأموية للعودة إلى الشرعية وأصول البيعة القائمة على العقد والشورى والاختيار.
تفسير اليسار الإسلامي هو استئناف للتفسيرات المعاصرة السياسية مثل «ترجمان القرآن» للمودودي، والاجتماعية مثل «تفسير المنار» للإمامين محمد عبده ورشيد رضا، والأدبية مثل «في ظلال القرآن» للشهيد سيد قطب، وهو ليس تفسيرا طائفيا لنصرة فرقة على فرقة في العقيدة أو في السياسة بل هو تفسير يجمع شتات الأمة دفاعا عن وحدة عقيدتها واطراد مصالحها العامة.
ويقوم منهج التفسير الجديد على أربع قواعد أسوة بقواعد المنهج عند ديكارت أو بيكون: (1)
البداية بالشعور أو بالوجدان أو اللحظة أو الوقت بتعبير الصوفية أو العصر بتعبير الإصلاحيين. وهي لحظة الانفعال الحالية، ما يشعر به الناس سواء على مستوى الشعور أو اللاشعور. والشعور أخص من الإنسان. هي إحساسات الإنسان ومشاعره التي يصورها الأديب ويعبر عنها المفكر والفنان. «استفت قلبك وإن أفتوك». (2)
رصد حاجات الناس ومصالح الأمة كواقع إحصائي. من يملك ماذا؟ ومن يستهلك ماذا؟ ومن يسيطر على ماذا؟ ومن يقهر من؟ فلماذا يبعد الدين عن الحياة ولا يلبي القرآن المطالب الرئيسية للعصر؟ إن الحرمان الذي يعيشه الناس من عدم إشباع الحاجات الأساسية، الخبز الصحي، والماء النقي، والإسكان الكريم، واللباس العفيف، والصرف الصحي، والعلاج المجاني، والتعليم القويم؛ هو مادة التفسير الأولى. فالواقع قلب النص وبؤرته الأولى. الواقع مادة والنص صورة. مهمة المفسر وضع المادة في الصورة لتشكيلها وتحقيقها. (3)
إذا كان الشعور، القاعدة الأولى، والواقع الإحصائي الذي يكشف عن حاجات الناس هو الموضوع، القاعدة الثانية فإن علاقة الذات بالموضوع والتفاعل بين الشعور والواقع هي القاعدة الثالثة. ويعني ذلك تحويل هذا التفاعل إلى مشروع أو رؤية أو برنامج عمل. وتتكون عناصر هذا البرنامج طبقا لما سمي فقه الأولويات: الأرض نظرا للاحتلال، احتلال الأرض، والتنمية، الصحراء القاحلة، والأمة دفاعا عن وحدتها ضد التجزئة والطائفية والعرقية والقبلية والعشائرية، والفقر ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وضرورة إعادة توزيع الدخل، ووضع سياسة جديدة للأجور طبقا لقيمة العمل وحده، والقهر وثقافة السلطان والفراعنة الجدد دفاعا عن قول الحق في مواجهة السلطان الجائر، والشورى والديمقراطية ضد نظم الحكم التسلطية، والتقدم ضد التخلف، والإصلاح ضد الإفساد، والمبادرة الحرة والخيال السياسي ضد السكون والعجز والتبعية والملل السياسي. (4)
التجربة المشتركة مع القارئ وإشراكه في التفسير إلى أي حد يعبر عن حاجاته ويلبي مطالبه، ويحقق أمنياته، ويقضي على حرمانه، وينهي سلبيته، ويشركه في إعادة بناء ثقافته الوطنية، وإعادة تفسير كتابه. إلى أي حد يعبر التفسير الجديد عما يجيش في صدره، وما يخاف من الكشف عنه للقضاء على ازدواجية الخطاب والشخصية والفصام بين القول والعمل دفاعا عن الصدق في القول والإخلاص في العمل؟ فإذا وعى القراء فإنهم يتحولون إلى وعي جمعي وكتلة تاريخية تساهم في عملية التغير الاجتماعي، وتشارك في صنع التقدم التاريخي. وبالتالي تتحرك الأمة، وتعود إلى مسارها في التاريخ لتنهض في دورة حضارية ثانية، تنهي بها عصرها الوسيط، وتبدأ بها عصورها الحديثة. (2) النص والواقع
اليسار الإسلامي رؤية منهجية للفكر الديني وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعصر. فهو تحقيق منهجي ومنطق فكري لدعوات الإصلاح السابقة ورفع شعار الجمع بين التراث والتجديد، القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر.
وقد تعود الناس على خطابين. الأول خطاب ديني يعتمد على النصوص وتفسيرها خارج الزمان والمكان ، خاصة ولو كانت نصوصا عقائدية شعائرية خالصة أو نصوصا تتعلق بأمور الآخرة. وظيفته الترويح عن النفس، وتبخير الأزمات، والتعويض الروحي، والانتقال من هذا العالم البائس الشقي إلى عالم آخر، عالم السعادة والنعيم، وهو الخطاب السائد في معظم خطب الجمعة والبرامج الدينية في قنوات الفضاء. والثاني خطاب اجتماعي علمي. يحلل الواقع الاجتماعي الإحصائي بدعوى الالتزام بالموضوعية وإعطاء الحقائق على الأرض كما هي دون تأويل ذاتي أو توجيه أيديولوجي، وهو ما يستحيل أيضا في العلوم الاجتماعية. فكل تحليل كمي له قراءة كيفية. وكل واقع له رؤية. فالواقع متغير ومتحرك ومتطور. ينتقل من مرحلة إلى مرحلة. فالعلم الاجتماعي يرصد مسار التغير الاجتماعي إلى الوراء لا إلى الأمام، وهو ما يسمى بمعارك التخلف والتقدم. الخطاب الأول نص دون واقع. والخطاب الثاني واقع دون نص.
وإذا كان رجل الدين مستنيرا فإنه ينتقل من النص إلى الواقع. ومن كلام الله إلى أوضاع البشر حتى يكون خطابه أكثر دلالة وأوقع عند الناس. يجدون للنص صدى في حياتهم اليومية. وقد يغالي البعض في ذلك فيتحول الخطاب الديني إلى نقد اجتماعي خالص للسلطة والعادات الاجتماعية خاصة الجنسية منها في علاقة الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى، والشاب بالشابة، والفتى بالفتاة. فما زالت هناك دوائر ثلاث في الثقافة الموروثة يحظر الاقتراب منها: الدين، والسياسة، والجنس. ولو كان علم الاجتماع مستنيرا، ويعلم أن الظاهرة الاجتماعية في صحيحها تراكم ثقافي، ومتصل تاريخي فإنه يحيل إلى الثقافة الشعبية ويكتشف أن مكونها الرئيسي النص الديني والمثل الشعبي فيحيل إليه من باب تعليل الظواهر الاجتماعية والكشف عن مكوناتها ووضع أساليب تغييرها.
وهناك منهج ثالث يلتقي فيه الخطابان الديني والاجتماعي، وهو منهج تحليل الخبرات اليومية ومعاناة الناس حتى ينزل الخطاب الديني على واقع حي، ويأخذ الخطاب الاجتماعي الإحصائي دلالات حية من تجارب الناس. فالأرقام صياغات كمية لحالات نفسية. والواقع الإحصائي لا يتكلم بنفسه، وهو مجرد ترجمة لمعاناة الناس. فالبشر هم الأساس. هم حلقة الوصل بين الدين والمجتمع، بين النص والواقع، بين الخطاب الديني والخطاب الاجتماعي.
يستعمل اليسار الإسلامي هذه المناهج الثلاثة في آن واحد لتوحيد الخطاب الثقافي ولتجاوز الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين، وهو أساسا استقطاب في الخطاب وفي مناهج التفكير. فهو يبدأ من النص مثل رجل الدين. ويختار الموضوعات الأكثر إلحاحا طبقا لفقه الأولويات ولعموم البلوى. ولا يبدأ بموضوعات كسبت من قبل مثل العقائد والشعائر أو بموضوعات تخرج عن شهادة الحس والعقل والوجدان ويصعب الوصول فيها إلى يقين. صنفها القدماء على أنها من السمعيات التي لا تعتمد إلا على الرواية مثل أمور الآخرة. ويبدأ بتحليل ألفاظ الأرض والعدل والظلم والصلاح والفساد، والتقدم والتأخر، والإعمار والاستقلال، وهو ما تحتاجه الأمة اليوم، عربية أو إسلامية. ويبدأ أيضا من الواقع مثل عالم الاجتماع. فالفقه أساسا هو فقه النوازل بلغة المغاربة أي فقه الواقع بلغة العصر. وما لم ينزل النص على نازلة يظل دائرا في الهواء حائرا، لا زمان له ولا مكان. وعلى هذا النحو يصدق النص في الواقع، والواقع يجد تأويلا له وقراءة في النص. لذلك تلزمه الإحصائيات الدقيقة، من يملك ماذا؟ ومن يسيطر على من؟ ومن يحتكر ماذا؟ ومن يستغل من؟ ومن يسرق ثروة من؟ والإحصاء لغة العصر. والرقم هو النص الجديد. ويبدأ ثالثا بتحليل الخبرات الحية عند الناس. فاللغة المباشرة أشد تأثيرا في الناس وأبلغ من تأويلات النصوص وإحصائيات الواقع. وقد برع بعض المشايخ والخطباء في ذلك تملقا لأذواق الجماهير، ودغدغة لعواطفهم، وإثارة لأشجانهم وأحزانهم لدى مشايخ الفضاء بدعوى صنع الحياة، وعدم الحزن، ومشاكل الشباب والمجتمع. وتحول بعضهم، رجالا ونساء، إلى خبراء في التحليل النفسي لمعالجة مشاكل الشباب وفي مقدمتها الزواج. وهي مادة الشعراء والأدباء والفنانين والسينمائيين التي لا يختلف عليها أحد، سلفيا كان أم علمانيا. ففي التجربة الحية يتوحد النص والواقع.
وعليها يتفق رجال الدين وعالم الاجتماع. وهي التجربة التي يلجأ إليها أيضا الخطاب السياسي لتبخيرها وتخديرها والإيماء بالحل القريب لها، والدعوة إلى الصبر حتى يتم عبور عنق الزجاجة أو لأن التكاثر السكاني يلتهم كل معدلات التنمية «تناسلوا، تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار العالمية. لذلك اشتهرت وذاعت التمثيليات التليفزيونية التي تعالج القضايا الاجتماعية مثل ذيوع مباريات كرة القدم.
اليسار الإسلامي وتعدد مناهجه هو الذي يوحد بين الخطابات المتصارعة ويقارب بينها. فالخطاب الديني النصي لرجل الدين يكتمل في الخطاب الاجتماعي الإحصائي لعالم الاجتماع. وكلاهما يجد مصداقيته في تحليلات الأدباء والفنانين والفلاسفة الذين يصورون الواقع من خلال معاناة الناس. وبالتالي تقل حدة الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين بتوجيه كل من الفريقين حول مصالح الناس ومعاناتهم اليومية. فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وكما يتقدم الأدب والفن كذلك يتقدم الفكر والعلم بدلا من اغترابهما خارج الزمان والمكان.
وهذا ما فعله لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وما زال الوطن العربي والعالم الإسلامي فيه متأخرا. واليسار الإسلامي إحدى صياغاته العملية دون الدخول مؤقتا في المسائل العقائدية التي ما زالت عندنا من المقدسات التي لا يمكن إعادة تأويلها، وهو نوع من دراسات الثقافة الوطنية وعلاقتها بالتغير الاجتماعي، وهو ما يمكن أن يلتقي عليه خصماء الوطن والإخوة الأعداء، وهو أيضا صياغة منطق الإصلاح صياغة جديدة حتى يتحول من الإنشائيات والخطابات الفضفاضة إلى خطاب دقيق، يجمع بين تحليل الخطاب الديني، وتحليل الواقع الاجتماعي، ووصف الخبرات الحية. فالإصلاح بعد كبوته الأولى في حاجة إلى إصلاح ثان ينهض من جديد. يتعلم من تجربته الأولى ويضع أسسا منهجية لتجربته الثانية. (3) الوحي والواقع
ليس الوحي مجرد كلام أو خطاب أو رسالة أو تبليغ بل هو تنزيل أي اتصال بين السماء والأرض، بين الله والعالم. الواقع هو مكان نزول الوحي كما هو معروف في «أسباب النزول». وتعاد صياغة الأحكام الشرعية طبقا لقدرات الواقع وعدم جواز تكليف ما لا يطاق كما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ». وقد كتب بعض الإصلاحيين من قبل عن «فقه الواقع».
ولفظ «الواقع» لفظ قرآني. ذكر ومشتقاته أربعا وعشرين مرة بوضوح وقوة. منها إحدى عشرة مرة اسما، ولفظ «واقع» ست مرات. وواقعة مرتان. وذكرت مشتقاته وقعة، مواقع. وقد يكون الواقع شيئا حسيا مثل الجبل أو النار أو شيئا بين الحسي والمعنوي مثل السماء أو يوم القيامة في المستقبل. والغالب هو الواقع المعنوي سلبا مثل العذاب والرجس والرجز والإثم أو إيجابا مثل الأجر والحق والقول والوعد والدين والكسب. والأكثر استعمالا هو وقوع الشيء من تلقاء نفسه مثل الحق والقول. فالحق فكر وواقع، نظر وعمل. الحق قول، والقول حق. والوحي حق نظرا، وواقع عملا. الحق واقع، والواقع حق وهي الواقعة أي يوم القيامة، واقعة لا تكذب. الواقع صدق، وهو محك التصديق. ليس الصدق تطابق النتائج مع المقدمات كما هو الحال في المنطق الصوري بل هو وقوع الحق، مطابقة الفكر للواقع كما هو الحال في المنطق التجريبي. لذلك ارتبط الواقع بالصدق، وعدم الوقوع بالكذب. كما أن جزاء العمل إيجابا أم سلبا واقع نظرا لارتباط نتيجة الفعل بالفعل ارتباطا سببيا. إذا وقع الفعل وقعت النتيجة.
لفظ «الواقع» من أكثر الألفاظ قربا إلى الروح العربي الآن. تردد في الفكر العربي المعاصر، وأصبح شرطا لتقدمه في الفن والفكر والسياسة. وأصبح اللاواقعي نقدا. بل أصبح غياب الواقع في حياتنا الثقافية أحد الأسباب الرئيسية للتخلف. لا يعني الواقع ما هو شائع من ضرورة قبول الأمر الواقع بمعنى التسليم بكل ما يجري من هزيمة وفقر وقهر. فهذا إنكار للمقاومة. فالمقاومة والرفض والاعتراض أيضا واقع. المثال واقع أكثر من الواقع. وكما قال فشته، الفيلسوف الألماني، من قبل: «لو آمنت بمثل أعلى أنه موجود. ثم اتضح لي فيما بعد أنه غير موجود. فليس خطئي أنني آمنت به. بل خطؤه هو أنه غير موجود».
الدين واقع بنص القرآن،
وإن الدين لواقع . فالدين ليس مجرد مواجيد للنفس ولا أحوال لها كما هو الحال في علم النفس الديني، مجرد تعبير عن رغبات وأمنيات وتمنيات لعالم أفضل، ظاهرة ذاتية خالصة. تتبخر بتغير أحوال النفس. الدين حلم لم يتحقق، وأمل صعب المنال. وقد يغالي البعض ويجعله من اختراع النفس وتجسيدا للوهم، أسطورة من صنع البشر. الدين واقع، له وجود فعلي في حياة الأفراد والمجتمعات، وليس وهما أو أسطورة. يقوم على المسئولية الفردية وقانون الاستحقاق الذي سماه القدماء «الكسب» أي ما يحصل عليه الإنسان بنفسه،
مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم . فالإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن نتائج أفعاله، وهو واقع تحت المسئولية القانونية. الإنسان حر عاقل مسئول، في الدنيا والآخرة.
ولا شيء يستعصي على الوقوع حتى الجبال،
وظنوا أنه واقع بهم . فالوقوع أشبه بقانون الجاذبية. كل شيء يتجه نحو الأرض، الماء والطير والريح والحرارة والبرودة. إذن الخطاب الديني الذي يقوم على الوعظ والإرشاد معتمدا على الانفعالات الإنسانية، والإحساس بالذنب وضرورة التوبة وطلب المغفرة مع البكاء والنحيب كما يفعل الدعاة الجدد خطاب لا واقع له. الواقع هو حياة الناس وما يدور فيها من فقر وجوع وعطش وعوز. لذلك كثيرا ما يتحدث القرآن عن الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأسرى وهم بتعبير المعاصرين «المعذبون في الأرض».
الواقع أيضا هو التوقع لنتائج الأعمال الإيجابية أو السلبية، الثواب والعقاب، الوعد أو الوعيد،
إنما توعدون لواقع . والأهم هو توقع العذاب يوم القيامة نتيجة لسوء الأعمال،
إن عذاب ربك لواقع ، وليس مجرد تخويف أو ردع الغاية منه تربية النفس وإصلاحها، وهو ما يسأل عنه أصحاب السيئات،
سأل سائل بعذاب واقع . قد يتنازل الإنسان عن الثواب، ولكنه لا يستطيع أن يتفادى العقاب.
إذن تصور الدين واقعا ليس كفرا وإلحادا وإنكارا للوحي، ولا مادية، ولا ماركسية، ولا وضعية، ولا برجماتية ولا نفعية، بل هو صلب الدين. الدين بلا واقع سماء بلا أرض، ماء معلق في الهواء، لا يروي ولا ينبت. (4) التنزيل
مما يؤكد صلة الوحي بالواقع مفهوم «التنزيل»، وهو أيضا لفظ قرآني ورد أكثر من لفظ «الواقع» حوالي ثلاثمائة مرة. أكثرها اسم صلة «ما نزل» (سبعا وسبعين مرة) للدلالة على الشيء العام حسيا أو معنويا. بعد ذلك يأتي الكتاب (أربعا وأربعين مرة) أي الوحي ثم الماء (اثنتين وثلاثين مرة) مما يدل على أن النزول من السماء من أعلى إلى أدنى إما فكرا وهو الوحي أو ماء لنبات الأرض. وكلاهما نبت. الأول في الشعور، والثاني في الأرض. كلاهما تخصيب ونماء. الأول في الوعي، والثاني في الطين.
ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء (العنكبوت: 63)،
والذي نزل من السماء ماء بقدر (الزخرف: 11) حتى تنبت الأرض دون فيضان أو جفاف، وهو ماء مبارك،
ونزلنا من السماء ماء مباركا . ومع الكتاب يذكر الحق، والفرقان، والحديث، والذكر، والقرآن، والحكم، والآية، والسورة، والفضل، والأمر، والنور، والسكينة، والتنزيل. وكلها تدل على النزول المعنوي. ويدخل في ذلك التوراة والإنجيل. ومع الماء يذكر الغيث، والملائكة، والشياطين، والمائدة، والرزق، والمن، والسلوى، والجبال، والبرد، والجنود، والأنعام، والحديد، والرجس، والسلطان. والنزول يكون بالحق ومرتبط به (ثلاث مرات). وبالتالي ارتبطت الألفاظ الثلاثة: الوحي، والواقع، والنزول. وما ينزل له سلطان، أي له قوة التحقق والوقوع. وكل ما ينزل دون حق لا يكون له سلطان. لذلك ارتبط النزول بالسلطان (ثماني مرات). ونزول الحق للذكر والحفظ والبقاء. ويكون الحفظ والبقاء نصا مدونا بلا تحريف، وفكرا صائبا بلا تشبيه، وسلوكا خالصا بلا مواربة. ويحدث ذلك كله في الشعور وفي الذهن وفي الفكر والسلوك، في الفرد والجماعة، في الحاضر وفي التاريخ والماضي والمستقبل. يحدث للتصديق والبيان والهدى والرحمة والشفاء والحكم حين الاختلاف والأمر والسكينة والفرح ... إلخ، تنزيل في عالم الحياة.
ويتطلب التنزيل أربعة أشياء: مصدر التنزيل، كيفية التنزيل، موضوع التنزيل، مكان التنزيل. ف «مصدر التنزيل» هو رب العالمين،
وإنه لتنزيل رب العالمين (الشعراء: 192)، وهو تنزيل ممن خلق السموات والأرض،
تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات (طه: 4). أي إنه تصرف في ملكه وتنظيم له، وهو الله العزيز الحكيم،
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (الزمر: 1)، وهو الرحمن الرحيم،
تنزيل من الرحمن الرحيم (فصلت: 2)، وهو الحكيم الحميد،
تنزيل من حكيم حميد (فصلت: 42)، وهو العزيز الرحيم،
تنزيل العزيز الرحيم (يس: 5). فالتنزيل تعبير عن الصفات الإلهية، الربوبية والعزة، والرحمة والحكمة. التنزيل من طبيعة الكرم الإلهي، وهو في نفس الوقت لصالح الإنسان. فهو نزول بالحق ومن الحق،
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل (الإسراء: 105). والحق قوة وسلطان،
ما أنزل الله بها من سلطان (النجم: 23).
أما «كيفية التنزيل» فإنه تنزيل متدرج متتالي على التوالي، عدة مرات،
ونزلناه تنزيلا
طبقا للحاجة والمواقف التي تستدعي طلبا، والمشاكل التي تتطلب حلا، وهو ما سماه علماء القرآن «أسباب النزول». لم يتم التنزيل دفعة واحدة كما حدث في الكتب المقدسة السابقة بل على مدى ثلاثة وعشرين عاما في مكة لتأسيس العقائد، وفي المدينة لوضع التشريعات. وقد نزلت التوراة من قبل،
من قبل أن تنزل التوراة (آل عمران: 93). نزل القرآن على مهل، خطوة خطوة حتى يتغير الواقع،
لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (الإسراء: 106). وقد حملته الملائكة،
ونزل الملائكة تنزيلا (الفرقان: 25). ونزل الروح وهو جبريل،
تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم (القدر: 4)، وهو الروح الأمين،
نزل به الروح الأمين (الشعراء: 193).
أما «موضوع التنزيل» فهو الكتاب الذي لا ريب فيه،
تنزيل الكتاب لا ريب فيه ، وهو الوحي والرسالة والأمانة والحق والفرقان والقرآن. والكتاب هو الأعم،
أن تنزل عليهم كتابا . وقد طلب أهل الكتاب كدليل على صدق الرسول أن ينزل عليه الكتاب،
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا (النساء: 153)، يقرءونه كما نزلت عليهم الكتب السابقة،
حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه (الإسراء: 93). وقد تنزل سورة وهي جزء من الكتاب لبيان أن الوحي نزل مفرقا،
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة (التوبة: 64) لتفضح موقف المنافقين. أو آية، أصغر من السورة،
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه (الأنعام: 37). ويسوءهم أن ينزل بساحتهم في الصباح،
فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين (الصافات: 177). ويتمنون ألا ينزل شيء،
قالوا للذين كرهوا ما نزل الله (محمد: 26).
وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل،
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ، وهو أحسن الحديث كتابا، وهو الذكر الذي يدخل في القلب فيذكره،
يا أيها الذي نزل عليه الذكر ، وهو القرآن،
لولا نزل عليه القرآن ،
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل . وفي التنزيل تبيان كل شيء،
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء . ليس التنزيل إذن مجرد شيء نزل من السماء بل هو معرفة وحكمة وحق وهدى وتغيير في المجتمع، وحركة في العالم.
أما «مكان التنزيل» فهو الرسول،
إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فالرسول واسطة للتبليغ بين الحق والناس،
والكتاب الذي نزل على رسوله ، وهو محمد الرسول،
وآمنوا بما نزل على محمد ، وهو عبد الله،
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا . ولا ينزل إلا على قلب عربي لأنه بلسان عربي مبين،
ولو نزلناه على بعض الأعجمين . وقد نزل على قلب الرسول مباشرة في وعيه وضميره،
فإنه نزله على قلبك ، حتى ينبت ويستثمر ويخرج للناس في الحديث هدى وتفصيلا. وكما تنزل الملائكة والروح على الرسول تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم. فالسؤال،
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، والإجابة
تنزل على كل أفاك أثيم . فالشياطين تنزل بالغواية،
وما تنزلت به الشياطين . وقد كان الصحابة عند سماع القرآن يشعرون كأنه نزل عليهم مباشرة وهو ما قاله الصوفية أيضا. وربما هو ما يشعر به كل مؤمن. (5) القرآن
في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان نزل القرآن. وبه ليلة القدر في العشر الأواخر منه،
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن . فهو الشهر المبارك. ويقرأ في الفجر وحين السحر، في ساعات الليل الأخيرة أو ساعات النهار الأولى،
وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . دون الإطالة أو الشقاء أو إجهاد النفس،
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى .
وقد ورد لفظ «القرآن» حوالي سبعين مرة في سبعة معان متمايزة: (1)
القرآن تنزيل من عند الله؛ نزل مفرقا، أجوبة على أسئلة،
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن . وكان الكفار يتمنون أن ينزل القرآن جملة واحدة حتى لا يؤثر في الواقع، ولا يغير حياة الناس، ويظل كلاما يسمع وينسى ولا يعمل به،
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة . نزل مفرقا حتى يثبت في القلوب تدريجيا،
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس . ولا داعي للعجلة،
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ، أن يتحقق في حياة الناس. وهذا هو معنى التنزيل،
إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ، وهو أيضا معنى الترتيل،
ورتل القرآن ترتيلا . أي الشعور بالمعاني والحقائق وقياس مدى المسافة بينها وبين الواقع. (2)
وهو حق: نزل من الحق وبالحق من أجل الحق. ليس افتراء،
وما كان هذا القرآن أن يفترى . بل هو وحي من عند الله،
بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وهو من لدن حكيم،
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ، وهو كتاب مبين،
تلك آيات القرآن وكتاب مبين . لا يؤمن به الكفار،
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ، ولا يستمعون إليه،
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن ، وهو محفوظ من الضياع والتحريف،
إن علينا جمعه وقرآنه ، وهو قرآن مجيد،
بل هو قرآن مجيد ، وهو قرآن كريم،
إنه لقرآن كريم ، وهو قرآن عظيم،
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، وهو قرآن حكيم،
والقرآن الحكيم . (3)
ولا يستطيع أحد أن يقلده أو أن يأتي بمثله، وهو من دلائل الإعجاز. ويتحدى القرآن البشر أن يأتوا بمثله،
ائت بقرآن غير هذا أو بدله ،
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن . وقد جمع فحوى. فيه منافع الناس ومصالح البشر،
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن . وخرجت فيه كل الأمثلة،
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل . فالإعجاز هنا ليس بلاغيا فقط بل هو تحد فني وتشريعي وعلمي. (4)
وهو مصدق لما نزل سابقا، ومتمم للتوراة والإنجيل. فهو وحي واحد نزل على فترات طبقا لدرجة تطور الوعي الإنساني،
حقا في التوراة والإنجيل والقرآن . فالأديان واحدة ومتنوعة. ويقص على بني إسرائيل والنصارى تاريخ تعاملهم مع أنبيائهم تكذيبا وهو الأغلب أو تصديقا وهو الأقل،
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل . (5)
وهو قرآن عربي بلسان عربي مبين، وليس أعجميا. نزل بلغة العرب من أجل فهمه بلغته الأصلية،
إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، وهو بلسان قويم دون عوج،
قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون . فصلت آياته واستنبطت منه الأحكام طبقا لقواعد اللغة العربية،
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . القرآن المترجم للدراسة وليس للعبادة. ويستحيل ترجمة كل شيء. إذ يفقد القرآن المترجم البلاغة العربية وأساليبها. (6)
والقرآن للطاعة والامتثال بل وللسجود،
وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون . هو قرآن للتدبر والفهم،
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . لا يهجر ولا ينسى،
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا . هو قرآن للذكر والتلاوة،
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ، وهو تذكير بيوم الميعاد،
فذكر بالقرآن من يخاف وعيد . يستمع إليه الجن فيؤمن،
استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا . هو قرآن للاتباع بعد الاستماع،
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه .
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . (7)
والقرآن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم،
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . يبدأ بالإنذار،
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به . ومن يهتدي فإنما يهتدي لنفسه،
وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . ولو نزل هذا القرآن على جبل لتصدع من خشية الله،
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . فيه شفاء ورحمة للناس،
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . وتسير به الجبال،
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال .
وهو مشتق من أول لفظ نزل «اقرأ». الله معلمه،
علم القرآن . تلك هي المعاني للقرآن في هذا الشهر الكريم الذي نزل فيه. لا يتحول إلى وثن ورقي بالقطيفة والذهب يعلق في الأعناق أو يوضع داخل المركبات أو يتهادى بين الرؤساء، ويقبل ويحنط كالمومياء. (6) الواقع
انقسم الفلاسفة إلى تيارين كبيرين: الواقعيون والمثاليون كما انقسمت الفلسفة إلى مذهبين كبيرين: الواقعية والمثالية. الأول يثبت وجود العالم بصرف النظر عن وجود الذات العارفة وإدراكها له. والثاني يثبت وجود الذات المدركة للعالم، وينكر وجود العالم خارج رؤية الذات له. وارتبطت المثالية بالدين لأن الله وخلق العالم وخلود النفس، وهي العقائد الثلاث الكبرى في كل دين، موجودة سواء آمن بها الإنسان أم لا. كما ارتبطت الواقعية بالعالم وبالحياة الدنيا ضد التصورات والأفكار المسبقة التي قد تصل إلى حد الأوهام والخيالات والتعويضات النفسية. وقامت محاولات للتوسط بين المذهبين في المثالية الجديدة أو الواقعية الجديدة ولكنها ظلت أقرب إلى المذهبين الرئيسين المتقابلين.
وقد ورد لفظ «الواقع» في القرآن الكريم وليس لفظ «المثال»، اثنتين وعشرين مرة. فهو لفظ رئيسي. ورد اسما وفعلا مناصفة أي إن الواقع موجود مستقلا عن الذات، وهو أيضا من فعل الذات جمعا بين الواقعيين والمثاليين. وقد ورد بخمسة معان رئيسية:
الأول:
وقوع الحدث، وهو في الغالب في الصيغة الفعلية. فالحق يقع على الباطل ويدمغه فإذا هو زاهق،
فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون . ومن يهاجر ويستشهد فإن أجره يقع على الله طبقا لقانون الاستحقاق،
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله . والأكثر استعمالا هو وقوع ما لا يتوقعه الإنسان نتيجة لأعماله السيئة مثل الرجس والغضب وما يقع من الله على الإنسان،
قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . وقد وقع الرجز على من لا يؤمن بوقوعه،
ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك . ويقع الإثم على من يستحقه وقد كان يستعجله لأنه كان لا يؤمن به،
أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون . ويقع القول ويتحقق في الواقع. فالقول هو المثال الذي يتحقق في الواقع كما يقول الفلاسفة،
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم . ويقع القول ويتحقق الناس بما كانوا ينكرون،
ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون . ويريد الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ولكن ما يريده لا يتحقق بوعي الناس بالحق،
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر . فالشر واقع أيضا مثل الخير. والأمر مرهون بإرادة الإنسان.
والمعنى الثاني:
أن الواقع في الدنيا واقع أيضا في الآخرة. فالآخرة واقعة لا يمكن إنكارها حتى ولو كانت متوقعة. فالواقع ليس فقط هو الذي وقع في الماضي أو الحاضر، وهو أمر طبيعي بل ما قد يقع أيضا في المستقبل بناء على امتداد الواقع عبر الزمان،
إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة . فالواقع يحدث في الزمان الممتد من الماضي إلى المستقبل،
فيومئذ وقعت الواقعة .
والمعنى الثالث:
وقوع الوعد، ثوابا أو عقابا. وفي هذه الحالة تكون الواقعة خافضة رافعة، خافضة للأشرار ورافعة للأخيار،
ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة . والأخيار مطمئنون للوقوع في المستقبل لأنهم ينالون الجزاء. والأشرار يفاجئون بوقوعه في المستقبل ونيلهم العقاب. ويشفق الظالمون بما كسبوا وهو واقع بهم،
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم . والوعي صادق. والصدق يعني الوقوع،
إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع .
والمعنى الرابع:
الوعد واقع،
إنما توعدون لواقع . والعذاب واقع،
إن عذاب ربك لواقع . ومهما سأل السائل عن وقوعه فإنه واقع خارج السؤال والجواب أي موضوعي خارج الذات،
سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع . والكذب ضد الصدق. ولما كان الصدق هو الوقوع فالكذب ضد الوقوع،
إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة . والواقع مرئي، ولكنها رؤية صادقة،
ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها .
والمعنى الخامس:
الواقع أيضا هو الطبيعة والكون والعالم،
فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم . والجبل واقع لا يمكن إنكاره،
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . والسماء مرفوعة والأرض منخفضة. فلا السماء تقع على الأرض، ولا الأرض ترتفع إلى السماء،
ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه .
والفعل «وقع» مشابه صوتيا للفعل «فقع» أي وقوع الفعل مباشرة دون تأخير. فالملائكة تفقع ساجدين لآدم بعد نفخ الروح فيه،
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . وقد ذكرت الآية مرتين. فالوقوع ليس فقط للحدث بل أيضا للفعل الضروري. فالعجب إذن أن يكون الفكر الإسلامي خياليا أسطوريا ميتافيزيقيا يدور حول ما لا واقع له ولا نفع فيه. (7) التمني
وفي مقابل الواقع، التمني. الواقع دث والتمني هوى. الواقع صدق والتمني كذب. الواقع حقيقة والتمني بطلان. وقد عرفت الشخصية العربية بأنها تتمنى أكثر مما تحقق، وأنها تتحدث عما ينبغي أن يكون أكثر مما تحقق ما هو كائن. أمنياتها دليل على عجزها وضعفها وتحقيق ما تريد عن طريق الرغبات وليس الأفعال.
وقد ورد لفظ «التمني» في القرآن الكريم سبع عشرة مرة. فهو لفظ مهم وموضوع أساسي. وورد في صيغة فعلية أكثر منه في صيغة اسمية أي إن التمني فعل للشعور وليس واقعا، ذاتي وليس موضوعا. وورد اللفظ بخمسة معان:
الأول:
وهو الأكثر استعمالا أن التمني من فعل الشيطان وإلقائه وأنه يمني الإنسان بما لا يقع ولا يحدث بالهمس في أذنه من أجل إضلاله وضلاله،
ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام . والأماني وعود مغرورة،
يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . ولا يفرق الشيطان بين النبي وغير النبي. إذ يلقي في روع كليهما الأماني والغرور،
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته . فالشيطان رمز الأماني الواهية والرغبات والأهواء التي لا تقع، والأوهام والأساطير التي لا أساس لها.
والمعنى الثاني:
أن التمني نفسه غير الواقع، وأنه جانب ذاتي في الإنسان يعبر عن رغبة مستحيلة التحقيق في مقابل الواقع الحاضر أو المستقبل،
أم للإنسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى . يتمنى الإنسان أن يكون له الأولى والآخرة حتى يفعل ما يشاء ويكون صاحب الأمر في كل شيء في الحياة وبعد الممات.
والمعنى الثالث:
أن الإنسان لا يتمنى الموت لأنه يريد أن يعيش أبد الدهر، ولا يريد حسابا أو عقابا بعد الممات،
ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين . وأحيانا يتمنى الموت إن كان على يقين بأن الدار الآخرة له وأن مصيره الجنة ثوابا له على أعماله أو لأنه من أحباء الله وأصفيائه،
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . وإن زعم أنه من أولياء الله فعليه أن يتمنى الموت،
إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت . ولما عرفوا أنهم ليسوا كذلك خافوا من لقاء الموت والحساب والعقاب بعده،
ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه .
والمعنى الرابع:
تمني ما في أيدي الناس، وما فضل الله بعضهم على بعض في الرزق،
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . فمال قارون لم يستمر. وثروته لم تدم . ويضرب به المثل الشعبي على هلاك الغنى والجد والاجتهاد الذاتي وليس بحسد ما في أيدى الآخرين. هذا التمني فتنة للنفس وغرورها،
ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني .
والمعنى الخامس:
تمني أهل الكتاب وحسدهم وتمنيهم أن تستمر النبوة فيهم،
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . وقد تمنى أهل الكتاب ألا يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى مع أن الجنة مفتوحة لكل صاحب عمل خير بصرف النظر عن دينه،
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم .
الحياة إذن ليست بالتمني بل بالجهد والعمل والكسب والاجتهاد والاعتماد على القدرة الذاتية. التمني ذاتية بلا موضوعية، أهواء ورغبات مستحيلة التحقيق. والإسلام دين واقعي،
وإن الدين لواقع . التمني فضاء فسيح للتفريج عن النفس والتعبير عن الأحلام والتعويض عن الرغبات المكبوتة. ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى.
التمني طلب النفس أقصى ما تريد لدرجة إنكار الواقع، وهو ما يستحيل تحقيقه. والواقع هو طلب النفس ما يمكن تحقيقه. التمني تكليف ما لا يطاق. والواقع تكليف ما يطاق. التمني هو ما سماه الفلاسفة المثاليون «المثال» ونقده الواقعيون بأنه وهم من صنع الخيال. فلا تتحرر فلسطين بالتمني ولكن بالفعل. ولا تتحقق مطالب الأمة في التحرر والحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية والتنمية والهوية وحشد الأمة بالتمني ولكن بالعمل على تحقيقها. لذلك كثر اتهامنا بأننا نعبر دائما عن فكر بالتمني
Wishful Thought . التمني في هذه الحالة أقرب إلى أحلام اليقظة والرؤى والمنامات والأحلام التي سرعان ما تبدد حين اليقظة.
التمني هو أمل زائف لا يفيد العاجز والمحبط والضعيف والكسول. فمجموع الخطأين لا يكون صوابا: التمني والعجز. وقد خرجت كثير من الأمثال العامية في هذا المعنى كبائعة اللبن التي بعد بيعها وشرائها بثمنه ثروة حيوانية تغنيها، وبها تشتري الأرض، وتبني المنزل لتقطن فيه، ثم فجأة تتعثر ويقع اللبن على الأرض وتتحطم الأماني والأحلام. ومثل المثل الشعبي «فلسنجي بنى له بيت، طمعنجي سكن له فيه».
الفصل الثاني
الإسلام التعددي
(1) الإسلام المستنير
وسط هذا الانتشار الواسع للإسلام «الأصولي» بفعل تركيز المستشرقين والقوى السياسية الغربية والذي يسمى أحيانا أخرى الإسلام السلفي أو الإسلام النصي، ومن خلال سيادة الإسلام المحافظ والذي يسمى أيضا الإسلام التقليدي المنغلق، ومن ثنايا الإسلام العنيف الرافض الذي وصف بالإرهاب في الخارج والداخل، والذي أصبح ذريعة لغزو الشعوب من قوى الهيمنة والاستعمار الجديد كما حدث في أفغانستان والعراق والشيشان وكشمير والصدام مع الحركات الإسلامية في الداخل في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا، وسط هذا الركام كله يبرز الإسلام المستنير كإسلام مغاير، يدعو إلى الحوار الوطني وبناء الجسور مع التيارات المتنازعة، وبدأ الحوار بين الدولة وخصومها بدلا من الاستقطاب الحالي الذي أصبح يهدد وحدة الأوطان ويدفعها إلى حروب أهلية بين الإخوة الأعداء. مهمته إزالة الاستقطاب بين الدولة وخصومها الإسلاميين وإنهاء العنف المتبادل بينهما، ليس فقط عن طريق التائبين والمراجعين، توبة الجماعات داخل السجون ومراجعاتهم العلنية لمواقفهم السابقة، وليس أيضا عن طريق إدماجهم في الحياة الاجتماعية والسياسية ولو عن طريق الاحتمال بل عن طريق إقامة حوار فعلي ضمن الحوار الوطني من أجل مصالحة تاريخية بين الدولة وخصومها، وإعادة ترتيب البيت من الداخل من أجل إقامة جبهة أو ائتلاف وطني عريض ضد المخاطر الخارجية، وأقلها الغزو المباشر من الخارج لتخليص المنطقة من النظم التسلطية حتى ولو على أسنة الرماح كما حدث في العراق من أجل إقامة نظم حرة وديمقراطية، وحماية الجبهة الداخلية من شق الصف الوطني دون انفراد الحزب الحاكم بالسلطة، وضرورة المشاركة السياسية للجميع. مهمته أيضا تحقيق حوار وطني بين مختلف القوى والأحزاب السياسية في البلاد دون هذا الخصام المفتعل بين الإسلاميين والعلمانيين، صراعا على السلطة إذا ما ضعفت الدولة، وعجزت اختياراتها السياسية عن تحقيق الاستقلال الوطني ومصالح الشعوب، بدلا من أن تقوم الدولة بالتخلص من الإسلاميين باستعمال العلمانيين مرة أو بإزاحة العلمانيين باستعمال الإسلاميين مرة أخرى حتى يضعف الجناحان الوريثان للنظام القائم.
مهمة الإسلام المستنير أيضا إفراز نوع من التعددية الفكرية والسياسية داخل الحركات الإسلامية والتيارات العلمانية على حد سواء. فالإسلاميون ليسوا تيارا واحدا. بهم وسط ويسار ويمين . وبهم صراع بين الرعيل الأول والأجيال التالية. الحوار الداخلي بين الأجنحة داخل كل تيار يقرب التيارات بعضها من البعض الآخر. والعلمانيون ليسوا تيارا واحدا. فهناك علمانيون يقبلون الإسلام الليبرالي والوطني والعقلاني والتقدمي والاشتراكي.
والإسلام المستنير ليس تيارا واحدا بل تتعدد تياراته وأسماؤه. فهو الإسلام الإصلاحي أو العقلاني، سليل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد، وهو الإسلام الليبرالي الديمقراطي أو حتى العلماني عند علي عبد الرازق وخالد محمد خالد، وهو الإسلام التقدمي الاشتراكي الإنساني عند مصطفى السباعي وسيد قطب الأول صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام» قبل أن يكتب «معالم في الطريق» تحت تأثير التعذيب في غياهب السجن، وعند عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح وغيرهم من الأجيال الجديدة الذين ضاقوا ذرعا بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وهو ما يتعارض مع مبادئ الإسلام ومثله ونماذجه الأولى، وهو «اليسار الإسلامي» الذي يعيد فهم الإسلام بناء على تحديات العصر السبعة الرئيسية: استكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبتة ومليلية، تحرير المواطن من كل صنوف القهر الديني والسياسي والاجتماعي، تحقيق العدالة الاجتماعية بدلا من هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، إقامة وحدة الأمة عن طريق التجمعات الإقليمية العربية والإسلامية ضد مخاطر التفتيت والتجزئة العرقية والطائفية والتي بدت في العراق وتهدد الخليج ولبنان واليمن والسعودية وسوريا والمغرب العربي ومصر ذاتها كي تبقى إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة، والتنمية المستقلة المتكاملة لما تتمتع به المنطقة من رءوس أموال وطاقة وأسواق وعقول للتخطيط، الدفاع عن الهوية الوطنية ضد مخاطر التغريب والهويات العرقية والطائفية الزائفة، وأخيرا حشد الناس لإشراكهم في العمل الوطني التاريخي بدلا من تهميشهم لصالح الأبطال التاريخيين ونظم حكم الفرد المطلق.
وهو الإسلام التعددي الذي لا يحتكر الرأي ويسمح بأكبر قدر ممكن من الاختلاف الذي هو حق شرعي. فالكل راد والكل مردود عليه. ولا توجد فرقة ناجية واحدة في الجنة وباقي الفرق ضالة هالكة في النار. والصواب متعدد وليس في صالح فريق دون فريق. يحيي التعددية القديمة التي كانت وراء الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، فرق كلامية، مذاهب فقهية، طرق صوفية، تيارات فلسفية، اتجاهات تفسيرية، مناهج للرواية وطرق للدراية بدلا من أن يزهو الغرب علينا بأنه هو الذي أعطى العالم قيم التعددية.
وأخيرا، هو الإسلام الواقعي الذي يبدأ من مصالح الناس وما تعم به البلوى، وما يمس كل مواطن، وتتأثر به كل أسرة. هو الإسلام الذي يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص كما تفعل المالكية اعتمادا على الاجتهاد في صوره المتعددة من قياس واستصلاح واستحسان واستصحاب ومصالح مرسلة. هو إسلام عمر بن الخطاب الذي يوقف حد السرقة عام المجاعة، ويوقف توزيع أرض السواد في العراق على المحاربين حتى لا يستوطنوا ويتركوا الجهاد في سبيل الله. هو الإسلام الذي لا يخشى في الله لومة لائم. يجهر بالحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم . (2) الإسلام العقلاني
الإسلام المستنير هو الإسلام الذي يقوم على العقل. فالعقلانية شرط الاستنارة. لذلك سمى فلاسفة الغرب مثل ديكارت العقل بالنور الطبيعي.
والعقلانية حاجة للعصر الذي سادته الخرافة، وطغى عليه السحر. وأصبحت دوافعه على السلوك الأهواء والانفعالات والرغبات والمصالح الشخصية، وليس التحليل العقلي الهادئ الرصين. يعتمد على السلطة وليس على البرهان، سلطة النص الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي كما تبدو في نصوص القدماء، وأقوال الرؤساء، وأوامر الآباء، والقواعد البيروقراطية، والأمثال العامية. فاتسم السلوك بالطاعة العمياء، والتبعية المطلقة، والتقليد الأعمى، بلا اقتناع داخلي أو إيمان قلبي أو تصديق. فازدوجت الشخصية، بين طاعة ظاهرية ورفض باطني. وأصبح النفاق، انفصام الخارج عن الداخل، هي السمة المميزة للسلوك في الحياة اليومية كما يظهر ذلك في لغة المداهنة والتقرب لقضاء الحاجات. وعم المديح الخطاب القومي.
وهو ضرورة عصرية نظرا لأن حضارة العصر هي حضارة العقل. فقد قامت الحضارة الغربية الحديثة على العقل ضد سلطة الكنيسة وبطليموس وأرسطو. وبدأت بشعار «أنا أفكر فأنا إذن موجود». وكما تعاملت الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى مع حضارة اليونان وهي حضارة العقل وأنتجت الفلسفة الإسلامية كذلك تتعامل الحضارة الإسلامية الآن مع الحضارة الغربية لتنتج الإسلام العقلاني المستنير.
وليس العلمانيون وحدهم هم الذين ينهلون من العقلانية الغربية تقليدا لها وترويجا لثقافتها، وتبعية لحضارتها لمعاداة الحركة الإسلامية، وإيجاد البديل عنها في التنوير الحكومي الذي تروج له أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية والتعليمية بل أيضا الإسلام العقلاني الذي يرشد الحركات الإسلامية وينقلها من الإطار السلفي إلى الإطار الحديث، ويأخذ موقفا نقديا من العقلانية الغربية الصورية، ثم ينقلب عليها العلمانيون كما انقلب عليها الغرب نفسه بدعوى نقد الحداثة وللإعداد لمرحلة ما بعد الحداثة، والتحول من التحليل إلى التفكيك، ومن الفكر إلى الكتابة، ومن المعنى إلى اللفظ، الكتابة في درجة الصفر، وموت المؤلف.
والإسلام العقلاني ليس غريبا على تراثنا القديم أو تقليدا للغرب الحديث بل هو جوهر الحضارة القديمة وركيزتها الأولى. فقد قامت العلوم الإسلامية الأولى على العقل. وتم تصنيفها طبقا لها إلى علوم نقلية عقلية تجمع بين العقل والنقل، وعلوم عقلية خالصة تعتمد على العقل وحده، في مقابل العلوم النقلية الخالصة التي تعتمد على النقل وحده.
فمن العلوم النقلية العقلية علم أصول الدين أو علم العقائد أو علم الكلام الذي قام على العقل مع النقل في معترك الحياة السياسية. جعل المعتزلة العقل أساس النقل. فالأشياء حسنة وقبيحة في ذاتها. حسنة كالكرم والإحسان ومعاونة الضعيف، وقبيحة كالقتل والظلم والعدوان. والشرع مؤيد لحكم العقل وليس بادئا أو نقيضا له. والنظر أول الواجبات. والعقل شرط التكليف. كما أثبت المعتزلة الواجبات العقلية مثل التكليف، وشكر المنعم. وأولوا النص طبقا للعقل حماية للتوحيد من الوقوع في التجسيم والتشبيه ودفاعا عن التنزيه. والعقل هو أول ما خلق الله طبقا للحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل». واعتبر الأشاعرة، وهم جمهور أهل السنة الآن، أن استعمال العقل ثابت بالنص لكثرة ما استعمل القرآن آيات مثل
أفلا تعقلون ،
أفلا تتفكرون ،
صم بكم عمي فهم لا يعقلون .
كما اعتمد الفلاسفة على العقل. فالإنسان حيوان ناطق كما هو الحال عند اليونان. وهناك عقول متعددة. الله هو العقل الأول، عقل وعاقل ومعقول. والأفلاك عقول، والعلم فيض من العقل الفعال إلى العقل بالملكة والعقل المستفاد والعقل بالقوة كي يصبح عقلا بالفعل. وفي رواية رمزية «حي بن يقظان» الطفل الذي نشأ في جزيرة ولم يسمع وحيا أو بلغته رسالة أو نبوة استطاع بعقله الطبيعي أن يصل إلى كل ما أنزل إلى الأنبياء: الله موجود، والعالم مخلوق والنفس خالدة، تثاب وتعاقب لأفعالها وقانون الاستحقاق
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . فالعقل والوحي طريقان للمعرفة، الأول طريق الفيلسوف، والثاني وحي النبي. وحد الكندي بين الفلسفة والدين. وجعل الفارابي رئيس المدينة الفاضلة الفيلسوف أو النبي. والشريعة عند إخوان الصفا تقوم على العقل. والحكمة عند ابن رشد النظر بما تقتضيه صناعة البرهان، وهو واجب بالشرع.
ودليل العقل عند الأصوليين أو القياس أو الاجتهاد هو أصل من أصول التشريع. بل إن التصوف الذي عرف عنه أنه مع الذوق والكشف والمعاينة يقوم التصوف النظري على العقل بحيث أصبح حكمة إلهية كما هو الحال عند ابن عربي وابن سبعين. وأقام السهروردي منطقا إشراقيا ذوقيا في مقابل المنطق الصوري اليوناني وحاول ابن سينا إقامة منطق للمشرقيين في مقابل المنطق الأرسطي.
والعلوم النقلية بالرغم من اعتمادها على النقل تقوم أيضا على بعض الجوانب العقلية. والأدلة النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء أنه صحيح ما أثبتته، ولظل ظنيا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة كما عبر عن ذلك الإيجي في «المواقف»، وهو أشعري يمثل عقائد أهل السنة ونظريتهم في المعرفة، فالاتفاق مع العقل أحد شروط الخبر المتواتر، والتفسير العقلاني مثل تفسير الزمخشري أحد التيارات الرئيسية في علم التفسير. والسيرة المعاصرة عند طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل تقوم على العقل بعيدا عن الأساطير القديمة المنتشرة عند أهل الكتاب في سير الأنبياء. وفي الفقه البلوغ هو العقل، والعقل مناط التكليف.
والعلوم الرياضية تقوم على العقل مثل الحساب والهندسة والجبر والموسيقى والفلك. وقد أبدع فيها المسلمون بالرغم من أن النقل هو مركز الحضارة الإسلامية ومنشؤها الأول. وما زال الإبداع الرياضي القديم أحد الروافد الأساسية في العلوم الرياضية المعاصرة.
وقامت الحركات الإصلاحية المعاصرة على العقل كما فعل محمد عبده في «رسالة التوحيد». فهو أشعري في التوحيد، معتزلي في العدل. بل إن العقل أصبح دعامة النهضة العربية الحديثة عند الطهطاوي.
ومن ثم فإن الإسلام المستنير له رصيده عند القدماء والمحدثين، وهو استئناف للجوانب العقلانية في تراثنا القديم والتراث الغربي الحديث في مرحلة جديدة من مراحل تطور الحضارة الإسلامية. (3) الإسلام العلمي
الإسلام «العلمي» هو أحد مسميات اليسار الإسلامي في مقابل الخرافي والأسطوري. ولا يعني العلم هنا العلم الطبيعي المتغير طبقا لتصورات العلم وكيفية تطبيقها في التقنية الحديثة والمتجددة باستمرار. إنما يعني الإسلام الطبيعي الذي يتفق مع معطيات الطبيعة العامة وليست الميتافيزيقا المغرقة في النظريات والمجردات والتأملات باسم الدين، وهو أيضا الإسلام الواقعي المتفق مع مقتضيات الواقع. الإسلام الممكن وليس المستحيل كما قال محمد عبده من قبل في «رسالة التوحيد» أن الوحي ممكن الوقوع. لذلك انتشر الإسلام بسرعة لم يشهد التاريخ بمثلها لواقعيته وسهولته وطبيعيته. ولفظ «الواقع» لفظ قرآني. فالدين واقع
وإن الدين لواقع . والعذاب واقع
إن عذاب ربك لواقع . والوعد واقع
إنما توعدون لواقع . وإذا كان الوعد واقعا، فالوعد صادق
إنما توعدون لصادق ، وهو الإسلام الذي يبدأ بعالم الشهادة. ويعتمد على الحس والمشاهدة وشهادة الحواس التي اعتمدها القرآن في البرهان، العين للبصر، والآذان للسمع ضد الأوهام والخيالات، وبعيدا عن الغيبيات السمعية التي تخرج عن دائرة البرهان العقلي، وهو الجانب الذي تضخم في العقود الأخيرة لصعوبة رؤية الواقع والشهادة عليه، واستسهال الإغراق في الغيب الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهو أيضا الإسلام الذي يقوم على المضمون وليس على الشكل «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». فالشعائر مضمون قبل أن تكون صورة. الشهادة تحرر وجداني بفعلي النفي والإثبات في «لا إله إلا الله » قبل أن تكون تمتمة بالشفتين. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قبل أن تكون حركات وسكنات. والصيام إحساس بالفقراء قبل أن يكون إمساكا عن الطعام والشراب في وقت معلوم. والزكاة مشاركة الفقراء في أموال الأغنياء قبل أن تكون ضريبة كمية، والحج توجه القلب نحو هدف واحد قبل أن يكون شعائر، سعيا وإفاضة وطوافا وهديا ورميا بالجمرات. ولو أن لفظ «مادي» كان له معنى تداوليا إيجابيا لأمكن استعماله. حينئذ يعني الإسلام المادي الاهتمام بحياة الناس وسعادتهم في الدنيا، بأرزاقهم ومعاشهم وتعليمهم وصحتهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية في مقابل الإسلام الكهنوتي المنغلق الذي حول الدين إلى بضاعة وتجارة وتكسب ورزق ومعاش خاصة في القنوات الفضائية.
وإذا كان اليسار الإسلامي إسلاما عقلانيا فمن الطبيعي أن يكون إسلاما طبيعيا. فالعقل والطبيعة هما الركيزتان الرئيسيتان للوحي. فالنص له دعامتان. الأولى في العقل والفكر والنظر والبرهان. والثانية في الطبيعة والواقع وحياة الناس. الأولى في السماء، والثانية في الأرض. وإلا يتحول الوحي إلى مجرد عقائد وشعائر مغلقة على نفسها. بلا دليل يؤيدها أو واقع تتحقق فيه.
وقد ظهر هذا البعد في النص نفسه في أسباب النزول. كل حكم له سبب في الواقع. الواقع يسأل، والوحي يجيب. و
يسألونك عن الأهلة ،
ويسألونك عن المحيض ، و
يسألونك عن الأنفال ، و
يسألونك عن الخمر ، ويجيب الوحي
قل . وكل الإجابات تدل على جلب المنفعة ودفع الضرر. السؤال نظري، والإجابة عملية. وكما تعني أسباب النزول أولوية الواقع على النص فإن «الناسخ والمنسوخ» يعني أولوية الزمان على الحكم، وتطور الزمان على ثبات الحكم. فالمكان والزمان بعدان للواقع. ولا يوجد وحي إلا في الزمان والمكان. يتكيف الوحي طبقا لتطور الزمان والتدريج في التغير الاجتماعي.
وقد ظهر هذا الجانب في كل العلوم الإسلامية القديمة. ظهر في علم العقائد وهو علم أصول الدين أو علم التوحيد في جعل التفكير في الطبيعة سابقا على التفكير فيما بعد الطبيعة. ولا يمكن التفكير في الذات والصفات والأفعال إلا بعد إثباتها عن طريق الجوهر والأعراض. ولا فرق بين صفات الإنسان الكامل والإنسان المتعين. وإذا كان التوحيد خاصا بالله فإن العدل خاص بالإنسان. وإذا شمل التوحيد الذات والصفات فإن العدل يتضمن العقل والحرية. والإيمان والعمل والإقرار ظهور للتوحيد في سلوك الإنسان. والإمامة تحقق التوحيد في المجتمع والدولة والتاريخ.
وفي علوم الحكمة وهي العلوم الفلسفية، الطبيعيات أيضا سابقة على الإلهيات كما سبق المنطق أي العقل الطبيعيات. فدون النظر إلى الطبيعة لا يمكن الدخول فيما بعد الطبيعة. العالم دليل على الله، وليس الله دليلا على العالم. والفكر العلمي فكر استقرائي صاعد، وليس فكرا استنباطيا نازلا، من الجزئي إلى الكلي وهو أمر مستغرب، وليس من الكلي إلى الجزئي كما هو شائع. بل إن علوم التصوف أيضا أكدت على أهمية الواقع والطبيعة فيما سمته الوجود. فالحق لا يفهم بعيدا عن الخلق. ويروون الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني» البعض سمى - الحلاج - ذلك الحلول أو الاتحاد. والبعض الآخر مثل ابن الفارض سماه وحدة الشهود، ألا يرى في العالم إلا الله. وفريق ثالث وعلى رأسهم ابن عربي سماه وحدة الوجود. فالإنسان في العالم. والفناء بقاء.
وقد ظهر الواقع على خير ما يكون في التعليل في علم أصول الفقه. فكل الأحكام الشرعية معللة. والعلة هي سبب التحليل أو التحريم. وهي العلة المادية، درء المفاسد وجلب المصالح. وهي لا تعرف إلا بالمناهج التجريبية التي سماها القدماء «السبر والتقسيم». فالسكر المادي علة تحريم الخمر. وعدم اختلاط الأنساب علة تحريم الزنا. وقد سمى بعض الأصوليين المصدر الرابع من مصادر التشريع إما دليل العقل أو القياس أو الاجتهاد تأكيدا على علة الأصل المستنبطة من النص أو الاستصلاح والاستصحاب والمصالح المرسلة تأكيدا على علة الفرع المستقرأة من الأجزاء. والرخص في مقابل العزائم، والضرورات تبيح المحظورات، والعادة محكمة، كل ذلك كاشف عن وجود الواقع في طرق الاستدلال واستنباط الأحكام.
العلم هو العلم النافع، ما يمس حياة الناس «أعوذ بالله من علم لا ينفع»، وهو العلم الذي يبقى ويؤثر في الأرض
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
الواقعية أو العلمية أو الطبيعية أو البرجماتية ليست قصرا على الغرب وحده بل هي نزعة في كل حضارة شرقية، صينية أو هندية أو مصرية قديمة أو بابلية أو آشورية أو كنعانية. «في البدء كانت الكلمة» ولكن الكلمة هي الفعل
كن فيكون . وقد أوضح ذلك جوته بقوله «في البداية كان الفعل» وهو ما أبرزه القرآن أيضا في عدة آيات
وقل اعملوا ،
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . وقد استولى محمد الفاتح على القسطنطينية والنصارى تتناقش في طبيعة السيد المسيح إلها أم إنسانا. وعندما سئل الرسول متى الساعة أجاب «فاستعد لها». (4) الإسلام الإنساني
وأحد أشكال اليسار الإسلامي هو الإسلام «الإنساني» أي الإسلام الذي يجعل الإنسان محوره وهدفه، وليس الإسلام السلطاني أو الفقهي أو العقائدي أو الشعائري. فقد خاطب الله الإنسان بالوحي، وجعله خليفته في الأرض، والأمين على الرسالة التي اختارها بحرية
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . فالإنسان هو كليم الله وليس فقط موسى، وخليل الله وليس فقط إبراهيم، وروح الله وكلمة منه وليس فقط عيسى، والمبلغ لرسالات الله وليس فقط الرسول. لأجله خلقت السموات والأرض والشمس والقمر، والجبال والبحار، والطير والزرع، والماء والهواء.
ومع ذلك اتهم الإسلام بأنه ضد حقوق الإنسان لأنه يعطي الأولوية للحاكم على المحكوم، وللسلطان على الناس، ولتطبيق الشريعة على جسد الإنسان ببتر الأعضاء وهي جزء من حقوق الإنسان. وأشد ملف قسوة من ملفات حقوق الإنسان هو الملف العربي الإسلامي طبقا للتقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية. المعتقلون بعشرات الآلاف تحت التعذيب طبقا لقانون الطوارئ أو صيغته الجديدة باسم مكافحة الإرهاب أو قانون حماية الوحدة الوطنية أو قانون العيب إلى آخر هذه التسميات الفضفاضة التي تعني شيئا واحدا هو خرق حقوق الإنسان الطبيعية والمدنية. بل إن معتقلي جوانتنامو يرسلون إلى الأقطار العربية ليعذبوا في بلادهم بدلا من تعذيبهم بأمريكا مما يضع الإدارة الأمريكية تحت المساءلة.
كما ادعى الغرب أنه وحده هو الذي أصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرتين، الأولى أثناء الثورة الفرنسية، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية. في حين أن الحضارات الأخرى لم تعرف إلا حقوق الله وحقوق السلطان. في الغرب وحده قامت النزعة الإنسانية منذ القرن السادس عشر. وعليها قامت النهضة الغربية الحديثة. ويضرب المثل بالعقائد. في المسيحية يموت الله من أجل الإنسان. وفي الإسلام يموت الإنسان من أجل الله.
والإنسان مذكور في القرآن الكريم خمسا وستين مرة، عن أصله وسماته الهشة وأعدائه. ومذكور أيضا حريته ومسئوليته
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، وبره بالوالدين، وعظمته بما يتمنى
أم للإنسان ما تمنى ، ويسعى
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وعلمه
خلق الإنسان * علمه البيان ،
علم الإنسان ما لم يعلم ، وهو في أحسن تقويم
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . والإنسان اشتقاقا من الأنس والألفة والمحبة. والإنس وهم البشر في مقابل الجن والملائكة، وليس من النسيان كما قال أحد الشعراء.
وقد ظهر الإنسان في العلوم الإسلامية العقلية النقلية القديمة. ظهر في علم أصول الدين وعلوم التصوف في صورة «الإنسان الكامل». فقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. والصفات، العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مشتركة بين الإنسان والله، في الإنسان على نحو نسبي، وفي الله على نحو مطلق. في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز، قياسا للغائب على الشاهد، أو في الله حقيقة وفي الإنسان تواضعا من الإنسان أن يؤثر الله بالحقيقة ويكتفي هو بالمجاز. والأسماء الإلهية التسعة وتسعون مجموعة من القيم والفضائل الإنسانية يتحلى بها كي يصبح إنسانا كاملا. و«الإنسان الكامل» عند الجيلي هو الإنسان الذي تشبه بصفات الله وأسمائه.
وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان قد غاب في علوم الحكمة إلا أنه كان حاضرا كنفس أو عقل خاصة عند إخوان الصفا الذين جعلوا الحكمة ليست فقط ثلاثية: منطق، وطبيعيات، وإلهيات بل رباعية بإضافة العلوم النفسانية والناموسية أي علمي النفس من ناحية والاجتماع والسياسة والقانون من ناحية أخرى.
كما حضرت حقوق الإنسان بوضوح في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه، في الضروريات الخمس: الدفاع عن النفس أي الحياة ضد الجوع والفقر والمرض والحروب، والدفاع عن العقل ضد الجهل والغباء والسفه والخبل، فالحياة هي الحياة العاقلة، والدفاع عن الدين أي القيمة التي يشارك فيها الجميع، المعيار الخلقي الشامل ضد النسبية والمعيار المزدوج والأنانية وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والدفاع عن العرض أي الكرامة الفردية والجماعية ضد جميع انتهاكات حقوق الإنسان، وأخيرا الدفاع عن المال أي الثروة الوطنية ضد التبذير والسفه والاستغلال والاحتكار وسوء توزيع الثروة.
وما زال الفكر العربي الإسلامي المعاصر يصارع من أجل إبراز حقوق الإنسان، ليس فقط عن طريق القراءات الإسلامية المتعددة لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، ولكن أيضا عن طريق تأصيل حقوق الإنسان في التراث القديم الذي ما زال يؤكد على حقوق الله وواجبات الإنسان كما هو الحال عند محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد». في حين أن المعتزلة القدماء تكلموا عن الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر المنعم. التوازن بين الحقوق والواجبات ضروري. لا حقوق بلا واجبات، ولا واجبات بلا حقوق. في الحضارة الغربية في العلاقات الدولية حقوق بلا واجبات، وفي الحضارة الإسلامية في العلاقات السياسية واجبات دون حقوق.
الإسلام الإنساني إذن يجعل الإنسان هو الهدف الرئيسي من الرسالة، دفاعا عن حقوقه، وتأكيدا لسلطانه وحريته. بدنه جزء من الحقوق، يداه ورجلاه ورقبته وحريته في القول والتعبير جزء من الحقوق ضد حرية الرأي وتكميم الأفواه وتقييد الحركة في السجون والمعتقلات. الإسلام الإنساني ضد الإسلام السلطاني الذي يضحي بالإنسان في سبيل السلطان وضد الإسلام الردعي اعتمادا على درء الحدود بالشبهات.
حينئذ يستطيع الإسلام أن يدفع عن نفسه الشبهات ويدافع عن إنسانيته في مواجهة تحديات العصر. (5) الإسلام التقدمي
والإسلام «التقدمي» أحد أشكال اليسار الإسلامي وتعبيراته المختلفة مثل الإسلام العقلاني أو الإسلام العلمي. ويعني الإسلام الذي يساهم في صنع التقدم للشعوب، إسلامية أو غيرها. فالتقدم في حد ذاته فضيلة، وهو مذكور في القرآن لفظا
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . ونفس المعنى في لفظ السبق
والسابقون السابقون . وفي القرآن نقد شديد للتخلف
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، وللمتخلفين من الأعراب
قل للمخلفين من الأعراب ، وللخوالف
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وللقاعدين
إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين .
والغرب يزهو علينا وعلى باقي الحضارات أنه وحده حضارة التقدم، وأنه قد أغنى الحضارات البشرية بمفهومي التقدم والتاريخ والأمل في المستقبل. وصاغ لذلك «فلسفة التاريخ»، تعنى بالتقدم وباكتشاف قوانينه. فوقع في العنصرية والمركزية الأوروبية. فالتقدم يبدأ منه عند اليونان والرومان، وينتهي إليه في الغرب الحديث. في حين انشغلت الحضارات الأخرى بالخلود، بكل الزمان. وصنف غيره ضمن الشعوب «المتخلفة». تئن من ثقل الماضي دون أن تتحرر منه إلى المستقبل. ربط الإسلام بمظاهر التخلف مثل القهر والاستبداد والعنف وخرق حقوق الإنسان والمواطن والمرأة والأقليات.
ولفظ «تقدم» من فعل «قدم» يعني قديم وتقدم في آن واحد. أخذت الثقافة الموروثة أحد المعنيين وهو القديم كمعنى تداولي دون المعنى الثاني وهو التقدم فغاب المفهوم من ثقافتنا المعاصرة ومن خططنا ومن سلوكنا اليومي. هنا تأتى أهمية اليسار الإسلامي في إعادة بناء الثقافة الموروثة بعد أن أصبحت هي الرافد الرئيسي المكون للثقافة الوطنية.
ليس التقدم جوهرا ثابتا وقيمة مطلقة تخص شعبا دون شعب إلى الأبد. بل هي سمة توجد في شعب وحضارة في لحظة تاريخية معينة، كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، القرون السبعة الأولى، حضارة تقوم على العقل والعلم، وتهدف إلى التقدم وتأسيس العمران. وكانت أوروبا في العصر الوسيط المتزامن مع عصرنا الذهبي متخلفة في العلوم والآداب، ثم انقلبت الآية، فأصبحنا نحن في العصر المملوكي العثماني في القرون السبعة الأخيرة نموذجا للحضارة المتخلفة الناقلة لعلومها الماضية والمقلدة لتراثها السابق، الشارحة والملخصة له. وأصبحت أوروبا في عصورها الحديثة نموذج الحضارة المتقدمة ورائدا للحداثة والتحديث.
ليس إذن التقدم غريبا على الحضارة والشعوب العربية والإسلامية. ظهر المفهوم في العلوم الإسلامية النقلية العقلية القديمة، أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة والتصوف.
ففي علم أصول الدين تساءل العلماء عن مستويات التقدم ورتبه هل هو بالزمان، تقدم الأب على الابن، أو بالمكان، تقدم القائد الصفوف، أم بالشرف، تقدم الأنبياء على سائر البشر؟ كما ظهر التقدم في الماضي في النبوة وتوالي الأنبياء من آدم حتى محمد. ويستمر التقدم في المعاد في استمرار الحياة بعد الموت. ثم ينهار التقدم في إمامة المفضول بالرغم من وجود الأفضل، وتوالي الانهيار في الأجيال جيلا وراء جيل «خير القرون قرني ثم الذي يلونه»، «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضوض». ثم يأتي المهدي ليرفع الأمة من هذا الانهيار ويخلصها من طول قهر وظلم، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.
وفي علم أصول الفقه ظهر التقدم في العلاقة بين المصادر الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، من نص الوحي الأول إلى نص الرسول إلى قرار الإجماع إلى فتوى القياس. بل إن التقدم داخل في كل أصل. في القرآن في الناسخ والمنسوخ، وتغير الحكم الشرعي بتغير الزمان، وقياسه على مقدار القدرة والأهلية والطاقة. والتقدم في السنة من المرحلة المكية إلى المرحلة المدنية. والتقدم في الإجماع. كل إجماع ملزم لعصره. وإجماع العصر السابق ليس ملزما لهذا العصر. وإجماع هذا العصر ليس ملزما للعصر القادم نظرا لتغير الظروف.
وفي علوم الحكمة وفي علوم التصوف ظهر التقدم على مستوى رأسي وليس أفقيا، التقدم الروحي، والصعود إلى الحق إشراقا أو النزول منه فيضا. فالتقدم في الحكمة رقي في الدرجة من أسفل إلى أعلى، من العقل الإنساني، المستفاد أو بالملكة إلى العقل الفعال أو فيضا من العقل الفعال على العقل بالقوة وهو العقل الإنساني. كما ظهر التقدم الدائري أو الحلزوني في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، عودا على بدء، من البداوة إلى الحضارة إلى البداوة من جديد. كما تجلى هذا التصور الحلزوني في قصص الأنبياء في القرآن. يظهر النبي ضد مثالب قومه، مثل التسلط عند آل فرعون، الشذوذ الجنسي عند قوم لوط، العصيان في بني إسرائيل، عبادة الأصنام لدى آل إبراهيم. ثم تعود المجتمعات إلى ما تعودت عليه من قبل. فيظهر نبي جديد مذكرا بالأنبياء السابقين وكما صور نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش» وفي «أولاد حارتنا».
أما علوم التصوف فتصورت التقدم أيضا ارتقاء في المقامات والأحوال، من التوبة إلى الفناء، طريقا إلى الله يسلكه السالكون، ويطرقه المريدون بمساعدة مشايخ الطرق، وهو تقدمي أخلاقي روحي. ينتهي بعالم الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء من صنع الخيال. يجد فيه الصوفي البديل عن عالم الظلم والقهر والاستبداد أو عالم الرياء والنفاق والمداهنة والمديح.
ثم أصبح مفهوم «التقدم» أحد هموم الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر في حركات الإصلاح بكافة أنواعها، الإصلاح الديني عند الأفغاني، الاجتهاد ضد التقليد، والعقل في مقابل النقل، وحرية الإرادة في مقابل القضاء والقدر، والديمقراطية في مواجهة التسلط والطغيان. وتساءل شكيب أرسلان: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ كما ظهر كتقدم مدني في الفكر السياسي الليبرالي عند الطهطاوي. وترجم فتحي زغلول سر تقدم الأنجلوسكسون. وأبرزه أنصار الفكر العلمي العلماني وأنصار نظرية التطور لدارون. إن التقدم والارتقاء سر الحياة الطبيعية والإنسانية. فكل شيء يتطور بما في ذلك الإنسان والحضارة.
وأنشئت عديد من الأحزاب التي وصفت نفسها بالتقدمية، الحزب الاشتراكي التقدمي، التجمع الوطني التقدمي. وأنشئت وحدة الأحزاب التقدمية. وظهرت دور نشر تحمل اسم «التقدم» كتلك التي أسسها أنصار سلامة موسى. غناه الشعراء، ودافع عنه المفكرون في مواجهة قوى المحافظة والرجعية والسلفية.
اليسار الإسلامي إذن هو إحدى القوى التقدمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. يرى أن اليوم أفضل من الأمس بالرغم من بعض مظاهر الانتكاس، وأن الغد أفضل من اليوم بالرغم من حالة التشاؤم والانهيار العامة. والقرآن يحث على الأمل
يا أيها الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله ، وهو واقع مهما طال الانتظار
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا . (6) الإسلام الليبرالي
الإسلام الليبرالي هو أحد صياغات اليسار الإسلامي، وهو موجود بالفعل تحت هذا الاسم في إندونيسيا عند أولي الأبصار تطويرا لليسار الإسلامي في القاهرة بالرغم من مغالاته في الليبرالية على مستوى الرأي العام ومدها إلى العبادات بحيث يحقق أهدافها بوسائل أخرى كما قال الفلاسفة من قبل. فالعبادات وسائل وليست غايات. الصلاة للسمو الروحي ، وأداء الأفعال في أوقاتها. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء. والصوم إحساس بجوع الفقراء. والحج تجمع سنوي للتعبير عن حال الأمة بين أعدائها وأصدقائها.
وقد أصبح اللفظ المعرب لفظا مستعملا متداولا مثل بعض الألفاظ القديمة، فلسفة وموسيقى وهندسة وبعض الألفاظ العلمية الحديثة مثل الراديو والتليفزيون والتليفون والكومبيوتر والإنترنت، ومثل بعض الألفاظ السياسية مثل الديمقراطية والبرلمان والأيديولوجيا والماركسية. فاللفظ القديم «الحرية» يقال في مقابل «العبودية» في الفقه، وقد اختفى نظام العبودية في التاريخ في القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب.
والرغبة في الحرية رغبة عارمة في قلوب الناس لمعاناتهم من نظم القهر، ملكية كانت أو جمهورية، مدنية أم عسكرية. تسيطر الدولة فيها على كل وسائل التعبير في أجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية. وكل رأي جديد يتهم صاحبه بالردة أو الكفر أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وتتفق كل التيارات السياسية الرئيسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، الإسلامية والقومية والليبرالية والماركسية، على أن القضية الرئيسية في الحياة العامة هي قضية الحرية. يعاني أنصارها من الاضطهاد والسجن والاعتقال. وهي أجنحة المعارضة الرئيسية في البلاد. وتدل تقارير منظمات العفو الدولية على وجود حوالي عشرين ألفا من المعتقلين السياسيين في الوطن العربي وحده؛ بل تصدر إليه معتقلو جوانتنامو للتعذيب في أوطانهم وليس في الولايات المتحدة الأمريكية خشية الإعلام والقانون.
والحرية حق طبيعي للإنسان. أعلنه عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعة عشر قرنا «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟» واستعاده أحمد عرابي في مواجهة الخديوي توفيق عارضا عليه مطالب الجيش والشعب «إن الله خلقنا أحرارا ولم يخلقنا عقارا. والله لا نستعبد بعد اليوم.» من تعاليم الأفغاني. وكتب الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» دفاعا عن الحرية. ودافع عنها خالد محمد خالد في «الله والحرية». وساهم في ذلك المفكرون العرب مثل محمد عزيز لحبابي في المغرب في «حرية أم تحرر؟»
ولم تغب الحرية عن تراثنا القديم وإن ظهر معناها بألفاظ أخرى مثل «خلق الأفعال» في علم الكلام خاصة عن المعتزلة. فالإنسان خالق أفعاله أي صاحبها وإلا انتفت المسئولية عنها في الدنيا والآخرة، وضاع قانون الاستحقاق، الثواب أو العقاب على الأفعال. وفي الفلسفة الخلقية عند الفارابي ومسكويه الحرية شرط الفعل الخلقي الإرادي. والإنسان يختار بين حياة الفضيلة وحياة الرذيلة، بين تنمية قواه الشهوية أو الغضبية أو العاقلة. وعند الصوفية، الحرية داخلية، حرية الضمير والتغلب على شهوات الدنيا والتحرر منها. وفي أصول الفقه حرية الأفعال في المندوب والمكروه، المندوب هو حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل الفعل. والمكروه حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل عدم الفعل. والمباح حرية الفعل أو عدم الفعل فالإنسان حر طليق في أفعاله الطبيعية. شرعيتها في وجودها.
وفي الفقه يتحرر الإنسان من العبودية بالعلم؛ إذ لا يجوز استعباد العالم في حده الأدنى وهو القراءة والكتابة. ولا يجوز استعباد الأم، فالأمومة تربية الأطفال على الحرية، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولا يجوز استعباد الشجاع المحارب الذي يدافع عن القبيلة ضد الغزو والعدوان، فالشجاعة فعل من أفعال الحرية. وإذا ارتكب الإنسان ذنبا فعليه تحرير رقبة، فالعبودية ذنب يجب التكفير عنه بالتحرير.
والشهادة نفسها فعل من أفعال الحرية، تبدأ بالشهادة أي بالرؤية والإعلان. فالمسلم هو الذي يشهد على ما يقع في عصره من أحداث وما يتحكم فيها من نظم. ليس كالحكمة الصينية القديمة «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم» أو بالتعبير المسرحي الشعبي «شاهد ما شافش حاجة». ثم يقوم المسلم بفعلين من أفعال الشعور، فعل النفي في «لا إله» أي نفي كل آلهة العصر المزيفة، الثروة، الجاه، السلطة، الجنس، الشهرة. فإذا ما تحرر منها يقوم بفعل الإثبات «إلا الله» أي الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع. فالشهادة تعني حرية الضمير والوجدان، وهو ما يدفعه لقول الحق. فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جهر بالحق مثل النصيحة. ووظيفة الحسبة الكشف عن الزيف في المعاملات والاحتيال في الموازين والأسعار في الأسواق. فالمسلم لا يخاف من الإعلان عن الحق لأن حرية الرأي والتعبير والتفكير من مقتضيات الإيمان
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
الحرية في القول والعمل، في الفكر والاعتقاد. تمنع الإنسان من ازدواجية الشخصية والنفاق والرياء والمدح
قتل الخراصون . الحرية هي الإعلان والبيان والبلاغ
فاصدع بما تؤمر . الحر كالرسول
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس .
يكفي اليسار الإسلامي أن يكون مدافعا عن حريات الناس ضد قهرهم والتسلط عليهم. فبدون الحرية لا تنشأ استنارة عقل، ولا توزيع ثروة، ولا إحراز تقدم، ولا تأكيد حق طبيعي، ولا وجود لإنسان. (7) الإسلام الديمقراطي «الإسلام الديمقراطي» إحدى صياغات اليسار الإسلامي وتسمياته، وهو موجود بالفعل في مصر وتونس. ويعني قبول التعددية السياسية والنظام الحزبي والاحتكام إلى صناديق الاقتراع بعيدا عن العنف واستعمال القوة للوثوب على السلطة بتنظيمات علنية أو سرية، وهي تسمية طبيعية بعد «الإسلام الليبرالي»، حرية الفرد أولا ثم ديمقراطية الحكم ثانيا.
ولفظ «الديمقراطية» أيضا لفظ معرب مثل «الليبرالية». وأصبح أيضا متداولا وشائعا. ويعني حكم الشعب على النقيض من حكم الطغاة كما حدث عند اليونان. ويفضل الإسلاميون استعمال لفظ «الشورى». وبالرغم من الخلاف في الآليات بين «الديمقراطية» و«الشورى» إلا أن الاتفاق في الروح، وهو ضد حكم الفرد وانفراده بالرأي والقرار. ويصر العلمانيون على أن الخلاف بينهما كبير. وهما أقرب إلى الاختلاف منهما إلى الاتفاق. والحقيقة أن الخلاف في استعمال اللفظ بين الإسلام الديمقراطي والعلماني الغربي إنما هو صراع على السلطة. فالإسلاميون يريدون إعادة صياغة إسلام مدني قادر على التعامل مع باقي الاتجاهات السياسية في إطار من شرعية الدولة. والعلمانيون الغربيون يريدون حصار الإسلاميين في المحافظة الدينية حتى يفسح لهم المجال وحده للعمل السياسي الشرعي خوفا من شعبية الإسلاميين وقدرتهم على حشد الجماهير.
والمعنى الشائع لا خلاف عليه. فالسلطة للشعب وليست للرئيس، واحترام سلطة الأغلبية وأولويتها على سلطة الأقلية، وحرية الصحافة وأجهزة الإعلام، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء. الديمقراطية بهذا المعنى الشائع أفضل من الأوتوقراطية، حكم الفرد المطلق وحكم الأقلية وحكم الطبقة. ومع ذلك الديمقراطية في آلياتها الغربية لها حدودها باعتراف أنصارها أنفسهم. فهي تصور كمي يقوم على قسمة الشعب إلى أغلبية وأقلية. الأغلبية في الحكم، والأقلية في المعارضة. للأغلبية الحق في إصدار القرارات في النظام السياسي، اشتراكية أو رأسمالية، وفي العلاقات الدولية، حربا أم سلما. فإذا ما أصبحت أغلبية اليوم أقلية في الغد وأصبحت أقلية اليوم أغلبية في الغد، تتغير القرارات السياسية. وما كان حقا يصبح باطلا، وما كان باطلا يصبح حقا. ولا يوجد نظام قيمي يحكم ديكتاتورية الأغلبية وتبعية الأقلية أو اتفاق الأغلبية والأقلية على القهر والغلبة كما حدث في النازية والفاشية أو على تأييد الغالب على المغلوب والقوي على الضعيف والظالم على المظلوم كما يحدث الآن في تأييد اغتصاب إسرائيل لفلسطين وطرد الشعب الفلسطيني خارج وطنه في المخيمات أو إلى بلاد المهجر. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية أو بين العمال والمحافظين في بريطانيا في العدوان على العراق وأفغانستان وتأييد اغتصاب فلسطين. لا فرق بين أقلية وأغلبية لاجتماعهما معا على أيديولوجية الغزو العسكري للأوطان، واغتصاب حقوق الشعوب.
وتقوم الديمقراطية على تصور فردي، صوت واحد لكل فرد بصرف النظر عن علمه أو جهله، اختصاصه أو عدم اختصاصه، وعيه أو عدم وعيه، استقلاله أو تبعيته، حضوره أم غيابه، التلاعب بصوته أو احترامه. كما أنه يخضع لقوة الإعلام والدعاية الانتخابية للمرشحين وانتماءاتهم القبلية أو الطبقية. تتحكم في الانتخابات «الأعمال القذرة». ولم تمنع الديمقراطية في النهاية من شتى أنواع الفساد والرشوة والتهرب من الضرائب.
أما «الشورى» التي يفضلها الإسلاميون فإنها تقوم أساسا على حق الاختلاف وشرعيته. فاختلاف الآراء مثل اختلاف الليل والنهار واللغات والشعوب والقبائل والعادات والتقاليد. واختلاف الأئمة رحمة بينهم. والكل راد ومردود عليه. لذلك نشأ علم الخلاف في الفقه وعلم التعارض والتراجيح في أصول الفقه. وذلك ضد الانفراد بالرأي والقرار حماية لمصالح الأمة من الانفعالات والمصالح والأهواء. الأقلية لها نفس احترام الأغلبية. ويكون الإجماع ناقصا حتى ولو عارض واحد فقط. هي ديمقراطية توافقية للوصول إلى رأي واحد عليه إجماع الأمة. تخضع لنسق من القيم. فالحق ليس مشروطا بإرادة الأغلبية. ولا الباطل مشروطا بإرادة الأقلية حتى لا يصبحا نسبيين، يتغيران بتغير أصوات الناخبين. نسق القيم مستقل عن أهواء البشر. الحق حق، والباطل باطل. والعدل عدل، والظلم ظلم، بصرف النظر عن إرادات البشر. إنما الخلاف في مدى إلزامها. البعض يجعلها ملزمة، والبعض يجعلها استشارية. فالقرار في النهاية للرئيس، وهو الإمام بتعبير القدماء، وهو مبايع من الناس وليس معينا من رئيس سابق أو من وصية أو من عهد أو من نص. وكما قال القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والعقد شريعة المتعاقدين بين الحاكم والمحكوم. يطيع المحكوم الحاكم طالما أطاع الحاكم القانون والدستور. ويعصي المحكوم الحاكم إذا ما عصى الحاكم القانون والدستور وفسخ العقد من جانبه. ويحق للمحكوم الخروج على الحاكم بعد استيفاء وسائل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة. وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية. فالحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا بل حكم القانون. والحاكم مبايع من الناس وممثل لهم وليس معينا لله وممثلا له. والحكم مدني وليس إلهيا، سياسي وليس دينيا، نسبي وليس مطلقا.
قد يعيب العلمانيون على الشورى أنها حكم الأقلية، وأن البيعة من أهل الحل والعقد وليس من جمهور المسلمين. هل هي بالانتخاب أم بالتعيين؟ هل هم رجال الأحزاب أم أهل الاختصاص؟ والحقيقة أن هذه كلها صياغات مختلفة متروكة لحكم البشر. فبعض النظم تفضل انتخاب الرئيس بالاقتراع العام. والبعض الآخر يفضل انتخابه من البرلمان. فالديمقراطية التمثيلية ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لمنع الانفراد بالرأي والتفرد بالقرار. وكثيرا ما قامت تجارب التنمية وبناء الدول وتحقيق المشاريع القومية بالتوافق الوطني وأحيانا بسلطة الدولة كما تم في اليابان وكوريا الجنوبية ومصر في دولة محمد علي وعبد الناصر. ويمكن تحقيقها بوسائل أخرى. والأفضل بطبيعة الحال بالوسائل الديمقراطية السائدة هذه الأيام لتجميل النظام السياسي والتي ليس لها أي أثر في الحياة السياسية. وظيفتها تبرير القرارات السياسية لحكم الفرد المطلق كما تفعل المجالس النيابية.
لقد استشارت الملكة سبأ في أمر سليمان، قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . لا فرق في ذلك بين رئاسة الرجل ورئاسة المرأة. وقد كان الرسول يستشير أصحابه «لا خاب من استشار». (8) الإسلام البرجماتي «الإسلام البرجماتي» إحدى تسميات اليسار الإسلامي. واللفظ معرب أيضا مثل الليبرالي والديمقراطي. واللفظ العربي هو الإسلام العملي.
ليس الإسلام دينا نظريا يضع قواعد العقائد. فالمسيحية تفعل ذلك. وتجعل همها في معرفة السر. لذلك ازدهر اللاهوت العقائدي في المسيحية. الإسلام دعوة إلى العمل أو بتعبير الأصوليين اقتضاء فعل. والقرآن مليء بآيات الدعوة إلى العمل
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ،
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . ويربط القرآن بين الإيمان والعمل في مئات الآيات التي تبدأ بنداء (يا أيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات). ويستنكر انفصال القول عن العمل
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . وقد ظهر ذلك في الحديث أيضا «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».
والدعوة للعمل من أجل تحقيق المنفعة العامة. لذلك تسمى البرجماتية أيضا مذهب المنفعة. والقرآن مملوء بالآيات التي تحث على تحقيق المنفعة
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . وفي الحديث «خيركم للناس أنفعكم للناس»، «أعوذ بالله من علم لا ينفع».
وقد ظهر ذلك بوضوح في علم أصول الدين وهو علم العقائد. فالتوحيد له غرض عملي. يتجلى في وحدة الذات الإنسانية بين القول والعمل، وبين الفكر والوجدان منعا لازدواجية الخطاب وكل أشكال النفاق والرياء والمداهنة. والإيمان والعمل إحدى القضايا الرئيسية في علم الكلام. المثل الأعلى التوحيد بين القول والعمل والفكر والوجدان. والعمل هو أساس الاستحقاق، الثواب والعقاب
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . والعمل هو الكدح
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه . لذلك فرق الفقهاء بين التوحيد النظري والتوحيد العملي، بين التوحيد الذهني والتوحيد الإرادي. وكل الأسئلة التي سألها المسلمون النبي كانت لها إجابات عملية
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ،
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء . ولا يسئل عن أشياء نظرية لا ينتج عنها أثر عملي مثل
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي . والسؤال النظري إجابته عملية كما سئل الرسول متى الساعة فقال «استعد لها».
وظهرت هذه النزعة العملية في باقي العلوم الإسلامية. ففي الفلسفة، الفلسفة قسمان: نظرية وتضم المنطق والطبيعيات والإلهيات، وعملية وتضم الأخلاق والاجتماع والاقتصاد. والنظرية مقدمة إلى العملية. وفي علم أصول الفقه الوعي التاريخي، المصادر الأربعة للشرع مقدمة للوعي النظري، تحليل الخطاب وأفعال الأمر. وكلاهما يصبان في الوعي العملي، المقاصد والأحكام. فالشريعة قصد موجه نحو الإنسان، حياته وعقله وقيمه وكرامته ومصالحه. والإنسان أيضا قصد جزئي موجه نحو الفعل بالنية. وأحكام الوضع وصف لفعل الإنسان في العالم، سببه وشرطه ومانعه وطاقته وصدقه. وأحكام التكليف وصف لفعل الإنسان الضروري، إيجابا وسلبا وهما الواجب والمحرم أو الحر، إيجابا وسلبا وهما المندوب والمكروه أو الطبيعي وهو المباح. والفقه عبادات ومعاملات. وكلاهما أفعال.
ليست البرجماتية فقط من إبداع الغرب وحده، ولا النزعة العملية الأخلاقية من صنعه. فقد تجلت في كل حضارة. سقراط والرواقيون والأبيقوريون عند اليونان، وأوغسطين في العصر المسيحي، وديكارت وكانط وبرجسون وشيلر في العصر الحديث. واشتهر بها وليم جيمس وجون ديوي في الفلسفة الأمريكية. وهي روح الكونفوشيوسية والبوذية في آسيا. وحول جوته أول آية في إنجيل يوحنا «في البدء كانت الكلمة» إلى «في البدء كان الفعل». واشتهر كارل ماركس بأنه هو الذي نقل الفلسفة الغربية من النظر إلى العمل، ومن فهم العالم إلى تغييره.
واليوم ندخل حرب العقائد. ويكفر بعضنا بعضا لقول أو مقال، والواقع لم نتغير. شغلنا أنفسنا بعذاب القبر ونعيمه، ومنكر ونكير، والجنة والنار، والصراط والميزان والحوض. وتصدر فتاوى عن إرضاع الكبار لجواز الخلوة ، وببول الرسول لجواز البركة، ولريقه للعلاج. ومن القواعد الفقهية القديمة أن كل مسألة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي فإن وضعها في العلم عار أي لا يجوز. والكافر العادل عند الله خير من المسلم الظالم. وامتلأت خطب المساجد بما لا ينفع، والحديث عن جنس الملائكة وفلسطين تضيع، وعن جواز الجن والعراق يسيل دمه كل يوم، وعن المعجزات والكرامات ويراق دم الأفغان من القوات الأمريكية والبريطانية. وقضاء حاجات الناس أولى من الحديث الذي لا ينفع. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. والأمور بخواتيمها وليس بمقدماتها.
لذلك كثرت نداءات الإصلاح للفعل والعمل، وصاح محمد عبده: «ما أكثر القول وأقل العمل». وكثرت دعوات العودة إلى دعوة القرآن لما ينفع. بل المنفعة والضرر هما مقياس الإيمان
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ،
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ،
أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، والعلم هو العلم النافع
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . والذكرى هي الذكرى النافعة
فذكر إن نفعت الذكرى . والشفاعة لا تنفع بعد انقضاء الحياة
يومئذ لا تنفع الشفاعة . والصدق هو النافع
هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم .
وقد خلق هذا العالم من أجل منفعة الإنسان
والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس . والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، والأنعام بها دفء ومنافع. والعبادات بها منافع الصلاة والصيام والزكاة والحج
ليشهدوا منافع لهم .
إن قيمة الإنسان اليوم بما ينتج. والأخ الذي لا يعمل لإعالة أخيه العابد أفضل عند الله. ويقول إقبال في ديوان «جواب شكوى»: سألني الله يوما: هل يعجبك العالم؟ فقلت: لا. فأجابني «إذن غيره». (9) الإسلام الإصلاحي «الإسلام الإصلاحي» أحد تعبيرات اليسار الإسلامي. فهو لا يدين ولا يكفر ولا يستبعد أي تفسير آخر، تعلما من تجارب الأنبياء السابقين. فقد دعا نوح على قومه بالهلاك،
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا . وغضب موسى من قومه ومن أخيه هارون الذي خلفه وصعد إلى جبل الطور يعبد ربه، وترك قومه في التيه،
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين . وأعلن عيسى الحقيقة كلها فلم يتحمله قومه ووشوا به وتخلصوا منه ثم عبده أنصاره. فبناء النفوس أصعب من بناء الدول
فلما أحس عيسى منهم الكفر ،
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ،
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم .
الإسلام حركة إصلاحية ضد الإفساد في الأرض، تغير ما هو موجود وليس تدميره أو إقصاؤه أو الخروج عليه بالعنف المسلح أو الانعزال عنه إلى الكهوف والصحراء، في الأديرة والزوايا والخانقاه. تعامل مع كل ما كان موجودا من أديان سابقة عليه. ارتبط بالحنفاء، دين إبراهيم، وقد كانوا معظمين عند العرب. وتعامل مع اليهودية والنصرانية مؤكدا أن القرآن مصدق لما جاء في التوراة والإنجيل والزبور دون حرفية القانون والعصيان، وادعاء الاختيار في اليهودية، وضد التحريف وسوء فهم العقائد والوقوع في الاشتباه في النصرانية، وكلاهما «أهل ذمة» أي في ذمة المسلمين. يعيشون معهم ويشاركونهم الطعام والشراب والزواج.
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . وارتبط بالصابئة مغيرا عبادة الكواكب إلى استعمالها لمعرفة المواقيت والحساب.
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج . وارتبط بالمجوس، مغيرا عبادة النار إلى توظيفها في الدفء والوقود.
أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون
حتى ينتزع استغلالها ويقضى على ألوهيتها. فالنار مصنوعة وليست صانعة
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون . النار للدفء
لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ، وللصناعة
ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية . والكل يكونون الأمة الإسلامية المتعددة الديانات والطوائف والملل والنحل. وكما حدث بالفعل في «ميثاق أهل المدينة» أول دستور تعددي في التاريخ.
كما آخى الإسلام بين الأوس والخزرج، ولم يدمرهما ويأتي بقبائل جديدة. كما آخى بين المهاجرين والأنصار ولم يغلب فريقا على فريق. وأيد حلف الفضول قبل الإسلام أي نصرة المظلوم ضد الظالم. وتواصل مع الجاهلية بعد تنظيف الكعبة من الأصنام. «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».
وغير الواقع تدريجيا دون هدمه وإعادة بنائه من جديد. حرم الخمر تدريجيا، لما فيها من إثم ومنافع، ولعدم التركيز في الصلاة ثم عدم الاقتراب منها لأنها رجس دون لفظ التحريم. وغير وضع المرأة مما لا مساومة فيه وهو حق الحياة
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت
إلى وضع سقف لتعدد الزوجات وفي حالات استثنائية وبشرط مستحيل التحقق وهو العدل
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم . ولم تكن لها شهادة فأصبحت نصف شاهدة. ولم يكن لها نصيب في الميراث فأصبحت نصف وارثة. ولم يكن لها حقوق في الطلاق فأصبح لها النفقة ومؤخر الصداق. وكانت لا تخرج من الخيمة فتصدرت الحياة العامة في العلم والقضاء، والسلم والحرب. هذا التغير التدريجي بنص الوحي في «الناسخ والمنسوخ» كلما تغير الواقع تغير الحكم طبقا لدرجة تقدمه. ودور الفقيه الآن هو الاستمرار في روح الإسلام نحو المساواة بين المرأة والرجل من النصف إلى الواحد الصحيح.
الإسلام الإصلاحي ضد الحاكمية بالمعنى السلفي أي تكفير المجتمع ونظمه القائمة الليبرالية والقومية والإسلامية النصية بل تبدأ من واقع هذه النظم وتجعلها أقرب إلى النظام الإسلامي، تحول سلميا من الواقع إلى المثال، وهو المنهج الإسلامي في البداية بالطبيعة والاتجاه بها نحو الكمال. لذلك أعجب المسلمون بأرسطو. فالطبيعة تتجه نحو الكمال.
لذلك كثر استعمال لفظ «الإصلاح» في مقابل «الإفساد» في القرآن. النبوة إصلاح، والنبي مصلح واسم النبي صالح
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . والإصلاح هو سبب البقاء في الأرض
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . والنجاة في السماء
جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم . وشرط التوبة الإصلاح والتغير بعدها
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، وهو فعل حر لا يتدخل الله فيه
إن الله لا يصلح عمل المفسدين
ودون احتجاج بالقضاء والقدر. والإصلاح ضد الإفساد
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . ومعيار التمييز بين الناس هو الإصلاح والإفساد،
والله يعلم المفسد من المصلح . والإصلاح والإفساد في الأرض وبين الناس
الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . والعمل هو العمل الصالح. والإيمان مقرون به.
لذلك أعجب المسلمون بحركة الإصلاح الديني الحديثة عند الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والكواكبي وعبد الحميد بن باديس. بل إن كل التيارات الفكرية والسياسية، الليبرالية والعلمية بل والعلمانية تيارات إصلاحية بالمعنى الواسع أي تغيير الوضع القائم لما هو أفضل، وهو المعنى الأصلي لليسار، تغيير الوضع الراهن لما هو أفضل وليس تثبيته كما يريد اليمين المستفيد منه. وقد نشأ التباين في مناهج الإصلاح بين الإصلاح الثوري السياسي بل والانقلابي عند الأفغاني، والإصلاح التربوي الأخلاقي التدريجي عند محمد عبده بعد فشل الثورة العرابية. وسعد زغلول قائد ثورة 1919م في مصر تلميذ الأفغاني. ويتوق الجيل الحالي من المصلحين للانتقال من الإصلاح الديني إلى النهضة الشاملة. فلا نهضة بدون إصلاح.
ليس الإصلاح والنهضة وقفا على الغرب. فقد عرف الغرب بهما، بالإصلاح الديني عند لوثر في القرن الخامس عشر، وبالنهضة عند جيوردانو برونو في القرن السادس عشر. وأعجب المصلحون الإسلاميون بمارتن لوثر. فقد سمي الأفغاني «لوثر الشرق». وقد درس لوثر الإسلام لمعرفة كيف وصل إلى الإصلاح. وجعل اسبينوزا الإسلام نموذجا لإصلاح المعبد اليهودي. تلك بضاعتنا ردت إلينا. المهم الآن كيفية تطوير الإصلاح وتحويله من الخطابة إلى العلم، ومن الوعظ إلى التحليل، ومن الوجدان إلى العقل، ومن الدفاع إلى النقد حتى لا يكبو من جديد أو تتعثر نهضته إلى سقوط أو تنقلب ثورة إلى ثورة مضادة حتى تتعلم الأمة من دروس التاريخ. (10) الإسلام الاشتراكي
من أسماء «اليسار الإسلامي» «الإسلام الاشتراكي». وربما هو أول اسم يتبادر إلى الأذهان نظرا للتوحيد التاريخي بين اليسار والاشتراكية. وقد ازدهرت أدبيات «الإسلام والاشتراكية» في الستينيات حتى اعتقد الناس تحت تأثير الإعلام والدولة الاشتراكية أن الإسلام هو الاشتراكية وأن الاشتراكية هي الإسلام. فمنذ الأربعينيات كتب مصطفى السباعي «الاشتراكية في الإسلام». واستأنف ذلك سيد قطب في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» عام 1950م. ثم ازدهرت هذه الكتابات بعد الثورة المصرية منذ صياغة الاشتراكية التعاونية في 1955م ثم الاشتراكية العربية في الميثاق عام 1963م ثم التطبيق العربي للاشتراكية بعد هزيمة يونيو 1967م في ورقة 30 مارس عام 1968م أسوة بالاشتراكية الأفريقية، واشتراكيات العالم الثالث، وضد اتهام الثورات العربية في منتصف القرن الماضي بأنها مادية ملحدة، شيوعية دموية من النظم الملكية والإقطاعية الرأسمالية. فالاختيار السياسي، اشتراكي أو رأسمالي هو الذي يحدد القراءة والانتقاء من النص ما يدعمها. والنص قابل للانتقاء الجزئي والتأويل طبقا للاختيار السياسي.
ودون أي قراءة اشتراكية معاصرة للإسلام في مواجهة الموجة الحالية منذ ثلاثة عقود من الزمان أو يزيد للخصخصة وبيع القطاع العام والبنوك والشركات الوطنية والدخول في النظام الرأسمالي العالمي دون قيم ليبرالية، يمكن القول بلا أدنى تردد إن الإسلام اختيار اشتراكي في مبادئه الاقتصادية العامة. الإسلام رؤية جماعية تقدم الجماعة على الفرد، والأمة على المواطن. ويتضح ذلك في الملكية العامة لوسائل الإنتاج ملكية جماعية أو ملكية دولة لكل ما تعم به البلوى، الماء والطاقة والمواصلات والمعادن، ولكل ما هو ثابت غير منقول. وبتعبير القدماء هو «الركاز» أي كل ما في باطن الأرض. عرف القدماء الذهب والحديد والنحاس والفضة والمنجنيز والفوسفات وعرفنا نحن النفط. وقد عرفت الملكية العامة بلفظ «الاستخلاف»
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه . للإنسان حق الاستثمار والانتفاع والصرف فيما لديه وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز. فالمحتكر ملعون. ولفظ المال في القرآن لا يشير إلى شيء أي إلى كنز وثروة بل هو لفظ مركب من اسم الصلة «ما» وحرف الجر «ل» أي إنه إضافة. فالملكية وظيفة اجتماعية واقتصادية وليست استحواذا على شيء، من فعل الذات وليست من فعل الموضوع.
وقد انتشرت أحاديث كثيرة تشرع للقطاع العام مثل «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». الماء والكلأ رمز للزراعة والنار رمز للصناعة. و«الإقطاع» في النظم الاقتصادية القديمة مزارع للدولة يرعى فيها الجميع. كما وضع ابن حزم مبدأ «الأرض لمن يفلحها» أي عدم جواز الملاك الغائبين وامتلاك الأرض لغير الفلاحين. كما وضع القدماء مبدأ «من استصلح أرضا فهي له». ووضع الفقه القديم نظم المؤاجرة والمزارعة، واحد بأرض والثاني بعمله مناصفة ومشاركة في الانتفاع. وحرم القرآن الربا واستغلال حاجات الفقراء من الأغنياء. وجعل العمل وحده مصدر القيمة، وليس الإرث أو النسب. وحدد الأسعار، ووضع هامشا معينا للربح. ومنع الغش وبيع ما في الغيب مثل التمر على النخل قبل أن يطرح، والوليد في بطن الحيوان قبل أن يولد، والزرع في الأرض قبل حصاده. ووظيفة المحتسب الرقابة على الأسواق والموازين ومنع الغش في البضائع.
ليست الزكاة وحدها هي حق الفقراء في أموال الأغنياء بل في مال الأغنياء حق للفقراء غير الزكاة
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم . ولا يجوز ترك المال العام في أيدى قلة أو طبقة لمنع الاستغلال
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . واستعمالات لفظ «المال» في القرآن تشير إلى أنه أموال الغائبين «أموالهم» وليس أموال الحاضرين ولا يوجد لفظ «أموالي» بل لفظ «مالي» وبمعنى سلبي
ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه . أي سلطة الاقتصاد والسياسة.
وكثرت أحاديث الاشتراك في الأموال والثروات في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفي الممارسات الاجتماعية. فالقرآن يدين من له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه لتتراكم ثروته وإعدام ثروة الآخرين. ويصور القرآن سبب انهيار المجتمعات
وبئر معطلة وقصر مشيد
أي تعطيل مصالح الناس الحيوية مثل الماء والآبار وتشييد قصر لإقطاعي على حافته. ويصف «رب البيت» بأنه هو الذي يطعم عن جوع ويؤمن من خوف
فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . فالله على علاقة بالخبز والحرية، ولا يسمح الإسلام بوجود فوارق اجتماعية شديدة بين من يملكون ومن لا يملكون. «ليس منا من بات شبعان وجاره طاو». وما زاد عن حاجة الإنسان وقوت يومه فهو حق للآخرين. وفي الأثر: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرا سيفه». وقد نقل عن عمر: «لو كان الفقر رجلا لقتلته». ونفى عثمان أبا ذر الغفاري إلى ربضة الشام عندما رأى التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء، وبناء القصور، وتراكم رأس المال بأيدي قلة، وظهور الطبقات الاجتماعية. وقد جعله بعض المفكرين المعاصرين مثل علي شريعتي أول اشتراكي في الإسلام. وفي الإسلام نقد شديد للإسراف والمسرفين والتبذير والمبذرين وكل مظاهر الاستهلاك الحديثة داعيا إلى التقشف وعدم ملء البطون «حسب المرء لقيمات يقمن صلبه.» ثلث المعدة للطعام والثلث للماء والثلث للنفس. إن أي سياسة للتنمية تتضمن الحد من الاستهلاك وشد الحزام على البطون والادخار الوطني من أجل الاستثمار.
إن أوضاع المسلمين اليوم تحتم هذا الخيار الاشتراكي للإسلام نظرا للتفاوت الشديد في الدخول بين الأغنياء والفقراء. فأغنى الأغنياء منا، أحد السلاطين. وأفقر فقراء العالم منا، الآلاف الذين يموتون بطنة وإشباعا والملايين الذين يموتون قحطا وجوعا وعريا وهلاكا في مالي وتشاد والصومال وإريتريا والسودان وبنجلاديش والهند. والإسلام قادر على تلبية حاجات المسلمين في كل عصر. ما ينقصه هو اجتهاد العلماء. واليسار الإسلامي أحد الاجتهادات لحل القضية الاجتماعية من أجل إعادة توزيع الدخول بين المسلمين دون تركيز الثروة في منطقة، والفقر في منطقة أخرى، والجفاف في منطقة، والمياه في منطقة أخرى، والثروات الطبيعية في منطقة والعمال في منطقة أخرى. وقد استطاعت بلدان إسلامية مثل ماليزيا وتركيا واليمن وإيران والهند الوعي بذلك. والعقل والخبرة والعلم متوفرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي. تساهم في بناء الغرب، وتشارك في تحقيق مشاريعه التنموية. وأهل مكة أدرى بشعابها دونما حاجة إلى عقل إسرائيل.
ما ينقص هو الإرادة السياسية الواحدة، والعمل على الأمد الطويل وليس على الأمد القصير، والتخطيط لمشاريع تنمية مشتركة تواجه قضية الفقر والبطالة والإسكان والتعليم والصحة. واليسار الإسلامي محاولة لتوعية الأمة، العامة والخاصة، الشعب والقادة، الجماهير والنخبة ، على أن «الإسلام هو الحل» ليس كشعار فارغ من أي مضمون بل كبناء سياسي اجتماعي وتغيير للوضع القائم وإصلاح لأحوال الأمة وتحقيق لأمانيها في المساواة والعدالة الاجتماعية. (11) الإسلام الوطني «الإسلام الوطني» هو إحدى صياغات «اليسار الإسلامي». يعطي الأولوية للوطن على القبيلة والقوم والعشيرة والعرق والمذهب والطائفة. فالوطن هو الذي يجمع بين الناس وليس العصبية كما كان الحال في العهد القبلي وكما وصف ابن خلدون. والوطن إحساس بديهي بالمكان، وذكريات الطفولة، وصداقات الصبا. والوعي الأولي بالعالم. هو اجتماع المكان، مكان الولادة، بالزمان، بالعصر والتاريخ. الوطن هو الواقع الذي يعيش الإنسان فيه، يخلق فيه الوعي، ويسعى فيه الجسد. اشتق منه لفظ «مواطن» أي من ينتسب إلى وطن؛ لذلك كان ضمن العقوبات الشرعية «التغريب» أي الإبعاد عن الوطن. ومهما عاش المغترب حاليا خارج وطنه فإنه يحن إليه، يحلم به، ويسامحه مهما أساء إليه بدفعه إلى الهجرة بعيدا عنه. أول ما يسمع من الأخبار عنه، يأكل طعامه ويشرب شرابه ويلبس لباسه ويسكن مسكنه وهو في الغربة حتى يعيش في وطن بديل، يحمله بين جنبيه في الهجرة والعودة. يسمع أدب المهجر، والحنين إلى الأوطان. ويشاهد «الجزيرة» و«عربية» والفضائيات العربية. ويشارك بأقصى جهد في المهرجانات الوطنية. ويسير في المظاهرات في الشوارع ويشارك في الملتقيات الشعبية في الميادين والحدائق دفاعا عن الوطن إذا ما أصابه سوء، احتلال وغزو من الخارج أو قهر وتسلط من الداخل.
ليس الوطن ضد الدين بدعوى أن الوطن قيمة علمانية وأن الدين عابر للأوطان، لا يفرق بين وطن ووطن أو قوم وقوم أو شعب وشعب. كل من قال «لا إله إلا الله» فهو مواطن سواء انتسب إلى هذه القومية أو تلك. الوطن واحد. والقوميات والعرقيات والطوائف والمذاهب متعددة.
وحب الأوطان ليس غريبا على التراث الإسلامي. فقد روي عن الرسول ما تعلمناه في المدارس الوطنية ومكتوب على ظهر الصفحة الأخيرة من نصائح «حب الوطن من الإيمان». صحيح لفظ الوطن غير مذكور في القرآن إلا بمعنى الموطن أي المكان
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة
ويعني موقع النصر وليس الهزيمة أو الهجرة. وألقى الرسول خطابا ليلة الهجرة وهو يودعها في نظرة أخيرة معلنا أنها أحب البلدان إلى قلبه لولا ظلم أهلها. وكان لدى عمر بن الخطاب إحساس بأن العرب ينتمون إلى بلاد العرب ذات الدين الواحد «والله لن أجعل في بلاد العرب دينين». وكتب التوحيدي رسالة «في الحنين إلى الأوطان». وقد صدر الطهطاوي كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» بأنشودة في حب الوطن وفي كل التراث الإسلامي في حب الأوطان.
وطالما قامت حركات التحرر الوطني على أولوية الوطن على الأيديولوجيات السياسية. قامت بفضل «الجبهة الوطنية» أو «الائتلاف الوطني» أو «البرنامج الوطني» أو «الخلاص الوطني». فالوطن بوتقة تنصهر فيه كل الاختلافات الأيديولوجية والمذهبية. فاللبناني لبناني أولا قبل أن يكون مسلما أو مسيحيا، شيعيا أو سنيا، مارونيا أو كاثوليكيا أو أرثوذكسيا، درزيا أو عربيا أو كرديا.
وفي نظرية الدوائر الثلاث التي حكمت جيلا بأكمله كان الوطن هو البؤرة، الدائرة الأولى، ثم القومية الدائرة الثانية، ثم الإسلام الدائرة الثالثة، مصر والعروبة والإسلام. وليس صحيحا أن الوطن مفهوم استعماري. فقد قسم الاستعمار الأمة إلى أوطان، والخلافة إلى أمصار لأن الوطن في وجوده سابق على الأمة كوحدة قلبية وعلى الخلافة كوحدة سياسية. وكان عيب «الجمهورية العربية المتحدة» في 1958-1961م أنها أسقطت أسماء الأوطان مصر وسوريا. أما اسم «جمهورية مصر العربية» فإنه يعطي الأولوية للوطن على القومية في حين أن «الجمهورية العربية السورية» و«الجمهورية العربية اليمنية» تعطي الأولوية للقومية على الوطنية. أما «الجمهورية التونسية» أو «الجمهورية الجزائرية» فإنها تقتصر على الوطن دون العروبة. والاختلاف شديد بينها في النظم السياسية بين الجمهورية والملكية والدولة والسلطنة. فالولاء الوطني ليس خيانة للولاء القطري أو الأممي. فالوطن ليس هو القطر. الوطن كيان أولي في حين أن القطر جزء مصطنع من كيان سياسي أشمل. ومن ثم لا مكان لتكفير الإسلامي للوطني والقومي أو تخوين الإسلامي والقومي للوطني. فلا خصومة ولا فرقة في الوطن بل الحوار الوطني بين كافة الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية . الوطن هو الانتماء الأول والولاء الأول الذي منه تتشعب الاختيارات السياسية.
ليس الوطن قيمة غربية من منظومة القيم العلمانية مثل العقل والحرية والإنسان والتقدم والمساواة والطبيعة بل هو عاطفة أولية تقوم على تفاعل الزمان والمكان في وعي الإنسان بالعالم منذ الصغر. ومن ثم الوطن هو الرابطة الجامعة لكل المواطنين. والأغرب هو عزل المواطنين المصريين في درس التربية الدينية بين المسلمين لدراسة الدين الإسلامي والأقباط لدراسة الدين المسيحي وفك رابطة الوطن لصالح رابطة الدين مع أن التربية الوطنية جامع للفريقين، والقيم الأخلاقية هي الجامع للدينين. الوطن هو الجيرة والقرابة، والأقربون أولى بالشفعة. والجار أولى من البعيد «ما زال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
الخطورة الآن في تفتيت الأوطان إلى كيانات عرقية وطائفية والقضاء على الولاء الوطني لولاءات بديلة حتى تبتلع العولمة الشاملة هذا الفسيفساء العرقي الطائفي. فالوطن مهدد من أسفل بالطائفية والعرقية ومن أعلى بالعولمة والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية.
الوطن كيان تاريخي تجسده الدولة خاصة في بعض الدول التاريخية مثل مصر والمغرب والعراق. قد تكون الدولة الوطنية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار شكلا حديثا لأمم تاريخية. الوطن خبرة أولية لا ترد إلى القطر أو البلد أو المصر أو الأراضي المتنازع عليها تحت وصاية الأمم المتحدة أو تحت الاحتلال. الوطن رموزه النشيد الوطني، والسلام الوطني، والعلم الوطني، والزي الوطني، والحياة الشعبية الوطنية. والمواطنة سابقة على الحرية لأنه لا حرية إلا لمواطنين. والحرية لا تكون إلا في وطن. ويمكن للمواطن التنازل عن حريته الفردية في سبيل حرية الأوطان. وحرية الأوطان لا تؤجل حتى يتحرر المواطن. تحرير فلسطين له الأولوية على حرية الفلسطيني. فالوطن قبل الفرد.
الإسلام الوطني قادر على لم الشمل بين الإسلاميين والعلمانيين لصالح الوطن. فالإسلامي والعلماني ينتسب إلى نفس الوطن. وكلاهما مواطن في نفس الوطن. والخلاف الأيديولوجي لا يقضي على وحدة الأصل. فإذا قال الإسلاميون: «الإسلام هو الحل» وقال الوطنيون: «الوطنية هي الحل»، فعند اليسار الإسلامي «الإسلام الوطني هو الحل». (12) الإسلام القومي
اليسار الإسلامي أيضا إسلام قومي ، يربط العروبة بالإسلام. فالإسلام أحد تجلياتها ومراحلها التاريخية، كما أن العروبة أحد مراحل تطور الوحي منذ آدم حتى محمد. حمله الساميون، وكان آخرهم العبرانيين. وبالرغم من الصراع التقليدي بين الإسلاميين والقوميين لسوء فهم متبادل لكل منهما الآخر. فالقومية عند الإسلاميين عرقية محدودة، في حين الإسلام إخوة شاملة. والإسلام عند القوميين تجاهل للعروبة وأممية لا وجود لها في عصر القوميات. فما يجمع بين العربي المسلم والعربي المسيحي أكثر مما يجمع بين العربي المسلم والصيني المسلم. وبعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م نشأ الحوار القومي الإسلامي في مواجهة الأخطار المشتركة من العدوين التقليديين لهما، الاستعمار والصهيونية. فالأيديولوجيتان متكاملتان. الإسلام ثقافة العرب. والعروبة حامل الإسلام الأول قبل باقي الأمم الأخرى في آسيا وأفريقيا وأخيرا في الغرب الحديث، أوروبا وأمريكا.
صحيح أن لفظ «قوم» لفظ قرآني مع ألفاظ أخرى مثل قبيلة وعشيرة ورهط وأناس وشعب. ويعني قوم مجموعة مترابطة من الناس. ذكر اللفظ ومشتقاته في القرآن ثلاثمائة وثلاثا وثمانين مرة. ويعني الجماعة الصالحة العالمة المؤمنة الذاكرة العاقلة الموقنة المعاهدة المحبة. وهي خصائص خلقية مثالية وليست عرقية شعوبية. في حين ذكر لفظ «إسلام» مائة واثنتين وأربعين مرة أي الثلث تقريبا.
ولا تعني القومية العربية وحدها بل أي قومية. فالإسلام التركي قائم على القومية التركية. وكذلك الإسلام الإيراني أو الهندي أو الصيني أو الأزبكي. وقد يتم توسيع المفهوم القومي على القاري مثل الإسلام الأفريقي، الإسلام الآسيوي، الإسلام الأوروبي. ولا يعني ذلك تعدد الإسلام من حيث هو مضمون ورسالة، بل يعني فقط فهمه في ظروف وأطر ومواقف حضارية مختلفة، ويلبي حاجات كل حضارة وشعب. الإسلام القومي حلقة متوسطة بين الإسلام الوطني والإسلام الأممي طبقا للدوائر الثلاث: الوطن والعروبة والإسلام. وكما نقول في الاستعمال مصري وتعني عربي، فإننا نقول «عربي» وتعني «إسلامي»، لا فرق بين الوطن العربي وليس العالم العربي، والعالم الإسلامي وليس الوطن الإسلامي. فالإسلام له حامل قومي. حمله العرب كما حمله غير العرب.
العروبة حامل الإسلام الأول. أراد عمر أن يوحد جزيرة العرب وأن يجعلها قصرا على العرب والإسلام. وحديثا جعل بعض القوميين مصر الدولة القاعدة لتوحيد العرب، والعرب القومية القاعدة لتوحيد الأمة. ليست العروبة عرقا وليست بأب أو أم بل هي اللسان. فكل من تحدث العربية فهو عربي. اللغة تفرض فكرها وثقافتها ورؤيتها للعالم.
العروبة خاصية للسان والثقافة ممثلة في القرآن والنبي مبلغه. فقد ورد لفظ «العرب» ومشتقاته في القرآن إحدى وعشرين مرة لوصف اللسان
وهذا لسان عربي مبين ، والقرآن
إنا أنزلناه قرآنا عربيا
وهي أكثر الاستعمالات (ثماني مرات)، والحكم أي الشريعة أي الطبيعة والفطرة العربية. أما «الأعراب» فلها معنى سلبي بمعنى البدو في الاستعمال التداولي الحديث، يتميزون بالكفر والنفاق والتخلف عن المعركة، وهو اللفظ الأكثر استعمالا (عشر مرات) وكأنه يصف سلوك بعض الأعراب المحدثين.
وهناك أمم قبلت العروبة والإسلام مثل مصر، وأخرى قبلت الإسلام دون العروبة مثل الأمم القومية، إيران وتركيا. ويمكن اعتناق الإسلام دون اللغة مثل الأمم الإسلامية في آسيا قديما وفي الغرب حديثا إلا في أقل القليل لأداء شعائر الصلاة. ويمكن لأمم أخرى أن تبقي العروبة دون الإسلام مثل النصارى العرب. وهم أولاد عمومة لا تقبل منهم الجزية. تتعدد اللغات الوطنية والثقافات القومية والدين واحد، عكس ما هو حادث حاليا في الوطن العربي والعالم الإسلامي، اللغة واحدة، الفرانكفونية أو الأنجلوفونية التي تضم لغات وطنية وثقافات قومية متعددة مثل الأفريقي أو الآسيوي الذي لغته الفرنسية أو الإنجليزية.
توجد عروبة واحدة كهوية متصلة عبر التاريخ ذات عادات وثقافات ولهجات متعددة. لهجات العرب وزيهم وطعامهم وعاداتهم وتقاليدهم تتغير بتغير الشعوب العربية. أما هوية الشعب العربي في اللغة والثقافة فواحدة. وهناك عادات لشعب انتشرت لدى شعوب أخرى مثل غطاء الرأس حماية من الحر أو غطاء الوجه حماية للرمال. تنتشر في مجموع الصحراء العربية في شبه الجزيرة لتشابه الظروف الجغرافية. و«الأرابيسك» فن أوزبكي انتشر بانتشار الإسلام لأنه فن مجرد يحافظ على التنزيه، ولا يقع في التشبيه.
أصبحت القومية العربية أحد روافد الفكر السياسي العربي الحديث وإحدى أيديولوجياته السياسية المنتشرة في الشام والعراق وعلى أطراف الجزيرة العربية في الخليج واليمن. وحكمت فيها. أخطأت وأصابت، قهرت وحررت ، وكونت الوجدان العربي الحديث بانتصاراته وهزائمه. وأصبحت جزءا من الأناشيد الوطنية «وكل بلاد العرب أوطان»، عدنان وقحطان، لبنان وتطوان، من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر. وظهر مفكرون قوميون مثل ساطع الحصري ونديم البيطار. وأنشئت أحزاب قومية رائدة مثل حزب البعث العربي الاشتراكي. وقامت ثورات عربية مثل الثورة العربية الكبرى. وأنشئت تجارب عربية وحدوية مثل «الجمهورية العربية المتحدة». وقامت مجالس تعاون بين أكثر من قطر عربي. وتأسست الجامعة العربية بيتا للعرب.
وأمام مخاطر التفتيت والتجزئة للأمة إلى دويلات عرقية عربية وكردية وبربرية وتركمانية وزنجية، وطائفية سنية وشيعية ومارونية وقبطية وإسلامية حتى تصبح إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية يهودية في المنطقة، يساهم الإسلام القومي في الحفاظ على الوحدة العربية باسم القومية العربية. فقد خسرت الأمة الوحدة الإسلامية ممثلة في نظام الخلافة في 1924م لصالح القومية العربية. ثم خسرت القومية العربية عدة مرات بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م وحربي الخليج الأولى عام 1980م والثانية عام 1990م لصالح القطرية. والآن تخسر القطرية لصالح الدويلات العرقية والطائفية.
والمقصود من تفتيت المنطقة عزل مصر من محيطها العربي، ونزع القلب من الأطراف حتى تلتهم القوى الكبرى الأطراف شرقا وغربا. وفي عصر التكتلات الكبرى مثل العولمة أو التجمعات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي فإن تجمعا عربيا يضم أكثر من مائتين وخمسين مليونا من العرب، تحوط به دول الجوار إيران وتركيا يمثل ثقلا دوليا يحمي الأقطار من الاندثار. له جناحه الشرقي في آسيا، والشمالي في تركيا، والغربي في أوروبا، والجنوبي في أفريقيا. يربط بين القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبا. ويكون ميزان الثقل في العالم الجديد كما كان قديما في الفترة الإسلامية الأولى. ويرث أوروبا بعد أن فقدت استقلالها بتبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية. حينئذ ينسى العالم صور الإرهاب والعنف والتخلف والقسوة والتسلط. ويحيي ذكرى غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة. ويبقى تاج محل وقصر الحمراء من عجائب الدنيا. (13) الإسلام الأممي
والإسلام كما هو معروف لا يعرف حدود الأوطان أو الأعراق، فهو أيديولوجية أممية لمجموع المسلمين تحت لواء «الأمة الإسلامية». وهي أمة لا تتكون فقط من المسلمين بل من جميع المؤمنين بأديان أخرى داخل الأمة الإسلامية مثل أهل الكتاب، اليهود والنصارى، والصابئة، والمجوس، وقياسا عليه أضاف القاضي عبد البر «عبدة الأوثان». ويمكن إضافة الديانات الآسيوية الأخرى كالهندوكية، والبوذية والتاوية والكونفوشيوسية. الأمة الإسلامية أمة متعددة الأعراق والديانات. ولا تتكون فقط من المسلمين. والكل متساوون في الحقوق والواجبات. وعلى هذا الأساس أقيم «ميثاق المدينة»، وهو أشبه بحلف الفضول الذي وقعه الرسول قبل البعثة لنصرة المظلوم أيا كان ضد الظالم أيا كان. وله صياغاته الحديثة في الدول الفيدرالية أو الكونفيدرالية أو الاتحادات مثل الاتحاد الأوروبي قولا وعملا، والاتحاد الأفريقي قولا، ومثل التجمعات الإقليمية، «الآسيان» في جنوب شرق آسيا أو «النافتا» في أمريكا الجنوبية أو «منظمة شمال الأطلنطي» في أوروبا أو «الاتحاد السوفيتي» في آسيا.
الأمة الإسلامية واقع تجسده بعض المنظمات مثل «منظمة المؤتمر الإسلامي» بالرغم من عدم فاعليته وارتباطه بسياسات حكوماته. وتقوم على الإحساس بالإخوة بين المسلمين والتضامن بعضهم مع البعض والدفاع عن مصالحهم المشتركة كما أراد الأفغاني وكما تصور الكواكبي في «أم القرى». وهي ليست وحدة خيالية. مثلها مثل الأممية الاشتراكية، والعولمة الرأسمالية وتعييناتها المختلفة في الشركات المتعددة الجنسيات، ومجموعة الثمانية الأكثر تصنيعا والقائمين بالفعل ولا يعتبرهما أحد من صنع الخيال. هي وحدة التاريخ والثقافة، انعكاس التوحيد على البشر «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وخلق البشر جميعا من نفس واحدة.
ولا تعني الأمة الإسلامية بالضرورة نظام الخلافة المركزي في المدينة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة أو استانبول، بل يعني وحدة المصالح والهدف والمصير. وتتعدد الصيغ السياسية لتحقيق ذلك ابتداء من الدولة الوطنية القوية أو مجالس التعاون بين جارتين أو عدة جارات أو مجالس التعاون الإقليمي الذي يضم أكثر من دولة أو جامعة إقليمية عربية مثل جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو تجمعا شرقيا يضم آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مثل دول عدم الانحياز والعالم الثالث، والتضامن الآسيوي الأفريقي دون قفز على الدولة الوطنية أو التجمعات الإقليمية في إطار من نظرية الدوائر الثلاث: الوطن والعروبة والإسلام.
ومن الطبيعي لا يلغي الإسلام الأممي الواحد الخصائص القومية للشعوب. فهناك الإسلام الآسيوي القادم بعد أن تعب العرب من حمله على مدى أربعة عشر قرنا. الإسلام في إيران وتركيا وماليزيا وإندونيسيا والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، وهو القوة السياسية الوحيدة الفعالة في باكستان وأفغانستان، وهو من حيث السكان أكبر تجمع إسلامي من الإسلام الأفريقي أو الإسلام الأوروبي أو الإسلام الأمريكي شمالا وجنوبا. ويقوم على الإيمان الشديد وعلى التوحد بالأعراق والمذاهب والطوائف والقبائل. تغلب عليه المحافظة الدينية والممارسات الشرعية الصورية. يمارس العنف أحيانا إذا ما ضاق بالنظم السياسية التابعة للغرب.
وهناك الإسلام الأفريقي. يغلب عليه الشخصية الأفريقية والثقافة الأفريقية والفن الأفريقي بل وبعض أشكال السحر الأفريقي والخرافات والأساطير الأفريقية كثقافة شعبية. يغلب عليه الطابع الصوفي. فقد انتشر على أيدي الطرق الصوفية، الأذكار والأوراد والسماع الذي يتفق مع الرقص الأفريقي. ويتعامل مع الوسائط وأشكال التبرك والأحجبة والطب النبوي كما هو شائع في أفريقيا. ويزداد الجانب الشعائري في الوضوء والصلاة والصوم والحج للحصول على لقب حاج. وسعيد بنظام تعدد الزوجات المتفق مع العادات الأفريقية في العائلة الكبيرة والمنزل الكبير حيث يعيش الجميع في وئام وسلام طبقا لنظام عادل. أصبح الاستثناء هو القاعدة والقاعدة هو الاستثناء. تكثر فيه المظاهر الاحتفالية بالمناسبات والأعياد خاصة المولد النبوي وموالد الأولياء والقديسين طبقا للعادات الأفريقية. يقوم على الترابط الاجتماعي ونظام القرابة واحترام الجار. وينأى بنفسه عن الصراعات القبلية والعرقية وإن كان أحيانا يجعل من تطبيق الشريعة الإسلامية أحد أسباب التوتر الذي قد يصل إلى حد الصراع بين المسلمين والمسيحيين، بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي كما هو الحال في السودان ونيجيريا أو الجنوب المسلم والشمال الأفريقي مثل الفلبين أو البوذي كما هو الحال في تايلاند وبورما.
وهناك الإسلام الأوروبي الذي تغلب عليه أيضا الشعائرية للتأكيد على الهوية الجديدة للمسلم الأوروبي، الذقن والجلباب، وغطاء الرأس، ورفض العادات الغربية في العري والحرية الجنسية. كما يرفض القيم الأوروبية مثل المادية والإلحاد ومظاهر الحياة الآلية في الصناعة والاستهلاكية في الاقتصاد. يغلب عليه التصوف والروحانية الزائدة كرد فعل على ما يسود الغرب من علم وحداثة.
وهناك الإسلام العربي، سماحته وبساطته وواقعتيه وأخلاقه العملية وعقلانيته وإصلاحيته وإنسانيته. وما عرض له في المدة الأخيرة من صورية وشعائرية إنما هو وارد من شبه الجزيرة العربية من العمالة المهاجرة اليدوية والذهنية. والعنف الملتصق بالحركات الإسلامية إنما هو عنف سياسي لجماعات سياسية ضد نظم الحكم القائمة على القهر في الداخل والتبعية في الخارج.
الإسلام الأممي لا يمنع التعددية في الفكر والممارسة، فالإسلام قادر على التأقلم مع ثقافات الشعوب وعاداتها مع إكمالها وتطويرها للإثراء المتبادل والتعلم المشترك. يقوم على الوحدة والتنوع، وحدة العقيدة وتنوع مظاهر تعبيرها. لذلك لا يقتتل المسلمان. القاتل والمقتول مدانان. القاتل لأنه قتل بالفعل، والمقتول لأنه كان حريصا على قتل صاحبه. فدم المسلم وماله وعرضه حرام لا يجوز انتهاكه. والصلح بين المتخاصمين خير حتى يفيء الجميع إلى الحق والعدل دون العدل والظلم. والتاريخ شاهد على ذلك من الأندلس حتى الصين بالرغم من الاستثناءات هناك وهناك. (14) الإسلام العلماني
العلمانية لها معنى سيئ في ثقافتنا المعاصرة. فهي ضد الدين، وقرينة الإلحاد والمادية والإباحية، وربما الكفر والفسوق والعصيان. وتعني عند الحركة الإسلامية فصل الدين عن الدولة وهو ضد
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومرة أخرى
الفاسقون ، ومرة ثالثة
الظالمون . كما تعني فصل الدين عن مظاهر الحياة الأخلاقية والقانونية والسياسية، والوقوع في الأخلاق النسبية المتغيرة والشريعة الوضعية التي أحيانا تحلل الحرام كالخمر والشذوذ الجنسي، والسياسة البشرية التي تقوم على المصالح وصراع القوى. الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله «علاقة رأسية» في حين أن القانون علاقة عامة «علاقة أفقية» بين المواطن والمواطن. لذلك رفعت العلمانية شعار «الدين لله والوطن للجميع». ومن ثم أصبح من الصعب من الناحية التداولية استعمال لفظ «علماني».
ومع ذلك الإسلام دين «علماني» في جوهره. إنما جاء الخلط بين العلمانية «الغربية» والعلمانية «الإسلامية» وإسقاط ظروف الأولى على الثانية. فقد نشأت العلمانية الغربية بمعنى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، أي بين الكنيسة والدولة نظرا لنشأة المآسي والمذابح من الجمع بينهما في شخص البابا رئيس الكنيسة والدولة أو في شخص الإمبراطور رئيس الدولة والكنيسة. وكان صراعا على المصالح والأرض في عصر الإقطاع. وكان الحل الوحيد الباقي هو الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية وإن تعايشا معا كما هو الحال في دولة الفاتيكان في روما عاصمة الجمهورية الإيطالية. وانتقل كلاهما إلى العمل في الخارج وليس في الداخل، في التبشير والاستعمار خارج أوروبا وليس في الصراع على السلطة والحدود داخلها.
وبدأت العلمانية الغربية بوضع أسس معرفية جديدة، البداية بالعالم وليس بالنص، والاعتماد على العقل وليس الإيمان، والاتجاه نحو الطبيعة بعيدا عن ما بعد الطبيعة، والتحول من التمركز نحو الله إلى التمركز نحو الإنسان، والتفكير في البدن وليس في النفس، والاتجاه نحو الجديد وليس القديم، والاستعداد للمستقبل على هذه الأرض وليس نكوصا نحو الماضي خارجها. العقل تجاه الطبيعة ينتج العلوم الطبيعية، ومع المجتمع ينتج العلوم الإنسانية. وانتهت سلطة القدماء، أرسطو وبطليموس والكنيسة إلى سلطة المحدثين، جاليليو وكبلر ونيوتن في العلم، وبيكون وديكارت في الفلسفة، ولوثر وكالفن في الدين. وخرجت الثقافة الغربية خارج حدودها بعد سقوط غرناطة في 1492م، وتصدر أوروبا مركز العالم بدلا من العالم الإسلامي. انتهى العصر الوسيط كما انتهى العصر القديم اليوناني الروماني من قبل، والعصر الإسلامي من بعد. وبدأ العصر الحديث وشعار الحداثة التي تدمر الآن فيما بعد الحداثة.
وهي ظروف مختلفة عن ظروف العالم الإسلامي. فالإسلام ليس به سلطة دينية إلهية مثل الكنيسة أو البابا. وليس به سلطة سياسية تقوم على الاختيار الإلهي «الثيوقراطية» أو على الوراثة كما هو الحال في النظام الملكي. السلطة في الإسلام للعلم والعلماء وعلوم الدنيا. والعلماء هم أهل الاختصاص، علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية، «أنتم أعلم بشئون دنياكم». التمييز إذن بين رجال الدين ورجال السياسية تمييز في ظروف نشأة العلمانية الغربية وليس في ظروف نشأة الإسلام. بل إن الإسلام مثل البروتستانتية فيما بعد بدأ ضد رجال الدين من اليهود والنصارى، الأحبار والرهبان، الذين استغلوا الدين للمصالح الشخصية ولتبرير السلطة السياسية للملوك والأباطرة. الإسلام دين إصلاحي. تعلم من التجارب السابقة، من تجربة موسى وداود وسليمان في اليهودية، ومن الصراع بين النصرانية والإمبراطورية الرومانية في المسيحية.
الإسلام دين يقوم على العقل والواقع ومصالح الناس والقاسم المشترك للبشر جميعا. مثل التنوير التي يعتز بها، العقل والعلم والطبيعة والإنسان والحرية والإخاء والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم جزء منه، وأسس يقوم عليها كما قررت الحركات الإصلاحية المعاصرة.
التوحيد ليس عقيدة تتجاوز العقل مثل التثليث، بل هو توحيد الذات الإنسانية وطاقاتها الداخلية والخارجية ضد مظاهر الازدواجية مثل النفاق والرياء وانفصام القول عن العمل، وتوحيد المجتمع ضد التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وتوحيد البشرية ضد مظاهر العنصرية والتمييز بين الأقوياء والضعفاء وسياسة الأقطاب، والتفرقة بين المراكز والمحيط. والشريعة لها مقاصد خمسة، ضروريات للحياة الإنسانية: الحياة والعقل والقيمة (الدين)، والكرامة (العرض)، والثروة (المال). وهي أسس «علمانية خالصة. والشريعة الإسلامية وضعية تقوم على أسس في العالم، ومكونات السلوك البشري. والأحكام الشرعية لها أسباب وعلل وشروط. والاجتهاد مصدر رئيسي للتشريع بعد الإجماع لتجديد فهمها طبقا لظروف كل عصر، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والمصلحة أساس التشريع، «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن».
النظام الإسلامي نظام مدني خالص. والدولة الإسلامية دولة علمانية بهذا المعنى الإسلامي. نظامها السياسي يقوم على البيعة العامة، اختيار الناس للرئيس «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والرئيس ليس نائبا عن الله أو ابنا لملك بل هو نائب عن الشعب. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وليس الخدمات، «الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار». ونظامها الاجتماعي يقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات وعلى إقامة مجتمع العدل والمساواة «ليس منا من بات شبعان وجاره طاو». ونظامها الإعلامي يقوم على حرية الرأي وضرورة الرقابة على جهاز الدولة. فالحسبة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة. الدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل عالم قادر.
فأين الخلاف بين الإسلام والعلمانية؟ إنه مجرد صراع على السلطة بين تيارين رئيسيين وقوتين سياسيتين وجناحين متصارعين في الدولة ، أيهما يخلف النظام القائم، نظام التبعية للخارج، والفساد والقهر في الداخل، والدولة سعيدة بها وتؤججه، تضرب هذا الفريق بالفريق الآخر مرة ثم تضرب هذا الفريق الآخر بالفريق مرة أخرى حتى يضعف الجناحان، ويبقى القلب، وتفتت المعارضة، ويقوى الحزب الحاكم لغياب البديل.
اليسار الإسلامي يسار علماني. ويعلن ذلك على الملأ نظرا وعملا ضد الكهنوت الديني والتسلط السياسي، وهو ليس مثالا بعيد المنال أو رؤية طوباوية أو هدفا صعب التحقيق. فالتجربة التركية والتجربة الماليزية ماثلتان للأذهان. اليسار الإسلامي هو الطريق الثالث بين السلفيين والعلمانيين، بين المحافظين والمجددين، بين القدماء والمحدثين. ولقد اقتربت بعض التيارات الإسلامية من ذلك بالبرامج السياسية الجديدة التي قدمها الإخوان في مصر والأردن وسوريا ولبنان واليمن. فالإسلام دولة مدنية تقوم على التعددية السياسية. فهل يستطيع العلمانيون تغيير أنفسهم وتخفيف عدائهم لبعض الأجنحة الليبرالية في التيار الإسلامي لإنقاذ أنفسهم من تلميع نظم الحكم والتعاون معها على مواجهة الإسلاميين كهدف مشترك بدلا من التعاون والحوار معهم في جبهة وطنية واحدة ضد نظم الفساد والتبعية والطغيان؟ (15) اليسار الإسلامي، اعتراضات وردود
وبالرغم من هذه المداخل الواضحة لليسار الإسلامي وعرض أوجهه المختلفة إلا أن تجربة ربع قرن من محاولات تأسيسه لم تمنع من توجيه بعض الاعتراضات الرئيسية عليه. وهي شبهات تثار من الأحزاب السياسية الدينية والعلمانية، المحافظة والتقدمية، ومن الدولة ومؤسساتها الدينية، ومن الأفكار الشائعة نتيجة للإعلام المزيف وما تعود عليه الناس من تقليد لما هو سائد دون التفكير الأصيل. إذ يقال على اليسار الإسلامي: (1) «ليس في الإسلام يسار ويمين.» الإسلام دين واحد، جوهره واحد، وعقائده ثابتة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره. كبائره معروفة وصغائره محصاة. لا تختلف العبادات من قطر إلى قطر، ولا من قارة إلى قارة، ولا من شعب إلى شعب، ولا من ثقافة إلى ثقافة. شهادة أن لا إله إلا الله على كل لسان. ينطقها المسلم ليعلن انتماءه وانتسابه إلى الأمة. وهذا صحيح نظرا، ولكن عملا تتعدد القراءات والممارسات الإسلامية خاصة في المعاملات والعادات. يشير اليسار الإسلامي إلى إحدى القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع، الفقراء والمحرومين والمساكين والطبقات الدنيا في مقابل إسلام الأغنياء وشركات توظيف الأموال ورجال الأعمال وموائد الرحمن وبيوت الزي الإسلامي. ففي كل مجتمع هناك يسار ويمين، فقراء وأغنياء، طبقة دنيا وطبقة عليا. اليسار الإسلامي سياق اجتماعي سياسي تاريخي للإسلام في مرحلة تاريخية معينة وفي عصر معين ولدى شعب معين، في مرحلة تفاوت الدخول في عصر النفط. وكما أن هناك تمايزا بين المذاهب الفقهية الأربعة والاتجاهات الفلسفية والفرق الكلامية والطرق الصوفية هناك تمايز أيضا في تفسير الإسلام طبقا لحاجات الناس وطبقاتهم الاجتماعية التي تتغير بتغير الزمان والمكان، وكما فعل الشافعي بين العراق ومصر. (2) «اليسار الإسلامي نزعة توفيقية وأحيانا تلفيقية بين نزعات عدة تجمع بين عدة متناقضات.» هو مشروع مستحيل مثل «الثلج المقلي»، يرفضه اليسار واليمين، فاليسار علماني لا ديني، واليمين ديني لا علماني. والحقيقة أن هذه الشبهة إنما تنتج من عقلية الاستقطاب بين مطلبين كلاهما صحيح، القديم والجديد، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الأصل والفرع، الآخرة والدنيا. وكل سمات اليسار الإسلامي مطالب فعلية للعصر. فهو إسلام مستنير لحاجة العصر إلى العقلانية والاستنارة كما عبر عن ذلك بعض المفكرين العرب المعاصرين مثل محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، وهو إسلام ليبرالي لحاجة العصر إلى الحرية كما عبر عن ذلك الطهطاوي والعقاد والشرقاوي، وهو إسلام اشتراكي جماعي لحاجة العصر للعدالة الاجتماعية والمساواة كما عبر عن ذلك مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب في مصر، وهو إسلامي قومي كما هو الحال عند منير شفيق وخلف الله ومحمد عمارة نظرا لمخاطر التجزئة والتفتيت للأقطار بعد أن قضي على الخلافة لصالح القومية العربية في 1923م ثم قضي على القومية لصالح القطرية بعد حربي الخليج الأولى والثانية، ثم قضي على القطرية لصالح الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والقبلية بعد العدوان الأمريكي على العراق في 2003م، والحرب الأهلية في لبنان وإبراز قضية السودان شمالا وجنوبا في الجنوب، وشرقا في دارفور. وهو إسلام إنساني كما عبر عن ذلك العقاد وغيره نظرا لخرق حقوق الإنسان في عصرنا وتعذيب المعتقلين السياسيين بالآلاف، وهو إسلام تقدمي كما هو الحال في تونس نظرا لتصنيف الشعوب العربية والإسلامية ضمن الدول المتخلفة أو النامية، وهو إسلام طبيعي يبدأ من العالم والناس نظرا لغلبة العقائدية القطعية والنصية الحرفية مثل أحمد كمال أبو المجد وسليم العوا، وهو إسلام وطني مثل طارق البشري نظرا للهويات الطائفية السائدة الآن وتواري الأوطان، وهو إسلام أممي مثل عادل حسين نظرا لما فعلته الحدود الوطنية من تجزئة وتقسيم ومعارك حدودية ونزاعات بين القبائل على طرفي الحدود على الثروات الطبيعية، وهو إسلام علماني مثل أحزاب الوسط نظرا لسيادة النزعات الدينية المعادية لقيم العقل والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وهي قيم إسلامية أصيلة تجلت في التراث الإسلامي، وهو إسلام عملي حركي مثل بعض الأجنحة المستنيرة في الحركة الإسلامية نظرا لسيادة الخطاب الديني النظري الوعظي الذي يدخل في أذن ويخرج من الأذن الأخرى. (3) «اليسار الإسلامي نزعة مادية وتيار ماركسي شيوعي إلحادي.» لا يهتم بالغيب ولا بالحياة بعد الموت إلى آخر ما هو معروف من أمور المعاد. والحقيقة أن هذه هي صورة نمطية للإسلام منذ العصر العثماني، تغليب الآخرة على الدنيا، والنفس على البدن، والله على العالم، وهو ما قاومته حركات الإصلاح الديني الحديثة. فالتراث الإسلامي قام على أساس الاهتمام بالعالم. يبدأ علم الكلام وهو علم العقائد بالعالم أولا للاستدلال به على وجود الله. ويتحدث الفلاسفة عن الطبيعيات كمقدمة للإلهيات. ويدافع بعض الصوفية عن وحدة الوجود، الجمع بين الحق والخلق. ويقوم علم أصول الفقه على تعليل الأحكام الشرعية بالعلل المادية ليقيس عليها أحكام الوقائع الجديدة. (4)
اليسار الإسلامي تيار غربي يقلد «لاهوت التحرير» في المسيحية خاصة. والحقيقة أن اليسار الإسلامي استئناف لحركات الإصلاح التي أسسها الأفغاني وإقبال، وتطويرها كي تصبح أكثر جذرية وقدرة على التأثير في العالم وإصلاح المجتمعات وتأسيس نهضة الشعوب. وقد سبقت الديانات الأخرى مثل المسيحية والبوذية الإسلام في وضع أسس «لاهوت التحرير» المعاصر في تحقيق المشاريع القومية في الحرية والعدالة، والاستقلال والتنمية ابتداء من تراثها. كان القدماء منتصرون على الأرض فصاغوا العقائد النظرية. ونحن منكسرون على الأرض في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وكلها تحت الاحتلال المباشر، وما زلنا نتحدث عن عذاب القبر ونعيمه، ومنكر ونكير، ونواقض الوضوء وحلق عانة الميت، وإرضاع الكبير. كما أن هذا الشبهة تعطي النفس أقل مما تستحق، وتعطى الغرب أكثر مما يستحق. وترجع كل تقدم وإبداع عند الأنا إلى منابعه ومصادره عند الآخر وكأن الأنا أصبح عقيما رضي بأن يكون تلميذا إلى الأبد، والآخر هو المبدع والمعلم. ولقد استطاع الإسلام في الماضي القيام بنهضة من الداخل وتأصيله في إبراهيم ولم ير غضاضة في التعامل مع الحضارات المجاورة، يونانية ورومانية غربا، وفارسية وهندية شرقا، والآن أوروبية شمالا، وأفريقية جنوبا. (5) «اليسار الإسلامي خلط بين الدين والسياسة، يرغب في الوصول إلى الحكم.» هو مجرد توزيع أدوار داخل الحركة الإسلامية التي ما زالت تسعى للوصول إلى السلطة. اليسار الإسلامي مجرد واجهة إعلامية مستنيرة تقوم بدور الغطاء النظري للحركات الإسلامية المحافظة التي تمارس العنف بل والإرهاب. والحقيقة أن الإسلام لا يفرق بين الدين والسياسة كما يفعل الغرب نظرا لظروف الكنيسة في صراعها مع الدولة. الإسلام يطبق المثال في الواقع، وملكوت السموات الذي عرفته المسيحية في ملكوت الأرض الذي عرفته اليهودية. يحول النظر إلى عمل، والفكر إلى ممارسة. هدفه تحقيق التقدم والتغير الاجتماعي من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع حتى لا يحدث رد فعل إلى القديم من جديد كما حدث في الغرب. الإسلام هو اللحظة الثالثة في تطور العلاقة بين الدين والسياسة بعد اللحظة الأولى تغليب السياسة على الدين في اليهودية، واللحظة الثانية، الفصل بين الدين والسياسة في المسيحية. اليسار الإسلامي تيار معارض. ينقد النظم السياسية القائمة على التبعية للخارج، والقهر والفساد في الداخل. وينقد المؤسسة الدينية التابعة للدولة والمبررة لقراراتها في الحرب والسلم، في الاشتراكية والرأسمالية بنفس الرجال ونفس الفتاوى. الإسلام دين ليس به رجال دين أو كنيسة أو سلطة دينية إلا سلطة العلم. يفك الحصار عن المعارضة العلمانية بأنها ضد الدين. ويخفف من عداء الحركات المحافظة للأيديولوجيات العلمانية، ليبرالية وقومية واشتراكية وماركسية وإسلامية مستنيرة، كما هو الحال في تركيا وماليزيا. وينقد نفاق الإعلام الرسمي واستخدام الدين لصالح الحزب الحاكم. (6) «التيار الإسلامي يرفضه الناس لأنه يمس عقائدهم الشعبية.» هو تيار نخبوي يسهل حصاره من اليمين واليسار والدولة. هو عند اليمين الديني شيوعية وإلحاد مقنعان. وعند التيار العلماني إسلامي مقنع، وفي أجهزة الدولة الأمنية اليساريون الإسلاميون «إخوانيون شيوعيون» كما اتهم الشاه من قبل فصائل الثورة الإسلامية مثل «مجاهدي خلق». هو غير مؤثر، أقلية معزولة أمام الأغلبية الطاغية للحزب الحاكم. والحقيقة أن الاتصال المباشر بين اليسار الإسلامي والجماهير يدل على قدرته على التعبير عن الأغلبية الصامتة، عن الوسط بين الجناحين السلفي والعلماني. يريد المحافظة على الشرعيتين في نفس الوقت، الإسلام والعالم، الدين والثورة. ليس حريصا على السلطة والحكم بل هو للحفاظ على وحدة الأمة في مسارها التاريخي، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
الفصل الثالث
الأرض
(1) الأرض
للألفاظ أيضا فقه الأولويات. وما زالت الألفاظ المستعملة في خطابنا الديني يغلب عليها الألفاظ التقليدية الموروثة التي لا صلة لها بالواقع المعاش ولا ظروف العصر. تعتمد في معظمها على النقل دون العقل، من عالم الغيب وليست من عالم الشهادة، موضوع للتصديق الإيماني دون برهان عقلي ومن ثم هي أقرب إلى الظن منها إلى اليقين طبقا للأشاعرة لأنها تعتمد على النقل وحده دون العقل.
ومنها ألفاظ المعاد، ما يحدث بعد الموت ابتداء من عذاب القبر ونعيمه وكل أهوال القيامة ومناظر الحشر من صراط وميزان وشفاعة وحوض وأوصاف الجنة والنار. وكلها من الخبر وليست من المعاينة. أولها المعتزلة والفلاسفة. الحياة بعد الموت هي الرغبة في الخلود، والميزان هو العدل والاستحقاق، والجنة والنار هما الرضا عن النفس أو تأنيب الضمير، النعيم المعنوي والعذاب المعنوي.
وقد تأتي الألفاظ من العقائد الأشعرية مثل الإيمان والكفر، والكبائر والصغائر. وقد تأتي من الفقه مثل الحلال والحرام والأمر والنهي. وقد تأتي من التصوف مثل الصبر والتوكل والخوف والخشية والرضا والتسليم والفناء والمحو والفقد. ولا نستعمل ألفاظا نحن في أمس الحاجة إليها تجذب الشباب نحو العلمانية والغرب مثل الحرية والديمقراطية والتعددية والرأي والرأي الآخر. وتمتلئ القنوات الفضائية والإذاعات وصفحات الفكر الديني بهذه الألفاظ التقليدية حتى أصبح الدين عالما مغلقا منفصلا عن الحياة، له رجاله، بضاعة رائجة في وقت يتمسك الناس فيه بالموروث كطوق نجاة من أزمة العصر واضطراباته. وتمتلئ البرامج الدينية بهذه الألفاظ مثل «نور على نور». وإن تغير بعضها مثل «العلم والإيمان»، «الشريعة والحياة» فإنها تدور أيضا حول المفاهيم التقليدية واستعمال الجديد لتأصيل القديم. ويصل الأمر إلى كتب التربية الدينية في المدارس في دروس هامشية ليس بها نجاح ورسوب، ولا تضاف إلى المجموع، يفصل فيها بين المواطنين طبقا لدياناتهم، الإسلام للمسلمين، والنصرانية للنصارى. فتكرس القسمة الطائفية في التربية والتعليم. وبمجرد ما يعي الطالب، مبكرا في الثانوية أو متأخرا في الجامعة، يترك الدين الذي لم يشده إلى الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ليبرالية واشتراكية وماركسية وقومية ليشبع بها فكره السياسي ويساعده على ممارسة مواطنته والتزامه الاجتماعي. وقد يهاجر إلى الخارج بحثا عن الرزق والحلول الشخصية للمشاكل العامة. وقد ينضم إلى الحركات السرية التي تعده بكل شيء في المستقبل كرد فعل على لا شيء في الحاضر. وقد يظل حائرا بين هذا وذاك، يندب حظه، وينعي نفسه وينتظر الفرج فلا يأتي فيموت.
وفي نفس الوقت نحن أمام عدو يتحدث عن «أرض إسرائيل» ويقصد بها فلسطين. ويدعو يهود العالم إلى الهجرة إليها والاستيطان فيها، من «الدياسبورا» إلى «العاليا»، من «الشتات» إلى «العودة». وقد بدأت حركة الاستيطان منذ أوائل القرن التاسع عشر بعد عدة محاولات من المفكرين اليهود مثل مارتين بوبر بتغيير القيم اليهودية الموروثة من قراءة التوراة كأعظم فعل فاضل وأول أمر إلهي إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان في الأرض، والتحول من بدو إلى مزارعين، ومن رحل إلى مستوطنين، فزرعوا الأرض، وبحثوا عن مصادر للحياة، وبنوا المستوطنات، المزارع الجماعية، الموشاف. وكلما زادت الهجرة تم طرد الفلسطينيين وإحلال المهاجرين اليهود محلهم. وما زال التوسع كل يوم قائما. فالأرض هي الأرض المقدسة، وعدهم الله بها في العهد القديم، عهد نوح الذي جدده إبراهيم والذي قننه موسى. فاليهودي لا يستطيع أن يعيش إلا في هذه الأرض، أرض الميعاد، وإلا في هذه المدينة، القدس، المدينة المقدسة. ولا يستطيع أن يعبد الله إلا في هذا المعبد، هيكل سليمان الذي لا بد من إعادة بنائه حتى تصح العقائد اليهودية، ويستطيع اليهود ممارسة شعائرهم. وإذا مات اليهودي خارج الأرض المقدسة فإنه يدفن حيث مات ويضع تحت رأسه كيسا فيه حفنة من تراب فلسطين وكأنه دفن هناك. وغزت إسرائيل كل الجامعات الغربية، الأوروبية والأمريكية، وكل أقسام الدين وتاريخ الدين والفلسفة فيها بموضوع «الله والشعب والأرض» كفرع من «اللاهوت الجديد». فلا يمكن تصور الله بدون الشعب المختار. ولا يمكن تصور الشعب المختار دون أرض المعاد، أرض الآباء والأجداد. فالشعب والأرض جزء من الألوهية. أما نحن المسلمين فالأرض ليست جزءا من العقيدة، الله لا زمان له ولا مكان، ولم يختر شعبا بعينه
فأينما تولوا فثم وجه الله ،
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ،
فإن الله غني عن العالمين . الله منزه، قائم بذاته، قديم باق وواحد. لا الأرض ولا الشعب ولا المدينة ولا المعبد من صفاته أو أوصافه أو أسمائه أو أفعاله. فلسطين والقدس والمعبد بالنسبة لليهود جزء من العقيدة اليهودية في حين أنها ليست جزءا من العقيدة الإسلامية. هي وقف إسلامي أي جزء من الفقه والشريعة. والفقه متغير، أحكام بشرية تتغير بتغير العصور. وقد تغير العصر وعانى اليهود من المحرقة في ألمانيا ومن كافة صنوف الاضطهاد والتطهير العرقي في روسيا وأوروبا الشرقية بل والغرب بعد حادثة داريفوس ونشأة اللاسامية. وقد آن الأوان لإعطاء أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض.
أمام هذا الوضع ماذا يفعل المفكر العربي؟ فالمعركة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي ليست فقط بالسلاح، مرة لك ومرة عليك، وليست فقط بالانتفاضة سلمية أو مسلحة، وهو تكليف ما لا يطاق. وليست فقط بالموقف العربي الموحد وراء فلسطين وهو صعب المنال. وليست فقط بالتعاطف الدولي الذي لا يتعدى الأقوال إلى الأفعال. وليست مؤجلة إلى أجيال قادمة قادرة على النصر وتحرير فلسطين والأقصى، فالأجيال الحالية تريد الهجرة خارج الأوطان كما يحدث الآن في العراق من تفريغه من شعبه كما حدث في فلسطين في 1948م، نكبة ثانية بعد النكبة الأولى.
معركة المفكر العربي هي إعادة بناء الموروث القديم، وتحويل الأرض من ثقافة شعبية إلى ثقافة سياسية. صحيح، هناك يوم الأرض، وفرقة الأرض، وفيلم الأرض، وأغاني الأرض، وشعر الأرض. «آه، يا جرحي المكابر. أنا لست المسافر، ووطني ليس حقيبة. إنني العاشق والأرض حبيبة.» لا يكفي أن يقبل الأسير الفلسطيني العائد إلى فلسطين تقبيل الأرض بل أن تتحول الأرض إلى جزء من عقيدة الأمة.
لقد ظل الصليبيون قرنين ونصفا في أوطاننا. وإسرائيل مزروعة في الأرض منذ ستة عقود. وقد بدأ صلاح الدين في معركة القدس بالقضاء على الصوفية أنصار التوكل والصبر والرضا والخوف والخشية والمحبة، والقضاء على المهدية التي تريد الخلاص في المستقبل. إعداد الأمة بالثقافة السياسية جزء من الإعداد للمعركة، ليس عن طريق حماسيات إدارات التوجيه المعنوي بل بإعادة تأسيس العقيدة على الأرض. فالأرض جزء من الألوهية
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
على هذا النحو يستطيع المفكر العربي أن يساهم في صمود سوريا وحزب الله وإيران، ليس فقط بالجهاد المسلح المتهم بالعنف والإرهاب، بل عن طريق إعادة بناء الموروث القديم، وجعل الأرض محور العقيدة وبؤرة الثقافة السياسية، والدخول في حوار الأديان، وحوار الحضارات، وحوار الثقافات، والأرض في الأذهان والشعب في القلوب. (2) الله والأرض
ذكرت الأرض في القرآن عدة مرات (461 مرة). فهي أحد الموضوعات الرئيسية فيه وليست موضوعا هامشيا. وذكرت معرفة بالألف واللام في معظم الحالات؛ أي إنها ليست ملكا لأحد أو تنسب لقوم، ومعرفة بضمير الملكية (خمس مرات) وضمير المتكلم الجمع «أرضنا» (ثلاث مرات)، وضمير المتكلم المفرد «أرضي» (مرة واحدة)، وضمير الغائب الجمع «أرضهم» (مرة واحدة). فالأرض لنا، نحن المسلمين ، ولي، الفلسطيني القابع فيها منذ آلاف السنين، ولهم، المطرودون الغائبون عنها تحت اسم اللاجئين. وذكر لفظ «الأرض» مجرورا بالإضافة (331 مرة) أكثر منه منصوبا أي مفعولا به (86 مرة) أي إنها مجال الفعل، والأقل هو الفاعل (34 مرة)، فالأرض لا تفعل بنفسها بل تتلقى فعل الأفراد والجماعات عليها.
وقد ذكرت هذه الآيات المئات في ست مجموعات: خلق السموات والأرض ونهايتهما، ملك السموات والأرض وميراثهما، اتساع الأرض واستقبالها الفعل الإنساني، تسخير الأرض للإنسان، إعمار الأرض والاستقرار والسكن فيها، إحياء الأرض بما فيها من نبات وحيوان.
في القرآن الكريم الله إله السموات والأرض في عديد من الآيات مثل
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . فمن استولى على الأرض فقد استولى على السماء أيضا لأنهما قرينان. ومن استولى على الأرض فقد استولى على نصف الألوهية لأن الألوهية في السماء والأرض. السموات والأرض كيان واحد قبل أن ينفصلا
أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما . لذلك تحدث الصوفية عن الرتق والفتق الروحيين، في الضم والجمع والتوحيد.
والأرض والسموات مخلوقتان
وهو الذي خلق السموات والأرض . مفطورتان أمام العين، مبسوطتان. وقد خلقت في ستة أيام دلالة على التدرج في الفعل، وإيحاء بأهمية المراحل دون القفز فوقها. فكل شيء يحتاج إلى زمان لأن الخلق في الزمان.
والسماء والأرض قائمتان ولا تزولان إلا بأمره
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره . لا يستطيع أحد تدميرهما حتى ولو امتلك قوى القنابل الذرية وأشدها فتكا
إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا . والله يمسكهما معا
ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه .
وقد تم هذا الخلق بالحق. لذلك وحد الصوفية بين الحق والخلق.
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، فالأرض حق تخرج عن دائرة الباطل
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا . السكن فيها بالحق وليس بالعدوان. فالحق لا يتعامل إلا مع الحق وليس مع الباطل. لذلك ينزل عليها الوحي، إحقاقا للحق واعترافا به
تنزيلا ممن خلق الأرض . الوحي تكملة للخلق
قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض . الأرض مهبط الوحي وليس الزيف والبطلان والدعاوى الكاذبة والأساطير العنصرية العرقية بأحقية شعب معين بالسكن فيها والاستيطان عليها. لم تخلق الأرض عبثا ولعبا
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ، بل لتحقيق هدف وغاية.
والله يعلم ما في السموات وما في الأرض
وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء . ولا سر في العلم
ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض . ومهما بلغ الإنسان من السرية في قوله وفعله فإن الله مطلع عليه، وعالم بالأهداف غير المعلنة. الله يغمر الأرض والسماء بنوره
الله نور السموات والأرض . وتعكس الأرض هذا النور بفعل الإنسان وتحقيق رسالة الله في الأرض.
وقد خلقت السموات والأرض للتفكر فيهما وللاتعاظ بهما. فهما من الآيات أي الدلائل والمؤشرات
أولم يسيروا في الأرض فينظروا . والاعتبار يحتاج إلى لب وفؤاد وبصر وبصيرة
إن في خلق السموات والأرض ... لآيات لأولي الألباب . فإدراك الآيات في الأرض مشروط بالوعي الذاتي
وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها . الأرض ليست فقط للاستيطان بل للتأمل والتفكر في المصير. ومع أن موضوع الاستدلال بديهي
أفي الله شك فاطر السموات والأرض
إلا أنه يحتاج إلى الاستدلال ليطمئن القلب ويهدأ الفؤاد. فالقلب يعقل
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها . يكفي السير في الأرض
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق . إنكار الحقائق البديهية مكابرة واستعلاء.
وفي مقابل ذلك تسبح الأرض والسماء بذكر الله. وبالتالي يستحيل أن تكون مسرحا للفساد، للقتل والذبح والتدمير للنسل والزرع، للأطفال والنساء وللشباب والشيوخ
تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن . وتسبيح الأرض بتعميرها واخضرارها ونمائها وليس بتدميرها وتجريفها.
والله وحده هو الجدير بالعبادة في الأرض
ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ،
ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض . والعبادة تحتاج إلى الصبر والاصطبار
رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته . فهو الذي خلق الأرض لصالح الإنسان ليسكن فيها ويعمرها، وليست لعبادة القوة والطاغوت والثروة والسلطة والعبادة المزيفة. فهناك فرق بين الزائل والدائم.
ومع ذلك، هذه الأرض ليست ثابتة بسبب فعل الإنسان الذي يظن أنه قائم فيها أبدا. فقد تخسف الأرض بالمفاسد
فخسفنا به وبداره الأرض . وقد تخسف بالماكرين والظالمين والعتاة والطغاة
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض . فلا أمان للمعتدين من الله
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض . ومهما توسع الكيان الاستيطاني عرضا فإن الله قادر على أن ينقص الأرض من أطرافها
أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ، وهو ما حدث للاستعمار الذي انتشر فوق أطراف الأرض ثم بدأت حركات التحرر الوطني بتقليص أطرافه حتى ردته إلى حدوده الطبيعية في الدول الأوروبية التي خرج منها، وهو ما يحدث للكيان الصهيوني الآن. مهما توسع في الأطراف وزرع المستوطنات في الضفة الغربية والجولان فإن المقاومة اللبنانية دحرته في طرفه الشمالي، وحرب أكتوبر 1973م قلصته في طرفه الجنوبي.
وكما خلق الله الأرض يرجعها إليه من جديد. وبعد أن يمتحن الإنسان عليها ويختبره فيها تظهر النتيجة في النهاية بعد أن تنتهي حياة الإنسان على الأرض، وهو يوم لا يأتي إلا بغتة. علامته انتهاء الاختبار. حينئذ تبدل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء. فالأرض جميعا في قبضته يوم القيامة. وتشرق بنور ربها. ويسمى ذلك اليوم: القيامة، الزلزلة
إذا زلزلت الأرض زلزالها ، الراجفة
يوم ترجف الأرض والجبال ، وعشرات من الأسماء الأخرى رصدها المتكلمون والصوفية. يخرج الناس من القبور، وتخرج الأرض أثقالها، وتنشق الأرض عن البشر سراعا. ترتج الأرض وتدك، وتسير الجبال. فالأرض ليست دائمة. والاستيلاء عليها مؤقت. فكما خلقها الله تعود إليه. وكما سكنها قوم ظلما وعدوانا فإنهم يخرجون منها. (3) لله ملك الأرض وميراثها
ليس الله فقط
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . لذلك لا يجوز لأحد، لفرد مثل فرعون أو لقوم مثل إسرائيل التأله فيها، ولكن الله أيضا مالك السموات والأرض وله ميراث السموات والأرض.
فالأرض لها صاحب ومالك
ولله ملك السموات والأرض
لا يجوز لأحد غيره ادعاء ملكيتها.
له ما في السموات والأرض . والكل يعرف هذه الحقيقة. والسؤال عنها بديهي
قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ، وهو اعتراف إنساني بناء على تجربة إنسانية
الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو . الملكية الإنسانية للاستعمال وليس للاستيلاء. الإنسان وجود وليس ملكية كما يقول الفلاسفة المعاصرون. يأتي إلى العالم لا يملك شيئا، ويغادره لا يملك شيئا.
لله ملك الأرض ومن عليها. وله خزائنها
ولله خزائن السموات والأرض . ما فوق الأرض وما تحت الثرى، العمران والنفط، البنايات والهياكل على الأرض والمعادن الطبيعية تحتها، وهو ما سماه الفقهاء «الركاز». ولا أحد يملك ذرة في السماء أو في الأرض كما تدعي النظريات العنصرية والقومية العرقية،
لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض . بل إن بعض الدول أرادت امتلاك المحيطات والكواكب والنجوم والقمر وكل ما في الفضاء. فالملكية على هذا النحو مظهر من مظاهر القوة والعدوان.
وتتضمن ملكية الله للسموات والأرض ملكية مقاليد الأمور فيها، والسيطرة على قواها
له مقاليد السموات والأرض . فهي ملكية عالمة وليست ملكية جاهلة تنتهي إلى التلوث والتصحر.
وطاعة الكون لله طواعية واختيارا أي اتفاقا مع طبيعتها وقوانينها
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين . هي ملكية طيعة حرة وليست قهرا أو نهبا أو تدميرا.
وبهذه الملكية للسموات والأرض يتبارك الله ويتقدس اسمه
وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما . فيتحقق السلام على الأرض. فالملكية البشرية أساس الشقاق والنزاع حول الأشياء. الإنسان مستخلف فيما بين يديه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الإضرار بالغير أو الاحتكار أو الاستغلال.
والأرض لها وارث هو الله
لله ميراث السموات والأرض . لا يجوز لأحد سواه ادعاء وراثتها، أبا عن جد، وابنا عن أب، وحفيدا عن ابن. فالميراث نتيجة طبيعية للملكية، وليس إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق كما فعل وعد بلفور لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
والله يورث الأرض لعباده الصالحين وليس للعصاة قتلة الأنبياء والشعوب
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وهو مدون في الزبور
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . فالعهد القديم لا يعطي الأرض لشعب بلا شرط. مهما اعتدى وعصى وقتل الأبرياء. شرط الوراثة العمل الصالح الذي يفتح الأرض للجميع. تتوارثها الأجيال الصالحة جيلا وراء جيل
أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها ، وليس عرقا أو شعبا دون غيره. يرثها من لهم الجنة
وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء . وليس الذين لعنهم الله في الدنيا والآخرة. فإذا عصى شعب مثل بني إسرائيل يرث الصالحون أرض العصاة
وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها . فلا يبقى على الأرض إلا الصالح وفي نهاية الدنيا يرث إله هو الوارث الأول والأخير
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون . إليه يرجع الأمر كله.
والله وحده هو الذي يعلم غيب السموات والأرض
إني أعلم غيب السموات والأرض . ولا يخفى على علمه شيء. لا يأتي العلم من تزوير التاريخ وتحريف الوثائق كما تفعل إسرائيل في إثبات وجودها كأول شعب على أرض فلسطين، وإثبات إقامة المسجد الأقصى على أنقاض هيكل سليمان الذي يجب إعادة بنائه كما كان فوق أنقاض المسجد الأقصى، وهو الذي يعلم السر والعلن
يعلم سركم وجهركم . ولا يخفى التآمر والكذب من أي فرد أو شعب عليه. يعلم ما تحت الأرض وما فوقها
ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، وهو أعلم بالحفريات تحت المسجد الأقصى وليس مؤرخي الزيف والبهتان. لا يغيب عنه شيء
وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين . يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور
إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور .
ولا يستطيع أحد أن يعجز الله في الأرض. فالله قادر على إهلاك من يعتبرهم البشر آلهة
إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض . فكل إنسان على الأرض عبد لله
إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا . ولا يستطيع شعب مهما أوتي من جبروت وأسلحة دمار أن يعجز الله
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء . لا يستقوي أحد نفسه عليه
وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض . كل شيء من ظواهر الطبيعة مسيرة بأمره
ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا . والله هو الذي يدبر الأمر في السموات والأرض وليس القوى الكبرى
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض . ومن يعصي الله لا يعجزه
ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض . والجنود لله في السموات والأرض
ولله جنود السموات والأرض . وليس جيش الرب في أوغندا أو جيش الدفاع الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
وما دام الله هو مالك الأرض ووارثها فله على الناس حق الطاعة
ولله يسجد من في السموات والأرض . وليس العصيان، قتل الأنبياء، وتشريد الشعوب خارج أوطانها واحتلال أراضيهم. له على الناس حق الإسلام له ليتحرروا من عبودية الأسياد من البشر
وله أسلم من في السموات والأرض . فالسجود علامة الطاعة
ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض . وليس الاستكبار والعلو في الأرض والتعالي على رءوس العباد.
وما دام الله هو مالك الأرض ومن عليها وهو وارثها فإنه يملك الرزق للناس جميعا ليس عن طريق العدوان وشفط المياه من الآبار، والاستيلاء على أشجار الزيتون، ومنع تصدير الموالح
ومن يرزقكم من السماء والأرض ، مهما بلغت المعونات الأجنبية والاستيلاء على الثروات الطبيعية للشعوب. وما دامت له مقاليد السموات والأرض فإنه يبسط الرزق لمن يشاء
له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء
بشرط ألا يبغي الناس في الأرض
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض . غنى الظالم وفقر المظلوم وقتي. غنى المعتدي ليفجر، وفقر المعتدى عليه يشحذ الهمة ويقوي العزيمة لاسترداد الحقوق.
الله هو المثل الأعلى في السموات والأرض
وله المثل الأعلى في السموات والأرض
وهو القيمة الأولى والمعيار الأول للسلوك البشري. هو المبدأ العام الذي يتساوى أمامه الجميع بلا تفرقة في اللون أو القبيلة أو العشيرة أو الطبقة الاجتماعية. له الكبرياء والعلو والعزة في السماء والأرض
وله الكبرياء في السموات والأرض . ومن يتكبر في الأرض فإنه يؤله نفسه، وينصب نفسه إلها في الأرض.
ولله يسبح من في السموات والأرض
سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم . فهو الحافظ لحرية البشر والمساواة بينهم. هو أساس العدل والسلام. له الحمد والشكر في السموات والأرض
فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين . فالله ليس إله إسرائيل، إله الجيوش والعدوان، والتابوت والعهد كما يصور العهد القديم. هو إله الجميع. تنعكس وحدانيته في وحدة البشر جميعا وليس في شعب مختار. له النصر والأرض والمدينة والمعبد مهما عصى واعتدى وظلم وطرد وشرد وجرف الأراضي وهدم المنازل ونزع أشجار الزيتون. (4) اتساع الأرض
وكما أن الله إله السموات والأرض، وله ملك السموات والأرض، وله ميراث السموات والأرض فإنه خلقها على الاتساع حتى تستوعب نشاط الإنسان وحركته. مد الأرض وأقام عليها الجبال لتثبيتها، وأنبت فيها من كل شيء بقدر موزون طبقا لحاجات الإنسان
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون . فالجبل والنهر، الارتفاع والعمق مظهران للأرض وللعمران، للسكن والري
هو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ، للحماية بالجبال وللزراعة بمياه الأنهار
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج . وقد أقسم الله بامتداد الأرض
وإذا الأرض مدت . ودعا إلى النظر في الأرض كيف سطحت
وإلى الأرض كيف سطحت . وأقسم بالأرض التي طحاها
والأرض وما طحاها . الأرض رحبة فوق الأفق دون الاختناق في أماكن مغلقة يتقاتل عليها الناس. الأرض ليست نقطة بل سطحا وليست مكانا بل فضاء، وليست سكونا بل حركة. والغاية الانتشار فيها والكد عليها. اتساع الأرض مثل مساواة البشر لحمل الأمانة ونشر الرسالة؛ لذلك انتشر الإسلام في سهول آسيا الواسعة كسرعة البرق.
وكما مد الله الأرض مهدها وجعلها صالحة للسير والمشي والسعي. وجعل فيها شعابا ومسالك وطرقا
الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا . وضع الله الأرض للأنام أي لسكنى البشر
والأرض وضعها للأنام . وذللها لهم للسير في مناكبها
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها . خلق الله السماء ثم الأرض. فلا سماء بلا أرض، ولا رأس بلا قدمين
والأرض بعد ذلك دحاها . مدها كالبساط حتى يسير عليها الناس
والله جعل لكم الأرض بساطا . وفرشها بالخضرة والعشب كالبساط الأخضر
الذي جعل لكم الأرض فراشا . فيستريح الناس في المشي بدلا من السير على الحصى والرمال
والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ووضع فيها ما يكفي لحاجة الناس ومتطلبات معيشتهم
ألم نجعل الأرض كفاتا . لا يتعثر أحد في مشيه عليها. لا يقع في حفر أو بالوعات. ولا يصطدم بحجارة أو مطبات صناعية. ولا يغوص في مياه الصرف الطافحة. «والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تمهد لها الطريق؟»
بل إن الجنة في نفس اتساع الأرض في الدنيا
وجنة عرضها السموات والأرض . الاتساع في الدنيا، والبراح في الآخرة. فالآخرة استمرار للدنيا في اتساع الأرض دون الضيق والحشر كما هو الحال في توزيع الخريطة السكانية في مصر، ثمانون مليونا يقطنون في 4٪ من مساحتها في وادى النيل وليس في الصحراء. الاكتظاظ السكاني في مكان، وترك باقي الأماكن خاوية خالية تضييقا لمساحة الأرض. في مقابل عدو يزرع المستوطنات في قلب الصحراء لتوسيع رقعة الاستيطان والانتشار في الأرض. ويبقي الأرض على الاتساع «من الفرات إلى النيل»، ومن لبنان إلى اليمن. والبدو الرحل لا يعرفون الاستقرار في الأرض إلا إذا كانت واحة للاستقرار. يسيرون في الصحراء بحثا عن الماء والكلأ. لا يعرفون الحدود الجغرافية. فالصحراء على الاتساع مثل الأرض. لا يعرفون إلا الله في السماء والعدل في الأرض.
فإذا ما ضاقت الأرض بما رحبت فأرض الله واسعة، والهجرة واجبة
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها . فلا يجوز الفرار من الأرض. إذا ضاقت في مكان فإنها تتسع في مكان آخر
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين . لذلك كانت الهجرة سنة الأنبياء، إبراهيم من العراق إلى الحجاز، وموسى ويوسف من فلسطين إلى مصر، ومحمد من مكة إلى المدينة، هجرات طويلة من مصر إلى فلسطين، من قطر إلى قطر أو قصيرة من مدينة إلى مدينة. تضيق الأرض في مكان، وتتسع في مكان آخر
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا
بشرط أن تكون هجرة مؤقتة. فلا هجرة بعد الفتح. السياحة في أرض الله الواسعة أمر إلهي وضرورة بشرية
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر . وإن ضاقت عبادة الله في مكان فأرض الله واسعة
يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون . فإذا كان الجسم له حدود فإن الروح بلا حدود.
الأرض كلها ميدان للجهاد في سبيل الله
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت . يموت المجاهد في الأرض على الاتساع، ويدفن في الأرض على الاتساع، دون مقابر ومشاهد ومنازل عليها للسكنى وللاستقرار، لا فرق بين مقابر الأموات وسكن الأحياء. لذلك سوت الحركة الوهابية المقابر بالأرض، وحرم اتخاذ مقابر الأنبياء والأولياء والصالحين مزارات.
ومع ذلك، ليست الأرض إلها، ولا يمكن تأليهها عبادة أو وعدا
أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون . الأرض من خلق الله، والسير فيها طاعة له. والانتشار عليها تسبيح وحمد وشكر. ومن ثم تبطل دعوى الصهيونية بألوهية الأرض، قطعة من الأرض، وقدسية الأرض، بقعة من الأرض.
ووجود الإنسان في الأرض مؤقت. إليها يأتي، ومنها يخرج وإلى الله يعود
وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، وهو امتحان وبلاء واختبار بعد سعي وكد واجتهاد. الأرض ميدان للعمل والكفاح. تبقى الأرض ويغادرها الكادحون. وقد يكون هذا الوجود المؤقت في الأرض عن وعي أو عن لا وعي مثل أهل الكهف
قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين
وحال النائم. وفي حالة الوعي واليقظة يدرك الإنسان أن وجوده زماني، بين الحياة والموت في لحظات العمر. يخرج منها الناس يوم الفزع الأكبر
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض . يبعثون منها كما يولدون فيها
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ، وهو أيضا يوم النفخ في الصور
ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض ، وهو الانتباه عن طريق السمع والصوت. الأرض تصدع. وقد أقسم الله بها
والأرض ذات الصدع . ولا يأتي العصيان إلا من العصاة أي من المستوطنين في الأرض والمعتدين على أصحابها. التقسيمات في الأرض ضد اتساعها. والجدار العنصري العازل ضد مدها. والمستوطنات المسلحة المغلقة بالأسوار ضد الانتشار فيها. ولن يمنع الخوف ولا السكنى في الحصون من انتشار الأرض وفتحها
وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله . ولن تمنع البروج من موت المعتدين،
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة . (5) خلافة الإنسان في الأرض
خلق الله الأرض، وهو مالكها ووارثها. وسطحها ليمشي عليها الإنسان ويكد فيها. فالإنسان خليفة الله في الأرض، مسئول عن تعميرها دون أن يؤدي ذلك إلى حكم سياسي إلهي «ثيوقراطي» باسم الحاكمية. خلافة الإنسان في الأرض خلافة عامة أي مسئولية وأمانة حملها الإنسان طواعية واختيارا بعد أن عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، عدلا إن وفى، وظلما إن تخلى.
الإنسان خليفة الله في الأرض
إني جاعل في الأرض خليفة . ليس الإنسان بمفرده بل بجماعته وأمته. فالخلافة فردية وجماعية
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ، وهو استخلاف مشروط بإقامة العدل. فالظلم لا يبقى في الأرض
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض . فالاختيار ليس لإنسان بشخصه بل لأفعاله أو لشعب بعينه بل لتحقيقه كلمة الله كنظام مثالي للعالم، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمساواة بين البشر، وهو ما يسمى أيضا بالتمكين، اللفظ الذي أصبح مشهورا في علم الاجتماع بمعنى تمكين المرأة أي زيادة سلطتها ورفع المعوقات عنها
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش . وقد مكن الله للأنبياء. فالنبي هو النموذج الأولى للإنسان
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض .
وتعني الخلافة أيضا تعمير الأرض وليس تدميرها، زرعها وليس جرفها، ريها وليس حجب الماء عنها. فالإنسان نشأ في الأرض وفيها يقيم، وعليها يموت
هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . ولا يعني الاستعمار هنا احتلال أراضي الغير والعدوان عليها وطرد شعبها منها، فالإعمار ليس ظلما لأحد وليس عدوانا من أحد كما فعل المستعمرون والمستوطنون في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
والإنسان أمين على خزائن الأرض مسئول عن زراعتها وتعميرها وإطعام الناس وعدم تجويعهم أو حصارهم أو منع المياه والطاقة عنهم
قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم .
وكل شيء في الأرض مسخر لصالح خلافة الإنسان في الأرض
والسحاب المسخر بين السماء والأرض
لهبوط المطر طبقا لحركة الريح. فالطبيعة طيعة للإنسان، وقوانينها خاضعة لإرادته مثل إقامة السدود والخزانات وطواحين الهواء وتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ومساقط المياه وحركة الأمواج.
وهو خليفة قوي في الأرض، والخلفاء فيها ليسوا ضعفاء أو مستضعفين. والمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف. فالضعف وهم، وتضييع للخلافة، وتخل عن الأمانة
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض . ويثبت التاريخ أن المستضعفين في الأرض الذين على حق يتحول ضعفهم قوة. فقد خلقت الأرض للمستضعفين، ووراثتها للمستضعفين
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض . وقد نشأت كل أمة مستضعفة كما حدث للإسلام في أول عهده وللنصارى في بداية النصرانية ثم تحولوا إلى قوة
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض .
والاستضعاف وقتي في زمان ومكان معينين. والأرض واسعة. إن استضعف قوم في بقعة تكون الهجرة إلى أرض فسيحة رحبة واجبة كما حدث في هجرة الرسول، وهجرة موسى، وهجرة إبراهيم،
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا . فكل عسر بعده يسر كما أن كل يسر بعده عسر. وتلك هي هشاشة البشر. لا تضيق الأرض على أحد. فرحمة الله واسعة
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت .
والضرب في الأرض أي الجهاد فيها والكد عليها ضروري. والموت شهادة
قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا . ومن لا يجد ما يجاهد به يجاهد بالعلم أو بخدمة المحاربين ومداواتهم في الصفوف الخلفية
لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . والجهاد في سبيل الله يبيح التقصير في الصلاة تطبيقا لواقعية الشريعة وقواعد الضرورة
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا .
وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض إلا أن ذلك لا يستدعي منه الكبر والخيلاء
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض . فالله وحده هو الذي له الكبرياء في الأرض. فالإنسان بالرغم من عظمته لوعيه بنفسه وبالناس وبالعالم إلا أن الأرض والجبال أقوى منه
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا . وقد علا فرعون في الأرض. تكبر، وتجبر، وتأله. والمسرف في تعظيم قدرته
وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين . الكبرياء في الأرض أي الاعتزاز بالنفس للأنبياء وللمؤمنين
وتكون لكما الكبرياء في الأرض .
ومن يتولى عن الخلافة أو يعمل على نقيضها فإنه يفقد دوره في الأرض. وبدلا من أن يسير عليها، ويجاهد ويكبر فإنه يتوه فيها كما حدث لبنى إسرائيل
قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض . ومن يثاقل إلى الأرض، ويجاهد مرغما غير مؤمن به يكون نوعا من النفاق
ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض . ومن يخلد إلى الأرض دون أن يسعى فيها لا ينال أي رفعة أو عزة عليها،
لو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه . ولا يستطيع الإنسان في الأرض أن يعجز الله ويعمل ضد إرادته فهناك حدود لقدرة الإنسان تثبت عجزه إذا ما تجاوز الحد
أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض . ومن يعجز الله فإنه يبوء بالخيبة
ما لهم في الأرض من ولي ولا نصير . ومهما شق نفقا في الأرض أو شيد سلما إلى السماء فإنه لن يستطيع إعجاز الله
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية . فقد وقع في الغواية واستهوته الدنيا
كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران . فغواية الشيطان الإنسان ثأر من خلافته في الأرض
قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها .
والجهاد في الأرض فعل حر طبيعي تلقائي إلا أنه أحيانا يتطلب المقاومة في حالة العدوان. فالصراع جزء من حياة البشر،
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . ومع ذلك حرية الإيمان مكفولة للجميع. فلا إكراه في الدين
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا .
وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض إلا أن الأرض وما فيها عرض زائل لا يبقى.
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها . ما يبقى هو فعل الإنسان فيها ويخلد به عليها
خالدين فيها ما دامت السموات والأرض . وذلك ما يثبته التاريخ. تم تمكين الناس من الأرض ثم ضاعت منهم لأنهم لم يتبعوا قانون العدل
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض . وفي ذلك فلينافس المتنافسون، في العمل الصالح والسبق نحوه عن جميع الأمم
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك . لذلك كان التأمل في التاريخ والعبرة بالآثار وسيلة للاعتبار، والتمييز بين ما هو جوهري، العمل الصالح، وما هو عرضي، زينة الدنيا
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض . فالتاريخ هو خير شاهد، والتجربة أفضل تصديق
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين .
ولن يستطيع الخليفة في الأرض إن تخلى عن مسئولياته أن يعوض خسارته حتى ولو أتى بملء ما في الأرض ذهبا ليفتدي نفسه. فقد انتهى وقت العمل في الحياة وجاء يوم الحساب
فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى . ولا يستطيع أن يكفر عن نفسه أو يفتديها بكل ما في الأرض
إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم . فساعة الحساب لا تنفع فيها الفدية
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به . انتهت الدنيا، وقت العمل والكفاح، وجاءت الآخرة لإعلان النتيجة. حينئذ لا ينفع الندم أو الفداء
والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا . (6) الاستقرار في الأرض
ليست الأرض فقط ملكا لله وهو وارثها ولكنها أيضا مستودع ومقر للإنسان. يستقر عليها ويتشبث بها، ويقاوم إخراجه منها. ينتشر عليها، ويعمل فيها ويأكل منها، وينفق على غيره من رزقه. وعليها يؤسس المدينة ويقيم العمران.
الأرض للسكن وليست للهجرة. وللتمسك بها إعلاء لكلمة الله
فلن أبرح الأرض . السكن في الأرض أمر إلهي للمتقين وليس للعصاة
ولنسكننكم الأرض من بعدهم . فشرط السكن في الأرض التقوى والطاعة وليس الجحود والعصيان
اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا . السكن في الأرض نتيجة وليس مقدمة، استحقاق وليس حقا
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي . هو نتيجة لجهد الإنسان وكسبه وليس حقا مكتسبا من وعد إلهي لشعب خاص كما هو الحال في الصهيونية.
والإخراج من الأرض غاية العصاة
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها . وقد هلك فرعون لأنه أراد إخراج جزء من شعبه من الأرض
فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا . الإخراج من الأرض جريمة يثور ضدها الضحايا
يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون . وهي تهمة العصاه للأنبياء
قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم
كما اتهم فرعون موسى. والحقيقة أن الوحي تحرر للبشر من ربقة الطغاة. ليس الوحي سحرا يخرج الناس من أرضهم بل هو حق يجهر بنفسه لتحرير الأرض كلها من نظم البغي والطغيان
يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره . وعلى الإنسان الاختيار إما التحرر من الطغاة والهجرة المؤقتة حتى العودة والفتح أو الاستسلام لهم
لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا . واتباع الهدى واختيار التحرر قد يؤدي إلى الطرد من الأرض والإبعاد منها والنفي والتشريد فيصبح أهل البلاد شعبا من اللاجئين
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا . كل شعب يعيش حيث استقر. لا يترك أرضه إلى أرض غيره بدعوى الأحقية. عاش اليهود في مصر منذ هجرة يوسف والذى أصبح وزيرا على خزائن الأرض، حفيظا عليما. ولاؤه لمصر اعترافا بالنعمة وإكرام المثوى من والديه اللذين تبنياه . والخروج منها إلى فلسطين وإخراج الكنعانيين عدوان لا يقره الأنبياء، ولا كان هدف موسى. هو ما فعل يوشع من بعده، استيلاء على أرض الغير والاستقرار من بدو رحل في أرض خضراء لإيجاد أرض لليهود بعد التيه يستقرون عليها حربا وليس سلما، عدوانا وليس جوارا، طردا وليس كرما، عنصرية وليس أخوة، استيطانا وليس مشاركة، إرهابا وليس إكراما للضيف.
ولا يوجد إسكان دائم لشعب معين في أرض بلا شروط، وعلى نحو مجاني، وبلا مقابل من تقوى وطاعة وعمل صالح
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
باعتبارهم جماعة من المؤمنين يعيشون مع غيرهم في أمن وسلام. فلسطين أرض مقدسة لأنها مهبط الأنبياء. وهي مقدسة في ذاتها لأنها وسط العالم وليست عند شعب بعينه. القتل والعدوان فيها ضد التقديس. الحياة عليها مقدسة مثلها. وقد تزوج موسى من إحدى ابنتي شيخ مدين وعمل مع قوم مدين مزارعا، وهو القوي الأمين. ثم انقلب اليهود على مدين وقتلوا أبناءهم وسبوا نساءهم غدرا بالليل.
وبعد الاستقرار يأتي الانتشار في الأرض والرحلة فيها والسعي عليها
فسيحوا في الأرض أربعة أشهر . فالأرض مكان للاستقرار والحركة، للزراعة والفتح، للسكن والهجرة، للغرس والانتشار. الإنسان حامل أمانة، ومبلغ رسالة. ينشر التوحيد في كل مكان. وتتحرر به الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. فالأرض لله والحكم لله. والتوحيد لا يعرف حدودا ولا قسمة. الأرض واحدة مثل أن الله واحد، والإنسانية واحدة، والحقيقة واحدة.
والاستقرار في الأرض للعمل. فإذا ما انتهى وقت العمل انتهى السكن في الأرض وجاء قوم آخرون. السكن في الأرض امتحان واختبار لآدم وبنيه بعد أن كان في السماء. وبإرادته الحرة وعمله هبط إلى الأرض
قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . الإنسان مار عليها والأرض باقية. خلوده في آثاره التي يتركها في الأرض. فالأرض جغرافيا وتاريخ. والعمل الصالح يتراكم في الأرض جيلا وراء جيل، مسئولية فردية وجماعية. وإلى الله يرجع كل شيء.
والأرض قابلة للفعل الإنساني طيعة له، مطيعة لإرادته، مادة خام يشكلها الإنسان
أمن جعل الأرض قرارا . وفيها الأنهار لزراعة الأرض والانتقال والشرب
وجعل خلالها أنهارا . يشق الإنسان الجبال، وينحت فيها بيوتا، ويسير بالفلك عبر البحار، ويرغب في الطير في السماء. وهنا تنشأ المدنية أي قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة لتسخيرها لصالحه. الإنسان من الأنس وليس من النسيان. والأنس اقتران بالآخر، والعيش مع الجماعة. لا يعيش الإنسان منعزلا في ركن من الأرض بل في جماعة في أفق الأرض الفسيح بلا حدود.
والأرض مصدر الرزق والكسب مما يهبط عليها من الأمطار فتخضر، ومما يستخرج من معادن. فالرزق من السماء ومن الأرض بفعل الطبيعة المسخرة لصالح الإنسان
قل من يرزقكم من السماء والأرض . فلا يوجد كسب سريع عن طريق العمولات والوساطات بل بالإنتاج. العمل وحده مصدر القيمة. والأرض مصدر للطعام الحلال والكسب المشروع
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ، وليست للنهب والهدر والتبذير كما يفعل السفهاء. الأرض مثل الجنة في السماء، جنات من أعناب وزرع، يأكل منها الناس وليست أرضا قاحلة يموت فيها الزرع والضرع كما يشاهد الآن في السودان وتشاد والصومال وإثيوبيا وبنجلاديش
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع . نبت الإنسان في الأرض مثل النبات. فالإنسان زرع الأرض، والنبات زرع الإنسان
والله أنبتكم من الأرض نباتا . لذلك صاغ إقبال فلسفة النماء والنشوء والارتقاء باعتبارها روح الإسلام.
وهذا الرزق للإنفاق، وليس للاحتكار أو الاستغلال
أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض . لا يمنع من رزقها إنسان ولا حيوان
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله . وقد عذبت امرأة في هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ففي الأرض رزق للجميع. لكل ذي كبد رطب إنسانا أو حيوانا
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها . فلا تتراكم الثروات عند قوم ولا تموت الملايين جوعا وقحطا، مسلمين أو غير مسلمين.
وعلى الأرض تقوم المدنية ويتأسس العمران. إن تأسست على القوة والثروة وحدهما يكون عمرها قصيرا،
كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها . وإن تأسست المدنية والعمران على التقوى والطاعة يطول عمرها
وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا . فالفضيلة قانون التاريخ وليس القوة أو الثروة.
لا تقوم الحضارة على التخريب والتدمير وتجريف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون وهدم المباني وشفط المياه من الآبار أو تسميمها وطرد أهلها. ومن يفعل ذلك يكون مصيره كعاد وثمود. الحياة على الأرض اختبار للإنسان. خلقها الله له ليستقر فيها ويعيد خلقها وتشكيلها بعقله وإرادته. فالإنسان يشارك في صنع الحياة فيها ويحولها من حياة عضوية إلى حياة عمرانية. الله خالق الأرض والحياة والإنسان صانع الحضارة والتاريخ. (7) الأرض الخضراء
إن تصوير القرآن للأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج هو إيحاء للعرب بالتوجه نحو الأرض لزراعتها وريها. فصورة الأرض الخضراء في الذهن الإلهي هي صورتها أيضا في الذهن الإنساني. فالقرآن موجه للسلوك الإنساني وواقع على العمل في الأرض وبناء العمران. القرآن به كل شيء
وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ،
ما فرطنا في الكتاب من شيء . ليس بمعنى الحلول ولكن بمعنى به كل التوجه والإرشاد والرؤية والمنظور. وما زلنا نستمد رؤانا للعالم من القدماء الذين عاشوا في عصر مضى وفي مرحلة تاريخية ولت، ونحن نعيش في عصر آخر وفي مرحلة تاريخية جديدة، من الانتصار إلى الانكسار، ومن الوفرة إلى الندرة، أو ننقلها من المحدثين فلا تنجح خططنا التنموية إذ تنقصها المشاركة الشعبية والدافع الداخلي من الثقافة الوطنية.
لذلك يقوم اليسار الإسلامي على تجربة أخرى، التوجه نحو الأرض ليس فقط للتحرير والعمران بل أيضا للزراعة حتى نأكل ما ننتجه، ونحصد ما نزرعه لتحرير الإرادة الوطنية من المعونات الخارجية والتهديد بقطعها ومنع توريد القمح والغذاء. فالهند شبه القارة التي يقطنها فوق المليار نسمة تأكل ما تنتج، ولا تستورد قمحا. ونحن ما يقرب من المليار والنصف من المسلمين يعم أراضينا القحط والجفاف من جانب، والغرق والفيضان في جانب آخر. فما هي صورة الأرض في القرآن؟
الأرض للإنبات وليست الأرض القاحلة الجافة. يهرع إليها الناس
فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها . الأرض تنبت بفعل إنزال الماء عليها كما يفعل المطر درسا للإنسان لحفر الآبار وإقامة السدود والبحث عن مصادر المياه
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض . يختلط الماء بنبات الأرض فيتحول إلى عشب وأشجار
كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض . فندرة المياه أسطورة تبرر اندلاع الحرب القادمة في فلسطين حول المياه التي سلبها المستوطنون لري حدائقهم، وفي نفس الوقت تسميم آبار الفلسطينيين حتى يموتوا جوعا وعطشا فيهجروا الأرض طوعا أو كراهية.
يهبط الماء من السماء مطرا ويتفجر من الأرض عيونا
وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر . وتفجير الينابيع من الأرض دليل على النبوة كما فعل موسى عندما ضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه العيون
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . ليست الصحراء العربية قاحلة. بها عيون وآبار للمياه وعيون أخرى وآبار للنفط، الماء للزراعة، والنفط للصناعة. إن الصحراء التي خرج منها الأنبياء يعبرون عن آفاقها اللانهائية باسم التوحيد لا يمكن أن تكون فقيرة والله غني.
وقد نشأت العيون من مياه الأمطار المتراكمة فوق الأرض فتنفذ في مسامها وتختزن تحت ثراها حين الحاجة
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض . يسلك الماء في ينابيع الأرض لحين الحاجة
أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض . العطش في السودان ومالي والصومال والحبشة والمياه بالجوار يتحول إلى فيضانات في الهند وبنجلادش سوء تخطيط من البشر وعجز من المسلمين على التعامل مع الطبيعة وتسخير قوانينها لصالح العمران.
الأرض هي الأرض الحية وليست الميتة. يعيش عليها الأحياء ولا يدفن فقط فيها الأموات
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا . لذلك يشار إلى أراضي المسلمين في أفريقيا وآسيا بأنها أراضي الجوع والعطش، وبلاد القحط والجفاف. وهي مملوءة بالمياه والزرع. وكانت هدف المستعمر الغربي باستمرار. مياه وزرع فوق الأرض، ومعادن وثروات تحت الأرض. بل لقد امتد العطش إلى دلتا النيل لعدم العناية بالشعب بينما تتوفر المياه في القرى السياحية في الساحل الشمالي وعلى سواحل البحر الأحمر للأغنياء والميسورين . والطريق قادم إلى خصخصة المياه وبيعها للقادرين لأن الماء أصبح سلعة وليس خدمة، تجارة وليس حقا، من الكماليات وليس من الضروريات. وقد حث الشرع على أن تكون المياه عامة للناس ولابن السبيل. والحديث مشهور «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». وكان «السبيل» من جوانب العمارة الإسلامية حتى حنفيات البلدية العامة في الأحياء التي لم تدخلها المياه بعد إلى عهد قريب.
الماء له فعل في الصخر، وقوته في الأرض القاحلة. فالحياة أقوى من الجماد. والنماء أقوى من الموت
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا . مصادره مياه الأمطار والعيون والآبار. ومهمة الإنسان تخزين مياه الأمطار للانتفاع بها على مدى العام، وتفجير العيون وحفر الآبار للاستفادة من المياه المختزنة في باطن الأرض. الجنة بها أنهار وليست صحراء قاحلة. وفجر الله مياه زمزم حتى لا يهلك أولاد إبراهيم من العطش، وأصبحت مزارا وحجا للمسلمين. وهي المياه المباركة النظيفة وليست المياه الآسنة من البرك الراكدة التي تحمل الأمراض للشاربين منها، اختيارا بين الحياة مرضا والهلاك عطشا. ولا حاجة لجر جبال الجليد من الشمال إلى الجنوب حيث يضيع نصفها من الذوبان في مياه البحار أو تحلية مياه البحار والمياه الطبيعية موفورة فوق الأرض وتحتها. وهي ليست صالحة للشرب ولا للزراعة.
ينزل الماء على الأرض فتخضر
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة
وليست هشيما أصفر تذروه الرياح. ويستعمل القرآن جماليات الألوان، الأصفر رمزا للقحط والعطش والجفاف من أجل الحث على الزراعة، والأحمر رمزا للنار والحديد من أجل الدفع نحو الصناعة، والأسود رمزا للعتمة واليأس والذنب، والأبيض رمزا للصفا والنقاء والأمل.
الخضرة حياة الأرض. والماء يحول الجماد إلى حياة، والأرض إلى نبات
وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها . وقد كانت أعلام معظم الدول العربية الإسلامية خضراء رمزا لاخضرار الأرض. ثم أصبح اللون الأخضر رمزا للسلام في المسيرة الخضراء أو الاستقلال الأيديولوجي كما هو الحال في «الكتاب الأخضر». بل أصبح رمزا إلى الطرق الصوفية، العمامة الخضراء، والبيارق الخضراء، والأردية الخضراء رمزا للنماء وثراء الروح وإن كانوا من الزهاد والفقراء.
الأرض ثابتة هامدة ساكنة. فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت، تحركت وحيت
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت . فالحياة نماء وحركة، طاقة وتطور حتى لا يتهم المسلمون بالثبات والجمود والخمول والتخلف عن مسار التطور. وإذا كان الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام والارتقاء في المقامات والأحوال لدى الصوفية دليلين على التطور والنماء في الفكر فإن حركة الأرض عن طريق الماء والخضرة هو القرين للفكر. (8) إصلاح الأرض
والأرض موطن للإصلاح وليس للإفساد، للتعمير وليس للخراب. ولما كان الإفساد هو الشائع فقط استعمل لفظ الإفساد في الأرض أكثر من لفظ الإصلاح لأن الإفساد هو الأخطر، وهو القاضي على العمران. واستعمل الإصلاح أكثر في إصلاح ذات البين، والإصلاح بين الزوجين، والإصلاح بين الناس.
والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو جزء من الفساد في الأرض. فلا يعني الفساد في الأرض فقط ما تفعله إسرائيل بتدمير مظاهر الحياة على الأرض الفلسطينية وكما فعلت أمريكا في فيتنام، قتل كل شيء يتحرك. وعادة ما يكون الفساد من المستعمر والمحتل والمعتدي، ولكنه أيضا الإفساد الداخلي من الحكام من أهل البلاد مثل تزوير الانتخابات، واعتقال المعارضين، وحبس رؤساء تحرير الصحف، وتهريب الأموال، واحتكار تجارة الحديد والأسمنت، وتراكم رءوس الأموال في أيدي القلة، والرشاوى والعمولات، والتهرب الضريبي. بل أصبحت ظاهرة الفساد من أهم ظواهر مرحلة ما بعد الاستعمار وقيام الدول الوطنية.
الإفساد في الأرض اتباع للأهواء، وبالتالي الإصلاح فيها هو الحق،
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض . بل ويمتد الفساد من الأرض إلى السماء. إذا فسدت السماء، أي أسس الفعل، فسدت الأرض، أي نتائج الفعل. الإفساد تغليب للمصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وإيثار الأنانية على الغيرة، والمحسوبية على الحق.
ومن مظاهر الفساد في الأرض قتل الأبرياء وإزهاق الأرواح،
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، وهو ما يحدث في السجون والمعتقلات في الداخل كما تفعل كثير من نظم الحكم، والعدوان من الخارج كما تفعل إسرائيل في فلسطين. يعادل الإفساد في الأرض قتل النفس وهو جزاء الإفساد،
ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض . ليس منع الفساد بالضرورة عن طريق القصاص بل الإبعاد عن الأرض موطن الفساد.
الإفساد في الأرض إبخاس الناس أشياءهم والنيل من حقوقهم،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض . وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، وتقديم المفضول على الأفضل عن طريق الوساطة والرشوة.
ومن مظاهر عصيان الأنبياء اتهامهم بالإفساد في الأرض،
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك . فالإفساد والإصلاح رؤى وأحكام قبل أن يكونا أفعالا وأعمالا. ومع ذلك الإفساد والإصلاح لهما مقاييس موضوعية مثل إحياء النفس أو قتلها، إعمار الأرض أو تخريبها. فلا تتحول الرؤى الذاتية إلى تضحية بالمعايير الموضوعية.
الأنبياء والأخيار لا يفسدون في الأرض،
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين . فالنبي مصلح، والنبوة إصلاح، والوحي تغيير نحو الأفضل ورقي اجتماعي. فقد ساهم الوحي في استقلال الوعي الإنساني وحريته وفي تحقيق مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
والإفساد في الأرض من شيم بني إسرائيل،
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض ، وهو ما تفعله إسرائيل حاليا في فلسطين بتجريف الأراضي الزراعية، وتدمير أشجار الزيتون، وهدم المنازل، وقتل الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ، واغتيال المقاومة، وزرع المستوطنات، وإقامة الجدار العنصري العازل، وهو نتيجة للعنصرية الإسرائيلية، الحياة لهم والموت لغيرهم، البناء لهم والعدم لهم، الإعمار لهم والخراب لغيرهم. كذلك القوى الكبرى مفسدة في الأرض بالحروب وأسلحة الدمار الشامل
يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض . فهي تبغي السيطرة على العالم كله بدلا من الله، والعالم لا يحكمه إلا إله واحد. والنخبة الحاكمة والطبقة العليا تفسد في الأرض
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض . وهم الأقلية ضد الأغلبية، والأغنياء ضد الفقراء. لذلك لا يجوز احتكار الثروة والسلطة بين يدي القلة دون توزيعها على الأغلبية.
والانقلابيون على الثورات يفسدون ما أصلحوا،
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض ، كما حدث في تاريخ مصر من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، وهو أسوأ من الإفساد المبدئي. فالإفساد بعد الإصلاح جريمة مزدوجة لأنه تم بعد معرفة الإصلاح وإتمامه ثم تدميره وإفساده.
ويستحيل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، لأن الإصلاح هو الثابت والفساد هو المتحول. الإصلاح هو الباقي والإفساد هو الطارئ،
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا . فالإصلاح طمع في الإعمار، والإفساد نتيجة عدم الخوف من الله أي من القانون والدولة والمحاسبة وأجهزة الرقابة والعقوبة في السماء وفي الأرض. ليس الإصلاح كالإفساد، ولا الإفساد كالإصلاح
الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض . فالتمييز العقلي والمشاهدة العيانية قادران على الحكم.
والإصلاح في الأرض فعل مقاومة في جدل الإصلاح والإفساد،
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . فالإصلاح جهاد. يواجه معارضة الفساد ومقاومة المفسدين.
ومنع الفساد في الأرض أمر إلهي،
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . وذكر نعم الله تمنع من الفساد في الأرض،
واذكروا نعم الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، وهو أمر بشري أيضا من المصلحين
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين .
ومن مظاهر الإفساد في الأرض قطع الموصول، مثل قطع الأرحام وتفكك المجتمع والفرقة في الجماعة،
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . الفساد فرقة، والإصلاح قوة.
وكيف يفسد الإنسان في الأرض والله لا يحب الفساد ولا المفسدين،
ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين . ذكر الله إذن هو الطريق إلى الإصلاح. المصلح في علاقة حسنة مع الله بعكس المفسد. الإصلاح يضع الإنسان في علاقة مع الله. في حين أن الإفساد يقطع كل علاقة مع الله. الإصلاح هو الضمير الحي. والإفساد غياب كلي للضمير. (9) فساد في الأرض
أوصاف بني إسرائيل في القرآن الكريم تدل على سلوكهم اليوم. فهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وجوهر الرسالات السماوية الإصلاح،
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض . فالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني بالطرد خارج أرضه والقتل والسجن والاستيطان والعدوان الأخير على غزة، كل ذلك فساد في الأرض. لا يسمعون لحق أو عدل أو يطيعون قانونا أو يراعون عهدا أو ميثاقا ولا يحافظون على معاهدة،
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله . ولكنهم تركوا الحق وعبدوا الشيطان واتجهوا إلى الدنيا وحاربوا القبائل واستولوا على أراضيهم وثرواتهم. ولم تنفعهم ذكرى الرسل،
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا . ونجاهم الله من فرعون وجنوده،
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده . ويغالون في التمسك بأشكالها. ومع ذلك يأكلون الربا، ويبدلون كلام الله طبقا لرغبات الملوك. ويستكبرون في الأرض لأنهم أبناء الله وأحباؤه كما يدعون. العالم معهم، أوروبا وأمريكا خاصة إحساسا بالذنب تجاههم لما اقترفوه في حقهم من جرائم واضطهاد لعنصريتهم ورفضهم الاندماج في القوميات التي يعيشون فيها في ألمانيا أو فرنسا أو روسيا أو ألمانيا الشرقية،
وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم . وكفروا بكل آية أو بينة ولم يسمعوا لأي دليل حتى علماؤهم،
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل . وتكررت الآيات ولكنهم لا يؤمنون،
سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة . وتوالت الرسل،
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم . عصوا الأنبياء بالرغم مما آتوهم من بينات،
وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات . آمنت الأقلية، وكفرت الأغلبية،
فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة . جحدوا النعم. فقد عاشوا بين العرب والمسلمين في مصر والعراق والغرب العربي كله. وعاشوا عصرهم الذهبي في العلم والثقافة والحرية في الأندلس. ولم يروا الاضطهاد إلا بعد خروج المسلمين منها على أيدى النصارى ومحاكم التفتيش، فنزحوا منها إلى المغرب حيث يحكم المسلمون. وآوتهم الدولة العثمانية وحمتهم من الاضطهاد الأوروبي الحديث بعد حادثة درايفوس في فرنسا واستوطنوا في أراضيها في كل مكان،
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم . لم يتعظوا من إنجاء الله لهم،
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم . ونجاهم من العذاب المهين،
ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين .
وحرم الله عليهم القتل وشرع لهم القصاص، السن بالسن، والعين بالعين، والنفس بالنفس،
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا . وقد قتلت إسرائيل في غزة وجرحت الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ، وهدمت المنازل على رءوس المدنيين الآمنين. ينافقون في تطبيق الشريعة ويتشددون في أحكامها. فقد كان كل الطعام حلا لهم إلا ما حرموه هم على أنفسهم،
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؛ لذلك لعنهم الأنبياء. فكتب الأنبياء كلها تبدأ بآية «اللعنة عليكم يا بنى إسرائيل»،
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . تاريخهم مع الأنبياء تاريخ العصيان وليس تاريخ الطاعة. لم يهتدوا بالنبوة ولم يؤمنوا بالكتاب،
وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل . ورث بنو إسرائيل النبوة، نبيا وراء نبي، ولكنهم عصوهم أو قتلوهم،
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب . ويكشف القرآن تاريخ عصيان بني إسرائيل،
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . قطع الله معهم الميثاق لأنهم عصوه وبدله بميثاق آخر فردي روحي أخلاقي شامل عرضه السيد المسيح عليهم، ولكنهم كذبوه أيضا وتآمروا عليه وسلموه للرومان بتهمة أنه لا يعترف بإمبراطوريتهم. والمسيح يتحدث عن ملكوت السموات وليس ملكوت الأرض، ملكوت الروح وليس ملكوت البدن. ففي الثقافة العربية الإسلامية ما يكفي لحماية الأمة من الاستسلام والتنازل والمساومة على الحقوق. فهم لا يراعون عهدا ولا يحافظون على معاهدة ولا يعترفون إلا بالقوة والمصلحة. خلق العالم كله لهم. فهم أسياد البشر.
الفصل الرابع
العدالة الاجتماعية
(1) العدالة الاجتماعية
في برنامج اليسار الإسلامي تأتي العدالة الاجتماعية كمطلب ثالث بعد تحرير الأرض كمطلب أول، وحرية المواطن كمطلب ثان نظرا للتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء قبل الطفرة النفطية وبعدها. فأفقر فقراء العالم من المسلمين، وأغنى أغنياء العالم منهم أيضا. تموت الملايين جوعا وقحطا وعريا في الصحراء في جنوب السودان والصومال ومالي وتشاد وبنجلادش، وتتراكم التريليونات والمليارات من عوائد النفط، وهو ما يتنافى مع وحدة الأمة.
وتكثر الآيات والأحاديث والأقوال والمأثورات التي تعطي الفقراء حقهم في أموال الأغنياء،
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم . قلنا يا رسول الله، أفي المال حق غير الزكاة؟ قال: نعم، في المال حق غير الزكاة. الزكاة هي الحد الأدنى لدوران رأس المال في المجتمع وليس الحد الأعلى الذي تحدده حاجات الاستثمار لصالح الجميع. كما وردت أقوال ضد الفقر كما قال عمر: «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته». وما ورد عن أبي ذر والأفغاني «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرا سيفه!» وهو نقيض ما تتجه إليه الثقافة الشعبية كما يتضح في الأمثال العامية مثل «الفقر حشمة، والعز بهدلة».
يكفي تحليل لفظ «مال» في القرآن الكريم لمعرفة قدر المشاركة في الأموال بين الناس وتحريم أن ينحصر في حفنة من الأغنياء،
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . فقد ذكر اللفظ ستا وثمانين مرة مما يدل على أهمية الموضوع. ولا يضاف إلى الضمائر أكثر مما يضاف إليها مما يدل على أن المال ليس موضوعا للملكية. وأكثر الضمائر إضافة للمال هو الغائب الجمع في صيغة «أموالهم» وهم الغائبون، جمهور الفقراء. ولا يضاف إلى ضمير المتكلم إلا مرة واحدة وبمعنى سلبي، هلاك المال،
ما أغنى عني ماليه . بل إن اللفظ نفسه لفظ مركب من حرف الصلة «ما» وحرف الجر «ل» مما يدل على أنه إضافة ونسبة، وليس جوهرا وشيئا. المال وظيفة وليس ملكية. هي أموال الناس وأموال اليتيم واليتامى والفقراء والمحتاجين ومن لا عائل لهم. المال مال الله لا يملكه أحد من البشر. للإنسان حق الانتفاع والاستثمار والصرف، وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز؛ لذلك حرم الربا لأن المال لا يولد المال من تلقاء نفسه بل عن طريق الجهد والعمل والإنتاج. المال دون نفع مجرد زينة وتفاخر مثل البنين والأولاد. اللفظ يأتي مجرورا لأنه نسبة وإضافة، ومنصوبا لأنه مناط الجهد والإنفاق.
المال مال الله يورثه لمن يشاء من عباده الصالحين. ليس وراثة أو نهبا أو تهريبا أو احتكارا. المال وديعة للصرف وليس قيمة مختزنة في حد ذاتها. المال مشاركة بين الناس،
وشاركهم في الأموال . وليس استحواذا أو اكتنازا وتراكما،
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا . وشرط الإيمان الصدق في المعاملة وعدم أكل أموال الناس بالباطل،
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل . المال مال اليتامى،
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا . ولا تترك الأموال بأيدي السفهاء للتبذير والاستهلاك،
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم . وخلاص الإنسان بالعمل الصالح وليس بما يملك من أموال،
وتحبون المال حبا جما . المال فان والعمل الصالح ثابت. يتركه الإنسان وراءه ولا يأخذ معه إلا العمل الصالح.
تؤكد استعمالات لفظ المال إذن على معان ثلاثة: الأول، المال حق الله، وحق الآخر، وواجب استقلال الشعور الذاتي عنه. المال مال الله وليس ملكا لأحد. وللإنسان حق التصرف والانتفاع والاستثمار. فإذا ما استغل أو احتكر أو اكتنز من حق السلطة الشرعية استرداد الوديعة بالتأميم والمصادرة للصالح العام. المال حركة اجتماعية وسيولة بين أفراد الجماعة لا يجوز اكتنازه أو احتكاره أو الاحتفاظ به. ومن حق السلطة الشرعية مصادرته لتدويره للصالح العام. فالملكية ليست حقا طبيعيا بل أمانة ووديعة واستخلاف،
وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه .
وفي النظم الإسلامية ما تعم به البلوى لا يجوز امتلاكه ملكية فردية مثل الماء والهواء والزرع طبقا لحديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» أي الزراعة والصناعة. وهما أهم قطاعات الإنتاج. وما يوجد في باطن الأرض مثل المعادن لا يجوز أيضا امتلاكه على نحو فردي لأن شرط الملكية التحرك في السوق. عرف القدماء الذهب والفضة والنحاس والحديد وعرفنا نحن النفط. والإقطاع هي مراعي الدولة المشاع التي يحق لكل إنسان الرعي فيها دون امتلاكها مثل القطاع العام.
طريق التنمية للأمة ولتحقيق العدالة الاجتماعية ليس هو الطريق الرأسمالي، والاقتصاد الحر، «دعه يكسب، دعه يمر» بل هو طريق التخطيط والتوجيه والملكية العامة لوسائل الإنتاج. والشائع عند الناس بل ولدى الحركات الإسلامية المعاصرة أن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام رأسمالي يقوم على حرية التجارة والكسب الحلال. فالرزق من الله، والتسعير من الله. والطبقات الاجتماعية طبيعية،
ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، وليس في العلم والفضيلة وحدهما. وكل كسب حلال بصرف النظر عن مصدره. والرزق مقسوم ومقدر من قبل. لا يمكن تغييره زيادة أو نقصا «يا متعوس يا متعوس غير رزقك ما تحوش». وما دامت زكاة المال تؤدى، 2,5٪، فالباقي 97,5٪ حلال، وهو ما يتفق مع بعض الأمثال العامية «التجارة شطارة»، بالرغم من نقد ابن خلدون أخلاق التجار، واعتبار التجارة خدمة لا سلعة، غير منتجة عكس الزراعة والصناعة.
إن الطريق الرأسمالي للتنمية في البلاد النامية مرتبط أشد الارتباط بتراثها القديم وبثقافتها الوطنية، وهو قادر على إقامة نظام اقتصادي يرعى مصالح الأغلبية. لذلك ظهرت دعوات «اشتراكية الإسلام» أو «الإسلام والاشتراكية» من بعض المفكرين الإسلاميين الاشتراكيين، مثل مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب وعبد الرحمن الشرقاوي في مصر، للتأكيد على الطابع الاشتراكي للإسلام، وهو ما يستأنفه اليسار الإسلامي، ويعيد تأكيده لحل قضية التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء في الأمة. «ليس منا من بات شبعان وجاره طاو».
لا يعني انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي آسيا أي خلل في النظام الاشتراكي وفي قيم العدالة الاجتماعية بل في طرق التطبيق الآلي التسلطي المادي لها. فالاشتراكية قيمة إنسانية وروحية عالية. تعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن كلهم لآدم وآدم من تراب. وتلك الدلالة العامة للإحرام في الحج، إمحاء الفردية لصالح الجماعية. لباس واحد، طبقة اجتماعية واحدة، قبلة واحدة، أمة واحدة، وإله واحد. (2) الظلم
يبرز اليسار الإسلامي المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرآن الكريم كرد فعل على تركيز اليمين الإسلامي على الشعائر الصورية والعقائد الإيمانية الشيئية. والغاية إعادة توجيه المسلمين نحو العالم بعد أن فقدوا السيطرة عليه لصالح الأمم الأخرى التي استعبدتهم واحتلتهم ونهبت ثرواتهم.
ومن ذلك مفهوم «الظلم» في القرآن الكريم، وهو مفهوم رئيسي أهم من العدل. فقد ذكر مائتين وتسعا وثمانين مرة في حين ذكر «العدل» ثمانيا وعشرين مرة أي حوالي عشرة أضعاف. فمن يحارب الظلم يحقق العدل. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في القواعد الفقهية القديمة.
ومعظم استعمالات اللفظ أفعال وصفات وليست أسماء. فالظلم فعل بشري، وسلوك إنساني، وليس جوهرا ثابتا. فلم يذكر الظلم كاسم إلا عشرين مرة والأفعال والصفات حوالي خمسة عشر ضعفا من الاسم. والظالمون هم الناس والبشر. وهي الصفة الأكثر استعمالا حوالي نصف الاستعمالات. ولم يذكر المبني للمجهول «مظلوم» إلا مرة واحدة لأنه لا أحد يقبل أن يكون مظلوما، في الحياة أو في الممات. والمظلوم هو المقتول،
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا . والإنسان ظلوم،
إن الإنسان لظلوم كفار . وحمل الرسالة والأمانة لتحقيق كلمة الله على الأرض، كلمة العدل والصدق لأنه ظلوم جهول،
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
والظلم اشتقاق من نفس الكلمة التي تعني الظلام. فالظلم ظلام، والظلام ظلم للناس، وهو ما يحدث من انقطاع التيار الكهربائي في غزة. وظلمة القلب أشد لأنها تمنع من الرؤية.
ومن مظاهر الظلم عبادة غير الله،
يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ، أي عبادة الأهواء والمصالح والقوة والثروة بلا قانون. فالله نموذج العمل الصالح ومعيار الفضيلة. ومن مظاهره تبديل قول الله وآياته،
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ، أي تبديل الحق باطلا والباطل حقا كما تفعل أمريكا في العراق وأفغانستان، وكما تفعل إسرائيل في فلسطين، وكتم الشهادة ظلم كما تفعل أوروبا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين والعدوان الإسرائيلي،
ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله .
والظلم أنواع. أولها ظلم النفس وهو الأكثر استعمالا،
ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه . فالظلم ظلم للنفس قبل أن يكون ظلما للناس. هو تخلي الإنسان عن قيمه ومبادئه ومثله وفضائله ومنها العدل. ظلم النفس يحول الإنسان إلى ظالم لنفسه ولغيره، وهو ليس من الله. فالله لا يظلم أحدا. لذلك يستعمل في حقه صيغ المبالغة،
وما ربك بظلام للعبيد ،
وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ،
وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . الله هو المقسط، والقائم بالقسط، وهو من صفاته. والله لا يخاطب الظالمين،
ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، لأن الظلم كفر به. وإنكار لشريعته، والتحول من الإنسانية إلى الحيوانية. والظلم للناس بعد الظلم للنفس،
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ، الظلم في المجتمع وفي العالم، ضد الأفراد والجماعات والطبيعة، في الاستغلال والاحتكار وتلوث البيئة.
ومن مظاهر الظلم الجشع في الدنيا والطبع والرغبة في الاستيلاء على كل شيء وحرمان الآخرين،
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وضم نعجة الآخر إلى التسع وتسعين نعجة التي له. فرأس المال لا سقف له، وزيادة الثروة لا حدود لها، وتراكمها بلا نهاية. والظلم فتنة وشقاق وخلاف واتباع للأهواء كما يحدث الآن في لبنان بين الموالاة والمعارضة، وفي فلسطين بين فتح وحماس لأنه تغليب للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وللسلطة على الوطن، وللرئاسة على التجرد، وللدنيا على الآخرة. والربا من مظاهر الظلم وجميع أنواع الربح غير المشروع،
وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . فالربا استغلال لحاجات الناس، وتوليد المال للمال بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل ظلم،
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، وهو حوب كبير.
واليهود نموذج الشعب الظالم لنفسه ولغيره. لذلك حرم الله عليهم ما سألوا عنه،
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . طالما أغار على باقي القبائل السامية واستولى على أراضيها وثرواتها كما فعلوا مع الكنعانيين. والظالمون لا أنصار لهم على عكس ما يحدث الآن من مناصرة الولايات المتحدة لإسرائيل وتأييدها العدوان والاحتلال بدعوى الدفاع عن النفس،
وما للظالمين من أنصار . والظالمون بعضهم أولياء بعض كما هو الحال في تأييد أمريكا لإسرائيل. فأمريكا ظالمة لشعوب العالم احتلالا وغزوا أو نهبا للثروات،
وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض .
لذلك قامت الشريعة على العدل. وتعديها ظلم،
ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، للتخفيف من ظلم البشر بعضهم لبعض وإيجاد ميزان عدل يحكم بينهم.
والظلم يمكن محو آثاره بالتوبة والاستغفار لأنه فعل طارئ على الإنسان. فالإنسان خير بطبعه، والعدل ضمن الخير،
إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم . وشرط ذلك تغيير الظلم إلى عدل، بالرجوع عن الظلم، وإرجاع الحق إلى المظلوم، وذلك يتطلب يقظة الضمير وسماع صوت الحق. فإن لم تتم التوبة والاستغفار عن الظلم، وظل الظلم على غيه وانتهى العمر وأتى وقت الحساب فإنه ينال جزاءه من العذاب، ولا يمكن أن يفتدي نفسه حتى ولو جاء بمثل هذه الأرض ذهبا. ويوم الحساب يقوم على العدل المطلق،
والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ،
ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
والظلم إيذان بخراب العمران كما لاحظ ابن خلدون من قبل، الظلم ضعف والقوة للعدل. الظلم ريح عاتية تهب على الناس ولا تبقي،
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا . لا يبقى الظالمون ويهلكون،
فقطع دابر القوم الذين ظلموا ،
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا . تهلك الشعوب والأقوام بالظلم،
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا . هذا هو قانون التاريخ. تندثر الأمم بالظلم. وتبقى بالعدل. والظلم مهما طال ينقلب على الظالمين،
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . لم يبق شعب ظالم. وانتهى فرعون وقومه،
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين .
والظلم لا يخيف. ويمكن مواجهته،
إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني . فالإنسان ظلوم ولكنه خليفة الله في الأرض. يحقق كلمته، ويطبق شريعته.
وتكون المواجهة بالقول والفعل، بالجهر وبالجهاد،
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، والساكت عن الحق شيطان أخرس. وأذن بالقتال للذين ظلموا،
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . والهجرة المؤقتة من ديار الظالمين من أجل العودة إليها. فلا هجرة بعد الفتح،
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ،
ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها . حينئذ يكون الظلم شاملا فتنهار الدول. ولا يجد الظالم من يظلمه إذا غادره الناس، وقاطعوه، وأداروا له ظهورهم.
العدل أساس العمران، والظلم خراب. وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم. (3) العدل
مقاومة الظلم، ظلم النفس وظلم الآخر، هو اقتراب من العدل سلبا. فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح طبقا للقاعدة الشهيرة.
وقد ذكر لفظ العدل ثمانيا وعشرين مرة، نصفها أسماء، والنصف الآخر أفعال، مما يدل على أن العدل فعل ذاتي وعمل إنساني من ناحية، وقانون موضوعي تقوم عليه المجتمعات بل والسموات والأرض من ناحية أخرى. واشتقاقا يعني الاستواء والاستقامة والاعتدال. فقد خلق الله الإنسان في أحسن صورة،
الذي خلقك فسواك فعدلك .
وهو لفظ متشابه. يعني معنيين متضادين. العدل «في» وهو توخي الحق. والعدل «عن» وهو الانحراف عن الحق ومجانبة الصواب،
ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ،
والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون . والشرك عدول عن الحق،
أإله مع الله بل هم قوم يعدلون .
واصطلاحا هو كلام الله،
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته . فالعدل يتحقق في الأرض، وهو نوع من التصديق التجريبي بصدق الوحي. هو أمر إلهي،
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ومقرون بالإحسان ورعاية الأقرباء. فكلمة السماء تتحقق في الأرض.
والعدل ضد أهواء النفس وظلمها،
فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . العدل ثابت، والأهواء متغيرة. العدل موضوعي عقلي، والأهواء ذاتية انفعالية.
ولا يمنع أحد من تحقيق العدل مهما بلغ مقامه وشأنه،
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . فالعدل أقوى من الأهواء والمصالح، وهو أقوى من جماعات الضغط والطبقات الاجتماعية العليا.
العدل والظلم نقيضان لا يستويان،
هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . الظلم طريق معوج، والعدل صراط مستقيم. بينهما صراع لا حل له إلا بنفي العدل للظلم وقضاء عليه وتعويض له.
والعدل لا يعرف القرابة ولا المصلحة ولا الشفاعة،
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى . العدل لا يعرف المصالح الشخصية ولا الشفاعة والتشفع لأحد. هو حكم موضوعي حتى ولو على النفس. ليس تحيزا لأحد ولا تشفعا في أحد.
العدل قيمة إنسانية أخلاقية عامة للمؤمن وللكافر على حد سواء. بل إنها تسبق الإيمان والكفر. وحاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم. الأفضل بطبيعة الحال ربط الإيمان بالعدل. وإذا خير الإنسان بينهما فإنه يختار العدل. العدل قيمة إنسانية عامة، والإيمان قيمة جماعية خاصة.
ولا يتطلب الإيمان بالآخرة. فالعدل قيمة في الدنيا. به تقوم مصالح الناس. والأفضل الإيمان بالآخرة والعدل. فإن خير الإنسان بينهما فإن إقامة العدل لها الأولوية على الإيمان بالآخرة. بل إن وظيفة الآخرة هو الإيمان بالعدل المطلق إن لم يتحقق على الأرض في هذه الدنيا. فالآخرة تمثل عالم العدل المطلق.
والشرك ظلم والتوحيد عدل لأن الشرك إيمان بمبدأين وهو ظلم. في حين أن الإيمان إيمان بمبدأ واحد وهو عدل. العدل وحدانية النظر والعمل، لا فرق بين الظاهر والباطن. في حين أن الشرك تردد بين مبدأين قد يؤدي إلى النفاق وازدواجية القول والعمل.
والكفارة عدل أي تعويض عن ذنب وتصحيح لخطأ،
أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره . فالظلم للنفس والظلم للآخر يمكن التعويض عنهما بالكفارة حتى يعيش الإنسان في عالم يحكمه العدل.
العدل مظهر من مظاهر التقوى،
اعدلوا هو أقرب للتقوى . هو تعبير عن الإيمان الباطني والرضا عن النفس، والإحساس بالمساواة بين الناس، تعبيرا عن العدل. هو رؤية قبل أن يكون شيئا، حكم من النفس قبل أن يكون تصديقا على الأشياء.
والله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى،
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى . فالعدل أمر إلهي وقرينه الإحسان أي العدل عن طريق الكرم والمحبة وليس بدافع الغضب والانتقام. ومحبة الناس من محبة الله. والعدل مع الناس عدل مع الله. ومراعاة الأقرباء والجيران جزء من العدل. فالقرابة ليست فقط في الدم بل في المكان وفي الإخوة.
والهدف من النبوة إقامة العدل بين الناس،
وأمرت لأعدل بينكم . فالنبوة قضاء، والقضاء عدل. والشريعة الإسلامية وضعية. لها أسسها في حياة الناس وواقع البشر. وكان اليهود والنصارى يلجئون إلى القضاء الإسلامي لأنه عادل وليس إلى قضاء مللهم.
ويقام العدل بين الأزواج ولو أنه مستحيل مهما كان الزوج حريصا عليه،
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم . والأقرب إلى العدل الزوجة الواحدة،
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . تعدد الأزواج استثناء، والزوجة الواحدة هي القاعدة. والاستثناء اضطرار في حالة السفر والبعد عن الزوج أو الحرب واستشهاد الرجال وزيادة عدد النساء على الرجال أو مرض الزوج أو عقرها. والضرورات تبيح المحظورات.
والعدل أيضا هو مصالحة بين فئتين متنازعتين،
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ، في حالة رجوع إحداهما إلى الحق. فلا تقتتل الفئات العادلة فيما بينها بل تقتتل الفئات الظالمة أو فئة عادلة مع فئة ظالمة عندما يثوب الرشد، وتصحو النفس، ويستيقظ الضمير.
والعدل قانون تجارى ضد خسارة طرف أو كسب طرف آخر بغير وجه حق،
وليكتب بينكم كاتب بالعدل . وقد تكون الكتابة بين الطرفين المتعاقدين مباشرة أو بين طرف ووكيل،
أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل . فالعدل في الموازين قسط. والعدل في البيع والشراء إرضاء لنفوس الطرفين. فالتجارة تبادل منافع وليست تغلب طرف على طرف أو استغلال القوي للضعيف أو كسب غير مشروع واستغلال.
والعدل هو أساس الحكم بين الناس في أوجه الحياة العامة وليس في التجارة وحدها،
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . هو العدل في النظم السياسية والمساواة بين الناس في تطبيق القوانين، وعدم محاباة حزب على حزب آخر أو إيثار طبقة اجتماعية على طبقة أخرى أو ميل لمعسكر على حساب معسكر آخر. فالعدل أساس الملك.
والعدل هو أساس القضاء والحكم في المنازعات،
فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم . ويتطلب العدل قاضيين،
اثنان ذوا عدل منكم . العدل شهادة،
وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ، وهو مفهوم قضائي بالأساس. والقضاء سلطة مستقلة تحتكم إليها السلطتان الأخريان، التشريعية والتنفيذية. والقضاء في الإسلام وقيامه على العدل مشهود له في التاريخ.
والعدل شيم الأمم والشعوب. فأمة موسى أولى بالعدل بما خصها الله بالأنبياء والشرائع،
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . وليس كل أمة موسى بل نخبة منهم، البقية الصالحة. ليس الصهاينة منهم وهم يمارسون أبشع أنواع الظلم على الفلسطينيين. فالوصايا العشر نموذج للعدل القانوني. والموعظة على الجبل في أمة عيسى نموذج للعدل الأخلاقي. والشريعة الإسلامية نموذج للعدل الاجتماعي والإنساني في أمة محمد، وهو نقيض الواقع الحالي؛ إذ إن أمة موسى نموذج العدوان على الآخرين. وأمة عيسى نموذج الاستغلال والهيمنة. وأمة محمد نموذج ظلم الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء.
ولا تعدم البشرية أمة تكون حارسة على إقامة العدل،
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . قد تكون أمة الإسلام أو أي أمة غيرها تقيم العدل. فخير أمة أخرجت للناس هي التي تطبق العدل. هي أمة سلوك وأفعال، وليست أمة أسماء وأقوال.
ورمز الميزان منذ الدين المصري القديم حتى الإسلام هو رمز العدل. فقد وضعت الموازين بالقسط. وعليها قامت السموات والأرض ويوم الحساب.
العدل قيمة تتحقق في الدنيا قبل الآخرة. وإن عاش الإنسان ظالما في دنياه وطلب أن يكون عادلا في الآخرة يكون الوقت انتهى، والعمر قد انقضى. ولا ينفع عدل ولا شفاعة،
وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها . فالعدل ابن وقته حتى تسير أمور الناس. فإذا ما انقضى الزمن وانتهى العمر فلا شفاعة في ظالم،
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل . وقد تسبق الشفاعة العدل، وقد يسبق العدل الشفاعة،
ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة . وفي كلتا الحالتين يطبق قانون العدل على الجميع. من حققه في الدنيا نجا. ومن حاد عنه هلك. (4) الفقر، رذيلة أم فضيلة؟
الفقر قضية رئيسية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي. وكثير من العرب والمسلمين يعيشون تحت خط الفقر. بل إن الملايين يموتون جوعا في مالي وتشاد والصومال وإريتريا وجنوب السودان . تطعمهم الكنائس والمنظمات العالمية وهيئات الإغاثة الدولية. وفي نفس الوقت تتراكم الثروات من عوائد النفط، وتتضاعف عدة مرات في السنوات الأخيرة. فأصبح في الأمة أفقر فقراء العالم وأغنى أغنياء العالم في آن واحد. ومن ثم يصعب الحديث عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أو «الاشتراكية في الإسلام» بالرغم من ذكر عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنص على الاستخلاف بدلا من الاستحواذ، والملكية العامة بديلا عن الملكية الخاصة، الشركة في الماء والكلأ والنار أي الزراعة والصناعة، أهم قطاعين للإنتاج لأن التجارة والسياحة خدمات، والقطاع العام ممثلا في الإقطاع أي المراعي العامة ملك الدولة والتي للجميع حق الانتفاع بها، والركاز وهي المعادن في باطن الأرض التي لا يجوز للأفراد امتلاكها بل تظل ملكا للأمة لأن الملكية الفردية للمنقول وليس للثابت. فالواقع أبلغ من النص.
وقد تعرض القرآن الكريم لقضية الفقر في اثنتي عشرة آية في خمسة معان: (1)
ليس الفقر فضيلة بل رذيلة، وليس قيمة بل حطة. مصدرها الشيطان وليس الله. ويؤدي إلى الفحشاء مثل التسول والذل والسرقة والاحتيال من أجل إقامة أود العيش والحفاظ على الحياة،
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء . ومن ثم كل ما يقوله الصوفية في فضيلة الفقر وقيمة الفقر ومقام الفقر كله كان رد فعل على تيار البذخ والترف والغنى. فهو نوع من المقاومة السلبية للغني، دون دعوة إيجابية لإعادة توزيع الدخل بما يحقق العدالة الاجتماعية في الإسلام. وفي الأمثال العامية «الفقر حشمة، والعز بهدلة». في حين يروى عن عمر بن الخطاب: «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته». (2)
ليس الفقر صفة الله كما تصور اليهود لأن الله غني،
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، وهو إسقاط من تصور اليهود لله على أنه لا يعطيهم بما فيه الكفاية. ويرد القرآن على هذا التصور اليهودي لله بأن الله هو الغني وأنهم هم الفقراء ويخاطب الناس جميعا،
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد . ويرد الله عن نفسه تهمة الفقر. ويصف نفسه بالغنى ، وأن البخل والفقر من شيم الإنسان،
ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء . وأن الإنسان فقير لما نزل به الله من خير،
فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير . والكل فقير إلى الله. (3)
الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها أي المسئولين عن استثمار أموال اليتامى وفي الرقاب أي الأسرى،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها . الصدقات للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ويجاهدون في سبيله، ويتفرغون لدعوته ولا يأخذون أجرا كالمجاهدين والعلماء. فمداد العلماء مثل دماء الشهداء،
للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله
وهم المجاهدون. والصدقات للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم،
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
مثل الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك وطنهم ودورهم وأراضيهم وأموالهم. والعاملين على أموال اليتامى،
فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . فالبؤساء والفقراء لهم أيضا حق في أموال اليتامى المستثمرة كما أن لهم حقا في أموال الأغنياء. ومن كان فقيرا من الأوصياء فليأكل بالمعروف من أموال اليتامى،
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . (4)
الصدقة ليست منة من الأغنياء بل هو حق الفقراء في أموال الأغنياء. فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز. الله هو الغني، وهو الذي يوزع الرزق على العباد،
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وتكون سرا من الغني إلى الفقير دون دعاية أو إعلان،
وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ، وليس عن طريق التبرعات العلنية عن طريق الإعلانات والجوائز وأوراق اليانصيب وكتابة أسماء المتبرعين على الألواح التذكارية. (5)
والفقراء والأغنياء عند الله سواء،
إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما . فالبشر سواء في الخلق. والطبقات الاجتماعية وضع طارئ متغير. الغني اليوم فقير غدا. والفقير اليوم غني غدا. لا نفرق بين البشر الذين يوحدهم الخلق. كرامة الإنسان من حيث هو إنسان في ذاته وليس من حيث غناه أو فقره. حقوق الإنسان حقوق طبيعية قبل وضعه الاجتماعي أو بعده. والمساواة في الحق تجب الوضع في المجتمع . لا فرق بين سكان القصور وسكان النجوع، بين المدن والقرى، بين أطفال المنازل وأطفال الشوارع. (5) الغنى، رذيلة أم فضيلة؟
في الثقافة الشعبية الغنى رذيلة؛ لأنه مرتبط في ذهن الناس بالبذخ والترف والسفاهة والملذات والفساد والفحشاء. وقد صورت الأعمال الفنية، الرواية والقصة والمسرح والسينما، حياة الأغنياء ومفاسد القصور، وهو ما لاحظه ابن خلدون أيضا في مقدمته الشهيرة بأن الغنى والترف والبذخ وحياة المدن والاستقرار وما أطلق عليه الحضر في مقابل البدو أحد أسباب انهيار الحضارات.
وقد ذكر لفظ الغنى في القرآن الكريم بالمعنى الحقيقي في مقابل الفقر أربعا وعشرين مرة في أربعة معان متمايزة: (1) «الغنى» صفة من صفات الله وليس الفقر. فالله هو الغني،
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني . فالله غني عن الولد والأب والأم، وهو الغني عن العالمين. لا يحتاج إلى مؤمنين أو كافرين بل هم الذين في حاجة إليه،
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين . وليس الله في حاجة إلى جهاد المجاهدين،
ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين . بل إن الله غني عن الخلق جميعا والكافرين منهم،
إن تكفروا فإن الله غني عنكم . والصفة الأكثر إضافة للغني هي الحميد،
واعلموا أن الله غني حميد (حوالي عشر مرات). فالمعنى يتضمن الحمد وليس الطمع في المزيد. كما أن الله هو الغني ذو الرحمة،
وربك الغني ذو الرحمة . فالغنى لا يورث القلب القسوة. والأنانية والأثرة بل يفيض على الآخرين. كما يتضمن الغنى الكرم،
فإن ربي غني كريم ، والحلم والصبر وحسن اللين والمعاشرة. وما فائدة صدقة يتبعها أذى،
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم . وإذا كان الله نموذجا للحياة الكاملة كما يقول الصوفية فإن الغنى هو الاستقلال الذاتي، والتحرر من العالم، وهو الحمد والشكر، والرحمة والكرم. الغنى هو الطريق إلى الأخلاق الكريمة، وإلى الفضيلة وليس إلى الرذيلة. الغنى قيمة إذا استحسن استثماره، ورذيلة إذا كان طمعا وانكبابا على الدنيا وأثرة قسوة على الفقراء وبخلا على المحتاجين. (2)
والغنى غنى النفس. والفقير فقير بما له، غني بعزته وكرامته لا يسأل الناس إلحافا. يحسبه الناس غنيا لعفته،
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . أما الغني فإنه أيضا يستعفف من زيادة الغنى وطلب المزيد من المال،
ومن كان غنيا فليستعفف . الغنى غنى الروح والاستغناء عن العالم. المال وسيلة وليس غاية. ومن لديه الكفاية فإن مزيدا من الغنى هو الطمع والجشع والاكتناز وتحويل الوسيلة إلى غاية. (3)
ولا يتركز الغنى في أيدى حفنة من الأغنياء،
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم
لمنع احتكار الثروة وتحكم رأس المال، واستغلال الأغنياء للفقراء. بل يتم تداول رأس المال لدى أوسع شريحة اجتماعية. فالمال للاستخدام وليس للاكتناز. وتوزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من الناس خير من تركيزها في أيدي قلة. الغنى رأس مال للتنمية الاجتماعية وللتصنيع ولإيجاد فرص للعمالة. يتحول إلى أصول منتجة وليس مجرد وسائل للإنفاق وأدوات للاستهلاك. (4)
ويتطلب الغنى الصرف على الدفاع عن البلاد وتجهيز المقاتلين. فلا يستأذن الغني في التخلف عن القتال حرصا على ماله وثروته،
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء . صحيح أن الدولة الحديثة الآن تقوم بالدفاع عن البلاد، وأن تجهيز الجيوش يتطلب أموالا طائلة. ومع ذلك يستطيع الأغنياء إعداد الدفاع المدني، وإقامة المخابئ، وشراء عربات الإسعاف، وتجهيز المستشفيات. ويستطيعون إعداد المقاومة الشعبية إذا لزم الأمر بشراء الأسلحة الخفيفة وإقامة المتاريس، والستائر الرملية، والحوائط العازلة، وتنظيم المرور. وليس الاستفادة من العدو بالتجارة معه في الحديد والأسمنت والموز والمواد الاستهلاكية لمزيد من الإثراء كما كانت تفعل طبقة الأغنياء في كل عصر بالتعامل مع قوات الاحتلال.
مبادئ بسيطة يمكن استنباطها من تحليل لفظ «الغنى» في القرآن الكريم ولكنها موجهة لشئون البلاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفي مقدمتها بناء الوعي الذاتي، دعامة كل شيء. (6) المساكين
الحديث عن المهمشين لا يخص الفلسفة المعاصرة وحدها خاصة عند فوكو، ونحن ننقل كلامنا عنها منه بل يكثر القرآن الحديث عنهم، عن المساكين والمحتاجين واليتامى وأبناء السبيل والفقراء، ويجعل لهم الحق في الطعام والمال والرحمة والقرابة، والعمل، ونزع عداوة الأغنياء لهم وليس فقط في الصدقة والكفارة، في الفعل الحسن أو التكفير عن الفعل السيئ.
وقد ورد لفظ «مسكين» في القرآن اثنتين وعشرين مرة، عشر مفردا، واثنتا عشرة جمعا. فالمسكين فرد أو جماعة، إنسان أو طبقة. وردت كلها بستة معان:
الأول: «الإعالة للمساكين حق في بيت المال». فمن واجب الدولة رعاية المساكين ورعاية المحتاجين. وإذا كان أحد مصادر بيت المال الغنائم فللمساكين حق فيه مثل حق الله والرسول واليتامى وذي القربى،
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين . ويكون ذلك الآن بعدة أشكال من الضمان الاجتماعي والتأمين الطبي والإعانة الاجتماعية للسكن والتعليم والدعم الغذائي. فالمسكين ابن الدولة وليس عالة على الصدقة.
والثاني: «القرابة». فالمسكين مثل القريب، شأنه شأن ابن السبيل. له حق في بيت المال دون تبذير وإسراف،
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا . ودرجته في القرابة مثل اليتامى وكلاهما بمنزلة الوالدين ووجوب الإحسان لهم. وحسن معاملة الكل مظهر من مظاهر العبادة لله،
لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين . والإنفاق على الوالدين مثل الإنفاق على الأقرباء والمساكين،
قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين . وبالرغم من حب الإنسان للمال إلا أن للمساكين واليتامى حقا فيه مثل ذوي القربى،
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين . وهؤلاء هم أولو الفضل والسعة من الناس الذين يشعرون بالمساكين وأنهم بمنزلة الأقرباء منهم،
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين . فإذا زاد المال اتسعت المساحة الاجتماعية. وإذا تراكمت الثروة رأسيا عمت المساكين أفقيا، بل تصل مرتبة المسكين حد القسمة في الميراث مثل القريب،
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه . وللوصي أن يتصرف في الثلث من أجل إدخال اليتامى والمساكين مع الأقرباء.
والثالث: «الإطعام». فالمسكين لا يجوع. وحق الحياة جزء من حقوق الإنسان. والجوع سبة في تاريخ البشر . فمن الجرائم عدم إطعام المسكين مباشرة،
ولم نك نطعم المسكين ، وعدم الحض على إطعام المسكين،
ولا يحض على طعام المسكين ، وعدم تذكير الناس بعضهم بعضا بذلك،
ولا تحاضون على طعام المسكين . وإطعام المسكين كفارة لذنوب مما يدل على أن جوع المسكين ذنب في رقبة المجتمع،
فكفارته إطعام عشرة مساكين ، وهو كفارة لمن لم يستطع الصوم،
فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . وقد لا يتحدد العدد بعشرة أو ستين ويترك لفعل الإطعام الجماعي،
أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ، وهو فدية لجرم،
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين . وبالرغم من حب الإنسان للطعام إلا أن للمسكين واليتيم والأسير حقا فيه،
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . فهو جزء من تربية الذات من الأثرة إلى الإيثار، ومن الأنانية إلى الغيرية.
والرابع: «الصدقة». فالصدقة واجبة للمساكين على الأغنياء،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب . وجوبها على الفقراء والأسرى. والصدقة ليست تصدقا بل هي حق الفقراء في أموال الأغنياء. وهي أقل المعاني ورودا في استعمالات اللفظ.
والخامس: «العمل». فللمسكين حق العمل حتى لا يعيش على الصدقة بل يكسب قوته بيده،
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ، وهو معنى المثل الشعبي الشهير أن تعلم الصيد أفضل من سمكة صدقة. وبالرغم من تفسير الصوفية لذلك تفسيرا باطنيا في قصة موسى والخضر إلا أن المعنى الشرعي الظاهري هو المقصود.
والسادس: «تكتل الأغنياء ضد المساكين ورفضهم الدخول في مدينتهم، والمشاركة في أموالهم»،
فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . فالتآمر لا يكون من الفقراء والمساكين ضد الأغنياء على ما هو معروف في الأدبيات الماركسية وثورة البروليتاريا، بل تآمر الأغنياء على الفقراء، وحق الفقراء في الدفاع عن النفس ومطالبتهم بحقوقهم في بيت المال وفي أموال الأغنياء. وعلى الإنسان أن يقتحم العقبة ومقاومة النفس وتحرير العبد وإطعام الجائع واليتيم والمسكين،
فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة .
ومن نفس الاشتقاق «المسكنة» بمعنى الذل والإذلال وهو أحد المعاني السلبية للمسكين، والمسكون والمساكن والسكن أي الإيواء وهو حق المسكين. والسكينة وهو ما ينزل على قلب المسكين من اطمئنان لوقوف المجتمع إلى جانبه، وسكين أي العنف الذي قد ينتج من ترك المهمشين مثل المساكين والفقراء واليتامى وأبناء السبيل والمحرومين همل في المجتمع وسط الأغنياء والمترفين. (7) اليتامى
وهم من ضمن المهمشين الذين وضعهم القرآن مع المساكين، اليتامى. فقد ورد لفظ «اليتيم» ثلاثا وعشرين مرة، جمعا أربع عشرة مرة، ومفردا ثماني مرات، ومثنى مرة واحدة مما يدل على أن اليتيم أكثر من فرد بل مجموعة، أي فئة أو طبقة من الناس قبل أن يكونوا أفرادا أو فردين.
وقد ورد اللفظ بستة معان متدرجة: الإكرام، والقرابة، ورد الأموال، وحقهم في بيت المال، والإطعام، والزواج.
الأول:
إكرام اليتيم،
كلا بل لا تكرمون اليتيم . ويتمثل إكرام اليتيم في عدم قهره ونهره وسوء معاملته،
فأما اليتيم فلا تقهر . وقهر اليتيم ونهره كفر بالدين وتكذيب به. فالدين ليس إيمانا بعقائد نظرية بل سلوك فاضل وعمل صالح وحسن معاملة،
أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم . وإذا سئل عن اليتامى فالخير والإصلاح لهم،
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير . ومن حق اليتيم المأوى والرعاية في كنف الأسرة،
ألم يجدك يتيما فآوى . وإذا كان ليتيمين جدار يحتميان به فلا يجوز تحطيمه،
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة . حتى ولو كان ذلك حكم ظاهر الشرع دون باطنه، وحاضره دون مستقبله.
والثاني:
اليتيم في درجة القرابة، عضو في الأسرة. والوصي عليه حاميه وراعيه. ورعايته مثل البر بالوالدين والأقارب. وكلاهما مظهر من مظاهر عبادة الله،
لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى . والإنفاق على الوالدين والأقربين يمتد إلى الإنفاق على اليتامى،
قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين . ولهم نصيب في الميراث عند القسمة،
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه . والوصي مثل الأب يجعل لليتيم جزءا من ميراثه مع أبنائه في وصيته، في الثلث الخاص به.
والثالث:
عدم الاقتراب من مال اليتيم والمحافظة عليه واستثماره وزيادته وأخذ الأجر المناسب على ذلك مكافأة على الجهد أو التنازل عنه،
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده . فإذا بلغ اليتيم سن الرشد رد إليه أمواله،
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب . فأخذ مال اليتيم ظلما وحوبا كسب غير مشروع، والاستيلاء على أموال الغير بغير حق،
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا . ولا فرق في ذلك بين اليتامى واليتيمات. بل إن اليتيمات أولى لأنهن أضعف جناحا وأقل قدرة وخبرة في استثمار الأموال،
قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ، وكذلك المستضعفون من الولدان وضرورة إدارة أموالهم بالعدل والقسطاس،
والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط .
والرابع:
إعالة اليتامى من بيت المال إن لم يكن لديهم أموال، فهم مثل المساكين لهم حق في بيت مال الأمة. وواجب الجماعة إعالة الأفراد. لهم حق في الخمس طبقا لقسمة الغنائم، وهي أحد المصادر الرئيسية لبيت المال،
فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى ، وهو جزء من حقوق الله. فحقوق البشر من حقوق الله.
والخامس:
الإطعام مثل المساكين. فالجوع سبة في وجه الأمة وخرق لحقوق الإنسان، حق الحياة،
أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة . وما أكثر حالات التصحر والجفاف في بلاد المسلمين. وما أكثر الجوعى في الأمة الذين يصلون بالملايين في الصومال والسودان وتشاد ومالي والحبشة وغينيا وفي بنجلادش وكثير من البلدان الأفريقية والآسيوية. ومقياس الإيمان هو إطعام اليتامى مع المساكين والأسرى ومقاومة هوى النفس والرغبة في الترف،
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا .
والسادس:
الزواج من اليتيمات بدلا من حجزهن لدى الوصي طمعا في أموالهن، وهو أحد أسباب تعدد الزوجات. فإذا ما كبرت اليتيمة وظهر جمالها رفض الوصي تزويجها للاحتفاظ بمالها. فأخف الضررين زواجها مع الاحتفاظ بمالها وهو ما قد يصعب أحيانا لأن الوصي بمثابة الأب، واليتيمة بمثابة الابنة،
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فالوصي وصي حتى إذا بلغت اليتيمة سن النكاح فإنه يتخلى عنها وعن مالها لزوجها أو يتزوجها هو نفسه،
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .
وقد كان الرسول يتيم الأب ثم يتيم الأم ثم يتيم الخال حتى كفله عمه. وأعطته أسرته الرعاية والحماية ودافعوا عنه مثل الأبناء المباشرين. فالأسرة والمجتمع والدولة والأمة دوائر متدرجة لرعاية اليتامى والمساكين والمحرومين والمحتاجين والفقراء، بداية من الأسرة والقرابة ونهاية بالدولة والأمة. أما اشتراك الدولة والأمة في حصار المرضى والجوعى والمساكين والمحرومين والسائلين كما يحدث في غزة الآن فإنه ضد الإسلام ومناف للشريعة، وإيثار للدنيا على الدين، وتضحية بمصالح الأمة بلا ثمن إلا التبعية والخوف، والصمت والتواطؤ، والذلة والمسكنة، والرضا بالدنية في الدين. وفي الأمة الإسلامية اليوم تتراكم الثروات عند الأقلية ويعم الفقر واليتم والجوع والعطش لدى الأغلبية. والأمة واحدة، تعبد إلها واحدا،
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ، ولكنها لا تتقيه،
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . (8) ابن السبيل
ومن ضمن المهمشين مع المساكين واليتامى والمحرومين والسائلين والمحتاجين والجوعى والعطشى والفقراء ابن السبيل. وقد ذكر اللفظ في القرآن ثماني مرات في صيغة المفرد وحده. فالعابر والمسافر والغريب عادة ما يكون فردا. وقد ورد بأربعة معان: القريب، والجار، ومن يستحق الصدقة وتخفيف العبادات.
الأول: «القرابة»، فابن السبيل مثل المسكين واليتيم له حق في بيت المال،
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . لذلك بنى القدماء ينابيع للشرب لابن السبيل له ولدوابه. كما بنى الخلفاء المسافر خانة لعابري السبيل تجارا وعلماء للتبادل التجاري أشبه بالغرف التجارية الصورية اليوم للعقود وليس للإقامة والتبادل التجاري الفعلي، وهو حق وليس مجرد صدقة،
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا . فالتبذير إسراف وسفه وإنفاق المال على الكماليات لفرد واحد في حين تنقص فردا آخر الضروريات والحاجات الأساسية. والإنفاق يكون على الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، درجة واحدة من القرابة وفي نفس درجة الترابط الاجتماعي،
قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل . ويكون الإنفاق عن طواعية بالرغم من حب المال،
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
والثاني: «الجوار أو الجيرة بلغة العصر»، فابن السبيل جار، ذو جنب بمصطلح القرآن، يجاور الناس وإن كان جوارا عابرا غير مستقر، دائما وثابتا،
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا . فالعناية بالجار جزء من الإيمان بالله مثل رعاية الوالدين. والجار قد يكون جارا في السكن وقد يكون جارا في الطريق. وابن السبيل في نفس الدرجة، جار في المكان وفي الطريق، وما ملكت الأيمان وهو ما لم يعد له وجود بعد نهاية الرق وتحرير العبيد.
والثالث: «الصدقة»،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله . فالصدقة استحقاق لمجموعة من المهمشين بما فيهم ابن السبيل مثل الفقراء والمساكين والموظفين والأقليات والأسرى والمدينين والصالح العام. وهي ليست تصدقا بل واجبا دينيا أخلاقيا، وحقا، حق الفقراء في أموال الأغنياء لإعادة توزيع الدخل القومي بما يحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والمساواة.
والرابع: «تخفيف العبادات وشروطها على عابر السبيل»، وهو تعبير آخر مثل ابن السبيل. الفرق في الحركة. فعابر السبيل متحرك دائما، مسافر من مكان إلى مكان. في حين أن ابن السبيل قد يكون قد استقر في موطن للاستراحة. فيعفى عابر السبيل من الاغتسال من الجنابة نظرا لصعوبة توافر المياه،
ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا . فالضرورات تبيح المحظورات طبقا للقاعدة الفقهية.
أما اليوم، وفي هذا العصر فقد ضاعت القرابة، وانفكت الأواصر الأسرية. فالابن يقتل والديه من أجل الحصول على شقتهما أو أموالهما. وقد يقتل أخاه أو أخته لنفس السبب. والجار قد يقتل جاره لخلاف على حائط أو ماء أو زرع أو شجار بين الأولاد. وفي الأسرة الواحدة يوجد الفقراء والأغنياء، المستقرون والمهاجرون عابرو السبيل. وكل فريق خائف من الفريق الآخر. وفي المنزل الواحد يسيء صاحبه معاملة الخادم أو الحارس أو البواب مع أنه جاره الذي يحرص على راحته ويعمل على حمايته. وفي الشارع الواحد العمارات الشاهقة والأبنية العالية بجوار الأكواخ وبيوت الإيواء.
ويعاني المهاجرون من نفس الوطن من سوء المعاملة مثل هجرة أهل جنوب الوادي إلى الشمال، والصعايدة إلى البحاروة، وأهل البدو إلى أهل الحضر، وأهل الريف إلى أهل المدن. ينشأ الصراع إلى درجة القتال بين المهاجرين والمستقرين. ويعاني المهاجرون الفلسطينيون والعراقيون والسودانيون والصوماليون وكلهم عرب مسلمون من الأوطان التي يهاجرون إليها في الإقامة والسكن والحصول على وظائف أو إعانات مالية أو تسهيلات وحلول للمشاكل الحاصلة. لا أوراق هوية، ولا بطاقات شخصية ولا إقامة شرعية، ومهددون بالترحيل في أي وقت إن نشطوا سياسيا أو اعترضوا على أوضاعهم. وتغلق الحدود بين الدول المتجاورة بسبب ما بينها من حدود مصطنعة، والشعب واحد، واللغة واحدة، والثقافة واحدة دون رعاية للجوار. بل ينشب القتال بين دولتين جارتين مثل المغرب والجزائر أو تقطع العلاقات بين مصر وإيران أو يحاصر شعب غزة وهو جار مصر. وتهدم المنازل والأكواخ لإقامة البنايات الشاهقة و«المولات». وتوضع السياجات وتشيد الحوائط حول المنتجعات والمدن الجديدة التي يقطنها الأغنياء الجدد والتي لا تحمي من الاعتداء عليها من المهمشين. ويحدث نفس الشيء في العلاقات بين الدول التي تغلق حدودها في وجه المهاجرين فيغرقون بحرا، ويقبض عليهم أرضا، وتقام لهم معسكرات الاعتقال للترحيل إلى بلادهم. والهجرة شرعية وقانون طبيعي،
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها . فابن السبيل ضاقت به الأرض، وعز لديه الاستقرار . ولا مكان له إلا قلوب المسلمين وأوطانهم. (9) المحرومون والسائلون
ومن المهمشين مع المساكين واليتامى وأبناء السبيل المحرومون والسائلون، أي الشحاذون بلغة العصر. وقد قرنهما القرآن معا في نفس الفئة. فقد ذكر المحروم في القرآن أربع مرات، اثنتان بالمفرد، واثنتان بالجمع، وهو لفظ شائع في لغتنا العربية المتداولة، المحروم والحرمان. وقد ورد بثلاثة معان:
الأول:
حق المحروم في أموال الأغنياء،
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ،
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم . فالأمة واحدة. وما بين أيديها مستخلفة فيه. للإنسان حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز. وجود أغنياء وفقراء في المجتمع الواحد شرك بالله لأنه إيمان بحقيقتين ومجتمعين.
والثاني:
الفقد. فتحطيم الزرع فقد للثروة، وضياع للأصول،
إنا لمغرمون، بل نحن محرومون
إثر الكوارث الطبيعية وعدم أخذ الحذر من أن ما ينتجه الإنسان هش، عرضة للضياع.
والثالث:
الضلال،
فلما رأوها قالوا إنا لضالون، بل نحن محرومون
عندما يظن الناس أن ما ينتجون من زرع ليس عرضة للتلف، وأنه من الأفضل إعطاء المسكين والمحتاجين منها بدلا من منعهم عنها فيأتيها الخراب من السيول أو الجفاف، بالغرق أو الحرق.
وقد أتى لفظ «حرام» من نفس الاشتقاق. فالحرام منع النفس عن الهوى والضرر. كما أن المحروم ممنوع من حاجاته. الحرام الأول إيجابي لأنه حماية للنفس، والحرمان الثاني سلبي لأنه نقص في الحاجات. وفي سلوكنا اليوم طغى المعنى السلبي على الإيجابي بالإكثار من الحرام وعدم رعاية المحروم. وفي الأعمال الفنية هناك فيلم «الحرام» ولا يوجد فيلم عن «المحروم». وقد يقترف المحروم أحيانا الحرام كي يقيم أوده. والضرورات تبيح المحظورات.
وقد ورد لفظ «السائل» أيضا في القرآن بمعنى طالب العون أو الشحاذ ست مرات بأربعة معان متداخلة:
الأول: «حق السائل في أموال الغني»،
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم
أسوة بالمحروم. وبالرغم من أن السؤال طلب ولكن الحق يعطى دون طلب تعففا من السؤال. ويتكرر نفس المعنى في آية أخرى،
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم
في قضية خبرية وليست إنشائية إقرارا لواقع ، وليس تمنيا لواجب.
والثاني: «تكريم السائل وحسن معاملته وعدم نهره»،
وأما السائل فلا تنهر . فالسائل صاحب حق ، والمسئول عليه واجب. السؤال اتجاه نحو الآخر، والمسئول اتجاه مقابل نحو السائل تأكيدا للتضامن الاجتماعي ولوحدة الأمة الإسلامية.
والثالث: «مقاومة هوى النفس وشحها من أجل الكرم مع السائل». فالنفس مجبولة على الأثرة وفي حاجة إلى جهد من أجل تحولها إلى الإيثار،
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب . فالسائلون مثل الأقرباء واليتامى والمساكين وابن السبيل والأسرى.
والرابع: «المساواة في معاملة السائلين وفي العطاء لهم وإطعامهم دون تفضيل واحد على آخر». أسوياء في السؤال وأسوياء في العطاء،
وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين . هكذا فعل الله عندما خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها الرزق والقوت، وخلق البشر وجعلهم فيها سواء.
ومن نفس الاشتقاق يأتي «السؤال» و«التساؤل» و«المسئول». والسؤال معرفي للعارف. والتساؤل مطلب ذاتي. والمسئول هو الذي يتحمل المسئولية والوفاء بالعهد وبالوعد وبالشهادة وبتحقيقها.
ويكثر عدد الشحاذين يوما عن يوم في البلاد الإسلامية الفقيرة. يقفون في الشوارع وعلى نواصي الطرقات، في البرد والعراء، وفي الصيف والقيظ. تتركهم الدولة بلا رعاية أو تقبض عليهم باعتبارهم مجرمين يسيئون لسمعة مصر، ويشوهون صورتها أمام السياح الأجانب. ويتفننون في أساليب الشحاذة واللبس والماكياج والعرج والعمى والسير استنادا على الابن أو البنت أو الجلوس على كرسي متحرك، وعصب العينين، وربط الرأس والتلعثم في النطق لإثارة الشفقة لسائقي العربات الفارهة وهم يتنقلون بينها في إشارات المرور. وكتبت الأعمال الأدبية لتصوير أحوالهم، مثل «شحاذون ونبلاء»، تبين الجوانب الإنسانية الإيجابية فيهم بالرغم من ظروفهم الاجتماعية السيئة. ومثل «الشحاذ» عن السائل عن معنى الحياة وليس فقط السائل مثل «فريديانا» الذين يتحولون إلى أسياد، ويحاولون سلوك الأسياد، ولكن الطبع يغلب التطبع، والأصل على الفرع.
وقد نقد محمد إقبال من قبل فلسفة السؤال ويعني الشحاذة، من يسير في الطرقات مادا يديه إلى السماء حتى يرزقه الله من حيث لا يحتسب دون أن يعمل بيديه في الأرض ليأكل من عملها وإنتاجها. ويريد توجيه أعين السائل من السماء إلى الأرض، من الخالق إلى المخلوق ، ومن السائل إلى المسئول.
الفصل الخامس
الدين والمنفعة
(1) هل المنفعة ضد الدين؟
يظن الناس خطأ أن المنفعة ضد الدين، وأنها مرتبطة بالمادية والأنانية والطمع في الدنيا. وهذا غير صحيح، فقد ميز الفلاسفة بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. الأولى أقرب إلى الأثرة، والثانية أقرب إلى الإيثار. الأولى في حالة إعطائها الأولية على الثانية رذيلة. والثانية في حالة إعطائها الأولوية على الأولى فضيلة.
وقد ذكر لفظ «المنفعة» ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي خمسين مرة. فهو موضوع رئيسي. وتدور كل الآيات حول ثلاثة محاور: أن المنفعة أساس الدين، وأنها مقياس صحة الإيمان، وأن الدين هو الحفاظ على منافع للناس في حياتهم وفي دنياهم. ويتجلى المحور الأول في سبعة معان: (1) «المنفعة أساس الدين، وكل إيمان ينفع صاحبه، وكل إيمان لا ينفع ليس إيمانا»،
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس . والإيمان في الدنيا قبل الآخرة حتى يمكن الانتفاع به. إذ لا ينفع إيمان بعد انقضاء الزمن ونهاية العمر وفوات الأوان،
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها . ولا ينفع إيمان في الآخرة بعد كفر في الدنيا،
قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . ولا ينفع الإيمان السطحي القائم على الخوف،
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، بل الإيمان عن صدق واقتناع وتجربة. (2) «والذكرى للنفع»
فذكر إن نفعت الذكرى . الذكرى نافعة إذا ما غاب الإيمان وتوارى أمام أهواء البشر،
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، ولا يوجد ضمان للذكرى، فقد يكون القلب قاسيا، والمصلحة طاغية، والبصيرة عمياء،
وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى . وقد لا يفيد النصح كما لا تفيد الذكرى،
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم . (3) «ولا تنفع الشفاعة إلا بإذن الله وقبل التوبة»،
يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . فلا شفاعة إلا بعد حسن النية وطيب القول. ولا تنفع الشفاعة مع الإصرار على الذنوب واستمرار المعاصي،
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون . لا تنفع شفاعة الشافعين لمن لا يستحقون الشفاعة،
فما تنفعهم شفاعة الشافعين ، فالشفاعة ليست ضد الاستحقاق بل الاستحقاق شرطها. (4) «ولا ينفع الظلم في الدنيا ولا في الآخرة». فالظلم سلب الناس حقوقهم والاستيلاء عليها بغير وجه حق،
فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون . يرفع الظلم عن المظلومين أولا في الدنيا حتى ينفع الاعتذار والعتاب في الآخرة،
يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار . فالظلم لا عذر عنه، وبالتالي لا عفو عنه. وينال الظالم جزاءه،
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ، فالدنيا أساس الآخرة، والعمل في الدنيا معيار الجزاء في الآخرة، مقدمة ونتيجة، علة ومعلول، سبب ومسبب. (5) «والصدق في الدنيا نافع في الآخرة»،
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ، فالصدق تطابق المقدمات مع النتائج، والأقوال مع الأفعال، بعيدا عن النفاق وازدواجية الشخصية. الصدق هو تطابق الإنسان مع ذاته تأكيدا لوحدة شخصيته وتصديق الناس له. (6) «والموت حق، ولا ينفع الفرار منه»،
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل . المنفعة عمل عاقل وليست خوفا من الضروري. المنفعة ثقة بالنفس وثبات ويقين وليست هروبا من الواقع. المنفعة مواجهة وقبول ورفض، تحد واستجابة، تقدم وتقهقر، سبق واستباق. (7) «ولا ينفع مال ولا بنون في الآخرة»،
يوم لا ينفع مال ولا بنون . فالمسئولية فردية والجزاء فردي. ولا ينفع الأولاد ولا الأقارب لأن الأفعال فردية ونتائجها على من يقوم بها،
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة . ويستوي الآباء والأبناء في عدم نفعهم في الآخرة،
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . فالأب ابن لأبيه كما أن الابن ابن لأبيه. الأولاد ذو نفع في الدنيا وليس في الآخرة. لذلك استبقى فرعون موسى الطفل لعله ينفعه في ملكه،
أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . ولم يأمر بقتله بالرغم من نبوءة ضرورة التخلص من كل الأطفال حفاظا على ملكه من الانقلاب عليه،
لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .
المنفعة إذن شيء إيجابي بهذه المعاني السبعة. ليست موضع اتهام إلا إذا لم تتوافر فيها شروطها. ويسرع في الحكم من يظن أن المنفعة هي بالضرورة الأنانية كما يروج لها المثاليون السذج وأصحاب ما ينبغي أن يكون ضد ما هو كائن. النافع هو الذي يمكث في الأرض، وما دونه يذهب جفاء،
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . (2) المنفعة مقياس صحة الإيمان
ليست المنفعة فقط أساس الدين بل هي مقياس صحة الإيمان، فالإيمان النظري المجرد لا نفع منه، ليس إيمانا، مثل العلم الذي لا ينفع «أعوذ بالله من علم لا ينفع». ليست صحة الإيمان نظرية بل عملية «والله لو آمن أحدكم بهذا الحجر أن ينفعه لنفعه»، الإيمان ليس أقوالا بل أفعالا. ليس تصورات ونظريات بل عمليات وتحقيقات. ليست له صحة نظرية في ذاته بل صحته عملية «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».
وثلث آيات القرآن عن المنفعة تصب في هذا المعنى في خمسة أبعاد: (1) «لا يكون الدعاء إلا لمن يجلب المنفعة ويدفع الضرر»،
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك . ويستهجن القرآن من يفعل ذلك لأنه خبل وجنون،
قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ، وهو مناقض للعقل والحس السليم،
يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه . وكيف يدعو الإنسان ما لا يسمع مثل الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر،
قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ، وتزداد البلية ويعظم الكرب إذا دعا الإنسان ما يضره ولا ينفعه،
يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير . (2) «ولا تكون العبادة إلا لمن يمتلك المنفعة أو الضرر»،
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ، وكيف يعبد الوعي الذاتي الشيء المصمت الخالي من الوعي؟ العبادة تراسل وحوار، تساؤل واستجابة ولا تكون بين وعيين،
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم . ومرة تبدأ الآية بالضرر قبل النفع طبقا للمبدأ الأصولي «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». ومرة تبدأ بالنفع قبل الضرر،
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم . ويتأكد نفس المعنى بملك النفع والضرر أي القدرة عليهما وليس مجرد النفع والضرر العرضيين،
قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا . (3) «ومع الدعاء والعبادة يأتي العلم، فمن مقتضياته عبادة من ينفع أو يضر». ومن الجهل عبادة من لا ينفع ولا يضر. والأخطر تعلم ما يضر وما لا ينفع،
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، وهو الجهل المزدوج، العلم بإضرار النفس وليس بنفعها. فالعلم أساس الإيمان، والإيمان يقوم على العلم، وكلاهما يتفقان على استحالة عبادة من لا ينفع أو يضر، وبالأولى من يضر دون أن ينفع. (4) «وكيف يعبد الإنسان ما لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، حجرا أصم؟»
قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا . كيف يعبد الإنسان ما لا يستجيب له ولا يرد عليه سؤاله ولا يملك له ضرا ولا نفعا،
أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا . ولو اجتمعت الأصنام كلها فإنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا،
ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
طبقا لقياس الأولى. كيف بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا أن يضير أو ينفع غيره؟ (5) «الله وحده هو الذي يملك النفع والضرر لخلقه وليس الإنسان»،
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله . وتتكرر الآية مرة أخرى لتأكيد المعنى، ولا يملك الناس - حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا - لأنفسهم نفعا ولا ضرا،
فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ، ويسأل القرآن إن كان هناك أحد يملك للبشر نفعا أو ضرا،
قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا .
فإذا كانت المنفعة مقياس صحة الإيمان فإن الضرر مقياس بطلانه. الإيمان إذن ليس خطابا في قنوات الفضاء، وليس دعوة نظرية وقولا بليغا مغلقا على ذاته عند الدعاة الجدد. صحته في منفعته. وبطلانه في ضرره. وكم من إيمان ضار عند المسلمين. وكم من إيمان نافع عند غيرهم. (3) الدين ومنافع الناس
أتى الدين لتحقيق المصالح العامة بتعبير الأصوليين الفقهاء، ومنافع الناس بتعبير القرآن الكريم. وقد ورد لفظ «منافع» في القرآن ثماني مرات بسبعة معان: (1)
تتداخل المنافع والمضار، فلا ضرر إلا وبه منفعة، ولا منفعة إلا وبها ضرر، والقضية هي النسبة والكم، هل الضرر أكثر من المنفعة وبالتالي يكون مكروها، أو هل المنفعة أكثر من الضرر وبالتالي يكون مندوبا، ففي إحدى مراحل تحريم الخمر يأتي الحكم على أن بها إثما كبيرا ومنافع للناس،
قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، ثم التنبيه على أن المضار أكثر من المنافع،
وإثمهما أكبر من نفعهما . المنافع الكسب والتجارة وبعض الانتشاء والطرب عند الندماء والشعراء والظرفاء، والمضار في الصحة وذهاب العقل حين السكر وفقدان القدرة على التحكم في الأفعال، وإيذاء الآخرين، وضياع المال، والإدمان. وقد حرمها بعض الأتقياء على نفسه. وجعل المكروه حراما قبل أن يأتي حكم الاجتناب في القرآن، والتحريم في السنة. (2)
ما ينفع الناس هو ما يمكث في الأرض وما دونه يذهب جفاء،
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . فالمنافع هي الباقية، وكل ما في الأرض منفعة للناس. المنافع هي الأصل، والأضرار هي الفرع. المنافع هي الثابت، والأضرار هي المتحول. وهي نفس العلاقة بين الخير والشر، بين الحسن والقبيح، بين الصدق والكذب، بين الإيمان والنفاق. (3)
المنافع قضاء لحاجات البشر وما تتطلب الدوافع والبواعث البشرية، وإلا أصبح الإنسان فريسة الكبت والحرمان،
ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم . المنافع تحقيق للوجود الإنساني وتثبيت لدعائمه في الأرض. هي علاقة بالطبيعة وبالعالم. هي التي تدفعه إلى العمل والإنتاج. المنافع إثبات الذات، وتحقيق مطالب البدن. وقد تحدث علماء النفس عن «الحاجات الأساسية» التي يجب توافرها للبشر. وهي معيار الرفاهية وما يسميه علماء الاقتصاد «خط الفقر». وهي حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والكساء والإيواء والعلاج والتعليم. (4)
والمنافع أصل العبادات، مثال ذلك الحج، فيه منافع للناس في التجارة والتبادل والتعارف بالإضافة إلى ذكر الله،
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، وقد كان الرسول يقابل الناس وقت الحج ليبلغهم دعوته. وكانت أسواق للتجارة والشعر قبل الذهاب إلى البيت العتيق،
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ، ويمكن أن يقال نفس الشيء على باقي أركان الإسلام، فالشهادة صدق وشجاعة وشهادة على العصر، واعتراف بأن ضمير الإنسان حر لا يخضع لآلهة العصر المزيفة من مال وجاه وشهرة وسلطة «لا إله». ولا ينتمى إلا إلى المبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع «إلا الله»، سلب وإيجاب، نفي وإثبات. والصلاة حفاظ على الأعمال في أوقاتها، ونظافة في الوضوء، ورياضة في الركوع والسجود، وتذكير بالله خلال النهار حرصا على الفضيلة، ومنعا من السوء. والصيام صحة للبدن، ومشاركة للفقراء. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء، وتداول رأس المال واستثماره لصالح الجماعة. (5)
المنافع في الأرض للطعام والشراب،
ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون . تنبت الأرض الخضرة والفواكه. ومنها تتفجر العيون عليها وتجري الأنهار،
ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون . (6)
والحيوان جزء من الأرض، به منافع الإنسان في الطعام والانتقال والادثار،
والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ، وهو ما يسمى في الاقتصاد بالثروة الحيوانية. وقد كانت المصدر الأول لثروة العرب، الجمال والخيل والضأن والماعز. وطالما تغنى بها الشعراء ورسمها الرسامون، جمل الصحراء والحصان العربي. (7)
والحديد أيضا به منافع للناس، فمنه تبنى المنازل، وتقام الطرق، وتشيد الجسور، وتصنع الأدوات المنزلية. ومنه أيضا يصنع السلاح للدفاع عن النفس،
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، فالحديد للسلم والحرب، للبناء وللدمار، للعمران وللخراب، للراحة وللتعب، للنعيم وللعذاب. استعمله ذو القرنين للدفاع عن الحق. ويستعمله هامان وفرعون لتشييد القصور والقلاع والاستعلاء على رقاب الناس.
الدين إذن ليس كلاما ودعوة وموعظة وبلاغا وبيانا وقولا وخطابا فقط بل هو تحقيق المصالح العامة ومنافع الناس. (4) الإيمان ينفع ولا يضر
يظن البعض خطأ أن جلب المنفعة ودفع الضرر مجرد نفعية لا تصح في الإيمان، فالإيمان أعلى وأنقى وأطهر من هذا المعيار. الإيمان خالص لوجه الله. والغرب وحده هو الذي جعل جلب المنفعة ودفع الضرر مقياس الحقيقة على ما هو معروف في البرجماتية أو الذرائعية الأمريكية، فالحقيقي هو النافع والباطل هو الضار.
والحقيقة أن جلب المنفعة ودفع الضرر تجربة إنسانية طبيعية وأحد مقاييس الحقيقة سواء كانت الإيمان بالله أو الدفاع عن النفس أو العلم أو تجاوز الله في هذا المقياس باعتباره متعاليا يمثل الخالص، فالمنفعة والضرر ينطبقان على الحياة الإنسانية والعلاقات الاجتماعية أي على علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين وليس علاقة الإنسان بالله.
وقد ورد لفظ «الضرر» في القرآن عشرين مرة بخمسة معان،
الأول:
أن دفع الضرر أحد مقاييس الإيمان. فالإنسان لا يعبد ما لا ينفعه ولا يضره،
قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ، ويتكرر نفس المعنى عدة مرات، ومن يفعل ذلك يكن موضعا للسخرية،
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم
بداية بدفع الضرر،
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم
بداية بجلب المنفعة؛ لذلك رفض إبراهيم عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تستجيب لدعاء،
هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون . لا يعبد الإنسان الأصم والأبكم، ما لا ينفع ولا يضر،
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك
في صيغة المخاطب والسؤال،
قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا
في صيغة استهجان من موقف النفس لدعاء من لا ينفع ولا يضر.
والمعنى الثاني:
هو أن الإيمان يعود بالنفع على الإنسان وليس على الله، ويمنع الضرر عن الإنسان وليس عن الله، فمن ينقلب على عقبيه لن يضر الله شيئا،
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ، وإذا انهار مجتمع لعدم اتباعه التقوى وقواعد الأخلاق فإن مجتمعا آخر يحل محله، ولن يضر ذلك الله في شيء،
ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، ويأتي قوم آخرون يتبعون الفضيلة ويؤمنون بالله، ولن يضر هذا الاستبدال الله في شيء،
ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا . ومهما عصى قوم وتركوا الإيمان فإن ذلك لن يضر الله شيئا،
إنهم لن يضروا الله شيئا ، وهؤلاء الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، والباطل بالحق، والرذيلة بالفضيلة، والشر بالخير أيضا لن يضروا الله شيئا،
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا . ومن عصى الرسول بعد ما تبين له الحق لن يضر إلا نفسه ولن يضر الله في شيء،
وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا .
والمعنى الثالث:
أن عدم الإيمان لن يضر إلا غير المؤمن،
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، فالمؤمن لا ينفع إلا نفسه، ولا يضره ضلال الآخرين. وإن صبر المؤمنين وتقواهم تمنعهم من إضرار كيد الآخرين لهم،
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ، أو أذاهم لأنهم جبناء في القتال يولون الأدبار حين اللقاء،
لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ، ولا يضرون الرسول في شيء فما على الرسول إلا البلاغ، وإن أعرض عنهم فهم الخاسرون،
وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ، فالمؤمن لا ينفع إلا نفسه، والمهتدي يمنع الضرر عن نفسه. والضال لا يلحق الضرر بالرسول إنما يضر نفسه،
وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء .
والمعنى الرابع:
أن الضرر في حد ذاته لا تقبله النفس بصرف النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان، فلا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده،
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ، الوالدة في الرضاعة حولين كاملين لا أكثر، والوالد في الرزق والكسب والإنفاق، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وكذلك لا تضار النساء بضيق المسكن،
ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن
ولا في الإنفاق. وفي البيع والشراء الشهادة واجبة حتى لا يضار بائع أو مشتر أو كاتب أو شهيد،
وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد ، فالتدوين حفظ للحقوق في الزواج وفي البيع والشراء، فالذاكرة تخون، والنفس أمارة بالسوء، فكل شيء شهادة، الإيمان، وسماع القرآن وتدوين الحديث وإصدار الفتوى وممارسة الجهاد، فالشهادة بالقلب وباللسان وباليد بتدوين شروط العقود.
والمعنى الخامس:
أن العلم هو العلم النافع، وهو ما يؤكده حديث «أعوذ بالله من علم لا ينفع»،
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، فالعلم ليس نظريا فحسب، معرفة من أجل المعرفة، بل هو علم من أجل منفعة الناس في الدنيا،
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . العلم هو العلم النافع كنظرية عامة في العلم بصرف النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان، العلم هو ما يفيد الناس، وما يحقق لهم مصالحهم دون أن تكون المنفعة هي الحقيقة كما هو الحال في المذهب النفعي أو البرجماتية. الحقيقة تحقق المنفعة دون أن تكون المنفعة هي الحقيقة.
الفصل السادس
العمل
(1) الإصلاح
تتعدد المواقف بالنسبة لعلاقة الدين بالدولة أو الدين بالمجتمع أو الدين بالحياة، وهي ثلاثة: الموقف السلفي التقليدي الذي كان سائدا في الدولة العثمانية أثناء فترة ضعف الخلافة. ويمثله أبو الهدى الصيادي شيخ الإسلام في حلب، وكان يدعو إلى استمرار الخلافة بحسنها وقبحها كمسألة مبدأ وعقيدة، رمزا لوحدة الأمة، ودفاعا عنها ضد الطامعين فيها لتقطيع أوصالها، والتهامها جزءا جزءا من الدول الكبرى في ذلك الوقت، وهو ما حدث بالفعل بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى. والثاني الموقف العلماني الذي كان يمثله حزب «الاتحاد والترقي» أو «تركيا الفتاة»، وكان يمثل القومية الطورانية، وإلغاء الخلافة، والعودة إلى الحدود الطبيعية التركية، وتبني النموذج الغربي بحذافيره مثل الفصل بين الدين والدولة، وتغيير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، وتقليد الغربيين في أساليب حياتهم، لباسهم وطعامهم وعمارتهم وفنونهم، وهو الموقف الذي قاده مصطفى كمال الذي نجح في طرد الجيش اليوناني الذي كان على أبواب أنقرة في قلب هضبة الأناضول، والثالث الموقف الإصلاحي الذي قاده جمال الدين الأفغاني «لوثر الشرق» وتلاميذه. كان يبغي تحديث الخلافة دون القضاء عليها، والقضاء على الفساد فيها دون هدمها، والدعوة إلى اللامركزية للتخفيف من بطش السلطنة، ورعاية مصالح الأقاليم. وشاركه في ذلك شبلي شميل «حكيم الشرق» من العلمانيين العلميين، للدعوة إلى تأسيس الدستور والبرلمان للمراجعة على قرارات السلطان، وتقييد سلطته المطلقة، وهو التيار الذي لم ينجح في عصره بالرغم من محاولات التحديث في «التنظيمات»، وربما يحن حزب العدالة والتنمية الآن إلى الموقف الإصلاحي من جديد بعد تأزم الموقف العلماني وظهور حدوده، وهو الموقف الذي يعود من جديد في الثورة الإسلامية في إيران عند الرئيس خاتمي والإصلاحيين، وفي المغرب في حزب العدالة والتنمية وسط الاستقطاب الشديد بين السلفيين والعلمانيين في مصر وليبيا وتونس والجزائر وسوريا والسودان.
ويتضمن الإصلاح التغير التدريجي للمجتمعات الإسلامية ابتداء من القضاء على الفساد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح بالوسائل السلمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والحسبة، وخطب المساجد، والدروس الدينية، واللجوء إلى القضاء إذا لزم الأمر. وإن لم تنجح هذه الوسائل واستمر الفساد والظلم من الأئمة فالخروج على الحاكم الظالم واجب شرعي، ولا يكون الخروج بالضرورة بالسلاح بل يمكن بالعصيان المدني، والمظاهرات الشعبية، وضغط الرأي العام، وتجنيد الناس.
وهو ما يتفق مع معاني لفظ «الإصلاح» في القرآن الكريم. فهو لفظ شائع يتكرر. ذكر حوالي مائة وثمانين مرة، أسماء أكثر، حوالي مائة وخمسين مرة، وأفعالا أقل، ثلاثين مرة. فلا إصلاح بلا صالح وصالحين وصالحات ومصلح ومصلحين وإصلاح. يعني الإصلاح بين الناس والصلح بين الأزواج، والصلاح في الأعمال.
النبوة إصلاح في الأرض، بل إن صالح اسم نبي، والعمل الصالح دليل على نبوته،
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، فلا يوجد صاحب دعوة للإفساد، الإصلاح اتجاه نحو الكمال، وتحرك نحو المثال، ومهمة الوحي الإصلاح في الأرض، وهو دور الإنسان. فإصلاح الأرض أمر طبيعي ضد الإفساد فيها،
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وفرق بين الإصلاح والإفساد،
والله يعلم المفسد من المصلح ، دور الإنسان إعمار الأرض وتحويلها من أرض صفراء إلى أرض خضراء، ومن أرض قاحلة إلى أرض عامرة. الإصلاح الذاتي أولا قبل إصلاح الغير،
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، والإصلاح للأفراد،
فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ، وبين الأزواج،
فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ، والصلح بينهما يلغي الطلاق، ويرد الزوجة إلى زوجها،
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ،
إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . الإصلاح جمع وليس فرقا، توحيد وليس تفريقا، تآلف وليس نفورا. لذلك لا يجوز الخصام بين الناس. وخصام الأخ لأخيه لا يتجاوز ثلاثة أيام، فما بال خصام الأحزاب والشعوب فيما بينها عقودا من الزمان أو أكثر خاصة لو كانوا من دول الجوار مثل المغرب والجزائر، العراق والكويت، اليمن والسعودية، مصر والسودان، الصومال والحبشة ... إلخ.
ومنها الإصلاح بين الناس،
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه ، داخل الأسرة وخارجها،
أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، فالإصلاح مظهر من مظاهر البر والتقوى،
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وهو إصلاح بين المسلمين المتقاتلين،
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، هو إصلاح بين الإخوة، وجميع المؤمنين إخوة،
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، الصلح خير وسلام وأمن وطمأنينة، ودليل على كرم النفس،
والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح . رعاية اليتامى إصلاح لهم،
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ، فالإصلاح بين البشر قبل أن يكون في الأرض، فالبشر هم سادة الأرض.
والإصلاح بعد التوبة من الظلم،
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، الإصلاح تكفير عن الذنب، وتحول من الظلم إلى العدل، ومن التكبر إلى التواضع، الإصلاح عود إلى الطريق المستقيم، طريق الطبيعة المتجهة نحو الكمال، وتصحيح للانحراف الذي يدمر الطبيعة ويرجع مسارها إلى الوراء.
وجزاء الصلاح جنات عدن، فالعمل الصالح هو الطريق إلى الآخرة، الصالحون والصالحات على حد سواء، بل إن الصالحات أكثر استعمالا من الصالحين حوالي الضعف، وكلاهما أصحاب وصاحبات الأعمال الصالحة؛ لذلك قرن الإيمان بالعمل الصالح بصرف النظر عن الإيمان بماذا والصلاح لمن، وقد جعل المعتزلة من مبادئهم رعاية الصلاح والأصلح كأحد الواجبات العقلية من الله وعلى الإنسان، والمصالح العامة المصدر الأول للتشريع والقادر على إحكام اشتباه النصوص.
الإصلاح هو سبب بقاء الشعوب في التاريخ والإفساد سبب انهيارها،
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ، فالتاريخ مسار نحو التقدم، والإصلاح فاعله الرئيسي، والمحافظ عليه. الإصلاح هو السبيل إلى نهضة الأمم ، والإفساد سبب تأخرها، فالصالحون لهم وراثة الأرض،
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، والمفسدون يندثرون ولا يبقون. (2) الفساد
الفساد يقابل الإصلاح. غياب الإصلاح فساد، وغياب الفساد إصلاح. وهما مثل التقدم والتأخر. التقدم إصلاح، والتأخر فساد. والمقابل اللغوي للإصلاح هو الإفساد، الفعل الرباعي. ومع ذلك فالغالب في الإفساد هو الفعل الثلاثي «فسد» أكثر من الفعل الرباعي «أفسد»، في حين أنه في الإصلاح الأغلب هو الفعل الرباعي «أصلح» أكثر من الفعل الثلاثي «صلح».
وإذا كانت النبوة إصلاحا فإن التكذيب بها إفساد، فمقياس التصديق بالوحي أو التكذيب به مقياس الإصلاح أو الإفساد في الأرض. فالوحي ليس فقط معرفة بل هو سلوك، ليس فقط نظرا بل هو عمل، ليس فقط إيمانا أو اعتقادا بل هو تغيير وتطوير إلى الأفضل.
وقد ورد لفظ «فساد» ومشتقاته حوالي خمسين مرة أقل من لفظ «صلح»، الثلث تقريبا مما يدل على أهمية الإصلاح وأنه من طبائع الأمور أكثر من الإفساد. محاربة الفساد مجرد مقدمة من أجل تحقيق الإصلاح، فالسلب مقدم على الإيجاب، والنفي سابق للإثبات.
وقد ورد اللفظ اسما (حوالي اثنتين وثلاثين مرة)، ويعني في معظمها الفساد في الأرض،
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، والفساد لا يأتي بعد الإصلاح لأنه ضد طبائع الأشياء بل الإصلاح هو الذي يأتي بعد الفساد،
ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وإفساد الأرض بإفساد الحرث والنسل أي الثروتين الزراعية والحيوانية،
ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . الإفساد هو الخراب والقحط والمجاعة والموت كما يحدث في كثير من بلاد المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي بالعجز عن السيطرة على الطبيعة وبالنزاعات الداخلية، وكما يحدث في فلسطين بتجريف الأراضي ونزع الأشجار. الفساد هو القضاء على مقومات الحياة العضوية في النبات والحيوان.
والفساد في البر والبحر،
ظهر الفساد في البر والبحر ، فالبحر مثل البر، تدفن فيه النفايات، ويصيبه التلوث. ويحدث في القرية أي في المجتمع،
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها
وهو فساد النظام الاجتماعي والسياسي. ويظهر الفساد في البلاد أي في الأوطان،
الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد . وينخر في الدول ويقضي عليها.
والعلو والاستكبار في الأرض مظهر من مظاهر الفساد،
نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، وهو الفساد السياسي بمعنى القهر والتسلط والطغيان. ويقع الفساد في السماء والأرض باتباع الأهواء،
ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ، فالفساد يصل من الأرض إلى السماء إذا تابع الإنسان أهواءه وترك الحق، فالسماء رمز القيم والمبادئ، كما أن الأرض رمز الوقائع والأوضاع. هو الفساد الشامل في كل طبقات المجتمع، الخاصة والعامة، النخبة والجماهير، فساد الأغنياء لمزيد من الإثراء. وفساد الفقراء من أجل القدرة على التعايش وحفظ البقاء. ومقاومة الفساد في الأرض تطلب «الدفع» أي الصراع البشري والجهد والكد والسعي والمقاومة،
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . الفساد لا يمكن اتباعه والرضوخ له، بل مقاومته والتصدي له وكشفه وفضحه أمام الرأي العام.
ولا تتبع سبيل المفسدين .
والتولي عن النبوة فساد في الأرض. فالوحي هو طريق الإصلاح،
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض . النبوة إصلاح في الأرض وتوجيه للطبيعة نحو الكمال، وتقدم التاريخ. الفساد عصيان،
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . وإنكار الحق وتكذيب النبوة، وهو فتنة في الأرض،
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . كما أن الفتنة فساد في الأرض لأن الصلاح لا يأتي إلا بالمصالحة والتعاون. وإذا أفسد الإنسان في الأرض أحيانا فلكي يتعلم الإصلاح ويحققه دائما.
وإبخاس الناس أشياءهم مظهر من مظاهر الفساد،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . وعدم تقدير جهد العاملين حتى تصاب أنفسهم بالإحباط، وذلك مثل إعطاء العامل أقل مما يستحق، وإعطاء الفلاح أقل من جهده. والإفساد في الأرض قطع ما أمر الله به أن يوصل،
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، في حين أن الإصلاح وصل واتصال، وربط ورباط. الفساد هو ضرب الناس بعضهم ببعض، وإيقاع الشقاق بين الأحزاب والقوى السياسية حتى يقوى الحاكم إذا ما تفرق الخصوم.
وإيقاف النسل، ذبح الذكور واستحياء الإناث، فساد في الأرض،
يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ، فالحياة تكاثر ونماء وخصوبة. والإفساد في بقعة من الأرض هو إفساد في الأرض جميعا كما أن قتل نفس واحدة هو قتل للناس جميعا. الفساد يستشري في الأرض إذا بدأ ولا يتوقف، بل هو عدوى سريعة الانتشار. وتنهار الأمم بالإفساد في الأرض وتنهض بالإصلاح فيها،
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض . الفساد هدم والإصلاح بناء. الفساد هزيمة للإرادة، والإصلاح نصر لها. والنصر في النهاية للإصلاح والهزيمة للإفساد،
قال رب انصرني على القوم المفسدين .
والله لا يحب الفساد ، والوحي هو كلمة الله وتحقيقها في الأرض بالجهد الإنساني. وإذا كانت صفات الله وأسماؤه نموذجا للسلوك الإنساني والله لا يحب الفساد فإن الإنسان أيضا لا يحب الفساد.
والتوحيد لمنع الفساد في الأرض،
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، فوحدانية الله تنعكس في وحدانية الطبيعة والمجتمع والإنسانية. يحكمها مبدأ واحد، يتساوى أمامه الجميع دون ازدواجية المعايير كما يحدث في القرارات الدولية ومواقف الدول الكبرى. والفساد في الأرض من كسب الناس وليس من فعل الله،
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . ولا يمكن الاعتذار بالقدر المسبق أو بالعلم الإلهي لارتكاب الفساد، فالإنسان مسئول في العالم عن الإصلاح والإفساد على حد سواء. وأخيرا جزاء الفساد في الأرض العذاب في الآخرة،
زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ، فالفساد في الأرض ليس مجرد أثر في الدنيا بل له تبعاته في الآخرة مما يخيف الناس من الفساد ويبعدهم عنه.
اليسار الإسلامي رؤية في تغيير الواقع أكثر منه تصورات نظرية، ومن وسائل تغيير الواقع التحول من الإفساد إلى الإصلاح، وبالتالي يلتقي مع كل الاتجاهات الاجتماعية التي تشارك في نفس الهدف، وهذا هو معنى شمول الإسلام وعالميته أي قدرته على احتواء باقي العقائد والقيم في رؤية واحدة لتحقيق هدف واحد، وهو في النهاية إحدى تجليات التوحيد. (3) الذكر والأنثى
كثرت الشبهات حول وضع المرأة في الإسلام، وأنها ليست مساوية للرجل سواء في قانون الأحوال الشخصية مثل الطلاق بيد الرجل، وتعدد الزوجات حق للرجل وإن كان مشروطا بالعدل المستحيل، والميراث، والقوامة. وقامت حركات حقوق المرأة المتأثرة بالتراث الغربي لتنادي بمساواة المرأة بالرجل في الإسلام، وطبقا للمواثيق الدولية. كما قامت حركات الإصلاح في مصر وتونس بإجراء بعض الإصلاحات على قوانين الأحوال الشخصية مثل الطلاق أمام القاضي وتعدد الزوجات بشرط موافقة الزوجة الأولى وإلا كان لها الحق في طلب الطلاق.
فما هي صورة الذكر والأنثى في القرآن الكريم؟ ذكر في القرآن ثماني عشرة مرة، نصفها للمساواة مع الأنثى ونصفها الآخر لعدم المساواة، المساواة في الخلق
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى
للتكامل بينهما عضويا ونفسيا حتى تستأنف الحياة من خلال الذرية
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ، كل منهما مكمل للآخر، ولا تستقيم الحياة بطرف دون آخر. والتفاوت بينهما في العمل والأداء
وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى
المساواة في الخلق والاختلاف في السعي، والاختلاف في السعي جزاؤه العمل الصالح طبقا لقانون واحد يطبق على الاثنين وهو قانون الاستحقاق
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى
يتساويان في الإيمان والعمل
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
يحيا كلاهما في الدنيا حياة طيبة وفي الآخرة لهما الجنة
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ،
ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة . أما الاختلاف بينهما فمن أجل التعدد والوحدة، التفرق والتعارف
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ،
وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى . أما عدم المساواة فإنها ترد طبقا للعقلية العربية البدوية في تفضيل الذكر على الأنثى
وليس الذكر كالأنثى ، وتصور الله أنثى وليس ذكرا
ألكم الذكر وله الأنثى . كما يرد في إطار الميراث، وأن الأنثى لها نصف ما للذكر في مجتمع لم يكن فيه للأنثى أي حق، بل ليس لها أي حق في الحياة وفي الوجود
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
بالرغم من أن بعض العالمين بقانون الميراث وبالمعادلات الرياضية يقولون إنه في بعض الحالات يكون للأنثى نصيب أعلى من الذكر. ولما كانت الوحدة هي الأسرة وليس الفرد يكون لها نصيب ونصف، ذكرا وأنثى.
أما لفظ الأنثى فقد ذكر ثلاثين مرة، أكثر من الذكر، نصفها مفردا «أنثى» وربعها مثنى «أنثيين» والربع الأخير جمعا «إناث». والمعنى الغالب على الاستعمال المفرد هو المساواة في الجزاء طبقا لقانون الاستحقاق
أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ،
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة . وينال كل منهما الحياة على السواء
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه . وكلاهما له نفس الجزاء
ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
وهناك المساواة في الخلق وفي الطبيعة
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى
وخلق كلاهما من مني واحد
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى . والله يعلم ما في الأرحام
وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . إن الله هو الذي يصور في الأرحام الذكور والإناث
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور
وبزواج الإناث والذكور ينشأ الخلق العظيم
أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير . أما عدم المساواة في الميراث
للذكر مثل حظ الأنثيين
في مجتمع لم يكن للمرأة فيه حق للميراث، والأغلب أن يأتي ذكر عدم المساواة تهكما على العقلية البدوية التي تجعل للذكر قيمة أعلى من الأنثى منذ الميلاد
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى . وهي العادة التي جعلت وجه العربي يسود إذا بشر بأن المولود أنثى
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . وطبقا لهذه العادة لا يمكن تصور الله أنثى
ألكم الذكر وله الأنثى ،
إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا . ويتهكم القرآن على من أعطى لنفسه الذكور ووهب الله إناثا من الملائكة
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا
كما يتهكم على الذين يجعلون الملائكة إناثا من خلق الله والملائكة ليس لهم جنس
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون
والملائكة عباد الرحمن وليسوا إناثا ولا ذكورا
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا . وإذا تغيرت العقلية البدوية تغيرت التصورات. وإذا كانت ما زالت مستمرة لدى الطبقات الشعبية فإنها بدأت في التغير لدى النخبة المثقفة التي اختارت المساواة. ولقد فضل الله مريم على نساء العالمين. وبرأ عائشة من حديث الإفك. وكان لخديجة وعائشة وفاطمة في حياة الرسول فضل كبير. (4) القوة
يدور سؤال رئيسي بيننا، نحن العرب، عن أسباب ضعفنا وكيف يمكن التحول من ضعف إلى قوة. فالقوة مطلب رئيسي في عالم لا يعترف إلا بالقوي، وأمام عدو لا يعتمد إلا على القوة دون الشرعية. حدوده ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي الوصول إليه.
وقد ذكر لفظ «قوة» في القرآن اثنتين وأربعين مرة أي إنه موضوع مهم في أربعة محاور:
الأول:
قوة الإنسان والجماعة حوالي عشرين مرة. كلها تدور حول جهاد الأعداء، والاستعداد لهم، وعدم التراخي في التسليح. فإذا كان لدى العدو السلاح النووي فعلى المسلمين أيضا امتلاكه،
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . فالعدو صاحب قوة،
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك . وفي مقابله يمتلك المسلمون كل أسباب القوة التي تفوق قوة العدو،
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة . وهذه القوة ليست ثابتة، تزيد وتنقص. فلا العدو يظل قويا إلى الأبد، ولا المسلمين يظلون ضعفاء إلى الأبد. فطالما هزمت أقوام كانوا أشد قوة من المسلمين،
كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا . فكل قوي هناك من هو أقوى منه،
قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك ، وطالما هلكت شعوب ظنت أن قوتها دائمة،
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا . فالتعلم من التاريخ واجب، من الصليبيين والمغول والتتار والاستعمار الغربي الحديث،
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة . وكلما ازدادت القوة لقوم كانت نذيرا عليهم بالهلاك،
وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . وكلما ازدادت القوة زاد الغرور كما حدث في إسرائيل بعد هزيمة العرب في يونيو (حزيران) 1967م،
وقالوا من أشد منا قوة . وطالما هلك من كان أشد منهم قوة في الأرض، الرومان قديما، والنازية حديثا،
كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض . القوة تزيد وتنقص. تشتد وتضعف. فضعف المسلمين ليس إلى الأبد بل يزداد قوة من السماء وعلى الأرض،
يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ، فالضعف مؤقت والقوة من الجماعة ومن تدبر النفس،
قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد . والقوة من الجماعة بناء على الحق والعدل والخير،
قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة . الضعيف ليس دائما بل يتحول إلى قوة كما حدث من هزيمة 1967م إلى نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973م،
ثم جعل من بعد ضعف قوة . والقوي أيضا لا يظل قويا. فالقوة دون الحق والعدل والخير. تدمر نفسها بنفسها،
ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا . فهو قانون تاريخي. الضعيف يصبح قويا، والقوي يصبح ضعيفا،
ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة . والدولة الفتية تهزم. وهذا القانون تذكرة ومتاع للمجاهدين الذين يحولون ضعفهم إلى قوة،
نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين .
والمحور الثاني:
هو الله رمز الحق والعدل والخير، أي المبادئ العامة الثابتة في حياة البشر بالرغم من تحولهم من القوة إلى الضعف أو من الضعف إلى القوة. فمهما انتصر العدو وكانوا ظالمين فإن القوة الدائمة لله وحده،
ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا . ويدرك الظالم حين يأتي العقاب أن القوة لله،
ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله . فالله الذي خلق العدو هو أشد منه قوة،
أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة . الله هو القوي المتين،
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وهو الناصر،
فما له من قوة ولا ناصر ، وهو العزيز،
إن ربك هو القوي العزيز ، وهو الشديد العقاب،
إن الله شديد العقاب .
والمحور الثالث:
قوة الوحي الذي به قوة الرسول أي قوة التمسك بالفكر والهوية،
إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين . فالوحي ليس فقط معرفة نظرية بل هو قوة عملية وحركة في التاريخ،
إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى . فالرسول هو القوي الأمين على الوحي وتطبيقه في المجتمع ومساره في التاريخ،
أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين . والرسول قبل الوحي وبعده في قوته وأمانته،
إن خير من استأجرت القوي الأمين .
والمسلمون أصحاب أمانة، الوحي في آخر مرحلة، ولكن تنقصهم القوة وإلا تخلوا عن الأمانة. والعدو صاحب القوة وتخلى عن الأمانة. فالتحدي الآن قائم بين المسلمين وأعدائهم، بين الأمانة دون قوة، والقوة دون أمانة. والقدس هي موطن هذا التحدي عند المسلمين أمانة بلا قوة، وعند إسرائيل قوة بلا أمانة. وجميع أراضي المسلمين وشعوبهم وثرواتهم ومصالحهم أمانة تنقصها القوة في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال. ليست القوة فيما بينهم،
بأسهم بينهم شديد . ولكن القوة في مواجهة أعدائهم حتى يرهبوهم ويمنعوهم من العدوان. (5) الضعف
وعادة ما يقرن الضعف بالقوة، والقوة بالضعف. فإذا كانت القوة ليست ثابتة بل هي في أيدي الناس تذهب وتأتي، تضعف وتشتد، فكذلك الضعف. فقد ورد اللفظ في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرة. نصفها تشجيع للمستضعفين ولوم عليهم أنهم بقوا على حالتهم دون تغييرها إلى قوة. فلا ضعف مع الحق، ولا قوة مع الباطل. وتدور معاني اللفظ حول ثلاثة محاور:
الأول:
الاستضعاف والمستضعفين أي الإحساس وهما بالضعف وقبوله وعدم البحث عن وسائل القوة والاستقواء. هو قبول الضيم والظلم والقهر والعبودية من المستقوين. فالاستضعاف سنة الخلق. إذا قويت طائفة استضعفت الطوائف الأخرى كما حدث في الغزو والاستعمار ،
وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم . فالاستضعاف والاستقواء قانون طبيعي بين الشعوب التي تعتمد على القوة دون العدل. وحجة المستضعفين هي قوة المستكبرين. وهي حجة ضعيفة. ترمي بالمسئولية في ملعب غيرها. فالعيب في الذات وليس في الآخر،
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . فالإيمان فعل ذاتي، لا يتعلق بقوة الآخر أو ضعفه. وهي حجة يعلم المستكبرون ضعفها ويردون عليها،
قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم . وحجة التقليد لا تجوز للضعفاء. فالتقليد تبعية،
فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا . ويحتج المستضعفون بأنه مكر الزمن ومأساة التاريخ وسوء الحظ إلقاء للتبعة على القدر وليس على النفس،
وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار . بل إن الأنبياء أنفسهم في لحظة ضعف يشعرون بأنهم ضعفاء أمام أقوامهم الأقوياء الذين لا يصدقون بهم،
إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني . فيستغرب الأعداء كيف يشعر الرسول بقوة وهم يرونه فيهم ضعيفا،
ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا . فدليل النبوة حسن الفهم والقدرة على الفعل أي القدرة النظرية والعملية. ويسأل الأقوياء الضعفاء إذا كانوا على ثقة من أن النبي قد أرسل من ربه ليعرفوا مدى إمكانية قوتهم في المستقبل،
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه . والمستضعفون اليوم هم الأقوياء غدا. ولم يسمهم القرآن الضعفاء بل المستضعفين؛ لأن الضعف ليس جوهريا فيهم بل طارئا عليهم،
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . وقد كان شعار الثورة الإسلامية في إيران وشعار «اليسار الإسلامي». فالمستضعفون اليوم هم وارثو الأرض ومن عليها غدا،
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ، فمصير المستضعفين القوة؛ إذ لا يبقى الاستضعاف على حال دائم،
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض . والقتال في سبيلهم واجب،
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان . الاستضعاف ليس حجة للاستكانة والخنوع والاستسلام،
فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، فالمستضعفون لهم حقوق في الاستقواء،
والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط ، ولهم حجتهم في عدم الاستطاعة الهجرة،
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان .
والمحور الثاني:
هو الضعف كجزء من النسيج البشري،
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا . كواقع ولكن يمكن تخفيفه وتحمله،
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ؛ لذلك لا يجوز في الشريعة تكليف ما لا يطاق. هناك صلاة القاعد والمسافر والمريض وهناك صيام المسافر والمريض،
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا . والحق أقوى من الباطل، والإنسان أقوى من الشيطان،
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا . وفي حالة الضعف العقلي أو البدني يكون للإنسان ولي يستعين به،
فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل . وليس على الضعفاء حرج، ولا على المرضى، ولا على الذين يريدون الجهاد ولكن لا يجدون ما يجهزون به أنفسهم،
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج . وإذا أراد الإنسان أن يخلق ذبابا أو أن يسلبه الذباب شيئا ما استطاع،
ضعف الطالب والمطلوب .
والمحور الثالث:
هي المسئولية الشخصية عن الذرية أي عن التاريخ، ألا تترك الأجيال القادمة ضعافا،
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فالذرية هنا ليس فقط الأبناء والأحفاد بل القوم والشعب، فالكل من ذرية آدم وإبراهيم. يعمل الإنسان على تقوية نفسه عند الكبر وعدم ترك ذرية ضعافا حتى تظل الجماعة قوية،
له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء . والحياة امتحان واختبار. وليس النصر بالضرورة مع القوة، وليست الهزيمة دائما للضعفاء. قد تكون القوة كما وليست كيفا. ويثبت التاريخ أن الكم لا ينتصر على الكيف،
فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا . فقد ينتصر العدد القليل على العدد الكثير كما حدث في بدر،
فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا . والضعف المؤقت في حاجة إلى صبر وإعداد ،
وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . (6) الكدح «الكدح» لفظ قرآني. لم يذكر إلا مرتين. الأولى اسم فاعل «كادح»، والثانية اسم فعل «كدح» في نفس الآية،
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
للتأكيد على أن الإنسان في هذا العالم فاعل وعامل وكادح، وأن الفعل والعمل والكدح هو وضع الإنسان في العالم، وهو ما يتفق مع كثير من الأمثال العامية على أن الحياة كفاح مثل «اعمل يا عبد وأنا أعينك»، وهو ما أكده الشعراء أيضا من أن الحياة عقيدة وجهاد.
وهو ضد القيم الصوفية الموروثة، ما يسمى بالمقامات والأحوال التي ذاعت في الثقافة الشعبية خاصة في المغرب العربي وفي مصر والسودان وفي البلاد الإسلامية والأفريقية والآسيوية في الهند وأواسط آسيا، وفي إيران التاريخية قبل الثورة الإسلامية. وهي القيم التي تعتمد على الصبر والتوكل والتواكل والخوف والخشية والرضا والاستسلام والقدرية، وأولوية الجوع على الشبع، والعطش على الري، والعري على الكساء، والعراء على الإيواء، والفقر على الغنى. فلا يعرف الله إلا ببطن جائع وبدن عار.
وهو ضد السلوك الشعبي الشائع عن المسلمين مثل الكسل وقلة العمل، والعجز وعدم أخذ زمام المبادرة، والتشاؤم من الحياة، وقلة الحيلة، وانسداد الطريق، وضيق الأفق، والاعتماد على السؤال ومد اليد، وانتظار الرزق من السماء أو من الإرث. فإذا ضاقت السبل في الداخل فالهجرة إلى الخارج والمخاطرة بالحياة بالتسلل بالقوارب في هجرات غير شرعية قد تنجح وقد لا تنجح وتنتهي بالموت غرقا أو بالسجن والترحيل.
وهو ضد الأوضاع الحالية للمسلمين من جوع وعطش ونزوح الملايين وهلاكهم بالأمراض أو الفيضانات أو الزلازل وعدم قدرتهم على السيطرة على واقعهم، وانتظار المعونات الأجنبية لهم من الكنائس والمنظمات الدولية. أفواه جائعة، وأجساد هزيلة، وأرواح صاعدة إلى السماء بالمئات كل يوم بالحرب أو النزوح. وتصنف معظم الشعوب العربية والإسلامية بأنها ضمن الدول المتخلفة أو النامية تعيش على ما ينتجه غيرها، وتستورد أكثر مما تصدر. لا تستطيع سد حاجات البدن أولا قبل التعليم والثقافة في عصر ينتشر فيه الإعلام، وتسيطر فيه الصورة .
والكدح يدوي وعقلي. الكدح اليدوي في الإنتاج. فالأرض متسعة، والمياه وافرة في السودان والعراق ومصر، والسواعد في مصر والسودان والخبرات العربية في كل مكان. والاستثمارات موجودة في الخليج. فإمكانيات الإنتاج الزراعي متوافرة. ما ينقص هو الإرادة والإحساس بالوحدة والتضامن المشترك والاعتماد المتبادل وخطط ومشاريع قومية للتنمية دون الاعتماد على الاستيراد من الغير. والمعادن موجودة في الصحراء، القاحلة في ظاهرها، الغنية في باطنها. فالتصنيع وارد بدلا من الاستيراد. والطاقة موجودة. فالصناعة بعد الزراعة نتيجتان طبيعيتان للكدح اليدوي.
والكدح العقلي متوافر في العقول العربية والطيور المهاجرة التي تنمي البلاد المتقدمة. ما ينقص هو الثقة بالذات، وأخذ زمام المبادرة، والتحول من النقل إلى الإبداع، والتأسي بجهود السابقين حيث كانت الزراعة والري في الأندلس والعراق نموذجا لزراعة الأوروبيين وريهم. ما ينقص هو الخروج على عادة الاسترخاء والتبعية والاستسهال.
وإذا كان الفلاسفة قديما قد قسموا الإنسان إلى أنواع: الإنسان العاقل أو الحكيم
homo sapiens
الذي يقتصر دوره على التفكير والتنظير مثل فيلسوف اليونان، والإنسان المتكلم
homo loquox
الذي وظيفته الكلام والجدل والمناظرة مثل الفيلسوف اللاهوتي في العصر الوسيط أو المتكلم الإسلامي الذي يثبت صحة العقائد، و الإنسان الهوائي
homo patheticus
وهو الصوفي الذي توجهه الانفعالات والحدوث الوجدانية فإن الإنسان العامل
homo faber
هو النموذج الذي طالب به الإصلاحيون المحدثون طبقا للنموذج القرآني،
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ،
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ،
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .
وقد قضى الغرب عصوره الحديثة في التحول من النظر إلى العمل. فالإرادة أوسع نطاقا من الذهن عند ديكارت. والعقل العملي هو القادر على التعامل مع بواطن الأمور وليس مع ظواهرها عند كانط. وفي البداية كان الفعل وليس الكلمة عند جوته. وليس المهم فهم العالم بل تغييره عند ماركس. والأنا تضع نفسها حين تقاوم عند فشته. والحقيقة عملية من صنع الإرادة عند برجسون.
والغريب أننا نعيب على الغير الذين يؤيدوننا باللسان دون الأفعال، وبالأقوال دون الأعمال مثل الغربيين والأمريكيين ونحن أولى بالنقد. فالأمة التي تقول إنها خير أمة أخرجت للناس محتلة، مجزئة، مقهورة، مغتربة، خاملة، راضية. شتان بين مثالها وواقعها. ليتها تتدبر معنى الكدح وتكون من الكادحين. (7) القسط
ومن مفاهيم العدل وصوره مثل الميزان مفهوم «القسط». وقد ورد في القرآن سبعا وعشرين مرة في صيغ متعددة، فعلية واسمية. أكبرها «القسط» اسم فعل، ثم «المقسطين» اسم مفعول جمع، ثم «القاسطون» اسم فاعل، ثم فعل الأمر «أقسطوا» أو المضارع «تقسطوا»، ثم أفعل التفضيل «أقسط».
ومن حيث المعنى أكثر الاستعمالات هو القسط مع اليتامى، والزواج منهن أفضل من استغلال ثرواتهن من الوصي عليهن،
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . فاليتامى مثل المستضعفين من الولدان،
والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط . والقسط أيضا بين الأزواج،
فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين . والقسط في الحرب والسلم. فالقسط مع المسالمين الذين لم يحاربوا المسلمين،
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . فإن عاد المقاتلون إلى الحق فالبر والقسط معهم،
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . والقسط أيضا يكون في الكيل والميزان، مع الأشياء وليس فقط مع الأفراد،
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ،
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، الكيل والميزان بالقسط،
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . وهي عادة عربية حتى الآن وكتابة العقود والديون والآجال أقسط عند الله، ومنعا للريبة والغش،
ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا . ودعوة الأبناء إلى الآباء أقسط عند الله. فالنسب للأب،
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله .
والقسط من أفعال الله لأن الله لا يظلم أحدا،
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط . والله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيما بينهم،
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . والحكم بين الناس بالقسط أمر إلهي،
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين . القسط أمر إلهي شهادة لله،
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ، والشهادة لله شهادة بالقسط،
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط . والقسط حكم بشري بناء على أمر إلهي،
وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين . القسط أمر إلهي وليس فقط مصلحة بشرية عامة،
قل أمر ربي بالقسط . فقد قضى الرسول بين الناس بالقسط ولا يظلم من الناس أحدا،
فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .
والأمر بالقسط جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة في سبيله،
ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم . فالسلطان يريد أن يحكم بمفرده دون مراجعة أو تصحيح. يفعل الناس ما يأمرهم به ويطيعونه دون مراجعة. وجزاء الشهداء الجنة،
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط . والقاسط غير المقسط. القاسط نقيض المقسط. القاسط هو الذي يتجاوز القسط، وهو نقيض المسلم،
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون ،
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا .
ومن «القسط» اشتق «القسطاس» وهو الميزان والمقياس العدل الذي يوزن به ويقاس،
وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ومن لا يزن بالقسطاس فإنه يخسر من الأشياء أو ينقص منها،
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم ؛ لذلك سمى الغزالي أحد كتبه المنطقية في القياس «القسطاس المستقيم» الذي توزن به الأشياء بالعدل والقسطاس.
ومن الشائع أن التاجر العربي يخسر في الميزان إذا باع ويستوفي إذا اشترى،
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . والصانع يغش في صناعته. وكل صاحب عمل يزور في عمله حتى عم الفساد وغاب القانون، القانون التجاري، والقانون الأخلاقي، قانون الضمير. وعم الظلم حياة المسلمين مع أن السموات والأرض قامتا على الميزان والقسط، والحياة تأسست على العدل. وربط المعتزلة بين التوحيد والعدل. التوحيد بلا عدل، فارغ بلا مضمون. والعدل بلا توحيد قد يقع في الهوى والنسبية والمصالح الشخصية. كما قامت عديد من الأحزاب الإسلامية المعاصرة في المغرب وتركيا والسودان باسم «العدل والمساواة» تأكيدا على المضمون الاجتماعي للتوحيد. وما زالت شخصيات مفتاحها العدل محط احترام وتبجيل في تاريخنا القديم مثل عمر بن الخطاب. وفي أمثلتنا الشعبية الموروثة «العدل أساس الملك». وأعظم لقب للسلطان هو «السلطان العادل». (8) الميزان
وإذا كان القسط من مفاهيم العدل فإن الميزان من صوره. وقد ورد لفظ «الميزان» ومشتقاته في القرآن الكريم ثلاثا وعشرين مرة اسما أكثر منه فعلا للدلالة على حقيقة الميزان والموازين. والفعل في صيغة الأمر للدلالة على أن العدل أمر إلهي وحقيقة موضوعية. وهي موازين موضوعية «الميزان» و«الموازين»، وموازين ذاتية لقياس أعمال الإنسان «موازينه». وهما الصيغتان الاسميتان الأكثر شيوعا.
وقد ورد اللفظ بخمسة معان:
الأول:
وهو الأكثر شيوعا هو العدل في الدنيا والأمانة في التجارة، واستيفاء الكيل والوزن بالعدل والقسطاس،
وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ، وهو المعنى الحسي في البيع والشراء،
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، وهو أمر مباشر للناس،
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط . وعادة ما يريد البائع إعطاء الشاري أقل من حقه فيخسر في الميزان ويغش فيه بالنقص،
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . فالدفاع عن حق المستهلك ضد جشع البائع،
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان . فالنقص من الوزن يبخس حق الناس،
فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم . واستيفاء الكيل وعدم النقص فيه علامة على الخير وحسن السلوك والفضيلة،
ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير . وقد يكون المعنى مجازيا، ليس فقط الأمانة في السوق بل أيضا في الحياة العامة. الميزان في كل شيء، والقسطاس المستقيم في كل سلوك،
وزنوا بالقسطاس المستقيم . فالغش في الميزان علامة على الطغيان وعدم احترام حقوق الآخرين،
ألا تطغوا في الميزان . فالطغيان ليس فقط في السياسة بل أيضا في الاقتصاد. ومن يتحكم في الرأي يتحكم أيضا في السوق.
والمعنى الثاني:
أن الكتاب نزل بالحق والميزان. فالوحي ميزان للحقيقة وعدالة في الرؤية،
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . الوحي إقرار للعدل في الدنيا ومنع للطغيان وليذكر الناس بالقسط ،
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط . الوحي والعدل صنوان. لذلك جعل المعتزلة من أصولهم التوحيد والعدل. وجعلوا العدل أساس التوحيد وليس القهر والقمع والظلم.
والمعنى الثالث:
أن الميزان أساس الكون أيضا، وأن الكون يقوم على ميزان دقيق،
والسماء رفعها ووضع الميزان . فالعدل ليس فقط في السلوك البشري ولكن أيضا في الكون،
كل في فلك يسبحون . حركة الكون منتظمة، دوران الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها. وكل شيء في الكون له وظيفته في الاتزان. الجبال رواسي شامخات لاستقرار الأرض، والبحار ممتدة ليصعد منها البخار فتتراكم السحب فينزل المطر، وتخضر الأرض، ويأكل الحيوان والإنسان منها،
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون .
والمعنى الرابع:
هو الوزن الحق يوم القيامة، كل حسب عمله طبقا لقانون الاستحقاق،
والوزن يومئذ الحق ، وهو الميزان الشامل لسلوك الإنسان في الدنيا وتقييم أعماله طبقا لقانون العدل. فالحياة اختبار. والبعث نتيجة لهذا الاختبار.
والمعنى الخامس:
هو قانون العدل أو الاستحقاق، وهو الميزان القسط يوم القيامة،
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . فالموازين الثقيلة بالأعمال الصالحة نجاة. والموازين الخفيفة بالأعمال الصالحة هلاك،
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه يخسرون أنفسهم،
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون . من ثقلت موازينه يكون من الفالحين،
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه يكون من الخاسرين. من ثقلت موازينه يكون في عيشة راضية،
فأما من ثقلت موازينه. فهو في عيشة راضية . وأما من خفت موازينه فهو من الهاوين. وتكون المسئولية على أمه التي لم تقم بتربيته التربية الصحيحة،
وأما من خفت موازينه. فأمه هاوية . ومن حبطت أعماله ليس له وزن يوم القيامة أي ليست له قيمة،
فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا .
فالميزان صورة العدل كما هو موضوع ومحفور على أبواب المحاكم، وهو أيضا صورة العدل في الآخرة منذ قدماء المصريين ووزن أعمال الميت، أعمال الروح. فالميزان في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة، وفي الطبيعة والكون. لا فرق بين الذات والموضوع، بين الدنيا والآخرة. فالميزان واحد وعام وشائع مهما اختلف الزمان والموضوع.
الفصل السابع
الحرية
(1) الدين والشرعية المزيفة
في هذا العصر الذي تتزايد فيه مظاهر الحياة الدينية، ويصبح الدين هو الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون يجدر التمييز بين الشرعية الفعلية والشرعية المزيفة باسم الدين. الشرعية الفعلية بطبيعة الحال هو الصدق مع النفس والفعل الحر، والتمييز العقلي بين الحسن والقبح، واتباع الفطرة «استفت قلبك وإن أفتوك». الشرعية الفعلية هي صفاء النية أو ما يسميه القدماء «لوجه الله» دون رعاية لمصلحة شخصية أو مغنم دنيوي. وصدق النية شرط صحة الفعل؛ لذلك خصص القدماء جزءا كبيرا من علم أصول الفقه للتحايل. كيف يكون الفعل شرعيا في الظاهر لا شرعيا في الباطن، وهو ما يسمى في الأخلاق النفاق والرياء، وما يعرف في علم النفس باسم ازدواجية الشخصية.
قد تأتي شرعية السلوك الإنساني من المبادئ الأخلاقية مثل الواجب، وهو ما تستطيعه النخبة وأولاد البلد. وهي أخلاق الشهامة والبطولة و«الجدعنة» بالتعبير الشعبي، وقد تأتي الشرعية من العادات والتقاليد وهو سلوك غالبية الناس
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . هي شرعية الواقع والتداول والألفة. لا تغير شيئا في سلوك الناس إلا بقدر ما تتغير هذه العادات نفسها بفعل الزمن وتغير العصور، وقد تأتي الشرعية من القانون وهي شرعية صورية نظرا لعدم إيمان أحد به لأنه مفروض من النظام السياسي يعبر عن مصالح الدولة أو الطبقة الحاكمة وليس عن مصالح الأفراد، يسهل التحايل عليه بتفسيره طبقا للمصلحة الشخصية أو بالالتفاف حوله أو بالرشوة. وإذا ما طبقت فبدافع الخوف من العقاب والغرامة وليس عن اقتناع داخلي لغياب الولاء للدولة ومعاداة النظام السياسي. وقد تأتي الشرعية من المصالح العامة وإرادة الأغلبية مثل التأميم، والإصلاح الزراعي، والقطاع الخاص، ومجانية التعليم، والسد العالي. وهي شرعية مشروطة بمدى استمرار النظام السياسي والاختيارات السياسية.
إنما الأخطر أن تأتي الشرعية باسم الدين في الظاهر وبدافع المصلحة الشخصية في الباطن. وتكثر في المجتمعات الدينية والنظم الدينية والثقافة الدينية. والأمثلة على ذلك كثيرة في كيفية ممارسة شعائر الإسلام وأركانه الخمسة؛ إذ تتمتم الشفتان بالشهادتين أمام الجنازة دون معرفة أسباب الموت، وفي لحظات العجب والاستغراب والغضب والانفعال الشديد. ويصحب التمتمة رفع إصبع السبابة إلى أعلى إعلانا عن الوحدانية. والشهادة تحتاج إلى فعلين: نفي وإثبات، رفض وقبول. الأول «لا إله»، والثاني «إلا الله». فالشهادة فعل وليست قولا، معارضة قبل الموافقة.
وتتم الصلاة أمام الناس بالإعلان عنه بالقول والفعل، بالسؤال عن وقتها، واتجاه القبلة، والانشغال عن أداء العمل اليومي في أماكن العمل. لذلك فضل الصوفية الصلاة بالقلب وليس بالجوارح، والحج إلى رب البيت وليس إلى البيت. ويخصص الطابق الأرضي كمصلى في عمارة من عشرات الأدوار وبيع شققها بالملايين مع الغش في مواد البناء ورشوة مهندسي الحي وللإعفاء من العوائد والضريبة العقارية. وتكثر موائد الرحمن من الأغنياء تبريرا لثروتهم بإطعام الفقراء ونيل الحظوة الاجتماعية واطمئنان الضمير، وضمان بقاء الثروة، وتحويل الكسب غير المشروع إلى كسب مشروع. وتكثر العناوين الإسلامية واليافطات وأسماء المحلات ذات الرموز الإسلامية مثل «التوحيد والنور»، «الإسلام»، «الإيمان»، في جزارة الأمانة، وبقالة الإخلاص، وسباكة الصدق، وبلح مكة، وروائح المدينة، والطب النبوي. وفي البنوك إذا وجدت النساء طابور الرجال طويلا دعون إلى طابور للنساء منعا للاختلاط في الظاهر، وأسبقية للتعامل في الباطن. وإذا وجدن طابور النساء طويلا في مكاتب البريد والاتصالات وقفن مع الرجال، فالإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل، والمهم هو طهارة القلب في الظاهر، وفي الباطن لأسبقية التعامل في طابور الرجال القصير. والبنوك الإسلامية تصدر حوائطها وأوراقها بآية
وأحل الله البيع وحرم الربا
وهي تضارب في أموال المودعين في البنوك الأجنبية كما حدث من قبل مع شركات توظيف الأموال. والحجاج بملابس الإحرام يخرجون من منازلهم متوجهين إلى المطار يستقبلون التهاني ذهابا وإيابا وهم يحيون أهل الحي الذين يودعونهم ويستقبلونهم بالزغاريد. ويأخذ الحاج اللقب ويضعه قبل اسمه كي يطمئن الناس إليه في معاملاته في السوق.
وأحد الأسباب في هذا النفاق الاجتماعي والشرعية المزيفة هو ما ورثناه من الأشعرية، عقيدة الدولة، أن الحسن والقبح من خارج الأفعال وليس من داخلها. شرعيتها من أحكام الأمر والنهي وليست من منافعها وأضرارها في حياة الأفراد والجماعات. ولو أمر الله بالقبيح لتم فعله. وبالتالي ضاع استقلال الأفعال، وأصبحت شرعيتها مشروطة بإرادة خارجية. وقد يكون أحد الأسباب الرضوخ لموجة الإرهاب الديني، وتملق الحركات الإسلامية بل والمزايدة عليها. وقد يكون بقايا من نفاق اجتماعي عام يضم الحاكم والمحكوم، الدولة والمواطن، الرئيس والمرءوس. الرئيس ليتسلط، والمرءوس ليتعايش، «إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيد».
لذلك نقد القرآن النفاق نقدا شديدا. النفاق مرض في القلب
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، وهو كذب مغلف
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، وهو فسق أي خروج العمل عن النية الصادقة
إن المنافقين هم الفاسقون ، وهو خداع للنفس ولله
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم . يظن المنافق أن نفاقه غير مرئي وهو ظاهر للعيان
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم . النفاق سلوك الأعراب والبدو
الأعراب أشد كفرا ونفاقا . يتذرعون بحجج كاذبة لعدم الجهاد
وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ؛ لذلك حض القرآن على قتالهم ومساواة النفاق بالكفر
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم . وجهاد المنافقين دحض النفاق وكشف الباطن وراء الظاهر، وإيثار لحظات الصدق مع النفس والاختيار الحر، والشجاعة الأدبية كما كان الحق على لسان عمر وقلبه. لا يحتاج الإنسان للشرعية المزيفة ليكسب أفعاله غطاء دينيا. يكفيه الاقتناع الذاتي بحسن الفعل وبالتالي تتحقق وحدة الشخصية الإنسانية، ويتوحد السلوك الإنساني، ويكون الإنسان حينئذ جديرا بالتوحيد. (2) حرية الفكر
في مشروع اليسار الإسلامي يأتي تحرير الأرض أولا ثم حرية الفكر ثانيا. فالوطن له الأولوية على الفرد. لا خصومة في الوطن وإن تعددت رؤى الأفراد «أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب». ومصلحة الجماعة لها الأولوية على مصلحة الأفراد. قد يؤثر بعض الليبراليين حرية الفرد أولا، فلا وطن حر دون مواطن حر. وقد تؤيد ذلك تجارب العرب المعاصرة في عصر الثورات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي. فقد قامت حركات التحرر الوطني أولا من أجل حرية الوطن ثم تحولت إلى نظم قاهرة للمواطن. فقد الوطن حريته واستقلاله بعد أن تم غزوه من جديد. وظل المواطن مقهورا يحن إلى عصره الليبرالي الأول قبل ثورة الضباط الأحرار. ومع ذلك المواطن مستعد للمرة الثانية أن يتنازل عن حريته في سبيل حرية الوطن واستقلاله في فلسطين والعراق.
وما يمنع المواطن أن يكون حرا ليس فقط النظام السياسي الذي يقوم على القهر الخارجي بل هو القهر الداخلي مما يدفع المواطن إلى التنازل عن حريته طوعا. ويأتي الخوف أولا. فالحرية مخاطرة. تواجه قهرا خارجيا. قد يصيب المناضل بعض الأذى قد يصل إلى حد الاعتقال أو الاغتيال. وإيثار السلامة أفضل من المخاطرة بالنفس والمال والأهل والولد. وما أسهل تبرير ذلك بالنص،
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . مع أن هناك نصوصا أخرى تدفع إلى نبذ الخوف،
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
والتقليد أيضا أحد أسباب التنازل عن ممارسة الحرية اتباعا للأسلاف،
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، أو
مهتدون . فاتباع القدماء وطلب الأمر لديهم خير من المغامرة مع المحدثين. والتقليد ليس مصدرا من مصادر العلم بل الاجتهاد. وماذا لو كان الآباء لا يفقهون ولا يعقلون؟ وقد تنبأ الرسول بتقليد الأمة لغيرهم، اليهود والنصارى «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ فقال: فمن إذن.» وقد يكون التقليد للعادات والأعراف واتباع الأمثال العامية التي تؤثر السكون والأمن مثل «الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح». والدعوة إلى الانعزال مثل «لا لينا فيها بيت ملك، ولا طين شرك»، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يدافع عن الأوطان إلا إذا امتلك فيها شيئا، عقارا أو أرضا.
وقد يكون الخوف من «سي السيد» رمز السلطة والتسلط في الدين والدولة ، في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في المؤسسة والطريق العام. وقد يكون «سي السيد» شخصا أو فرقة ناجية أو أيديولوجية سياسية مختارة. هو الأب والأخ الأكبر أو الأم أو الأخت الكبرى. هو المعلم الموجه والقائد. هو الزعيم والرئيس، صاحب العظمة والفخامة والسيادة والنيافة والغبطة مدى الحياة. هو مصدر الخوف والقهر والتسلط، صاحب الأمر والنهي.
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . والقتل جزاء من خرج على طاعة الإمام. في حين أن الخروج على الإمام الظالم واجب شرعي بعد استنفاد الوسائل السلمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النصيحة، القضاء.
ومن شدة الخوف وطول الاتباع ينشأ عدم الثقة بالنفس والإحساس بالعجز. فتنزوي الحرية الطبيعية. وتنقلب إلى الداخل، وتصبح مجرد إمكانية لا تتحقق، مجرد أمنية صعبة المنال. فتصاب النفس بالهلع والجزع في كل مرة تتفجر فيها الأحداث كالمظاهرات الطلابية أو العمالية أو اعتصام الموظفين أو حتى انتفاضات الأمن المركزي، أي جهاز الدولة من داخله. ويسري الموت في الروح بتعبير السيد المسيح.
ولما كان الإنسان بطبيعته يؤثر السلامة، والتعايش مطلب الرزق، فقد يتنازل عن حريته طوعا لا كرها. ويجد في الأمثال العامية ما يبرر موقفه «إن كان لك عند الكلب حاجه قل له يا سيد»، وهو ما عارضه القرآن بنقد إيثار الدنيا على حساب الآخرة،
بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى .
وتكون النتيجة إيثار السر على العلن، والخفاء على الجلاء، والهمس على الجهر. فتقع ازدواجية الخطاب والسلوك. القول باللسان دون إيمان بالقلوب. والعمل بالأركان دون اقتناع داخلي. أصبح المواطن يقول ما لا يعتقد، ويعمل بما لا يؤمن به، يكتب ما يريد على دورات المياه، في الأماكن السرية، وعلى عربات النقل فيما يسمى «هتاف الصامتين».
وهو وضع مصطنع وليس طبيعيا، موقف زائف وليس أصيلا. فقد يتفجر الضمير في النهاية حينما يصبح الهم والكذب والنفاق هما على القلب،
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم . وكما قال السيد المسيح «ماذا ستكسب لو كسبت العالم وخسرت نفسك». كما تنفجر الثورات الشعبية بعد طول صمت وقبول الضيم. التاريخ قصة الحرية كما يقول كروتشه، والوجود هو الحرية كما يقول فلاسفة الوجود المعاصرون.
لقد عبر القرآن عن هذه المعاني بألفاظ أخرى مثل الصدق والإخلاص والإيمان والإسلام. الشعار هو التشهد ويعني الإعلان عن الحق والجهر به وليس كالمثل الصيني «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم»، أو المسرحية الشعبية «شاهد ما شفش حاجة»، ويتكون من فعلين: نفي في «لا إله»، وإثبات في «إلا الله». يقوم الفعل الأول بنفي كل آلهة العصر المزيفة من مال وجاه وثروة وسلطان ونساء وقوة. ثم يقوم الفعل الثاني بعد تحرر الوجدان بإثبات المبدأ العام الذي يتساوى أمامه الجميع. فالشهادة فعل الحرية.
وقد ورد لفظ تحرير في القرآن الكريم خمس مرات بمعنى تحرير الرقبة أي رفض العبودية، تكفيرا عن ذنب مثل القتل الخطأ،
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة ، صديقا كان أو عدوا،
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ، معاهدا أو محاربا،
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فإن كان ذنبا فتحرير العبد تكفير عن هذا الذنب لأن العبودية جريمة،
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة . وإن كان إهمالا للنساء فتحرير رقبة لأن وحدة المرأة ذنب،
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة .
وقد ذكر لفظ «الحر» مرتين في القصاص،
كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، وهو التصور الفقهي للحرية في عصر كانت العبودية نظاما شائعا عند الفرس والرومان والعرب.
وذكر لفظ «محرر» مرة واحدة إثباتا للحرية المساوقة للوجود حتى للطفل قبل الولادة كما فعلت السيدة مريم،
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل . فالحرية هي الطبيعة والفطرة، وهو معنى قول عمر الشهير «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
هذا هو موقف اليسار الإسلامي من الحرية. ومن ثم كانت الليبرالية جزء منه، وهو القاسم المشترك الذي يلتقي عليه الجميع. (3) اليهود والعدوان
بالإضافة إلى مفاهيم المهمشين والمظلومين والمساكين واليتامى وأبناء السبيل والأسرى والفقراء والمحرومين والمحتاجين والسائلين والمؤلفة قلوبهم، وبعد العدوان على غزة الشهر الماضي تبرز في القرآن مفاهيم العدوان والمعتدين من اليهود والمشركين.
وقد استعمل القرآن ثلاثة مصطلحات للإشارة إلى اليهود: اليهود، والذين هادوا، وبني إسرائيل. اليهود والذين هادوا للذين اعتنقوا الدين، وبني إسرائيل للشعب التاريخي الذي أرسل له الله الأنبياء. وبمصطلح المحدثين، الأول للبنية، والثاني للتاريخ.
وقد ورد اللفظ الأول «الذين هادوا» و«هود» بستة معان، خمسة منها سلبية نقدا لسلوك اليهود، والسادس إيجابي لوصف سلوك القلة منهم. فالذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه،
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه . يكذبون في قراءة المواثيق، ويئولونها لصالحهم. لا يقرءون في التوراة إلا اختيار الله لهم، ولا يقرءون لعنة الله عليهم لعصيانهم تعاليم الأنبياء والكفر بهم بل وقتل بعضهم، ويفعلون نفس الشيء مع مواثيق الأمم المتحدة ويجعلونها تبيح لهم العدوان على الشعب، وقتل الأبرياء، النساء والأطفال والشيوخ. لا يحفظون كلام الله لا نصا ولا تدوينا ولا فهما إلا لصالحهم الخاص، ولا حقيقة إلا لمصلحتهم الخاصة.
والثاني الكذب،
ومن الذين هادوا سماعون للكذب . يعرفون الحق ولا يعلنون عنه، ويقولون غيره، يعلمون أنهم معتدون مغتصبون قتلة سفاحون ولكنهم يدعون أنهم يدافعون عن النفس، ويعودون إلى أرض الآباء والأجداد، وأنهم يطهرون أرضهم من الغرباء، وأنهم يعيدون شعبا بلا أرض إلى أرض بلا شعب. فالصهيونية كذبة كبرى وسوء تأويل للتاريخ، ورؤية عنصرية لليهودية في وقت انتشرت فيه المذاهب العنصرية والقومية والرومانسية في الغرب حلا لقضية القوميات بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى، النمساوية والمجرية، وفي نفس وقت صعود المد النازي والتفسير العنصري للتاريخ.
والمعنى الثالث احترام كل ذي ظفر حي،
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . فالحياة صفة من صفات الله مع العلم والقدرة والله خالقها ومعطيها وواهبها. هو الذي يحيي ويميت . يخلق الميت من الحي، والحي من الميت. وهم يفعلون الضد. يدمرون الأحياء، الزرع والبشر، الحيوان والإنسان. ويحرقون الناس بالقنابل الفسفورية وبالمواد الملتهبة. الحياة قيمة مطلقة؛ لذلك شرع القصاص، العين بالعين والسن بالسن حفاظا على الحياة. وهي شرعة كل الأنبياء،
وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل . بل لقد امتد التحريم إلى أشياء حللها الله لهم منعا لظلمهم،
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . ومع ذلك لم يمنعهم هذا التحريم من العدوان على غيرهم واستباحة دمائهم وأعراضهم ودورهم وأموالهم.
والرابع الزعم بأنهم أولياء الله دون غيرهم من الناس،
قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت . فأولياء الله من يطيعونه، ويكونون مثله في أفعالهم وسلوكهم. وهم أحرص الناس على الحياة لهم وحدهم دون غيرهم. الكل عبيد وخدم لهم. يستولون على ثروات غيرهم ويسيطرون على مقدراتهم حتى كادوا أن يستحوذوا على ثروات العالم. وأصبحت رءوس أموال العالم كله يهودية.
والخامس اعتبار أنفسهم على حق دائم، وغيرهم على باطل، وأنهم وحدهم هم الناجون وغيرهم الهالكون، وأن من ليس معهم فهو ضدهم،
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . فانضم إليهم النصارى وعادوا المسلمين. طريقهم هو الهداية،
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا . بل جعلوا الأنبياء كلهم يهودا وهو حنفاء على دين إبراهيم، دين الفطرة وهو الإسلام،
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى . فلا حقيقة إلا فيهم، ولا هدى إلا لديهم.
والمعنى السادس الإيجابي الأخير هو القلة الصالحة وهم المؤمنون، لا فرق بين مللهم وشرائعهم التي تقوم على الحق والعدل،
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . هم الذين ينتصرون للحق ضد الباطل، ويدافعون عن العدل ضد الظلم. هم الذين يدافعون عن الفلسطينيين ضد العدوان عليهم في غزة. وينتصرون لهم ضد جماعات الضغط الصهيونية المسيحية المحافظة . فالحق لا يموت على الألسن، والعدل لا ينطفئ من القلوب، وهو ما زال ساطعا في الإعلام الحر ومدويا على ألسن أمثال جافيز ودي موراليس وتشومسكي وغيرهم من الأصوات الحرة الباقية حتى آخر الزمان. (4) الطغيان
يعيب بعض المتغربين على الفكر الإسلامي أنه لم يعرف مفهوم الحرية بالمعنى الحديث، حرية الإنسان كما قررته الثورة الفرنسية ومواثيق حقوق الإنسان والدساتير الحديثة. بل عرف الحرية في مقابل الرق «تحرير رقبة» والحر في مقابل العبد،
الحر بالحر والعبد بالعبد . وقضية الحرية تتجاوز اللفظ إلى المضمون. فكثير من الثقافات عرفت اللفظ دون المضمون.
وقد عالج القرآن الكريم قضية الحرية بطريقة غير مباشرة عن طريق تحرير الإنسان من الطغيان. فالحرية يتم تناولها سلبا من أجل القضاء على موانعها ومحدداتها ونقائضها في الطغيان والاستبداد والقهر والعبودية.
وقد ورد لفظ «الطغيان» في القرآن تسعا وثلاثين مرة، أي إنه موضوع رئيسي. نموذجه فرعون،
اذهب إلى فرعون إنه طغى ، ونظامه،
وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد . وقد يتبناه أي نظام اجتماعي لقوم طاغين،
أتواصوا به بل هم قوم طاغون . فالطاغية لا يسمع نصيحة. والطغيان مجرد حلم لا يتحقق،
أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ، وهو اختيار حر من الناس وليس إملاء عليهم من أحد، من قدر أو تاريخ أو ضرورة اجتماعية،
وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين . وليس إغواء من قرين أو صديق،
قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد . ومن ثم تتهاوى حجج الطغاة بأنهم كانوا مضطرين للطغيان لظروف سياسية واجتماعية وتاريخية. وقد يطغى الإنسان من نفسه بناء على مسئوليته الخاصة،
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى . إذا ما شعر أنه ليس بحاجة لأحد، وأنه قادر على كل شيء.
والاستقامة نقيض الطغيان. فالطغيان انحراف عن الطريق القويم،
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، فالطغيان يجلب غضب الله،
ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ، بل إن الكون كله يقوم على العدل والميزان،
والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان . والعدل البشري جزء من العدل الكوني، والعدل الكوني جزء من العدل الإلهي. الطغيان يخيف لأن الإنسان يأباه بطبعه وينفر منه،
قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . وإذا ما خاف الإنسان فإنه قد يزداد طغيانا ليعطي لنفسه الأمان الزائف،
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا .
والطغيان يعادل الكفر بالله، فالطاغية كافر بالله،
وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا . والكفر والطغيان إرهاق للإنسان لا يستطيع أن يتحملهما،
فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا . الله والطاغوت نقيضان. ولا يمكن الإيمان بهما في نفس الوقت. الإيمان بالله يتطلب الكفر بالطاغوت، والإيمان بالطاغوت كفر بالله،
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى . الكفر بالله ولاية للطاغوت،
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت . ولا يمكن لمن يؤمن بالكتاب أن يؤمن بالطاغوت في نفس الوقت،
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت . ولا يمكن أن يكون الطاغوت حكما بين الناس وليس الشريعة الإلهية،
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به . ومن يقاتل في سبيل الله غير الذي يقاتل في سبيل الطاغوت،
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فالعبادة لله وحده وليس للطاغوت،
أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .
ويثبت التاريخ أن الطغيان لا يدوم مثل قوم نوح،
وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى . وهلكت ثمود لأنها كانت طاغية،
فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية . فالطغيان عاقبة الخسران في الدنيا وفي الآخرة،
فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى . وللطاغين شر عاقبة،
هذا وإن للطاغين لشر مآب . لهم جهنم وبئس النار،
إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا . حينئذ لا ينفع الندم،
قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين .
والله لن يمنع أحدا من طغيانه لأنها مسئولية شخصية يحاسب عليها يوم القيامة،
الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون . فاليقظة من الداخل. ومن لا يستطيع أن يدرك خطورة الطغيان وآثاره الوخيمة فلن يستطيع أحد أن ينقذه منه،
ويذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو ساعده الله ورحمه فإنه قد يظل في طغيانه،
ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون .
محاربة الطغيان إذن هي محاربة للكفر. فالكفر ليس مقولة باللسان حول وحدانية الله بل هي إشراك إرادة أخرى مع إرادة الله، إرادة الطاغية، وحكم آخر غير حكم الله، شريعة الطاغية، ونظام آخر غير نظام الله، نظام الطاغية. الإيمان بالطاغية شرك لأنه يشارك الله في خلقه وإرادته. ومن ثم كانت محاربة الطغيان في النفس وفي المجتمع وفي الكون بداية التحرر بالقضاء على موانعه ومحدداته. فالحرية تمارس سلبا قبل أن تمارس إيجابيا، وذلك بالقضاء على كل مظاهر القهر والطغيان. (5) تحرير رقبة
لم يغب لفظ الحرية ومشتقاته في القرآن الكريم، بل ورد في سياق الحضارات القديمة، فارس والروم، الحرية في مقابل العبودية، والحر في مقابل العبد. وورد لفظ تحرير خمس مرات في القرآن بمعنى تحرير الرقاب أي تحرير الرق أو تحرير الأسرى. وقد بقي رق الأفراد حتى القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب. وبقيت معركة حقوق الإنسان والمساواة بين الأجناس في الحقوق والواجبات والتي ظلت حتى النصف الثاني من القرن العشرين. واستؤنف رق الأفراد في رق الشعوب في موجات الغزو الاستعماري الغربي الحديث، استعباد شعوب بأكملها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وما زالت بقاياه في القرن الواحد والعشرين في غزو أفغانستان والعراق. وما زال الغزو الصهيوني لفلسطين قائما منذ منتصف القرن العشرين حتى الآن.
لم يكن من السهل إلغاء الرق بتشريع لأنه كان مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية. كان جزءا من البنية الاجتماعية. بل كان الهدف هو إلغاءه من النفوس والوعي والوجدان حتى يتحرر الإنسان من استعباد الآخرين. فتحرير السيد من الاستعباد سابق على تحرير الرق من العبودية.
والصورة القرآنية «تحرير رقبة» وكأن العبودية هي عبودية للرقاب. والرقبة رمز العزة والكرامة والحرية، مرفوعة أو مطأطأة. فهي التي تحمل الرأس. وهي أضعف جزء في جسد الإنسان، تضرب بالسيف أو تخنق باليد. فمن قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير رقبة مؤمنة للإيحاء بأن إبقاء العبد في عبوديته يعادل القتل،
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة . فإن كان المقتول خطأ من قوم عدو وهو مؤمن فتحرير رقبة أيضا لا فرق بين أعداء وأصدقاء. فالحرية تتجاوز الأوضاع السياسية،
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة . وإن كان من قوم معاهدين فتحرير رقبة أيضا لأن الرق يساوي خرق العهد،
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . فإذا كان هناك لغو في الإيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. فالرق ذنب يعادل اللغو في الإيمان،
فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة . ومن يظاهر امرأته ثم يعود لما ظاهر من أجله ولا يستطيع الالتزام بإرادته فعليه تحرير رقبة حتى يتعود على قوة الإرادة. فالاستعباد ضعف في الإرادة، وخيانة للعهد الإنساني،
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة .
وفي القصاص كان الشرع أولا الحر بالحر والعبد بالعبد، والذكر بالذكر والأنثى بالأنثى،
كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى . ثم نسخ بعد ذلك النفس بالنفس بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي أو النوع الجنسي للإنسان. فالحياة حياة، والروح روح. لا فرق بين نفس الحر ونفس العبد، ولا بين روح الذكر وروح الأنثى.
والتحرير مظهر من مظاهر الكمال الإنساني. فقد نذرت مريم ما في بطنها لله محررا أي خالصا كاملا،
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ، وهو ما يقصده اللاهوت المسيحي بأنه مخلص من الخطيئة. فهو كلمة الله وروح منه، خال من غواية الشيطان. فالمسيح نموذج المتحرر من أهواء البشر وانفعالاتهم خالصا لوجه الله.
وقد تأتي صورة «فك رقبة» دون لفظ تحرير، ولكنها تعني نفس الشيء. فالعقبة هي فك رقبة، اجتياز مانع، مانع العبودية،
وما أدراك ما العقبة * فك رقبة . وصورة الأسير أنه «في الرقاب» يستحق الصدقة مثل المساكين وابن السبيل والسائلين،
ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب . فالأسير له حق حسن المعاملة، الطعام والشراب والإيواء، وليس التعذيب والتجويع والإيذاء. الأسرى تتكفل بهم الدولة مثل الموظفين فيها والمؤلفة قلوبهم،
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب ، وهو ما تنص عليه المواثيق الدولية لحقوق الأسرى وحمايتهم.
وفي السجون الإسرائيلية أحد عشر ألف أسير فلسطيني بلا حقوق. وفي معسكر الاعتقال الأمريكي جوانتانامو مئات من المعتقلين السياسيين بلا محاكمة، وفي سجون كثير من الدول مسجونون سياسيون بلا حقوق. فمتى تفك رقابهم تكفيرا عما يقوم به سجانوهم من آثام التعذيب والاعتقال بلا محاكمة ولا دفاع؟ فقد تحول الرق الآن من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، من الرق بمعنى العبودية نتيجة للملكية إلى العبودية بمعنى استرقاق الأفراد في السجون واسترقاق الشعوب بالغزو. وكلاهما يفيد معنى فقدان الحرية وإن اختلفت الوسائل، الملكية أو الطغيان. (6) العداوة والعدوان
نظرا للخلافات العربية العربية التي تصل أحيانا إلى الاشتباكات المسلحة يبرز سؤال: إلى أي حد يجوز عدوان العربي على العربي، والمسلم على المسلم؟ وقد تكرر لفظ «عدو» في القرآن الكريم مائة وواحد مرة أكثر من ألفاظ المصالحة والأخوة في ثمانية معان مختلفة.
الأول:
العدوان في السبت، تجربة اليهود السابقة. فقد أخذ الله منهم ميثاق عدم العدوان في السبت واحترامه باعتباره علامة على طاعة الله،
وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا . وقد اعتدوا فيه كما لاحظ السيد المسيح أيضا،
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت . وإذا طبقوه فإنهم يفعلون ذلك بلا إيمان وعن نفاق. لذلك قال لهم السيد المسيح لتعرية نفاقهم: «إن الإنسان سيد السبت وليس السبت سيد الإنسان. أرأيتم لو وقعت نعجتكم في حفرة يوم السبت ألا تنقذونها.»
والثاني:
تعدي الحدود وخرق الشريعة،
ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون . فتعدي الحدود ظلم للنفس، وظلم لله،
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين . والالتزام بالحدود ليس غاية في ذاته بل تعويدا للإرادة على الطاعة .
والثالث:
معنى مشابه وهو العادي، أي الذي تجاوز الحدود ولكن اضطرارا حفاظا على الحياة،
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم . ومن يفعل ذلك فهم العادون،
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ،
بل أنتم قوم عادون ، وهو المعنى العام للعدوان أي تجاوز الحدود،
مناع للخير معتد أثيم ،
مناع للخير معتد مريب .
والرابع:
هو المعنى العام للعدوان،
وأولئك هم المعتدون . وهناك نهي مطلق بعدم الاعتداء،
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . والتخلص من العدوان يكون بالتضرع والدعاء لله،
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين .
والخامس:
العداوة من الشيطان،
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين . والشيطان هنا يرمز لأهواء النفس ورغباتها وهي عادة ما تؤدي بالإنسان إلى التهلكة،
إن الشيطان للإنسان عدو مبين . فكل عمل سيئ ينسب إلى الشيطان اختصارا،
قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين . بل إن لكل نبي شيطانا،
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، والشيطان هو الذي يوقع العداوة والبغضاء بين الناس،
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء .
والسادس:
منذ خطيئة آدم وهبوطه إلى الأرض وقتل قابيل لهابيل والإنسان عدو لأخيه الإنسان على الأرض،
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو . وذلك من أثر غواية الشيطان،
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك ، وقد سول الشيطان إلى موسى القتل مرة ثانية،
فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ؛ لذلك أصبح الإنسان عدوا حتى لأفراد أسرته بالضرب والطرد والقتل،
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا . وقد تكون العداوة بين الإنسان والإنسان،
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . ويستمر ذلك إلى يوم القيامة،
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
والسابع:
هناك عداوة متبادلة بين الإنسان والشيطان،
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا . ومن يعادي الله يعاديه،
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين .
والثامن :
عدم مقابلة العدوان بالعدوان لتأليف القلوب وكسبها بالسماحة والمحبة كما أوصى المسيح،
عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة . والله هو الذي يؤلف القلوب كإحدى نعمه،
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا . يتحول العدو إلى ولي،
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم . والتعاون يكون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان،
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
ومن ثم فالعداوة بين الإخوة الفلسطينيين خاصة بين فتح وحماس مثل عدوان اليهود في السبت، عدوان على الميثاق الوطني الفلسطيني، وعدوان على الثوابت الفلسطينية. واليهود هم أشد الناس عداوة للمؤمنين،
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود . هو تجاوز للخط الأحمر وعدوان على الشريعة الأرضية والسماوية. هو نزغ من الشيطان واسترجاع لخطيئة آدم وقابيل واستعداء لله على من يعاديه، يكفي عدوان الآخرين عليهم من الداخل والخارج. والإمساك أي الحصار وغلق المعابر للإضرار اعتداء،
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا . الدفاع عن النفس ضد العدوان ليس عدوانا،
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا . والاستعداد للقتال ليس للعدوان بل للردع،
ترهبون به عدو الله وعدوكم ، ولمنع الآخرين من العدوان.
فلا عدوان إلا على الظالمين . والفلسطينيون مظلومون وقع عليهم العدوان. لا يعتدون على أنفسهم بل يدافعون عن أنفسهم ضد المعتدين. (7) الحرب والسلام
كثر الكلام أخيرا عن السلام. واتهم الإسلام ظلما أنه دين الحرب والجهاد والقتال ورفض الآخر بل والإرهاب. وأسيء تفسير الآيات خارج أسباب نزولها وناسخها ومنسوخها مثل
واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وفي الناسخ
لا إكراه في الدين ،
من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فما هو وضع الحرب والسلام في القرآن الكريم؟
فقد ورد لفظ «حرب» في القرآن ست مرات فقط أي إنه موضوع عابر وليس موضوعا رئيسيا محوريا كما تشيع بعض الدراسات الاستشراقية. ومعظم المعاني محاربة الله ورسوله وليس محاربة الناس أو الشعوب والأقوام أي محاربة العقيدة ووحدة الأمة
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ، ومن جوانب محاربة الله والرسول السعي في الأرض فسادا
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا . والحرب مؤقتة يتلوها السلم
فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ، ولا توجد إلا آية واحدة تدعو إلى الحرب
فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون
ضد الذين يخرقون اتفاق السلام وميثاق الأمن.
ومن نفس الاشتقاق أتى لفظ «محراب» مفردا و«محاريب» جمعا، المحراب هو المكان المقدس، المعبد للصلاة والتعبد. فقد اعتزلت مريم في المحراب
كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . وقد بشر الله زكريا بالمولود الجديد وهو في المحراب
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب . ولما خرج زكريا من المحراب لرؤية قومه أوحى الله إليهم بأن يسبحوه في الصباح وفي المساء
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ، لا يجوز لأحد أن يتسور المحراب وينتهك حرمته
هل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب
حتى ولو كانا خصيمين يحتكمان لداود. وقد صنع لسليمان المحاريب والتماثيل
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات . فالمحراب هدوء وسلام وعبادة وتحنث كالحرب من أجل السلام.
أما لفظ «السلام» فهو أكثر حضورا بمشتقات عديدة: «السلم» أي السلام بين الناس والأقوام وهو المعنى الشائع. ومنه اشتق لفظ «الإسلام» اسما للدين، ولفظ «سلام» تحية للمسلمين. فقد ورد لفظ «السلم» بفتح السين ثماني مرات بمعنى السلام، سبعة منها: مرة واحدة دعوة إلى السلم
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . فالدخول في السلام أمر مطلق بصرف النظر عن شروطه وظروفه، والدعوة إلى السلم تكون عن قوة وليس عن ضعف، عن استعلاء وليس عن خضوع، يد عليا وليست يدا سفلى، وستة أخرى دعوة إلى السلم مشروطة بقبول الطرف الآخر،
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ،
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . وتتكرر نفس الشروط إذا توقف الطرف الآخر عن الحرب وأبدى استعدادا للسلم
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا . فإن لم يتوقف الطرف الآخر عن الحرب فلا توقف من الطرف الأول
فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم . فالإسلام مبادرة من الآخر وليس من الذات. إذا بادر الآخر بالسلام وتوقف عن سوء الأعمال
فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ، وهو سلام مع الله قبل أن يكون سلاما مع الناس
وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون . ولا يستوي المشاكس مع المسالم
رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان . فلا يوجد سلام إلا بين طرفين يريد كل منهما السلام. ولن يتحقق السلام بين طرفين: الأول لا يريد السلام بينما الثاني يريد السلام، وهو نفس الموقف الحالي بين الإسرائيليين الذين لا يريدون السلام بل الأرض والاستيطان وتهويد القدس، والفلسطينيين الذين يريدون السلام.
أما لفظ «الإسلام» الذي اشتق من نفس اللفظ الذي يعني السلام فإنه ورد حوالي خمسين مرة ويعني السلام مع النفس ومع الله ومع الآخرين ومع العالم. وبهذا المعنى الدين عند الله الإسلام آخر الديانات
إن الدين عند الله الإسلام ،
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، ولفظ «السلام» بمعنى التحية ورد من نفس الاشتقاق، أي إن تحية الإسلام هي السلام وليس الحرب. ومن ألقى السلام هو المؤمن وليس بالضرورة المسلم
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . هي أيضا تحية الأنبياء السابقين جميعا. وهي تحية أهل الجنة. فالإسلام إذن دين السلام وليس كما يشاع دين الحرب. والجهاد إنما هو فقط للدفاع عن النفس في حالة العدوان عليها، السلام هو القاعدة والحرب هو الاستثناء.
الفصل الثامن
المعرفة
(1) البرهان
البرهان من طرق المعرفة في القرآن مثل الحوار والدليل والجدل، ووسائل المعرفة مثل الحس والعقل والقلب والفؤاد واللب، وأشكال المعرفة مثل القصص والأمثال والأساطير.
آثره الفلاسفة على كل أنواع الاستدلال، فقد ميز ابن رشد بين ثلاثة أقاويل: الخطابة والجدل والبرهان. الخطابة للعامة والوعاظ، والجدل للمتكلمين، والبرهان للفلاسفة. وجعل المناطقة المسلمون ما لا دليل عليه يجب نفيه. وكل الأنبياء أتوا بأدلة تثبت نبوتهم، سواء عن طريق المعجزة والإبهار الحسي وما يظهر باعتباره خرقا لقوانين الطبيعية أو عن طريق العقل والبرهان. تعتمد المعجزة على القوة مثل غرق فرعون وتدمير أقوام عاد وثمود ولوط ونوح، ويعتمد العقل على البرهان والاستدلال مثل إبراهيم أبي الأنبياء ومحمد خاتم الأنبياء. ولما انتهى عصر المعجزات لم يبق أمام البشر الآن إلا البرهان والدليل. فكل أصحاب الدعاوى يطالبون بالدليل. ولا توجد نظرية إلا وتقوم على برهان.
وقد ورد لفظ «برهان» في القرآن ثماني مرات بمعان ستة:
الأول:
البرهان من الله وهو الوحي والنبوة والرسالة دليلا على وجوده بالرغم من إمكانية وصول العقلاء له،
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم . فما كان الله ليحاسب البشر دون دليل أو برهان،
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . الوحي كله برهان، وكلام الله كله دليل، وإبلاغ الناس بالوحي حجة عليهم؛ لذلك لم تخل أمة إلا ولها نذير،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير .
والثاني:
إعطاء نموذج فرعون، فقد أرسل الله له موسى بالأدلة والبراهين، بالحجة والإقناع لإثبات الوحدانية أو بالقوة والمعجزة وهذان هما البرهانان،
فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ، مثل ضم الجناح وإخراج اليد من الجيب بيضاء للناظرين. فتكرار البراهين أكثر مدعاة للتصديق. برهان واحد قولا لا يزيل الشك كله ولا يخفف من التعصب كله. برهان بعد برهان هو الذي يقضي على جذور الشك ويحوله إلى يقين.
والثالث:
أن الشرك لا يصمد أمام البرهان، فالشرك جهل وتعصب وعمى،
أءله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، فالتحدي للشرك أنه لا برهان على صدقه. والبرهان الطبيعي هو الذي يؤدي إلى وحدانية الله. وقد تكرر هذا المعنى في ثلاث آيات أخرى،
أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم ، فالشرك بلا دليل، والوحدانية اتجاه طبيعي للعقل وبداهة وجدانية.
والرابع:
الشرك قول بلا برهان لأن التوحيد طبيعي في البشر،
تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . فالأماني مجرد تمنيات ورغبات ذاتية لا أساس موضوعيا لها، هي ذات بلا موضوع، وهوى بلا عقل، ورغبة دون واقع؛ لذلك
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه ، فالدعوة بلا برهان مسئولية تجعل صاحبها موضعا للتساؤل والحساب، فالإنسان حر عاقل مسئول.
والخامس:
أن البرهان ليس فقط برهانا نظريا للتعقل والتدبر والاقتناع بل هو برهان عملي فعال يحفظ من الرذيلة، ويمنع من الوقوع في الخطأ. البرهان هنا عصمة،
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ، البرهان هنا يتجه نحو القلب وليس نحو العقل، نحو السلوك وليس نحو النظر، البرهان دليل عملي وليس استدلالا نظريا، فغاية البرهان الفعل وتغيير السلوك وليس فقط تغيير الاقتناع والتحول من رأي إلى آخر.
والسادس:
البرهان هو شهيد على كل أمة مثل برهان كل نبي على أمته أنه أبلغ الرسالة وأدى الأمانة. وقد أعذر من أنذر،
ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم ، البرهان هنا شهادة فرد على جماعة،
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، فلكل أمة شهيدها وهو نبيها، والرسول شهيد على كل الأمم لأنه خاتم الأنبياء، والإسلام آخر الرسالات.
البرهان إذن يجمع بين النظر والعمل، بين العقل والسلوك، بين الفرد والجماعة، ليس البرهان هو ما يستعمله المناطقة والرياضيون؛ البرهان العقلي الخالص، أو ما يستعمله العلماء الطبيعيون وهو البرهان التجريبي، بل هو ما يستعمله علماء العلوم الإنسانية الذي يعتمد على البداهة والحس الطبيعي والتجربة الحية، يجمع بين النظر والعمل، بين الدليل والعصمة، بين المعرفة والأخلاق. يحمي نفسه من صورية المناطقة والرياضيين ومن مادية العلماء الطبيعيين، يتجه نحو التجربة الإنسانية والخبرة الحية، والتجربة المشتركة كما يحاول الظاهراتيون من أنصار الظاهريات وهو منهج تحليل الخبرات الشعورية الفردية والجماعية. (2) الدليل والبرهان
يتهم الفكر العربي دائما بأنه فكر خطابي إنشائي ينقصه الدليل والبرهان، على نقيض الفكر العلمي الذي يعتمد عليهما، ويمكن مراجعة أحكامه وقوانينه باللجوء إليها. الخطب الإنشائية تتصادم فيما بينها ولا تتحاور أو على الأقل تتجاور. لا يحدث فيها تراكم تاريخي معرفي لأن الخطابة وقتية تتبخر في الهواء بمجرد سماع صوتها. قد تؤثر في النفس ولكنها لا تقنع العقل.
ومن الألفاظ القرآنية الدليل والبرهان وهما على نقيض الخطابة والإنشاء. بالرغم من أن من مبادئ أصول الفقه الدليل والبرهان مثل «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر». ومن مبادئ المنطق الإسلامي «ما لا دليل عليه يجب نفيه».
وقد ورد لفظ «دليل» في القرآن سبع مرات، ستة أفعال، واسم مرة واحدة مما يدل على أن الدليل استدلال وأنه فعل. وقد ورد بأربعة معان:
الأول:
الدليل الطبيعي الكوني لإثبات حركة الظل وثبات الشيء إذا ما تحركت الشمس،
ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ، وهو الظاهر. والحقيقة أن الشمس هي الثابتة والأرض هي المتحركة فيتحرك الظل، وهو نفس الدليل الذي أراد به اسبينوزا أن يثبت لليهود أنه لا وجود للمعجزة إذا ما تحرك الظل وثبت الشيء لأن المصباح وراءه إذا تحرك الظل. إنما جهل اليهود بقوانين الضوء هو الذي جعلهم يعتقدون بأن ما فعله أشعيا معجزة.
والثاني:
أن الدليل يقوم به الحيوان والشيطان وليس الإنسان فقط لأنه المؤشر على الشيء. فقد دلت الدابة في الأرض على موته عندما أكلت منسأته،
ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . كما أشار الشيطان على آدم على شجرة الخلد التي يأكل منها ولا يبلى فأضله،
قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فالدليل قد يكون مؤشرا على شيء خاطئ.
والثالث:
الوحي دليل على وجود الله،
يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، وهو دليل على صحة الإيمان. والنبي دليل على النبوة،
هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق . فالنبوة دليل على صدق ما يحدث.
والرابع:
أن الأخت تدل على أخيها وتشير إليه،
إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله
وهو موسى بعد أن ألقته أمه في اليم،
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
فرجع الطفل إلى ثدي أمه، وقرت عينها. فالدليل هنا حسي: شمس أو دابة أو شجرة أو نبي أو طفل. ولا يمكن إنكاره لأنه مشاهد بالعيان.
أما لفظ «البرهان» فقد ورد في القرآن ثماني مرات بخمسة معان:
الأول:
البرهان ضد الأماني والتمنيات،
تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، فالأماني بلا برهان ينقصها الصدق ويعوزها التصديق. هو ادعاء أي قول بلا برهان. والبينة على من ادعى، وكثير من جوانب الخطاب العربي المعاصر أماني دون براهين، وأصوات بلا صدى، وما ينبغي أن يكون دون ما هو كائن، خلط بين الأخلاق والعلم، بين الذاتية والموضوعية.
والثاني:
إيمان بآلهة دون برهان،
أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم . فلا يوجد دليل على وجود آلهة غير الله أو على تعدد الآلهة، بل كل الأدلة تثبت أن الله واحد كما حاول المتكلمون والفلاسفة قديما - مثل دليل التمانع عند الأشعري، وهو استنكار عقلي ووجداني - إثبات أن هناك إلها مع الله،
أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان عليه فإنه يقع تحت المسئولية والحساب،
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه .
والثالث:
أن الله يرسل البراهين عن طريق الوحي وعصمة الأنبياء. فالوحي نفسه برهان على وجود الله وصحة الإيمان،
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ، وصدق الوحي في العقل والواقع ومصلحة الجماعة برهان على وجود الله، وهو الذي عصم يوسف من الغواية،
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه .
والرابع:
المعجزة برهان من الله على يد الأنبياء كي يؤمن الأقوياء مثل فرعون،
فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ، فالقوي لا يؤمن إلا بالقوة، والجبار لا يصدق إلا الجبروت، وقد استعملت المعجزة في تاريخ النبوة ولدى كل الأنبياء منذ نوح حتى عيسى. وفي ختم النبوة وآخر الأنبياء استبدل بها الإعجاز أي التحدي اللغوي والبلاغي والتشريعي وليس خرق قوانين الطبيعة بالمعنى القديم.
والخامس :
شهادة كل نبي على أمته في حاجة إلى برهان، البلاغ والتصديق، الإعلان والإيمان،
ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم .
الفكر الإسلامي إذن فكر برهاني؛ لذلك يحاور ويحاجج، يقنع ويقتنع. فالإسلام دين الحوار. والقرآن كتاب الحوار مع الخصوم دون تحديد مسبق أي الطرفين على حق،
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ؛ لذلك كانت تفرقة ابن رشد بين الأقاويل الثلاثة: الخطابي والجدلي والبرهاني تفرقة إسلامية أصيلة. استعملها لنقد المتكلمين والفقهاء دفاعا عن الفلاسفة كما نستعملها نحن الآن للدفاع عن الفقهاء والمتكلمين لاستبعاد الفلاسفة، أصحاب البرهان. (3) الحجاج
يغلب على الفكر العربي طابع «المونولوج» وليس «الديالوج»، أي الخطاب الفردي وليس الحوار الثنائي لأن الفكر عقائد وأحكام مسبقة لا تقبل النقاش ولا الحوار مع أن القرآن الكريم كتاب حجاج وحوار، ومحاولات إقناع للخصوم؛ لذلك استعمل أسلوب الحجاج.
وقد ورد لفظ «حجج» في القرآن كفعل ثلاث عشرة مرة، بأربعة معان:
الأول:
الحجاج في الله مع أن الله ليس موضوعا للحجاج لأنه واضح بذاته، موضوع للبرهان،
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، الحجاج هو الأخذ والعطاء، النفي والإثبات، هو أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان، والله واضح بذاته، والغريب هو الحجاج بعد معرفة الحقيقة لدحضها ولتبرير الباطل،
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم . ولا يمكن الحجاج مع من هداه الله لأن الظن لا يدحض اليقين،
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ، فالرسول يحاجج قومه ويثبت لهم الحق والقوم لا يحاجون الرسول لإثبات الباطل ودحض الحق، ولا سبيل إلى مواجهة الحجاج إلا إسلام الوجه لله أي العودة إلى الفطرة،
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن . والحجاج بعد الاستجابة له لا قيمة له أن العمل يجب النظر،
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
والثاني:
هو الحجاج عن علم وليس عن جهل،
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، الحجاج عن علم مقبول لأنه يمكن الوصول إلى الحقيقة، أما الحجاج عن جهل فإنه يتحول إلى جدل عقيم. والحجاج بعد العلم لا يحتاج إلى حجاج مضاد بل إلى حياة مشتركة تقوم على العدل وترفض الظلم والكذب والبهتان،
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين .
والثالث:
الحجاج فيما نزل من قبل وليس فيما نزل من بعد لأن الحجاج في الأصل وليس في الفرع،
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون . فلا يمكن الحجاج في إبراهيم وقد أنزلت التوراة والإنجيل بعده، فقد عاش إبراهيم في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وأنزلت التوراة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والإنجيل في القرن الأول الميلادي.
والرابع:
الحجاج في النار لا يؤدي إلى شيء لاعتراف الضعفاء أنهم كانوا تبعا للأقوياء، وفقد استقلال عقولهم،
وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا . الحجاج تسليم واقتناع.
أما لفظ «حجة» فقد تكرر ثماني مرات كاسم بخمسة معان:
الأول:
أن الله هو الحجة البالغة. ولو شاء لهدى الناس أجمعين،
قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ، ولكن الله ترك الناس لعقولهم ومسئولياتهم وحرياتهم ولاختياراتهم وإلا فما لزمت الحجة أي وسيلة الإقناع. فإذا استمر الحجاج في الله بعدما استجيب للحجة الأولى فإن الحجة الثانية تكون داحضة،
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة
لأن الحجة لم تتوجه إلى العقل بل اصطدمت بتصلب الإرادة التي لا ينفع معها توالي الحجج، فالعناد ليس حجة مضادة يمكن دحضها حتى يأتي الإقناع.
والثاني:
الحجة للناس على الله،
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة . فالتوجه نحو الله يمنع ذريعة الناس بأنه لم يهتد أحد، ويثبت أن الحجة أقنعت، وأن الإقناع بالحجة أفاد، وأن الاقتناع النظري تحول إلى سلوك عملي بالتوحد نحو غاية واحدة وهدف واحد. كما يمنع الناس من أن يكون لهم حجة على الله بعد إرسال الرسل،
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وأن البلاغ قد تم، والرسالة قد وصلت،
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . فالوحي حجة، والرسالة حجة، والبلاغ حجة،
وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
والثالث:
حجة النبي على قومه مثل حجة إبراهيم،
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه . وما أكثر حجج إبراهيم، تكسير الأصنام وتحدي كبيرها بالدفاع عن نفسه أو عن صغار الأصنام أو أن يسمعوا كلام القوم، تفجير ينبوع الماء بين أصابعه في زمزم وهو يسعى بين الصفا والمروة بحثا عن المياه لأسرته حماية لها من الهلاك، بل إن إبراهيم استعمل الحجة مع نفسه للهداية والوصول إلى الله، بالانتقال من الأصغر إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس إلى ما وراء الشمس، ومن الكم إلى الكيف، ومن المرئي إلى اللامرئي. كما طلب من الله حجة كي يطمئن قلبه بوجوده وهو أخذ طير وتقطيعه أربعا ثم مناداته كي يعود سليما حيا من جديد.
والرابع:
الحجة كمعجزة، إحضار الآباء أي بعث الموتى، وهو تعجيز أكثر منه حجة،
ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . هي ذريعة للتنصل من إعمال العقل والنظر والتعصب للرأي ورفض الطبيعي إلى المصطنع، والتهرب من الانصياع للحق.
والخامس:
إذا توقفت الحجة عن أداء دورها في الإقناع والاقتناع فلم يبق إلا العمل لكل فريق. والعمل خير حجة في نهاية الزمان كرصيد للإنسان بعد أن ينتهي الوقت وينقضي العمر ويأتي يوم الحساب. فالعمل خير حجة ليس للإقناع بل للإنقاذ والخلاص،
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم . الحجة إقناع ومشاركة ومسئولية جماعية. في حين أن العمل مسئولية فردية وتحمل للنتائج، ثوابا كان أم عقابا. (4) أحسن القصص
من الأشكال الأدبية التي يستعملها القرآن القصص والأمثال للتعبير عن المضمون في مجتمع ثقافته أدبية وهو الشعر والنثر الفني. وقد استعمل لفظ «القصص» ستا وعشرين مرة، عشرين فعلا وستا أسماء للدلالة على ثمانية معان:
الأول:
قصص الأنبياء لإخبار الرسول بأنبياء الأمم السابقين وتجارب الأنبياء مع أقوامهم من أجل تربية الوعي التاريخي عن الرسول،
ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل . فقبل الحاضر يأتي الماضي، وقبل البنية يأتي التاريخ حتى تتجذر أصولها وتثبت في الوعي التاريخي،
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك . ولا يحتاج الوعي التاريخي إلى كل الأنبياء، يكفي البعض الذين في الوعي التاريخي من قبل من خلال القصص السابق دون البعض الآخر،
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . يكفي الرسل أولو العزم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، المراحل الكبرى في النبوة دون المراحل الصغرى، إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويحيى وزكريا ومريم.
والثاني:
يخبر هذا القصص الرسول بأنباء القرى،
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، فقد كانت القرية نموذج الأمة والشعب في التاريخ، ينهض ويسقط، يقوم وينهار،
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وظيفة القصص الإخبار عن أنباء ما سبق،
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق . فالوحي والتاريخ شيء واحد، وما يأتي رأسيا من الوحي مصدق لما يأتي أفقيا من التاريخ، تراكم الوحي.
والثالث:
القصص هو الذي يأتي بالآيات والبراهين على صدق الوحي في التاريخ،
ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، فالرسول يبلغ قومه آيات الله عبر القصص كبرهان على صدق الوحي في التاريخ؛ لذلك قام علم التاريخ مستندا إلى هذه الآيات، فالآية هنا قص وبرهان تاريخي، سماع ومشاهدة، نص وواقع، وحي وتاريخ.
والرابع:
القصص عبرة. تبعث على الشجاعة وعلى الخوف،
فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف ، فالتاريخ يعيد نفسه، والإيمان يدرك أن القصص واقع، وأن التاريخ قصة. التاريخ اعتبار، يبعث على الخوف لأنه شاهد عيان على صدق الوحي، فالقصة هنا ليست محض خيال بل هي رؤية لما حدث، وواقع تحول إلى ذاكرة، وذاكرة أصبحت دليلا حيا على صدق القصة.
والخامس:
أن من يصدق في حقه القصص يثق بما يسمعه لأنه يعلم أنه القصص الحق، وأن من يصدق في حقه في الحاضر هو مثل الذي صدق في حقه في الماضي فلا يخاف،
فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف ، فالعالم بالقصص والخير به يطمئن من يسمعه لأول مرة. الأفقي تصديق للرأسي؛ لذلك كان قصص اليهود تصديقا لقصص القرآن.
والسادس:
القصص هو أحسن القصص الذي لا خلاف فيه بين السمع والمشاهدة، بين الوحي والتاريخ، بين الحاضر والماضي، بين النظرية والتصديق،
نحن نقص عليك أحسن القصص ، وهو القصص الواقعي الذي يتطابق فيه المعنى مع الواقع، والقصد مع التجربة بعيدا عن الأحلام والخيالات كما هو معهود في القصص والحكايات. يقص على بني إسرائيل ما كانوا فيه يختلفون،
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . وقد يعني القص متابعة الواقع ووضعه تحت البصر وعدم خروجه عن مجال الرؤية،
وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون . القصص هو تتبع مسار الواقع ووصفه كما هو دون مبالغة،
قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا .
السابع:
هو قصص بالحق. لا يقص إلا عن واقع مشاهد،
نحن نقص عليك نبأهم بالحق . فهو مثل ما يقال في النقد الأدبي القصص الواقعي التاريخي أو القصص الواقعي. لا يعبر إلا عن حقيقة، والحقيقة مطابقة للواقع،
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله . هو قصص عن علم وليس عن خيال،
افلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين . فالقصص عن مشاهدة ويقين وليس عن أخبار ووسائط معرفية بل عن معرفة مباشرة دون رواية.
الثامن:
القصص للتفكر والاعتبار والاتعاظ،
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ، فالتاريخ موعظة وعبرة،
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ؛ لذلك كانت جلسات الاستماع للقصص مثل حلقات الذكر عند الصوفية للاعتبار والموعظة، القصص وسيلة للتربية وتهذيب النفس، وطالما أعطيت للأطفال في دروس التربية الدينية.
وهي غير قصة الحلم وتعبير الرؤيا الشبيهة بالقصص، فهو قصص ذاتي لا شأن له بقصص الأنبياء، قد يصدق وقد لا يصدق،
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك
تجنبا للحسد والغيرة. ومع ذلك وقع ما كان لا يمكن تجنبه، وحدث ليوسف ما حدث حتى أكرم في قصر العزيز فرعون مصر، وأصبح وزيرا في بلاطه، وأنقذ مصر من المجاعة. فالقصص القرآني يعطي نوعا من الحكاية الوصفية للواقع دون مبالغة أو خيال كي يتحول الوعي بالتاريخ إلى وعي بالواقع. (5) أساطير الأولين
من المفاهيم المعرفية الشائعة في الثقافة الشعبية «أسطورة» وجمعها «أساطير»، وتعني حكاية خرافية من اختراع القدماء كالأساطير اليونانية والرومانية والبابلية والآشورية والفارسية والهندية، فكل شعب له أساطير، دخلت الكتب المقدسة في لحظة التدوين كما دخلت الأساطير البابلية في العهد القديم وبعض الإسرائيليات مثل سفر التكوين في كتاب «بدء الخلق» في البخاري، لدرجة أن بعض اللغويين اعتبروا اللفظ مشتق من اللفظ اليوناني «استوريا» أي قصة أو حكاية، ومنه اشتق أيضا لفظ التاريخ. فكلاهما تدوين القدماء.
وقد استعمل تسع مرات في القرآن الكريم في صورة لغوية واحدة وشكل أدبي واحد «أساطير الأولين» وبمعنى واحد إشارة إلى الوحي الإسلامي،
إن هذا إلا أساطير الأولين ، فهو اتهام غير المؤمنين به قول الآخرين،
فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين . وهي تهمة عامة للوحي بصرف النظر عن صفته، سمعا أم تلاوة أم إملاء أم كتابة أم نزولا أم وعدا.
هي تهمة عامة ممن لا يؤمنون بالوحي،
يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ، فهو قول الخصوم. ويعنون بأساطير الأولين قصص اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وهي الفرق الدينية المذكورة في القرآن، والتي وجدت في شبه الجزيرة العربية. وماذا عن أساطير مصر القديمة وقد كانت على صلة بشبه الجزيرة العربية عبر التجارة؟ وماذا عن أساطير الأحباش وقد كانوا في غارات مستمرة على اليمن ومكة مثل غزوة أبرهة؟ وماذا عن أساطير بابل وآشور وكنعان في حضارات ما بين النهرين من خلال التجارة، رحلتي الشتاء والصيف، ومن خلال الأساطير اليهودية؟
ثم يتم تفصيل هذه التهمة، فهو وحي مسموع سمي في التراث «السمع» في مقابل العقل،
قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين . فكلها روايات شفاهية مثل غيرها في شبه الجزيرة العربية، وهو وحي متلو مقروء،
إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . لذلك سمي القرآن تلاوة، وهو قرآن مدون مكتوب،
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ؛ لذلك سمي القرآن المصحف أو الكتاب، وهو الذي نزل من السماء،
وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ؛ لذلك سمي القرآن التنزيل، وقد سمي أيضا الوعد الذي وعد به الآباء والأجداد،
لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين . التعبير إذن تهمة وقدح في الوحي وتشبيهه بأساطير الأولين من صنع الخيال الجمعي والثقافة الشعبية، مجرد حكايات خرافية لا صلة بها بالتاريخ ولا بالواقع. هي محض خيال، جزء من الآداب الشعبية القديمة حول الأبطال ومسارات الشعوب في التاريخ.
ومع ذلك يستعمل نفس اللفظ باشتقاقات أخرى مثل مسطور، يسطر، مستطر بمعان مشابهة ودلالات قريبة، ولكن على نحو إيجابي؛ إذ يقسم الله بالكتاب المسطور وهو القرآن المدون،
والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور
باعتباره شيئا مرئيا ملموسا مثل جبل الطور وأي رق منشور. وكل ما يحدث في الواقع ويقع في التاريخ مدون في كتاب سواء اللوح المحفوظ أم القرآن،
كان ذلك في الكتاب مسطورا ، وهو كتاب لا يسطر إلا الخير والأفعال الحسنة،
إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا
كي يشجع الناس على العمل الصالح وفعل الخير. كما يستعمل الفعل «سطر» للتدوين أي لحفظ المعرفة وليس للقرآن وحده. فالقرآن جزء من النسق المعرفي الإنساني،
ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وهذا التسطير بالقلم جزء من النعمة الإلهية. فالوحي نفسه مدون مسطور في اللوح المحفوظ، والقرآن مدون في اللوح المحفوظ. والوحي كله مدون في الصحف، صحف إبراهيم وموسى، التوراة والإنجيل والزبور، وهي كتب الأولين المذكورة في القرآن. ويعني اللفظ أي شيء مدون، صغيرا كان أم كبيرا،
وكل صغير وكبير مستطر .
التدوين خطوة كبيرة في تطور الحضارة بعد نشأتها في المرحلة الشفاهية. التحول من الشفاهي إلى المدون نقلة حضارية كبيرة؛ لذلك عظم دور الكتبة، الأحبار والكهنة والفقهاء الذين اشتغلوا بمهمة التدوين. وخطورة ذلك هو عدم التطابق بين الشفاهي والمدون على فرض تطابق الشفاهي مع نفسه؛ لذلك أتت تهمة القرآن للكتب المقدسة السابقة بالتحريف والتغيير والتبديل،
يحرفون الكلم عن مواضعه . وحرص المسلمون الأوائل على تدوين القرآن خشية من استشهاد حفظة القرآن ودخول التحريف والتبديل عليه، والزيادة والنقصان تحقيقا لآية،
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . والحفظ ليس بالفعل الإلهي بل بمناهج النقل في علوم القرآن، وعدم مروره بفترة شفاهية كالحديث أو مثل باقي الكتب المقدسة، التوراة والإنجيل.
وبالرغم من رد الفلسفة الغربية المعاصرة الاعتبار إلى الأسطورة باعتبارها صورة رمزية للفكر عند كاسيرر في كتابه «فلسفة الصور الرمزية» إلا أن اللفظ في الثقافة الشعبية ما زال له مدلول سلبي، أي الخرافة والتي هي أشبه بقصص الأطفال الخيالية أو ثقافات الشعوب البدائية التي تقوم فيها الأساطير بدور العلم والفلسفة والدين. (6) ضرب الأمثال
من أساليب التعبير في القرآن الكريم كالقصة ضرب الأمثال، فالمثل نوع من التشبيه الذي هو نوع من المجاز في ثقافة عربية تقوم على أساليب البلاغة وفنون القول، والمجاز في القرآن، درسه علماء أصول الفقه والتفسير والقرآن والبلاغة.
وقد ذكر لفظ «مثل» في القرآن بمعنى المثل بالكامل، تشبيه شيء بحكاية ثمانين مرة، وستا وثمانين مرة أخرى كمجرد تشبيه بسيط، تشبيه شيء بشيء، فإذا أخذنا التشبيه المركب لضرب الأمثال لوجدنا أن القرآن يقصده مع الاعتراف بحدوده، فالمثل لا يطابق الممثول مطابقة تامة ولا حتى المترادفات في اللغة؛ لذلك يظل المثل الأعلى لله وحده،
وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم . وقد استعملت الأمثال من قبل في التوراة والإنجيل، فمن يحمل التوراة ولا يعمل بها كالحمار يحمل أسفارا،
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . كما ضرب الإنجيل مثلا للمسيح فلم يؤمن به قومه،
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون . أنعم عليه الله وجعله مثلا لبنى إسرائيل،
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل . وضرب القرآن مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط،
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط . وضرب مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون،
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون . فضرب الأمثال في التوراة والإنجيل،
ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه . والقرآن مملوء بالأمثال من كل نوع،
ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل . والغاية أن يستمع له الناس حتى يتدبروا معناه،
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له
ومع ذلك لا يغني ضرب المثل عن هلاك الأولين،
فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين . ويخضع المثل الذي يأتي به الآخرون لتفسيرات عدة تتفاضل فيما بينها،
ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . ومن يكذب بالمثل فإنه ينال جزاء السوء،
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله . ومن يكفر بالله يكفر بالمثل حتى يجد عذرا لعدم الإيمان،
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا .
لذلك يضرب الله الأمثال للناس،
كذلك يضرب الله الأمثال . وذلك من أجل تذكر المعنى وعدم نسيانه،
ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ولا يحتاج الإنسان أن يضرب المثل لله لأن الإنسان لا يعلم والله يعلم ولا يحتاج الإنسان أن يفهم الله ويشرح له،
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون . فإذا ضرب أحد الأمثال لله فإنه يضل،
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .
ويمكن تصنيف الأمثال في البيئة الصحراوية إلى سبعة أنواع مستمدة منها:
الأول:
النبات والماء والزراعة،
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة . ولا فرق بين جنة الدنيا وجنة الآخرة،
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين . ومثل الجنة التي وعد بها المتقون، جنة تجري من تحتها الأنهار، أكلها دائم وظلها وافر، جنة بها أنهار ومن ماء غير آسن. والكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ليس لها من قرار. والحياة الدنيا كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فيصبح مصفرا ثم يكون حطاما. وهي صورة الجفاف في الصحراء. والحياة الدنيا كماء نزل من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فرحين بها أتاها أمر الله فأصبحت حصيدا. ومثل العمل السيئ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا أي نبات سطحي على صخر يجرفه أقل ماء.
والثاني:
الريح الذي يشتد بالرماد فيذهبه مثل أعمال الكفار التي لا تصدر عن شيء ولا تنتهي إلى شيء وليس كالأرض الخضراء التي ينبت فيها الزرع.
والثالث:
الحيوان والحشرات في الصحراء، فمن يخلد إلى الأرض ويتبع هواه مثله مثل الكلب إن يحمل عليه يلهث أو يترك يلهث، فهو لاهث في كل الحالات، ومن يحمل التوراة ولا يعمل بها كالحمار يحمل أسفارا. ومثل الذين يتخذون من دون الله أولياء مثل العنكبوت التي تعيش في أوهن البيوت. ولا يستحيي الله أن يضرب مثلا بالبعوضة أقل أو أكثر. فالمهم الدلالة وليس الدال.
والرابع:
الوعي الإنساني اليقظ عن طريق الحواس، السمع والبصر. فمثل الكافر كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. هو كالأعمى والأصم بعكس المؤمن البصير والسميع. ولا يستوي رجلان الأول أبكم لا يقدر على شيء وهو عالة على مولاه لا يأتي بخير كالآلة الصماء والآخر يأمر بالعدل وله وعي مستقل.
والخامس:
النور والظلمات، النهار والليل في الصحراء حيث لا نور إلا النار. فالمؤمن له نار يبصر بها. وصدق الإيمان شرط أن تتحول النار إلى نور ولا يطفئها الله. ونور الله كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة، لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
والسادس:
القرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغدا من كل مكان. فلما كفرت ذاقت عذاب الجوع والخوف جزاء على أعمالهم. والقرية الظالمة لم تصدق بالمرسلين، الأول فالثاني فالثالث. ولم تسمع لمن أتى من بعيد، وهو مثل تاريخي.
والسابع:
مثل آدم خلقه من تراب ثم قيل له كن فكان. ومثل المسيح الذي خلق على نحو آدم ولكن على نحو أسهل. فآدم بلا أب ولا أم، والمسيح بلا أب، وهو مثل كوني.
وضرب الأمثال إذن وسيلة لإفهام الدلالات وتبسيطها وتحويلها من مستوى النظر إلى مستوى الشواهد الحسية طبقا لقواعد التشبيه والمجاز، وقد يكون التماثل قاعدة عامة في الكون، تماثل كل شيء مع كل شيء فيما سماه الشيعة «علم الميزان». (7) إن بعض الظن إثم
الظن واليقين مقولتان معرفيتان في القرآن الكريم. وفي الفكر العربي المعاصر. يغلب الظن على اليقين، واليقين على الظن في معظم الأحوال. وفي أحوال أخرى يسود اليقين في صورة القطع على الظن والاحتمال.
وقد ورد لفظ «ظن» في القرآن تسعا وستين مرة، سبعا وأربعين فعلا مما يدل على أنه فعل معرفي من أفعال الشعور واثنتين وعشرين مرة اسما كلها الظن إلا واحدة الظان. وكلها لها معان سلبية. الظن حيث يجب اليقين، باستثناء أربع مرات إيجابية، الظن حيث يجب الظن.
وقد وردت المعاني السلبية في نقد الظن من حيث هو ظن دون تحديد موضوع الظن مثل،
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، واستبدال الظن بالعلم،
إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ، والظن لا يغني من الحق شيئا،
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا . والظن أقرب إلى هوى النفس،
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس . والظن نقيض العلم،
وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وهو اعتقاد أكثر الناس،
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا .
ثم تتحدد موضوعات الظن في خمسة:
الأول:
ظن أنه لا يوجد أقوى منهم ولا أقدر،
وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا . وظن أنه ناج من قوى أكبر منه،
وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك . وظن ذو النون لقوته أنه لا يقدر عليه أحد،
وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه . وظن البعض أن حصونهم مانعتهم،
ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم ، وظنوا أن الجبل يعصمهم،
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم ، وهو الذي يلجئون إليه،
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه . فإدراك حدود القوة جزء منها، فلا يوجد قوي إلا ويوجد أقوى منه. فالقوة على درجات، وقوة الإنسان إحداها.
والثاني:
الظن بأن هذه الدنيا هي الكلمة الأولى والأخيرة، فيها يحيا الإنسان ويموت، وليس هناك قيامة ولا بعث ولا حساب ولا عقاب. فقد ظن البعض أن الله لن يبعث أحدا،
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ، ظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله،
وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ، وأنه لا خاتمة لهم ولا مصير،
وظنوا ما لهم من محيص ، وأن الدنيا باقية إلى الأبد،
قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ، وأن الساعة ليست قائمة،
وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ، وأنهم غير مبعوثين،
ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وأنهم لا يدرون ما الساعة وأنها غير قائمة،
قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا .
والثالث:
الظن بأن رسالة الرسل باطلة. فقد ظن فرعون أن موسى مسحورا،
فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا . وكذب فرعون موسى لأنه لم يطلع على إلهه. فكل شيء لديه حسي،
لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين . ويريد سلما يرتقي به إلى السماء،
فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا . وظن قوم الرسول أنه في سفاهة وأنه من الكاذبين،
إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين . فالرسول بشر مثلهم ولا يزيد عليهم شيئا،
وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين . وليس له عليهم أي فضل،
وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين .
والرابع:
ظن أن لا أحد يعلم عنهم شيئا،
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون . يظنون بالله غير الحق، ظن الجاهلية،
يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية . ولا يعلم اليهود يقينا مصير المسيح،
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . فلا يتبعون إلا الظن،
إن يتبعون إلا الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا،
إن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وهو ليس فقط ظن العلم بل ظن الأخلاق، ظن السوء،
وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا . والظن غير اليقين،
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين
لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي كما يشتهون،
لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون . وإذا ظنوا بالله شيئا فإنه ظن السوء،
الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء . وظن السوء ينتهي إلى البوار،
وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا .
الخامس:
ومع ذلك بعض الظن ظن حسن، يساعد على الإدراك، ويقلل من القطيعة والعناد والتعصب للرأي. فالظن أن حديث الإفك إفك ظن خير،
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . وقد يؤدي الظن إلى إدراك الحقيقة والاستغفار ثم التوبة كما حدث لداود،
وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب . والظن بألا تقام الحدود فيتم التراجع عن فعل شيء ظن حسن،
فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله . وقد يظن الإنسان أنه ملاق حسابه فيعمل صالحا،
إني ظننت أني ملاق حسابيه . وقد يدرك الظان أنه ظن بعيد عن اليقين،
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين . ومن يظن أن ملاق الله يدرك قانون أن الكيف له أولوية على الكم،
قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . ورؤية اليهود لنهاية المسيح مجرد ظن صحيح ،
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا .
الظن مقولة معرفية ليست بمفردها بل مع اليقين. الظن في اليقين هدم للمعرفة، واليقين في الظن غلق لها. لكل دائرته. الظن حيث يجب الظن، واليقين حيث يجب اليقين. وفي مجتمع يغلب عليه اليقين بعض الظن يفيده. فالظن شك، والشك مقدمة لليقين. (8) اليقين
اليقين والظن لفظان قرينان في القرآن الكريم، وهما مقولتان معرفيتان ومنطقيتان. ويغلب اليقين على الفكر العربي المعاصر. وتحول إلى اعتقاد وقطعية. وتوارى الظن بمعنى الشك. وفي تاريخ الفكر الإنساني ارتبط الشك باليقين خاصة عند الغزالي وديكارت، الشك مقدمة لليقين.
وقد ورد اللفظ «يقن» في القرآن ثمانيا وعشرين مرة، نصفها أسماء، والنصف الآخر أفعال. فاليقين ذات وموضوع، فعل وشيء. وتدور معاني الآيات حول خمسة محاور. الأول موضوع اليقين، يقين بماذا؟ الآيات أي الشواهد والأدلة على وجود الله والقيامة،
قد بينا الآيات لقوم يوقنون . فالآية دليل ومؤشر وعلامة. ليست فقط نصا مثل آية القرآن بل مؤشرا طبيعيا،
وكانوا بآياتنا يوقنون ، الخلق آية، نبات وحيوان وإنسان،
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . الأرض مملوءة بالآيات للموقنين. فالآية توحي إلى الموقن، والموقن يستقبل دلالة الآية،
وفي الأرض آيات للموقنين . وتدل الآيات على مدلولاتها ومنها القيامة والبعث والنشور ولقاء الله أي المعاد بعد الخلق،
وبالآخرة هم يوقنون . ولا فرق بين إيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة،
ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون . ولا فرق بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالآخرة. فالعبادات وسائل للمعاد،
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون . فالله يدبر الأمر ويفصل الآيات حتى يوقن الناس بلقائه،
يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ، وهو رب السموات والأرض عند الموقن،
رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين .
أما الموقن فهم الناس والأقوام والبشر،
قد بينا الآيات لقوم يوقنون ، فالموقنون هم الجماعة،
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ، وهو ما لا ينفي اليقين الفردي. وفي الخلق ومظاهر الحياة آيات لقوم يوقنون،
وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . والإيقان بشرط البصيرة وإدراك الدلالة والهدى بعدها،
هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون . والموقن أيضا هم نحن أي المتكلم،
ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون . الإيقان في الدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، وليس في الآخرة بعد أن ينتهي زمن العمل الصالح. والإيقان أيضا للمخاطب الذي يدرك رب السموات والأرض من خلال الإيقان،
رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين . والنفس توقن حتى ولو جحد العقل،
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا . فالجحود ظلم واستكبار. نموذج الموقن هو إبراهيم الذي كان يستدل على وجود الله من الكبير إلى الأكبر، من النجم إلى القمر إلى الشمس، ومن الكم إلى الكيف، من الشمس إلى قوة وراء الشمس وكما حدث لآمون في مصر القديمة،
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين . وعلى الذين أوتوا الكتاب اتباع طريق إبراهيم في الانتقال من الشك إلى اليقين،
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب .
واليقين على درجات. هناك اليقين في النبأ، الخبر اليقين،
أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ، وهو اليقين التاريخي الذي من أجله وضع القدماء علم مصطلح الحديث ومناهج الرواية وتمييزهم بين التواتر والآحاد ووضع علم الجرح والتعديل لضبط شعور الراوي. وهناك اليقين ذاته الذي يأتي بعد العبادة، يقين الفتح والإشراق،
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين . فاليقين يأتي بعد الشك والتكذيب،
وكنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين ، وهو يقين كشفي لا تاريخي، يقين ذاتي باطني وليس يقينا موضوعيا تاريخيا، وهو اليقين الذي دافع عنه الصوفية في مقابل اليقين التاريخي عند الفقهاء. وهناك التمييز بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين كما فعل الصوفية. أولا علم اليقين هو الوحي الصادق المنقول نقلا صحيحا،
كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم . ثانيا حق اليقين هو يقين اليقين، ومعرفة أن هذا اليقين يقين،
إن هذا لهو حق اليقين ، ومرة أخرى،
وإنه لحق اليقين . ثالثا عين اليقين هو يقين اليقين أي مشاهدة اليقين والتعرف عليه،
ثم لترونها عين اليقين .
والظن في مقابل اليقين، درجة أدنى في المعرفة، معرفة احتمالية ترجيحية،
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا . الظن علم ينقصه البرهان اليقيني التاريخي أو الذاتي أو الكشفي. والعالم الحق يعترف بالفرق بين الظن واليقين،
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين .
ومع ذلك من حق الإنسان أن لا يوقن بالرغم من كل الآيات والشواهد الذاتية والموضوعية. فاليقين فعل حر،
أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون . فاليقين طبيعي، وعدم اليقين طبيعي أيضا. المهم أن ينحاز الإنسان للموقنين. ولا يتأثر بعدم الموقنين،
فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . ومهما كان دليلهم من آيات فإنهم لا يوقنون
أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون . فعدم الإيقان عناد ومكابرة.
الظن ضروري للمعرفة الاحتمالية، وتعدد الافتراضات دون الترجيح بينها. واليقين ضروري للمعرفة البديهية. تحتاج المعرفة الإنسانية إلى الثوابت والمتغيرات كما تحتاج المعرفة الفقهية إلى الأصول والفروع. المهم ألا تطغى الثوابت على المتغيرات، ولا تبتلع الأصول والفروع حتى يبقى للزمان والتغير في حياة الناس مكان. فيعيشون عصرهم. (9) الصدق
الصدق والكذب مقولتان أخلاقيتان في سلوكنا اليومي، وعادتان شائعتان في حياتنا الأخلاقية. نتمنى الصدق، ونتحاشى الكذب قدر الإمكان. كلاهما واقع في حياتنا. نجاهد مع الصدق، ونجاهد ضد الكذب.
وقد ذكر لفظ «الصدق» في القرآن مرات عديدة، مائة وخمسا وخمسين مرة أي إنه موضوع رئيسي بستة معان رئيسية:
الأول:
وهو الأكثر شيوعا، هو إمكانية الصدق وضرورة البرهنة عليه في صياغة،
إن كنتم صادقين . مثل ادعاء وجود شهداء من دون الله،
وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، وتمني الموت للحرص على الحياة مثل اليهود،
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ، والشك في الوعد،
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، والتحدي بإحضار العذاب،
إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ، واستبطاء الفتح،
ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ، والاستفتاح بالكتاب،
فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ، والإيمان،
بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ، والمطالبة بالبرهان،
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ، وبالآية والدليل،
قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ، وبالعلم،
نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ، والإيمان بالكتب السابقة مثل التوراة،
قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فالإيمان لا يكون إلا بدليل. والدعوى لا تكون إلا ببرهان، وما لا دليل عليه يجب نفيه كما قال المناطقة المسلمون.
والثاني:
التصديق بالأنبياء السابقين، وبمراحل الوحي السابقة، فمحمد خاتم الأنبياء، والإسلام خاتم الرسالات حوالي عشرين مرة،
ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ، وهو الكتاب المصدق لما معهم،
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ، وهو كتاب مبارك بلسان عربي مبين،
نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ، وما بين يديه هي التوراة. فالإنجيل مصدق للتوراة، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل،
ومصدقا لما بين يدي من التوراة ، وهو تصديق الرسول للأنبياء السابقين،
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم . فالإيمان بالكتب المنزلة واحد،
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به . فلا يمكن الإيمان ببعض الكتب والكفر بالبعض الآخر،
إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة .
والثالث:
التصديق بالوعد القادم، وبالحياة بعد الموت، وبالحساب وبالجزاء، وبعالم قادم يسوده الحق والعدل إن امتنعا أن يتحققا في هذا العالم. فالصدق هنا يعني الواقع،
إنما توعدون لصادق . وكان الرسول لا يعد إلا صدقا،
إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا . والواقع هو الحق،
وأتيناك بالحق وإنا لصادقون .
والرابع:
صدق الله والرسول. فالله صادق في أمره البشر اتباع ملة إبراهيم،
قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا . والله صادق في حديثه،
ومن أصدق من الله حديثا . والله صادق في وعده،
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه . ويحمد الناس صدق الوعد الإلهي،
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ، ووعد الله بالنجاة صدق،
ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء ، ووعد الله حمله الرسول،
قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وهو وعد صادق. وإذا كانت رؤية للرسول فهي صادقة،
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق . فما وعد به الله يصدق به الرسل ثم يصدق به المؤمنون،
هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . فالله يبعث الحق ويصدق به المرسلون،
بل جاء بالحق وصدق المرسلين . ثم يصدق به المتقون،
والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون .
والخامس:
الصدق كفعل بشري، اتفاق القول والفعل، وهو مضاد للكذب،
افليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . فالصادق هنا هو اللسان،
وجعلنا لهم لسان صدق عليا ، وهو لسان صدق في الدنيا والآخرة،
واجعل لي لسان صدق في الآخرين .
والسادس:
الصدق كاتفاق الفعل مع الإيمان. ولما كان الإيمان فعلا فهو اتفاق الفعل مع الفعل،
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون . وهم النخبة الذين يتجاوزون درجة المؤمنين إلى درجة الصادقين،
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . وهم الذين لهم قدم صدق، وتبوءوا مبوأ صدق، ودخلوا مدخل صدق. وهم الذين يبلغون درجة صديق،
يوسف أيها الصديق
مثل يوسف وإبراهيم وإدريس،
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ،
واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا . والصديقون كالشهداء والصالحين. ومريم كانت صديقة،
وأمه صديقة .
إن سبب غياب الصدق هو الخوف أو المصلحة. وكلاهما ليسا من صفات المؤمنين. (10) الكذب
والكذب في لغة الحياة اليومية قرين الصدق وعلى النقيض منه. وبلغة الأخلاق الصدق فضيلة والكذب رذيلة. وقد ذكر لفظ «الكذب»» في القرآن مائتين واثنتين وثمانين مرة، أي حوالي مرة ونصف من الصدق. فالتعريف سلبا أهم من التعريف إيجابا. تعريف الصدق بنفي الكذب، وتعريف الكذب بنفي الصدق. وقد استعمل اللفظ في القرآن بستة معان، حسب الأهمية على النحو الآتي:
الأول:
تكذيب الآيات وهي أدلة وبراهين حسية على صدق الله ورسله ووعده ووعيده، وهو أيضا افتراء الكذب على الله،
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته . والتكذيب بآيات الله صد وافتراء وظلم، وهو نتيجة للاستكبار،
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت . وقد يؤدي الاستكبار ليس فقط إلى الكذب بل أيضا إلى القتل،
استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون . والتكذيب نوع من الجهل وعدم الإحاطة،
حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ، وهو نتيجة للصمم والعمى،
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ، واتباع للأهواء،
ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ، وهو نوع من الغفلة،
ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، وهو ظلم للنفس،
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ، وهو خسارة مع الظلم،
ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين . وقد أتت آية
فبأي آلاء ربكما تكذبان
في صيغة استفهام استنكاري أكثر من ثلاثين مرة. والآية ظاهرة طبيعية للرؤية أو قول قرآني للتلاوة،
ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ، أو تذكر قوانين التاريخ وشواهده،
فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . التكذيب نوع من اللعب وعدم الجدية،
فويل يومئذ للمكذبين * الذين هم في خوض يلعبون .
والثاني:
يكون التكذيب أيضا للرسل وقد جاءوا بالصدق،
فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه . وتكذيب الرسول هو تكذيب لله لأن ما جاء به الرسول من الله،
وقعد الذين كذبوا الله ورسوله . ولا يؤثر تكذيب الرسل في نصرتهم،
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا . وتكذيب الرسول عادة عند كل الأقوام،
وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم . ولا يوجد رسول إلا وكذبه قومه،
إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . والعقاب وعيد،
كل كذب الرسل فحق وعيد . وقد كذب كل من قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب الرس وقوم شعيب،
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك .
والثالث:
تكذيب الوعد ولقاء الله وما أتى به من كتب والساعة،
بل كذبوا بالساعة ، وهو تكذيب بالحق،
فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ، وهو تكذيب بلقاء الله،
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ، وهو التكذيب بما لا يرى.
والرابع:
التكذيب نقيض الرؤية بالفؤاد،
ما كذب الفؤاد ما رأى . فاليقين يقين داخلي. والرؤية انقلاب للنظرة من الخارج إلى الداخل عن طريق الاستبطان. التصديق تطابق الرؤية مع الموضوع في النفس وليس تطابق النظر مع الموضوع في الخارج نظرا لخداع الحواس.
والخامس:
الكذب كذب على النفس، وانقسام النفس قسمين، رؤية صادقة وتكذيب بها باللسان،
انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وهو ظلم للنفس،
ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون . والتكذيب اعتداء على النفس وعلى الآخرين،
وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . والتكذيب بالدين إنكار لحقوق اليتيم،
أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم . فالكذب فعل اللسان،
وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى . والكذب يدحضه البرهان،
إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين .
والسادس:
عقاب المكذبين في الجحيم،
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم . يعذبون فيها،
والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون ، ومن أصحاب النار،
والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار . ولا تفتح لهم أبواب السماء،
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء . وتتكرر آية،
ويل يومئذ للمكذبين
أكثر من عشر مرات للتأكيد على العاقبة والعقاب في الآخرة وفي الدنيا أيضا. يعاقبون في الدنيا بالغرق وقطع الدابر لأن الكذب يؤدي إلى العمى. التكذيب إحباط للأعمال. والمكذبون يهلكون بذنوبهم،
كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم . ويدمرون تدميرا،
فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا . نتيجة التكذيب الهلاك،
فكذبوه فأهلكناهم ، تأخذهم الرجفة،
فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . ويجدون جهنم،
هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون .
التكذيب إنكار للواقع وللتاريخ وللمستقبل. الواقع هو الحاضر، والتاريخ هو الماضي، والمستقبل ما يقع للإنسان بعد الموت. التكذيب ليس فقط فعلا أخلاقيا، بل هو أيضا فعل معرفي، وموقف تاريخي ومخاطرة ومجازفة بالنسبة للمستقبل.
الفصل التاسع
الحوار
(1) الاختلاف الطبيعي والخلاف المصطنع
يفرق القرآن الكريم بين الاختلاف الطبيعي بين السماء والأرض والليل والنهار والرياح والحياة والموت والفلك والدواب والأنعام والزرع والثمرات والماء والشراب وأخيرا الألسنة والألوان، والخلاف المصطنع المذموم نتيحة للشقاق والشك والتعصب والحزبية والجهل وضيق الأفق. الأول سنة الله في الكون، والثاني نتيجة لفعل الإنسان وأهوائه وانفعالاته. وهناك آية جامعة لمعظم أنواع الاختلاف الطبيعي،
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون . ثم يفصل هذا الاختلاف الطبيعي في آيات أخرى تجمع بين الاختلاف الكوني،
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . فالكون بمجراته وكواكبه ونجومه مختلف، والليل والنهار بتوزيع الضوء بينهما وأساليب الحياة مختلفان. والماء يربط بين السماء والأرض ليحيي الأرض بعد موتها. وكذلك الرياح لتدفع الفلك ليجري في البحر،
واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون . فالكون في حركة دائبة. والأرض تنبت الزرع مختلف الألوان،
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه . وذلك كله بفضل الماء الذي يحيل الأرض الهامدة إلى حياة،
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، الأخضر والأصفر،
ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا . ويتشابك الزرع ويتعانق النخيل فيصبح كالجنة،
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله . والجبال مختلف ألوانها بين الأبيض والأحمر، ما عليها من ثلج وما فيها من حديد،
ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها . والناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها كذلك،
ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك . يخرج من بطونها ألبان فيها شفاء للناس،
يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس . وأهم من ذلك كله اختلاف البشر في ألوانهم وألسنتهم،
ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم . هذا هو الاختلاف الطبيعي الممدوح والذي يستحيل معه صب الخلق في قالب واحد، والناس في شكل واحد.
أما الاختلاف المصطنع غير الطبيعي فهو الشقاق والتعصب والتحزب الناتج عن الانفعالات والأهواء البشرية، وهو اختلاف مذموم طارئ . ينشأ من تضارب المصالح، وهو ضد الوحدة ويؤدي إلى التفرق والتشتت والتبعثر والتشرذم والضياع. وهي سمات المواقف البشرية،
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . البشر دائما في شقاق،
والسماء ذات الحبك * إنكم لفي قول مختلف . والحقيقة الواضحة لا خلاف فيها مثل يوم الميعاد،
عم يتساءلون * عن النبإ العظيم * الذي هم فيه مختلفون . ولا يزال الاختلاف بين الناس إلا من رحمهم الله،
ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك . والعجيب أن يختلف الناس بعد ما يجيئهم من الحق على تأويله،
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ، وهو نموذج أهل الكتاب الذين اختلفوا على الحق بعد ما جاءهم،
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . ويصل حد الاختلاف إلى الشقاق بل وإلى الحرب،
وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد . لقد اختلف النصارى على ما جاءهم من الحق وعلى طبيعة السيد المسيح. واختلف اليهود على كتاب موسى،
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه . اختلفوا على شريعته،
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه . وتفرقوا شيعا وأحزابا وفرقا وطوائف،
فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم . ويقع الاختلاف بعد ما يأتيهم من العلم،
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، وبعد ما يأتيهم من البينات،
وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ، وهو درس لكل أمة أتت بعدهم،
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات . الأصل في البشر الاتفاق والوحدة ثم يختلفون على المصالح والأهواء،
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا . ولا سبيل إلى الاتفاق إلا العودة إلى الكتاب،
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه . ولا سبيل إلى معرفة الحق من جديد إلا بالاحتكام إلى الكتاب،
ليبين لهم الذي يختلفون فيه . ويقص القرآن على الأمم السابقة، اليهود والنصارى، ما كانوا يختلفون فيه،
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون .
فعلى الفلسطينيين أن يختاروا أي اختلاف يريدون. الاختلاف الطبيعي الممدوح أم الاختلاف المصطنع المرذول؟ الأول اختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، وهو طبيعي بين البشر والتقارب فيه ممكن. فالنظر إلى الشيء ممكن من وجهات متعددة. ومجموعها يكون نظرة كلية بين فتح وحماس، بين السلطة والمقاومة، بين منظمة التحرير والفصائل التي لم تنضم إليها. والثاني خلاف على الحق وكيفية التعامل مع العدو المحتل، الاستسلام أم المقاومة، المساومة على الحق أم التمسك به، وهو تعارض في الرأي لا سبيل إلى المصالحة بينهما. الأول اختلاف محمود يمكن أن ينتهي إلى اتفاق. أما الثاني فهو خلاف ممقوت يؤدي إلى ضياع الحق وسفك الدماء والحرب الأهلية والانقسام الوطني. (2) الحوار
لا يوجد كتاب سماوي أبرز قيمة الحوار ومارسه مثل القرآن الكريم. فقد حاور الخصوم، الكافر، والمشرك، والمنافق، وكل الخصوم دون رفضهم أو استبعادهم، بل باعتبارهم نماذج إنسانية لغياب الإيمان، باعتبارهم اختيارات يمكن تبديلها عن اقتناع. فالحقيقة متعددة الجوانب. يمكن الجمع بينها بالحوار، والوصول إلى اتفاق دون حسم مسبق أي الجوانب أحق من الجوانب الأخرى،
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، ودون ممارسة للعنف بل بالحوار وبيان أي المواقف أصح وأنسب وأقرب إلى العقل والمصلحة.
وقد أصبحت كلمة الحوار شائعة في الغرب المعاصر مدعيا أنه ثقافة الحوار بمد يده إلى غيره من الثقافات خاصة الثقافة الإسلامية تحت مسميات عديدة، حوار الأديان، الحوار الإسلامي المسيحي، حوار الحضارات، حوار الثقافات، حوار الشمال والجنوب، حوار الشرق والغرب. وعادة ما تكون اليد العليا للغرب، والطرف الآخر هو الأضعف والأكثر خجلا لاتهامه بالعنف والتعصب والرفض والتكفير والتخوين والإرهاب. وذلك تخفيفا للتوتر بين الإسلام والغرب، وتطهرا من العداء التاريخي منذ الحروب الصليبية حتى الاستعمار الحديث والاستعمار الجديد، وزيادة هجرة العرب والمسلمين إلى أوروبا حتى أصبح الإسلام هو الدين الثاني فيها بعد المسيحية وقبل اليهودية، واستدعاء للحظات الوفاق التاريخي منذ عصر الترجمة الأول من اليونانية إلى العربية في القرن الثاني للهجرة والتي كان بفضلها نشأة الفلسفة الإسلامية حتى عصر الترجمة الثاني من الحضارة العربية إلى الحضارة الغربية، فنشأت العصور الحديثة في الغرب منذ العصور الوسطى المتأخرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر حتى عصر العودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر قبل أن تبدأ العقلانية، «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في السابع عشر، وتستمر في التنوير في الثامن عشر، وفي الفكر العلمي في التاسع عشر حتى يقع الغرب في أزمة القرن العشرين. وقد ظهر الوفاق ثانيا في عصر الترجمة الثالث في القرن التاسع عشر الأوروبي منذ الطهطاوي وترجمة فلسفة التنوير التي على أساسها قامت النهضة العربية الحديثة.
وقد ورد لفظ «الحوار» في القرآن ثماني مرات، ثلاث بالمعنى الحقيقي أي النقاش الحر، وخمس بالمعنى المجازي الذي يطلق على حواريي السيد المسيح الذين آمنوا به بعد حواره لهم واقتناعهم به مثل الصحابة.
والمعاني الثلاثة للحوار بالمعنى الحقيقي هي موضوعات الحوار مرتين، وطرفا الحوار مرة. فموضوع الحوار الأول هو المادة، المال والبنون، الثروة والسلطة،
فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا . فقد ظن أحد طرفي الحوار على الإطلاق دون تعيينه بل باعتباره نموذجا للمتحاور أنه أكثر قوة من الطرف الآخر بالمال والعشيرة وهي أمور دنيوية خالصة. وقد يكون الفقير اليتيم أكثر فضلا من صاحب المال الوفير والنفر الكثير. فالكم لا يعطي فضلا على الكيف. وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والمعنى الثاني هو الفضل المعنوي،
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب . فكيف يكفر الإنسان بالخالق الذي خلقه من تراب؟ من يفعل ذلك فقد أنكر البداهة والفطرة والحس السليم. المعنى الأول الفضل في الدنيا، والمعنى الثاني الفضل في الآخرة. الأول في المادة، والثاني في الروح. الأول في البدن والثاني في النفس. والمعنى الثالث هما طرفا الحوار مثل الزوجين،
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير . فالطرف الأضعف يبحث عن طرف ثالث لينصره. والمرأة هي الطرف الأضعف أمام الرجل تشتكي إلى الله بعدما لم ينفع جدالها مع زوجها للدفاع عن حقوقها.
والمعنى المجازي هم الحواريون الذين حاوروا السيد المسيح في نبوته، وناقشوه في رسالته، واقتنعوا به، ونصروه وناصروه،
قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله . ويكون ذلك اعترافا منهم أو ردا على سؤال السيد المسيح،
قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله . وقد يكون ذلك اقتناعا منهم أو إيحاء من الله لهم،
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا . ولم يؤمن الحواريون إلا بعد برهان عيني ودليل حسي، إنزال مائدة من السماء،
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء . فلما أنزلها الله عليهم آمنوا به. والدليل الحسي ربما يكون أكثر اقناعا لليهود لطبيعتهم الحسية في عبادة العجل من الدليل العقلي.
الحوار إذن ممكن على المستويين المادي والمعنوي وبحضور طرف ثالث عدل. فالحوار بين العرب والغرب ممكن ماديا إذا ما دعم الغرب خطط التنمية العربية، وناصرهم في القضية الفلسطينية، وحسن صورة الإسلام في أجهزة إعلامه وفي كتاباته. هنا تصبح الضفتان في البحر الأبيض المتوسط طرفين في الحوار، متفاهمين. كل طرف مقتنع بوجهة نظر الطرف الآخر ومصالحه. وربما تكون أمريكا الطرف الثالث العدل إذا أرادت دون أن تنحاز إلى الغرب أو روسيا بعد أن تنتقل من التعاطف المعنوي إلى التعاطف المادي حتى يكتمل الحوار. (3) الصلح خير
في هذا الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمر المصالحة الوطنية الفلسطينية بالقاهرة من أجل تجاوز الخلاف بين فتح وحماس، بين السلطة الفلسطينية والمقاومة حفاظا على وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة حكومة يمينية قادمة أو حكومة وحدة وطنية يسيطر عليها اليمين أو اليمين الوسط، يبرز موضوع الصلح في القرآن الكريم كمصدر رئيسي للثقافة الوطنية السياسية القادرة على تدعيم المصالحة والوفاق الوطني.
فقد ورد مصدر «صلح» مائة وثمانين مرة، أي إن الصلح موضوع رئيسي وجوهري في القرآن وفي حياة الناس. ورد اثنتي عشرة مرة فقط بمعنى المصالحة بين الأطراف، وهو المقصود لنزع الخلاف بين الناس. والمرات الباقية بمعنى فعل الخير والإصلاح في الأرض والصلاح والصالحات. فالصلح بين الناس جزء من منظور أعم وهو الإصلاح في الأرض.
وقد ورد لفظ «صلح» بمعنى المصالحة بستة معان:
الأول:
أن الصلح في حد ذاته خير بصرف النظر عن الصلح بين من من الأطراف المتنازعة،
والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح . شح الأنفس وعدم الرغبة في الحلول الوسط والتصلب والمطالبة بالحد الأعلى حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بالطرف الآخر هو السبب في منع الصلح. يحتاج الصلح إلى كرم النفس، وطيبة الخاطر، وحسن الطوية، وسماحة القلب.
والمعنى الثاني:
الصلح بين الزوجين. فالصلح في الحياة الخاصة سابق على الصلح في الحياة العامة،
فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا . فالقادر على الصلح في الداخل قادر على المصالحة في الخارج، وهو ما يقرره المحللون النفسيون كذلك، وهو أهون الضررين من الصراع والنزاع والخلاف والحرب الخفية أو المعلنة بين الطرفين؛ لذلك كان الطلاق أبغض الحلال عند الله. وكان رد الزوجة خير من طلاقها،
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا . والله يوفق بين المتصالحين،
إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما .
والمعنى الثالث:
هو الصلح بين الوصي والموصى عليه، وهو أيضا صلح داخل الأسرة ليس بين الزوجين هذه المرة بل بين الوصي والموصى عليه،
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . فقد تتعارض المصالح بين الطرفين نظرا لاحتمال سيادة الأهواء والميول والمصالح الشخصية على الوصي طمعا في أموال وممتلكات الموصى عليه أو طمعا فيه هو إذا كانت أنثى؛ لذلك حلل تعدد الزوجات حتى لا يحكر الوصي على الموصي عليها فلا يزوجها طمعا في مالها، وهو سبب لم يعد له وجود اليوم. هناك المجلس الحسبي ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني للقيام بهذا الدور بدلا من الوصي.
والمعنى الرابع:
الصلح بين الإخوة أي بين أي جماعة بينهم رابطة الدم أو المكان أو المصلحة أو الفكر،
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم . فالاتفاق في النسب أو في الجيرة أو في الهدف أو في المصلحة يوجب الصلح. فلا قتال بين الإخوة ولا نزاع بينهم. والمؤمنون إخوة بينهم رابطة الإيمان الواحد.
والمعنى الخامس:
الصلح بين الناس جميعا. فبينهم رابطة الإنسانية أو البشرية. وماؤهم حرام فيما بينهم،
أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس . فالسلام بين البشر هو الأساس، والصراع هو الاستثناء. وما يربط الناس بعضهم ببعض إما صدقة أي فعل الخير، أو النصح أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإصلاح بين الناس،
إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس . فالناس تجتمع على الخير والتناصح وليس على الشر والعدوان.
والمعنى السادس:
وهو الأهم، الصلح بين المتقاتلين ساعة الفتنة،
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . وإن رجع فريق إلى الحق أو كلاهما فالصلح واجب،
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا . فإصلاح ذات البين أقرب إلى التقوى والمصلحة العامة،
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم حرام عليهم. ولإن مد قابيل يده لقتل هابيل ما قدم هابيل يده لقتل أخيه حتى يبوء الأخ القاتل بالعدوان وبحرمة دم أخيه. فدم فتح وحماس حرام بعضهما على بعض، والشقاق بينهما لا يجوز لأن النزاع شر. وهما كالزوجين في الأسرة الفلسطينية الواحدة. وفي يوم من الأيام كانت فتح هي المنظمة الكبرى وحماس هي الصغرى. ثم تبدلت الأحوال وأصبحت حماس هي الكبرى لها الأغلبية في المجلس التشريعي وفي الشارع الفلسطيني. وهما إخوة. الصلح بينهما واجب. يتقاتلون، والقتال داخل الأسرة الواحدة لا يجوز.
الصلح بين الأطراف جزء من الإصلاح العام نتيجة للإيمان والتقوى والعفو. ومن هناك أتت الأعمال الصالحة،
الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ضد الفساد والإفساد في الأرض وبين الناس. لذلك سمي أحد الأنبياء صالح والجنة مآل الصالحين. والإصلاح سنة الأنبياء. والله يعلم المفسد من المصلح؛ لذلك مهما اختلفت فتح وحماس ومهما تصارعتا على السلطة وتباعدتا في المنظور فلا يجوز النزاع ولا الخصام بينهما. والصلح خير بأمر القرآن. الخلاف في الوسيلة لا يمنع من الاتفاق في الغاية. والاختلاف في الطريقة لا يمنع من الاتفاق في الهدف. والعدو الصهيوني نموذج في الاختلاف والاتفاق، اختلاف نتائج الانتخابات بين الحزبين الكبيرين وإمكانية قيام حكومة ائتلافية دون اقتتال بينهما. فهل يكون الفلسطينيون أقل التزاما بمبادئ الإسلام من العدو الصهيوني؟ (4) هل يجوز الخصام؟
إذا كان الصلح خير فهل يجوز الخصام؟ لا يجوز الاختصام في الحق. فبالرغم من تعددية المنظور إلا أن ذلك لا ينفي موضوعية الحق. ولما كان الله حق فلا يجوز الاختصام فيه كما لا يجوز الاختصام في الوطن ولا في مصالح الناس،
هذان خصمان اختصموا في ربهم . وكيف يختصم عند الله وقد أرسل الحق واضحا من خلال رسله،
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . فهناك حقيقة موضوعية بين الخصيمين خارجة عنهما يمكن الاحتكام إليها. فالذات بلا موضوع هوائية انفعالية نسبية. يوم القيامة أيضا حقيقة موضوعية بين المختصمين،
ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون . فبعد الموت تظهر الحقيقة الموضوعية التي لا خلاف عليها خارج وجهات النظر والأهواء والرغبات والميول. وأحيانا تسمى الحقيقة الموضوعية «الملأ الأعلى»،
ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون . وقد تأخذ الناس الصيحة الواحدة يوم القيامة وهم ما زالوا يختصمون،
ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون . فالواقع أبلغ من كل خصام. والعدوان على غزة أبلغ من كل خلاف بين فتح وحماس، بين السلطة الوطنية في الضفة، وحكومة القطاع في غزة.
والشاهد على ذلك تاريخ الأنبياء، إبراهيم ومريم وصالح وداود. فقد اختصم آل مريم أيهم يكفلها،
وما كنت لديهم إذ يختصمون . وقد عرف الرسول الخبر من الوحي ولم يكن حاضرا بينهم. كذلك اختصم قوم إبراهيم في الجنة،
قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين . كما اختصم قوم صالح في دعوته لعبادة الله،
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون . وقد تسور خصمان المحراب وسألوا داود أن يفصل بينهما إذ سأل أخ وله تسع وتسعون نعجة أخاه أن يعطيه نعجته الواحدة حتى يكون له كل شيء ولا يكون لأخيه أي شيء تعبيرا عن الصراع بين من يملكون ومن لا يملكون،
وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ، وهو بغي أحدهما على الآخر بلا أدنى شك،
خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق . وقد حكم داود بينهما بالحق، شيمة الأنبياء. ويظل أهل النار يتخاصمون حتى يفاجئوا بها،
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ، جاحدين بها، ناكرين لها، وهم محروقون بها.
والخصام نتيجة للجدل. والجدل إنكار للحق،
ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون . والجدل قلب الحق باطلا والباطل حقا. ولو عرف الإنسان كيف خلق من نطفة لما اختصم في الحق ولما جادل فيه،
خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ، بل إنه لا يرى أنه خلق من أضعف شيء وهي النطفة ويجادل في أعظم شيء وهو الحق،
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين .
وقد يكون الخصم عارفا بالحق بقلبه ولكنه يجادل بلسانه طمعا في سلطة أو منصب أو ريادة أو قيادة،
ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام . وإن كان ما في القلب على اللسان لما نشأ الخصام. ينشأ الخصام من ازدواجية المواقف وتغييرها، ومعرفة الحق وعدم الاعتراف به. ومع ذلك يكون الخصم أحيانا غير مبين. يكشف تلجلجه في الحق عن مخالفته لله. ويسيء التعبير عنه،
أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين . فالبلاغة طبيعية في التعبير عن الحق، ومصطنعة في التعبير عن الباطل. ومع ذلك يؤخذ الخائن باللين، والمخالف للحق بالرفق لأنه يعود إلى الحق في يوم من الأيام،
ولا تكن للخائنين خصيما .
ومن ثم، فالخصام بين فتح وحماس إنكار للحق الموضوعي بينهما وهي حقوق شعب فلسطين، وجدال فيها. وكلاهما يعلمها ويعلم الطريق إلى نيلها. إنما هو خلاف بين الواقع والمثال، بين العاجل والآجل، بين الممكن والصعب وليس المستحيل، بين الدرع والرمح، بين القليل والكثير، بين الجزئي والكلي، بين مطالب النفس ومطالب الآخر. وكلاهما صحيح . الحوار خير من القطيعة، والمصالحة خير من الخصام،
أشداء على الكفار رحماء بينهم . ولذلك وسائل عديدة. بقاء المقاومة من جانب الثورة والحكومة من جانب الدولة، بقاء منظمة التحرير الفلسطينية بعد إعادة بنائها المرجعية الأولى والأخيرة، والسلطة الوطنية أي الحكومة للمفاوضات والأخذ والعطاء وفقا للظروف الداخلية والمحلية والدولية.
لا يجوز إذن الاختصام في الحق، ولا في الحقائق الموضوعية ولا في الموضوعات البديهية المرئية رؤية العين. لا يتخاصم إلا أهل النار الذين عميت عيونهم عن الحق،
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . الخصام بغي أحد الطرفين على الآخر أو كلا الطرفين بعضهم على بعض في حاجة إلى طرف ثالث مثل مصر لتحقيق المصالحة والحكم بينهما بالحق. وإذا كان الإنسان بطبيعته خصيما فإنه بطبيعته أيضا راغبا في المصالحة. فالصلح خير، ويحتاج إلى تغليب الخير على الخصام، والوحدة على التفرق، واليقين على الجدل. (5) وجادلهم بالتي هي أحسن
من المفاهيم المعرفية في القرآن الكريم مع الدليل والبرهان والحوار والخصومة مفهوم الجدل، وهو أحد أقسام علم المنطق، منطق الظن مع الخطابة والمغالطة والشعر في مقابل منطق اليقين، المقولات والعبارة والقياس والبرهان.
وقد ذكر «الجدل» في القرآن الكريم تسعا وعشرين مرة، خمسة وعشرين فعلا، أي إن الجدل فعل وممارسة وشكل من أشكال الحوار، وأربع مرات فقط اسما في صيغتين: جدل وجدال، أي إن الجدل ليس جوهرا أو موضوعا نظريا له قواعد منطقية كما هو الحال في الجدل في علم المنطق.
واستعمل اللفظ في اتجاهين. الأول الجدل المذموم وهو الأغلب ست وعشرين مرة. والجدل الممدوح ثلاث مرات فقط. فالاتجاه الغالب على معاني الجدل في القرآن هو الرفض. ويتم تحليل هذه المعاني إما في وقت الجدل، الدنيا والآخرة أو المجادلين، الأنبياء مع أقوامهم، والكذابين، والكفار، واليهود، والإنسان في حد ذاته أو الشيطان أو موضوع الجدل الحق أم العلم أم الباطل أم في أسماء الله أو آياته أو في الله ذاته.
فإذا كان الجدال ممكنا في الحياة الدنيا فإنه غير ممكن في الحياة الأخرى،
هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا . وإذا كان التمويه في الدنيا ممكنا فكيف يكون ممكنا في الآخرة حيث تنكشف الحقائق؟ فلا يستطيع الإنسان أن يجادل عن نفسه في الآخرة،
يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون . فالعمل هو المقياس وليس الجدال. والمسئولية فردية ولا يستطيع أحد أن يجادل عن أحد يوم القيامة،
فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا . فلا أحد يكون وكيلا عن أحد.
ويكون الجدل أساسا بين الأنبياء وأقوامهم. فقد جادل نوح قومه وأكثر الجدل،
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا
مما يدل على رغبة الأنبياء في إقناع أقوامهم. كما جادل إبراهيم الملائكة الذين بشروه بإسحاق ويعقوب في قوم لوط،
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط . فوظيفة النبي الإقناع والاقتناع، كما جادل قوم محمد الرسول دون أن يرد عليهم فالله أعلم بما يعملون لأن الجدل عقيم لا يأتي بنتيجة، فالجدال إصرار على العناد،
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون .
ويكون الجدال مع الكذابين الذين يختانون أنفسهم،
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، ومع الكفار،
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين
لأن الجدال يتطلب إمكانية الإقناع والتحول إلى الحق وهو ما لا يتوافر عند الكافر. وقد يكون الجدل من الشيطان،
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم
لأن الشيطان رمز لقلب الحق باطلا والتمويه والخداع. والإنسان بطبيعته مجادل،
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . ويدفع الجدل الذين كفروا باتهام الحق بأنه مجرد أساطير الأولين،
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين .
والجدل لا يكون عن جهل بل عن علم. فالجدل عن جهل مجرد صراخ والجدل عن علم قادر على الوصول إلى الحقيقة،
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . وإن كان المجادل غير ذي علم فإن البديل هو الشيطان أي الأهواء والمصالح والرغبات والميول الشخصية،
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد . ولا يكون جدلا في الباطل بل في الحق. فالجدل في الباطل سفسطة ومغالطة وتمويه وخداع،
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب . الجدال في الباطل لدحض الحق،
ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق . الجدال لا يكون في الحق لأنه يكون عنادا،
يجادلونك في الحق بعد ما تبين
وليس بعد بيان الحق إلا التسليم.
أما موضوعات الجدل فهي الموضوعات التي لا جدل فيها مثل الله وأسماء الله وآيات الله. وهي موضوعات البداهة والتسليم. فالجدال لا يكون في الله وهو قادر على إرسال الصواعق على من يجادل فيه،
ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله . ولا يكون في أسماء خاوية من أي مضمون مثل أسماء الآلهة المزيفة،
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم . ولا يمكن وصف الآلهة الحق بأنه موضوع للجدل في حين أن تعدد الآلهة خير،
وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا . ولا جدال في آيات الله لأنها بينة واضحة مشاهدة، حسية مرئية،
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا
والجدال فيها يكون دون سلطان ومعرفة وقوة،
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم . وهم لا عقل لهم ولا ذكاء،
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون . ولا ينتهون بجدلهم إلى شيء،
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص .
أما الجدل الحسن فهو الجدل مع أهل الكتاب،
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن . بل هناك أمر إلهي بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن بسماحة وقبول ومحبة،
وجادلهم بالتي هي أحسن . ولا جدال ولا رفث ولا فسوق في الحج،
فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
لأن الجدل يورث الضغائن في القلوب. وجدال المرأة مع زوجها لأخذ حقوقها وتحررها منه يسمعه الله وينتصر إليه،
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما . فمن حق المرأة المعاشرة وعدم مظاهرتها.
الجدل كما هو الحال في علم المنطق جزء من منطق الظن مع الخطابة والسفسطة والشعر في حين أن البرهان جزء من منطق اليقين مع المقولات والعبارة والقياس. الأول مرفوض، والثاني مقبول.
الفصل العاشر
فلسفة السؤال
(1) الفلسفة وحياتنا المعاصرة
هناك بعض التعبيرات السلبية في لغتنا اليومية خاصة بالفلسفة مثل «بلاش فلسفة»، «إنت بتتفلسف علينا»، وتعني الكلام الزائد غير المفهوم وغير المفيد، اللغو الذي لا يحل ولا يربط، في حين أن الفلسفة ليست كذلك. الفلسفة إعمال العقل والنظر الحر دون أحكام مسبقة دينية أو سياسية أو اجتماعية في واقع سياسي واجتماعي وثقافي معين لشعب ما، في مرحلة تاريخية محددة، عن طريق العقل النقدي من أجل التغير الاجتماعي، وليس عن طريق العقل التبريري للإبقاء على الوضع القائم. فهي ضرورية من أجل البحث عن اليقين النظري أو العملي.
ليست الفلسفة المنقول عن القدماء نظرا لتغير المرحلة التاريخية كلها من الانتصار إلى الانكسار، وتغير الظروف الحضارية من اليونان القديم إلى الغرب الحديث. كما أن الفلسفة القديمة استقرت على جانب واحد، الأشعرية في الكلام، والإشراقية في الفلسفة، والطرقية في التصوف، والمذاهب الأربعة في الفقه، واتحدت مع السلطتين الدينية والسياسية. وتحولت إلى ثقافة شعبية في الأمثال العامية. الفلسفة هي الإبداع وتجاوز المنقول من القدماء إلى المحدثين إلى المبدع الجديد. فالعالم ليس هو «الحافظ» بل «المبدع»، ليس العالم بالرواية بل بالدراية. فالعلم ليس المعلومات بل قراءة ما بين السطور، استنباط المعلوم من المجهول.
وليست الفلسفة هي تلك الوافدة من الغرب والتي تبنتها النخبة ترجمة وعرضا. فقد نبتت في بيئة مخالفة، ويعاد زرعها في بيئة مخالفة أخرى. إشكالاتها أحيانا مزيفة، وحلولها أحادية أو عدمية. تعبر عن العصور الحديثة الأوروبية في حين أننا في نهاية عصرنا الوسيط. والفلسفة المعاصرة الغربية تعبر عن نهاية العصور الحديثة في الغرب ونحن في بداية عصورنا الحديثة منذ الإصلاح الديني وفجر النهضة العربية. كل فلسفة تعبر عن اللحظة التاريخية التي تمر بها حضارتها. ولا تنقل من حضارة إلى أخرى وإلا خرجت الحضارة عن مسارها التاريخي. وتحولت المسارات كلها إلى مسار واحد كما هو الحال في تحول حضارات العالم كله في الشرق إلى مسار الحضارة الغربية، وقسمته إلى قديم ووسيط وحديث، مع أن الحضارة الإسلامية ليست في الوسيط بل لها تحقيبها الخاص. ما يسمى بالوسيط الأوروبي هو عصر الازدهار الإسلامي، وما يسمى بالحديث الأوروبي هو عصر الأفول الإسلامي، عصر الشروح والملخصات.
حياتنا المعاصرة هو موضوع الفلسفة، والتأمل النظري هو واقعنا المعاصر الذي يفرض موضوعاته، ويتطلب تنظيرا لها من أجل ممارستها الفعلية. أولها فلسفات التحرير لاستكمال حركات التحرر الوطني بعد أن عاد الغزو الاستعماري العسكري المباشر مثل فلسفة المقاومة عند فشته، وفقه الأرض المغصوبة في الفقه القديم. وثانيها فلسفات الحرية تدعيما لحرية الإنسان ضد كل مظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي. ويتم ذلك عن الحوار مع فلسفات الحرية العقلية عند ديكارت وكانط، والنفسية عند برجسون، والشخصانية عند مونييه، والوجودية عند سارتر. وثالثها فلسفات العدالة الاجتماعية لحل قضية الفقر والغنى وسوء توزيع الدخل القومي والتعامل مع فلسفات العدل الاجتماعي بكل أنواعه من اشتراكية طوباوية وخيالية ودينية ومثالية وعلمية، وما يقابلها في الموروث القديم من نظريات الاستخلاف والإقطاع والمشاع والمساواة. ورابعها فلسفات الوحدة القادرة على حماية الأمة من كافة أشكال التجزئة الطائفية والعرقية مثل فلسفات الوحدة في الغرب عند هيجل والرومانسية الألمانية ونظريات وحدة الشهود عند ابن الفارض، ووحدة الوجود عند ابن عربي، والوحدة المطلقة عند ابن سبعين في التصوف الإسلامي. وخامسها التنمية الشاملة من أجل الاعتماد على الذات وتأصيلا لها في الموروث القديم في نظريات التسخير وإعمار الأرض واستثمار الثروات الطبيعية والحيوانية، وفي نظريات التنمية المستدامة والمستقلة في أمريكا اللاتينية وآسيا. وسادسها فلسفات الهوية التي تحمى الأمة واستمرارها في التاريخ بدلا من الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية واعتمادا على فلسفات الأنا والذاتية في الغرب أو لدنيا خاصة عند محمد إقبال. وسابعها وآخرها فلسفات تجنيد الجماهير وحشد الناس من أجل تحويلهم من كم إلى كيف اعتمادا على ثورة الجماهير عند أورتيجا أو تربية المضطهدين عند فريري أو مفاهيم العامة والخاصة والجمهور في الموروث القديم وما استحدث من فعاليات اجتماعية جديدة مثل العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين الوطنيين.
الفلسفة إذن ضرورية في حياتنا المعاصرة لمزيد من الوعي بالواقع وبالموقف الحضاري، علاقتنا بالموروث القديم الذي ما زال حيا في الشعور الجماهيري دون القطيعة معه، وعلاقتنا بالوافد الحديث الذي أصبح في عقل النخبة، زرعا في غير أرضه، ولم ترتبط الجماهير به، وعلاقتنا بالواقع المعاش الذي يحتاج إلى تأمل وتدبر وإدراك وتعامل مباشر مع الواقع بالمخزون النفسي القديم أو بما ورد من ثقافة حديثة من خلال الإعلام أو بالبداهة والفطرة والحكمة الشعبية.
الفلسفة إذن ليست الكلام المعقد غير المفهوم بل هي القدرة على الدخول في أعماق الواقع لفهمه وتغييره. حينئذ تصبح الفلسفة جزءا من حياة الناس ومطلبا لهم. (2) فلسفة السؤال
السؤال والجواب منهج في الفكر الغربي المعاصر سماه ياسبرز فلسفة السؤال. فلا فلسفة بلا سؤال. وأحيانا يكون السؤال بلا جواب، وهو إما التساؤل الذي يعبر عن الدهشة أو الذي لا إجابة نظرية عليه.
ويعني السؤال أولوية الواقع على الفكر. الواقع يسأل والفكر يجيب تجنبا للأسئلة النظرية التي لا تنتج عنها آثار عملية مفيدة للناس في حياتهم ومماتهم.
والصيغة الشائعة في القرآن الكريم لذلك من بين عديد من الصيغ هي «يسألونك». وقد وردت خمس عشرة مرة. وهي أسئلة عن مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حول ما يعرض للناس من قضايا وآراء، وما يواجهونه من مشاكل وأزمات.
وهناك سبعة أسئلة يسألها الإنسان في حياته الخاصة والعامة.
السؤال الأول:
ما يتعلق بأسلوب حياته، ما يجوز له وما لا يجوز، وهو سؤال عن الحلال،
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات . فالإنسان ليس موجودا طبيعيا فقط بل هو أيضا موجود أخلاقي. بينه وبين الطبيعة ضرورة وشرع، حاجة وأخلاق، إشباع وامتناع. صحيح أن الطبيعة خيرة، وأن الإنسان يولد على الفطرة، وأن الإسلام دين الفطرة، وأن الإنسان لو سلك طبعيا أي بفطرته لكان خيرا. إلا أن الاحتراز واجب، والحذر مطلوب، فالطبيعة بلا حدود. ومن هنا جاءت الشريعة لتنظيم العلاقة بين الإنسان والطبيعة على افتراض أنها خير. لذلك كان السؤال عن الحلال وليس عن الحرام، وكان الجواب من الطيبات وليس من الخبائث. وليس كدعاة هذه الأيام الذين يكون الحرام في أفواههم قبل الحلال، والخبائث قبل الطيبات حتى جعلوا الدين قهرا ومنعا إضافة إلى القهر والمنع في الحياة الاجتماعية والسياسية.
والسؤال الثاني:
عن الطعام والشراب والكسب الحلال،
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما . فالخمر كما هو معلوم حرمت على مراحل. الأولى الإثم فيها أكبر من النفع مما دفع النخبة للامتناع عنها. إثم ذهاب العقل والصحة والمال وفقدان السيطرة على الانفعالات والأفعال هو السبب المباشر في اجتنابها كحكم أخير، بعد الامتناع عنها حين الصلاة فقط حتى يكون الإنسان على وعي بما يقول. ويتدبر ويفكر ويتذكر نعم الله عليه. والمنافع بعض الملذات والمكاسب والأرزاق، والتجارة والزراعة والصناعة أربح وأنفع. اشتغل بها اليهود والنصارى. وكانت مصدرا لرزقهم مثل لحم الخنزير. والميسر كسب بلا جهد ولا عناء، وإنتاج وخدمات. فالمال لا يولد المال إلا بالجهد والعرق. لذلك حرم الربا. ومن يخسر في الميسر يخسر بغير وجه حق. ويضيع ماله دون استثمار. كما أن الميسر يوقع في الشحناء والبغض. فقد أخذ من لا يستحق ممن يستحق. يحركه الطمع والربح السريع.
والثالث:
سؤال عن محيض النساء، فلا حرج في الدين. وليس في الإسلام حرج. يسأل الرجال، وتسأل النساء. المحيض أذى تعتزل النساء فيه، وهو رأي الفطرة والطبيعة والعادة والصحة والطب والذوق السليم. لذلك تجب الطهارة بعده،
ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .
والرابع:
عن اليتامى وهو التوجه الاجتماعي للسؤال،
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح . فاليتيم من لا عائل له. وكان الرسول يتيم الأب والأم. ومن هنا وجبت حسن معاملة اليتيم ، كفله وتعليمه وتثقيفه وتربيته وتزويجه وتأهيله للحياة العامة. ولا ضير من الزواج منهم، ليس طمعا في أموالهم بل حماية لهم ، وهو أحد أسباب تعدد الزوجات بدلا من استغلالها من الكفيل، لنفسها ولأموالها.
والخامس:
عن الإنفاق. فالإنسان جبل على الشح والإمساك، وطبع على التقتير والبخل. هنا تأتي الشريعة لتهذيب الفطرة وإبراز طبع الكرم والعطاء والبذل والسخاء،
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو . والعفو هو ما زاد عن الحاجة، وما أتى تفضلا وكرما، ثم يأتي التخصيص بعد التعميم. الإنفاق خير بداية بالوالدين والأقربين والمساكين وابن السبيل،
وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم . فبعد الوالدين يأتي الأقرباء تدرجا، ثم العود إلى اليتامى، من لا عائل لهم، ثم المساكين والفقراء، ثم العابر والمسافر والمار.
والسادس:
عن القتال، وقته وما ينتج عنه من مغانم حين النصر،
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . فالدفاع عن النفس لا وقت محدود له بل في كل الأوقات حتى ولو كانت الأشهر الحرم أو أوقات المعاهدات والتهدئات. فالإخراج من الديار، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، واغتيال المقاومة توجب القتال. فإذا ما غنم المسلمون من الأعداء بعد النصر فإن السؤال يكون عن الأنفال،
يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول . فلا غنم شخصيا. الغنيمة لبيت المال. فالجهاد فريضة وليس حرفة.
والسابع:
عن مظاهر الطبيعة مثل الأهلة. والجواب أنها يعرف بها الحساب ومواقيت الشعائر مثل الصلاة والصيام والحج،
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج . فرابطة الإنسان بالطبيعة هو الزمن والإيقاع ودوران الأرض حول نفسها مرة كل يوم ومنها ينشأ الليل والنهار، وحول الشمس مرة كل عام ومنها تنشأ الفصول. ومنها نشأ علم الحساب والفلك.
هذه هي فلسفة السؤال والجواب في القرآن الكريم. السؤال الواقعي والجواب النافع. (3) السؤال النافع
ويتضمن القرآن في فلسفته للسؤال الإجابة عن السؤال النافع وترك السؤال الذي لا نفع فيه، السؤال النظري الخالص الذي لا يحتاج إلى إجابة نظرية بل إلى استعداد عملي، وهو في سبعة موضوعات: (1)
كثرة السؤال والإلحاح. فكل سؤال له إجابة. وكل إجابة تتضمن تشريعا. وكل تشريع قيد. والإنسان يكره القيود بطبعه. فيلفظ الشريعة،
قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين . والسبب كثرة السؤال. فقد سأل موسى كثيرا رفيقه الخضر حتى شعر أنه أكثر السؤال،
قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني . وهذه هي تجربة اليهود، كثرة السؤال ادعاء للإيمان والطاعة ثم رفض الإجابة امتناعا وعصيانا،
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا . (2)
والسؤال لا يكون من الصديق إلى الصديق، ومن الحميم إلى الحميم،
ولا يسأل حميم حميما . فبين الأصدقاء هناك لغة الصفاء والاتحاد والتفاهم المشترك دونما حاجة إلى سؤال. السؤال يقتضي التمايز بين طرفين، والغربة بين شخصين. السؤال يكون من الغريب إلى الغريب. (3)
والسؤال لمزيد من العلم وليس لمجرد حب الاستطلاع. السؤال عما يمكن معرفته وليس عما يستحيل معرفته مثل السؤال عن المجهول المطلق مثل الغيب الذي لا وسيلة للإنسان إلى معرفته،
قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ، وهو ما قرره كانط من قبل عن حدود المعرفة الإنسانية وإمكانياتها. فالإنسان لا يعرف إلا الظاهر، ما يبدو له، وليس الباطن ما يخفى عليه. العلم علم بالظواهر وليس بالبواطن على الرغم من ادعاء الصوفية وأهل الباطن والباطنية بوجه عام. (4)
والمحتاج لا يسأل بل تعرف في وجهه الحاجة ويتعرف الناس عليه،
تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا . مع أن السائل في حاجة، وهو سؤال عملي، ولكن الكرم لا يطلب، والعون لا يسأل احتراما لكرامة الإنسان وإلا تحول الفقراء إلى سائلين وسوالين. وقد نقد محمد إقبال «فلسفة السؤال» أي الشحاذة، من يسير طيلة النهار مادا كفيه إما طلبا للإحسان من الناس أو طلبا للعون من الله. فالمؤمن ليس شحاذا. والشحاذ ليس مؤمنا. والمؤمن من يعمل بقبضة يديه في الأرض ولا يرفعها إلى السماء. (5)
والسؤال عن الكتاب أصله ومصدره ومرسله ورسوله لا فائدة منه. السؤال عن الرسالة وفحواها ومتطلباتها وغايتها والهدف منها ومنفعتها هو الأهم. ليس السؤال هو نزول كتاب من السماء. فالكتاب ليس شيئا يرى بل كلاما يقرأ وفعلا يتحقق،
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء . كلام الله يرسل إلى ذهن النبي إلى عقول الصحابة شفاها حتى يؤثر فيهم بالصوت قبل التدوين. والقراءة أقرب إلى القلب من الكتابة؛ لذلك آثر الصوفية الطريق الشفاهي للتعليم وليس الطريق الكتابي. (6)
والسؤال عن الساعة سؤال يقضي على الوجود الزماني، وأن الجهل بساعة الموت بعد العلم بساعة الميلاد هو شرط الإبداع الذاتي قبل وفاة الأنا؛ لذلك قال الفلاسفة إن الوجود زماني، وإن الزمان وجودي. ومن لا يموت لا يكون إنسانا. لا يحب ولا يخاطر ولا يسرع ولا يفعل شيئا في اللحظة لأن عمره محدود في الزمان كله كما صورت سيمون دي بوفوار في مسرحيتها «كل البشر فانون»،
يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله ، وهو معنى سؤال أحدهم للرسول «متى الساعة؟» قال: «فاستعد لها». ليس الزمان هو الحدث الخارجي، الواقعة، بل هو شعور داخلي يدفع إلى الحركة والسبق. زمان الحدث هو الزمان الكمي المكاني، زمان القطارات والعربات والبواخر والمواصلات، وهو ما عبر عنه برجسون بوضوح في التمييز بين الزمان المكاني، زمان الساعة، الامتداد، والزمان الشعوري، الزمان النفسي، التوتر. (7)
والسؤال المتناقض هو رؤية الله،
فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة . فالله لا يرى بالعين لأنه ليس شيئا، وليس موضوعا مقابلا للبصر. الله مثل أعلى يشعر به الإنسان لتحقيقه. أقرب إلى الروح والمعنى أو الهدف والغاية. لذلك كان الاتجاه إلى أعلى، ورفع الأيدي إلى السماء أو إلى الأمام واستبصار المستقبل كما هو الحال في المعنى الاشتقاقي في اللفظ «بنى» ارتفع أو «رنا».
وهنا يظهر التوجه القرآني على أنه دافع نحو الفعل والعمل بأقل قدر ممكن من النظر على عكس ما هو حادث الآن، أكبر قدر ممكن من النظر وأقل قدر ممكن من العمل. وكلما عجز العمل تفوق النظر، تعويضا غير قصدي أو نفاقا قصديا. لذلك كتب محمد عبده «ما أكثر القول وأقل العمل». وفي القرآن:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . وفي الأحاديث «خيركم للناس أنفعكم للناس». (4) السؤال وإعادة توزيع الدخل
ويعني السؤال أيضا إعادة توزيع الدخل بسؤال الفقير حقه في أموال الغني، فالمال مال الله. والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال والاكتناز والاحتكار. وبالرغم من أن العمل وحده مصدر القيمة لذلك حرم الربا. واستنكف الأنبياء من الإرث والميراث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورث»، إلا أنه يحدث أحيانا تفاوت طبقي في المجتمع. وينقسم المجتمع بين أغنياء وفقراء. وتنقسم أساليب الحياة إلى نوعين: حياة بذخ وإسراف وترف للأغنياء، وحياة فقر وجوع وعوز للفقراء.
هنا يكون السؤال عن حق الفقراء في أموال الأغنياء سؤالا مشروعا بل وواجبا. هو سؤال حق وليس سؤال صدقة،
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم . وتتكرر الآية مرة أخرى للتأكيد،
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم . وقد أكد الرسول هذا المعنى عندما سئل عن معنى الآية هل المقصود بها الزكاة فأجاب: «في المال حق غير الزكاة». وإذا كان المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى، فمن الطبيعي أن يطالب من لا مال له بحقه في من له مال. ليس السؤال هنا شحاذة على الطريق كما هو الحال في الشوارع وعلى ناصية الطرقات من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والعجزة والمجذومين المجرورين بالعربات أو المحمولين على الأكتاف يسألون الناس مباشرة أو على نحو غير مباشر ببيع مناديل ورق صغيرة أم كبيرة. فهؤلاء نهرهم الرسول وقال فيهم: «لئن يأكل أحدكم من عمل يده خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». وليس عطاء الأغنياء لهم بمد أيديهم من العربات الفارهة المكيفة مصادفة في إشارات المرور الحمراء أو من التوقف للزحام صدقة وكرما ليخزي العين، ويمنع الحسد، ويشرع لكسبه اللامشروع كما يحدث في موائد الرحمن، وهو ما نقده أيضا محمد إقبال وسماه «فلسفة السؤال» عند من يمد يده باسطا إياها إلى السماء كي يسقط فيها الرزق من الله عن طريق الدعاء أو من الناس عن طريق السؤال. فكلاهما شحاذة. وهذا السائل صاحب الحق لا يجوز نهره لأنه يطالب بحقه في المال العام وثروات الأمة،
وأما السائل فلا تنهر . والعطاء من الغني شكر على النعمة واعتراف بها،
وأما بنعمة ربك فحدث . لذلك لا يجوز للفقير السكوت عن المطالبة بحقه في أموال الغني. لذلك قال أبو ذر وأعاده الأفغاني «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرا سيفه».
السؤال إذن بهذا المعنى، سؤال الفقراء حقهم في أموال الأغنياء، تذكير بأوجه الإنفاق العام للمال الزائد عن الحاجة، المأكل والملبس والمشرب والمسكن والتعليم والعلاج، وهي الحاجات الأساسية للناس. بعد ذلك يبدأ الإنفاق العام على ذوي القربى وهم الأقرباء الذي يعرفهم الأغنياء. والأقربون أولى بالشفعة في الإنفاق والصدقة والبيع والشراء والتزاور والتعاطف والتراحم. وهؤلاء لا يسألون لأنهم معروفون من الأقارب ويتعففون. ثم اليتامى الذين لا عائل لهم. والأمة عائل من لا عائل له. ومن ثم لا يشعر اليتيم بأنه بلا أهل لأن المجتمع أهله. ثم المسكين، أي الفقراء إلى حد الكفاف وتحت خط الفقر، احتراما لآدميته. ومن مقاصد الشريعة الحفاظ على حقوق الآدمي. ثم ابن السبيل وهو المسافر الغريب عندما يحل في بلد. وهم الغرباء المهاجرون المشردون المطرودون، من في حاجة إلى إيواء، سكن وعمل واستقرار. ثم يأتي السائلون في النهاية الذين يطلبون بأنفسهم ولا يعرفون بسيماهم، وهو ما حددته الآية الكريمة،
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين . وفي الأرض كفاية للجميع. فقد خلقت الأرض للمعيشة والاستقرار والرزق منها. ليست شحيحة بل الإنسان هو الشحيح. يوجد فيها الخير. إن كانت خضراء فللطعام. وإن كانت صحراء فالخير تحتها في المعادن والنفط لتنمية الأرض واستثمار الثروة،
وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين .
لذلك يظلم الغني الفقير إذا سأله جزءا من ثروته. فإذا كان للغني تسعة وتسعون نعجة وللفقير نعجة واحدة فكيف يسأله أن يضم نعجته إلى نعاجه كي يصبح للغني مائة نعجة ويكون الفقير معدما، وينقسم المجتمع إلى من يملكون ومن لا يملكون؟ وهي صورة بليغة منكرة، تنفر منها النفوس. وهي واقعة فعلية. فقد اختصم الأخان الغني الجشع والفقير المهيض الجناح الذي لا نصير له، ضربا بأواصر القربى بالحائط لدى داود،
خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط . واستنفد الغني كل حججه لأخذ نعجة الفقير: ضرورة تراكم الثروة للاستثمار، الشركة الكبيرة خير من الصغيرة، لا مكان في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى للوحدات الإنتاجية الصغرى،
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . ولا تغني السفسطة عن البداهة، ولا خبرة الغني بالسوق عن واقع الظلم،
قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . وفي الأمة اليوم أغنى أغنياء العالم وأفقر فقراء العالم. وهي أمة واحدة تعكس صورة الإله الواحد الذي تؤمن به. قلة مبذرة مترفة، وأغلبية تحت خط الفقر. نخبة أموالها وثرواتها في البنوك الأجنبية. وملايين تموت جوعا وقحطا في مالي والسودان وتشاد والصومال. تركنا السائل على نواصي الطرقات وعلى الأرصفة يشحذ صدقة وهو لا يعرف أنه صاحب حق. وتركنا الغني يتصدق عليه كرما ولطفا، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهو لا يعلم أن عليه واجبا، وأن للفقراء حقا في أموال الأغنياء. (5) السؤال والمسئولية
لا يعني السؤال في القرآن الكريم فقط الاستفهام عن شيء وطلب المعرفة، ولا يعني أيضا فقط طلب حق الفقراء في أموال الأغنياء، بل يعني أيضا التذكير بالمسئولية. فالسؤال يتضمن طرفين: السائل والمسئول والعلاقة بينهما وهي المسئولية. السؤال لتذكير السائل تحمل المسئولية.
والمسئولية شاملة، مسئولية الحواس الخارجية مثل السمع والبصر، والداخلية مثل القلب والفؤاد واللب والعقل،
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا . ويشهد الشاهد بصدق إذا كان جادا أو لاعبا،
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب . والرسل شهود على البشر بأنهم قد بلغوا الأمانة
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . ويشهد الخلق كله على المسئولية،
أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون . فالسؤال للتذكير، والتذكير للسؤال،
وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ، وهو سؤال وتذكير بلا أجر،
قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين . وتتكرر الآية إحدى عشرة مرة. والسؤال لأهل الاختصاص،
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . فالإنسان يسأل من يعلم حتى يتحول جهله إلى علم. ولا يسأل من لا يعلم حتى لا يتحول جهله إلى جهل مضاعف. فالقرآن أعطى المبادئ العامة مثل الشورى، والاشتراك في الأموال. وأهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد هم الذين يفصلون هذين المبدأين طبقا لظروف كل مجتمع.
والمسئولية إنسانية محضة. ولا يجوز الاعتذار بالقدر للتخلي عن المسئولية،
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . وتتكرر الآية مرتين. ولا تعارض بين المسئولية عن نظام العالم والمسئولية عن النظام الاجتماعي. الأولى مسئولية الله عن الكون بفعل الخلق. والثانية مسئولية الإنسان بفعل التكليف.
والمسئولية هي أداء الواجب، والقيام بالتبعات، والتعهد بالالتزام وتحقيق الأمانة. وقد قبل الإنسان هذا التعهد بفعل الخلق وقبول الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. فالالتزام بالعهد جزء من تحمل المسئولية،
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، وهو عهد بين الإنسان مثل العقود، وعهد بين الإنسان والله، عهد الطاعة والالتزام والجهاد،
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا . وفي مقابل ذلك يلتزم الله بشروط العهد من قبله وهو العهد،
كان على ربك وعدا مسئولا . والمسئولية تخيف لأنها تتضمن الجهد والتعب،
إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم . المسئولية تجاه الله وتجاه الأرحام،
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . ولا حدود لشر الإنسان. ولو سئل الفتنة لأتاها،
ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها .
وهي مسئولية فردية عن الأفعال التي اكتسبها الإنسان في حياته والتي ينتج عنها الجزاء بعد مماته،
ولتسألن عما كنتم تعملون ، سواء كان هذا العمل صالحا أم افتراء،
لتسألن عما كنتم تفترون . إذا كان عملا صالحا فللإنسان، وإذا كان طالحا فعليه. كل إنسان مسئول عن نفسه لا عن غيره،
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون . وتتكرر الآية أكثر من مرة بأكثر من صيغة،
قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون . لذلك تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت،
وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت . ولا أنساب تنفع يوم القيامة،
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون . والمسئولية فردية وجماعية، مسئولية فردية عن الأعمال، ومسئولية جماعية عن أحوال الأمة. فالكل مسئول عنها مسئولية جماعية. لكل أمة ما كسبت وعليها ما اكتسبت،
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون .
والمسئولية في الدنيا وفي الآخرة. وإذا تنصل منها الإنسان في الدنيا حيث إمكانية الخداع فإنه لا يستطيع أن يتنصل منها في الآخرة،
فوربك لنسألنهم أجمعين . يسأل الصادقين عن صدقهم، والكاذبين عن كذبهم،
ليسأل الصادقين عن صدقهم .
وفي الآخرة لا ينفع التساؤل لأن الوقت قد انقضى، والزمان قد انتهى، والعمر قد ولى،
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . وتتكرر الآية أكثر من مرة لبيان عدم جدوى التساؤل بعد فوات الأوان. ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا للتساؤل من جديد. فالزمان لا يرجع إلى الوراء،
وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . كما أن التساؤل عن البديهيات لا جدوى منه مثل التساؤل عن قانون الاستحقاق،
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . فالجزاء من جنس الأعمال. فلا تساؤل عن أهل الجنة لم هم في الجنة، ولا تساؤل عن أهل النار لم هم في النار،
ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون . فالسؤال عن البديهي تحصيل حاصل،
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان . وبعد البعث لا يجدي تساؤل،
وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم . ومن يعمى عن الأنباء ولا يدري أن القيامة قد قامت فإنه لا يتساءل،
فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون . السؤال في الحياة وليس بعد الممات. ففي الحياة إمكانية التغير. وبعد الممات ينقضي كل شيء.
الفصل الحادي عشر
الزمان
(1) القرن والتاريخ
يتهم الوعي العربي عادة بأن وعيه بالزمان غائب؛ لذلك يخاطر العرب بأن يكونوا خارج التاريخ. في حين أن الغرب هو الذي وضع فلسفة التاريخ في عصوره الحديثة. وإذا حضر الزمان فإنه يكون حضورا ماضويا، الإحساس بالعصر الذهبي الأول والحنين إليه والرغبة في العودة إليه هربا من الحاضر ويأسا منه. وإن حضر الحاضر فالأفعال في الزمان تتسم بعدم الدقة والتحديد. «سأمر عليك غدا» دون تحديد الوقت بالدقة. تضطرب مواعيد الطائرات والقطارات، ولا تؤدى الأعمال في أوقاتها كما تريد الشريعة في العبادات. فكل أعمالها في الزمان، الصلاة والصيام والحج والزكاة. بل إن التشهد هو فعل وقتي يتم في كل لحظة يحتاج الأمر فيه إلى شهادة. الصلاة خمس مرات يوميا يتم أداؤها في أوقاتها لا قضاء خارج أوقاتها، وعلى الفور وليس على التراخي، والزكاة على الأقل مرتين في العام أيام العيدين. والصوم والحج مرة في العام في وقت معلوم. ولو سئل العربي في أي مرحلة من التاريخ هو يعيش؟ لاستعصت الإجابة، هل هو في العصر الوسيط أم في العصر الحديث؟ هل هو في عصر الإصلاح الديني أم في عصر النهضة؟ هل هو في عصر الثورة أم في عصر الثورة المضادة؟ هل هو في عصر الإفلاس التاريخي أم في عصر التراكم التاريخي لمرحلة قادمة؟
وفي القرآن الكريم مفاهيم عديدة للزمان. الزمان الكوني مثل الليل والنهار، والفجر والضحى والعصر، والشروق والغروب، واليوم والغد، والساعة والآن، والدهر والعهد. ومن ضمن هذه المفاهيم «القرن».
وقد ورد لفظ «القرن» في القرآن الكريم عشرين مرة، ثلاث عشرة مرة جمعا وسبع مرات بالمفرد مما يدل على أن القرن قرون، وأن القرون أعمار الشعوب وأزمان الأمم، فالشعوب لا تعيش زمانا واحدا ، والأمم لا تعيش قرنا واحدا.
والمعنى الأول في مفهوم القرن هو انهيار الزمان وهلاك الأمم أي انهيار التاريخ بعد قيامها ونهضتها، فالتقدم ليس دائما،
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، تلك سنة التاريخ، ومهما بلغت الأمة من غنى وثروة وحضارة فإنها لا تبقى إلى الأبد. ففي الغنى فسادها وهلاكها كما هو الحال في المجتمعات الرأسمالية،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا . ومهما بلغ قوم من قوة وبطش إلا أنهم أيضا يهلكون، فالقوة ليست دائمة، والبطش ليس مستمرا،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا . وذلك مثل المجتمعات العدوانية، النازية والفاشية والصهيونية. ومهما بلغ شعب من عدد وكثرة إلا أنه يهلك أيضا، فالكم لا يغني عن الكيف،
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا . فقد انهارت الصين القديمة، وتنهض من جديد الصين الحديثة. ومن يدري ما مصير هذا الفائض من الإنتاج الذي يغزو العالم.
وفي نفس الوقت الذي تنهار فيه الأمم تنشأ من جديد. نشأة ثم انهيار، وانهيار ثم قيام من جديد،
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . وقد تطول هذه النشأة والقيام والنهضة ولكن مآلها إلى الانهيار،
ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر . فتختلف أعمار الحضارات بين القصر والطول. الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى دامت سبعة قرون، من القرن الأول حتى الثامن، عصر ابن خلدون. والحضارة الغربية الحديثة دامت أيضا سبعة قرون، من القرن الرابع عشر، عصر إحياء الآداب القديمة، حتى القرن العشرين وأزمته وعدميته. كما دامت الحضارة اليونانية القديمة سبعة قرون من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الثاني بعده في العصر الهللينستي.
ويتطلب هذا القيام والانهيار للحضارات إحساس ووعي. فهما ليسا حدثين تاريخيين بل فعلان من أفعال الوعي؛ لذلك تبدأ الآية بفعل،
ألم يروا ،
أولم يعلم . فهما عبرة وعظة وهداية،
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ، وتدل الآثار عليهم. فالتاريخ وعي وإحساس،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد .
وهو قانون تاريخي حتمي لا فرار منه،
كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص . فعمر التاريخ مثل عمر الأفراد، وزمن الشعوب مثل زمن الأشخاص. ويصدق التاريخ هذا القانون لقيام الشعوب وانهيارها منذ القرون الأولى ونشأة الحضارات،
قال فما بال القرون الأولى . ولا وعد بالبقاء إلى الأبد،
أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي . وتاريخ الأنبياء شاهد على ذلك. وهلاك الأمم من بعد نوح،
وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح
في القرن الأربعين قبل الميلاد ثم تلته قرون عاد وثمود،
وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا . ثم قام موسى بالكتاب لينهض من جديد،
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى .
والأمة هي المسئولة عن قيامها وانهيارها بالرغم من حتمية القانون. لكل أمة ذنوبها. وهي المسئولة عن الانهيار،
فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . والظلم أيضا مسئول،
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا . والفساد أيضا مسئول مع الذنب والظلم،
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد . ويغيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتذكير بالذنب والظلم والفساد.
ليست القضية إذن هي العود إلى العصر الذهبي الأول والحنين إليه في القرون السبعة الأولى بل بداية دورة جديدة للحضارة الإسلامية في القرون السبعة القادمة التي بدأت منذ قرنين من الزمان منذ حركات الإحياء والإصلاح الديني والنهضة الحديثة لإنهاء الانهيار بعد ابن خلدون. ويتطلب ذلك الوعي بقانون التاريخ ثم الحركة فيه، بداية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الشهادة على العصر والعمل على تغيير ما فيه من ظلم وفساد، وقهر واستغلال. (2) الزمان والدهر
من مفاهيم الزمان الواردة في القرآن الكريم بالإضافة إلى القرن «الدهر». ولم يرد اللفظ إلا مرتين. الأولى بالمعنى المادي الذي فهمه الأفغاني في «الرد على الدهريين» أي المنكرين لله والذين يجعلون الدهر أي الزمان والتاريخ والطبيعة والمادة تأخذ صفات الله وتقوم بأفعاله، ومنها الخلق والبعث، الحياة والممات،
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر . فالدهرية بهذا المعنى إنكار للعلية في الخلق وللغائية في البعث، أي إنكار لبداية الدهر ونهايته، وجعله ممتدا في الزمان بلا بداية ولا نهاية، وبالتالي مشاركة الله في صفاته السرمدية. والثانية بمعنى خلق الإنسان بعد خلق الكون، وأن خلق الكون سابق على خلق الإنسان، وأن الإنسان آخر ما خلق الله حتى يجد مكانا يعيش فيه، وعالما يعمل فيه،
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا .
وتكمل السنة وتفصل ما تركه الكتاب مجملا. فقد ورد اللفظ في السنة حوالي خمس عشرة مرة بسبعة معان مختلفة:
الأول:
الله هو الدهر، وأن سب الدهر هو سب لله «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر.» فالله هو الخالق والمعيد وليس الدهر، وفي حديث آخر: «لا تسبوا الله فإن الله هو الدهر.» وقد أوله نجيب محفوظ على لسان أحد أبطال رواياته «لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة» نظرا لأن الدولة في عصرنا تقوم بأفعال الله، تحيي وتميت، ترزق وتمنع، تهدي وتضل، وهو الرازق والمعطي «لا تقولوا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر»، وهو المعنى الذي يقصده الدهريون طبقا لفهم الأفغاني.
والثاني:
الهلاك في الدهر أي في الزمان، «حمراء الشدقين هلكت في الدهر.» أي إن الحياة التي بانت عليها تنتهي بالهلاك، وهو مصير العجوز أي نهاية العمر «تقول عجوز لنا دهرية»، وهو المعنى الشعبي لكلمة «الزمن» وكما ورد في تمثيلية «ليالي الحلمية» في مقدمتها الغنائية «وإيه يفيد الزمن».
والثالث:
آخر الدنيا أو آخر الحياة قبل البعث، وآخر لحظة في العمر. وأحيانا يمتد الزمن مجازا إلى ما بعد الموت أي البعث وبداية الحياة الأخرى: «أف له من شراب آخر الدهر.» وهو الغسلين الذي يشرب منه الكافرون. فالدهر هو زمان الكون وزمان الإنسان في آن واحد.
والرابع:
تجزئة الدهر إلى أيام وفترات زمانية: «يوما من الدهر.» فالدهر في نفس الوقت هو كل الزمان وجزؤه، الزمان كله ويوم فيه. يطول أو يقصر: «فمكث فيهم دهرا طويلا.» وهو المعنى الوارد في بعض التعبيرات الشعبية مثل: «لم أره منذ دهر.» أي منذ وقت طويل، «مرت علي الأيام دهرا.» تعبيرا عن طول المدة والملل من الوقت.
والخامس:
الدهر وقت لتبليغ الرسالة وحمل الأمانة، والكد والكفاح والسعي فيه: «هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر.» وتظل الرسالة قائمة للتبليغ حتى ولو لم يبق من الدهر إلا يوم واحد: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا.» فالدهر ليس وقتا صامتا بل هو منبر للوعي، ومكان له. وتتم الكفارات فيه: «كفارة لما قبلها وذلك الدهر كله.»
والسادس:
طريقة التعبير عن جمود النساء مهما أحسن الرجال إليهن: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر.» وهو ما يتهم به الحدثيون الفكر الإسلامي القديم بالذكورية نظرا لوضع المرأة في المجتمع العربي الجاهلي. ويتم تأصيل ذلك في قصة حواء ومسئوليتها عن غواية آدم. فهي التي غوت وأوقعت آدم وأخرجته من الجنة. ثم يمد الخيال الشعبي ذلك ويدفعه نحو المطلق، فيجعل حواء رمزا للغدر والخيانة: «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.»
والسابع:
وقت الصوم ليس الدهر كله: «ولم يطعم الدهر شيئا.» ولا ثلثيه: «صوم ثلثي الدهر.» بل نصفه: «لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر.»، فلا رهبانية في الإسلام، ولا اعتكافا ولا زهدا زائدا قد يصل إلى حد الغرور أو النفاق.
الدهر مفهوم فلسفي وليس مفهوما شعبيا مثل الزمن بمعنى الدهر. وإن كان الدهر يعني كل الزمان فإن الله هو كل الزمان، لا أول له ولا آخر. وأحيانا يعني الزمن في الثقافة الشعبية القدر والتاريخ والمصير، وهو حتمي لا فكاك منه. يخضع له الكبير والصغير، البطل والعامي. يتضمن حكمة الشعوب التي يتأسى بها الناس ويجعلونها نبراسا لحياتهم.
الحس الشعبي مع مفاهيم أخرى للزمان أكثر تداولا مثل الساعة والوقت، واليوم والسنة، والآن والحين، أي تقاسيم الزمن وإيقاعه الإنساني في الأفعال قبل أن يتماهى مع المفاهيم الجغرافية للزمان مثل الشروق والغروب، والليل والنهار، والضحى والعصر. وقد أقسم الله بها لبيان أهميتها. فالزمن حياة الإنسان ، وعمر الكون.
وربما لا يوجد مثل هذا المفهوم «الدهر» في اللغات الأجنبية وفي الثقافة الغربية. هناك فقط مفاهيم الزمان والخلود وباقي المفاهيم الجغرافية الحسية المرتبطة بدوران الأرض. «الدهر» مفهوم ميتافيزيقي وليس مفهوما شعبيا. لذلك عرضه المتكلمون والفلاسفة ورفضوه باعتباره البديل عن الله. والله لا مثيل له ولا شبيه. (3) الوقت والزمان
و«الوقت» أحد مفاهيم الزمان في القرآن الكريم، وهو لفظ في اللغة المتداولة مثل «الوقت فات». وقد ورد اللفظ في القرآن ثلاث عشرة مرة في عدة صيغ اسمية وفعلية. كلها اسمية إلا مرة واحدة فعلية. والاسمية كلها مفرد إلا مرة واحدة «مواقيت» بالجمع. والصيغة الاسمية المثلى «ميقات»، سبع مرات، أي أكثر من النصف، أي وقت الفعل وليس الوقت المجرد. ومن الأسماء مرة واحدة صفة «موقوت» أي لها وقت. ومن الأسماء، مرات أربع مضافة إلى الضمير، ضمير المتكلم أو الغائب الجمع، مما يدل على أن الوقت إنساني مرتبط بالشعور وليس بحركات الأفلاك.
وتدور معاني اللفظ حول خمسة محاور رئيسية:
الأول:
وقت الصلاة المحدد،
إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، من أجل الإحساس بالوقت وحدوث الأفعال فيه. وهي أفعال الإيمان الضرورية التي تتم في الزمان، على الفور وليس على التراخي، في أول الوقت وليس في آخره، جماعة وليس أفرادا، أداء في الوقت وليس قضاء بعد فوات الوقت. الوقت هنا يعني اللحظة، لحظة الأذان والقيام. ففي اللحظة يتم الاتصال بالخلود. هي اللحظة المتميزة التي ينعزل فيها المؤمن من الحياة الأفقية إلى الحياة الرأسية. هي لحظة التذكر بالواجب الأسمى أثناء أداء الواجبات اليومية. ليس الوقت سواء. به هذه اللحظات المتميزة لأداء الأفعال والتذكير بأداء الواجبات. على عكس إحساس الموظف بالوقت. يأتي إلى العمل متأخرا، ويغادر مبكرا. ويمر وقت العمل دون أداء الواجبات، متكاسلا، تستوي عنده كل الأوقات. كل الوقت فارغ من العمل، وهو ما يسمى في اللغة الشعبية «وقت الفراغ»، وطرح علماء الاجتماع والتربية مشكلة زائفة، كيفية قضاء أوقات الفراغ.
والثاني:
مواقيت الهلال وما سمي في الجغرافيا منازل القمر، وتدرجها من الهلال إلى التربيع الأول إلى المنتصف إلى التربيع الثاني إلى البدر ثم تناقصه من البدر إلى الهلال من جديد،
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج . فالأهلة ظاهرة طبيعية في الزمان الكوني، ولكن دلالتها ليس في علم الفلك بل في الاسترشاد بها في الحياة الإنسانية في مواقيت بدايات الشهور ووقت الأعياد للصوم والحج بالرغم من ارتباط مواقيت الصلاة بالشروق والغروب، بالشمس وليس بالقمر. فالسؤال عن الموضوع إجابته في علاقة الموضوع بالذات أي إجابة إنسانية وليست إجابة طبيعية رياضية. فالعالم من أجل الذات، وليس من أجل نفسه. والعلوم الرياضية والطبيعية هي في نهايتها علوم إنسانية لأنها مرتبطة بالإدراك والرؤية، والقصد والمنفعة.
والثالث:
الموعد، موعد اللقاء بين طرفين، تحديد لزمان الفعل. فقد واعد الله موسى أربعين ليلة،
وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ، وهو موعد لقاء الأنبياء مع الله، خاص بموسى الذي كان يريد لقاء الله ورؤيته. فلقاه الله دون أن يرى،
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك . يسمع الله صوته ولا يرى صورته. فالسمع أقرب إلى القلب من البصر. وأقرب إلى التنزيه منه إلى التشبيه. لذلك كان القرآن من الفنون السمعية وليس من الفنون البصرية، أقرب إلى الموسيقى والشعر منه إلى الرسم والتصوير والنحت والزخرفة وجميع الفنون التشكيلية، وهو موقف الرومانسيين من الفن. وهو أيضا موعد لقاء إنساني مثل موعد لقاء السحرة وفرعون موسى للبرهنة على صدق نبوته،
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ، وهو موعد لقاء البشر جميعا مع الله في اليوم الآخر،
قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم .
والرابع:
حياة الرسل المحددة. فلكل رسول أجل، ولكل نبي عمر. والكل يلتقي بالله يوم القيامة،
وإذا الرسل أقتت * لأي يوم أجلت * ليوم الفصل . فالنبي له رسالة في زمانه، يبلغها للناس. والله هو الذي يحكم بينه وبين قومه يوم الفصل. فما على الرسول إلا البلاغ. فهو ميت وهم ميتون. وبالرغم من اتصاله بالوحي إلا أنه ليس خالدا، ولا يشارك الله في الخلود.
والخامس:
يوم القيامة وهو الاستعمال الأكثر شيوعا. هو الوقت المعلوم، يوم الفصل،
إن يوم الفصل كان ميقاتا ، وهو موعد الناس أجمعين،
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ، وهو الوقت المعلوم بالرغم من أن موعده مجهول. أنظره الله لإبليس بعد أن طلب الوقت لغواية آدم بعد أن رفض السجود له،
قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم . ولا يعلم تحديد هذا اليوم إلا الله،
قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو .
الحياة زمان، والعمر لحظة كما يقال في أحد عناوين الأفلام، والأفعال في الأوقات وحركة الأفلاك زمان إنساني، والمواعيد واللقاءات في الزمان، والرسل أحياء ثم أموات، ونهاية الزمان زمان. الزمان محدد في البداية بزمان الخلق، ومحدد بالنهاية بزمان البعث في اليوم المعلوم، والزمان بين البداية والنهاية سواء الزمان الكلي، زمان الخلق أو الزمان الجزئي، عمر الإنسان. (4) الزمان والساعة
و«الساعة» أحد مفاهيم الزمان في القرآن الكريم مثل القرن والدهر والوقت، بل إنه قريب من المفهوم الشعبي للزمان بالسؤال عن الساعة أي الوقت. وتوحد اللفظ مع الساعة كآلة تحديد الوقت.
وقد ورد اللفظ في القرآن ثمانيا وأربعين مرة بثلاثة معان مختلفة:
الأول:
ساعة الزمن في اليوم والعمر، أربع مرات. وهي الساعة بمعنى ستين دقيقة كما يقال في التعبير الشعبي «ساعة زمن»، وهو أصغر مدة في الزمن،
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار . وقد يضم أكبر وقت منه. فالزمن شعوري، كيف لا كم،
يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ، وهو إحساس في ساعة التوتر الشديد،
كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . فأقصر مدة قد تكون وعاء شعوريا لأكبر مدة.
والثاني:
الأجل، عمر الإنسان المحدد بالزمان، أربع مرات أيضا. فإذا جاء الأجل فإنه لا يتأخر ولا يتقدم ساعة واحدة،
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون . فالإنسان له موعد محدد في نهاية الزمان، لا يتقدم ولا يتأخر،
قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . والساعة هي تجربة إنسانية، فرح وألم، عسرة ويسرة ،
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة . فالساعة ليست وقتا فارغا يمر بل هي تجربة شعورية ومعاناة إنسانية.
والثالث:
يوم القيامة هو يوم الساعة، الساعة الكبرى، الساعة الآخرة، الساعة النهائية، أربعين مرة. الساعة يقين، آتية لا ريب فيها،
ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها . يومها يبعث الله ما في القبور،
وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . ويظل الشك فيها قائما حتى تأتي. فالتصديق بها تجريبي ولكن بعد فوات الأوان،
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة . الساعة يقين مثل يقين الإيمان،
إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . والريب في الساعة ضلال بعيد،
إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . وعد الله حق، ومن ضمن وعده قدوم الساعة يقينا،
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . التكذيب بالساعة إذن حكم خاطئ، مجرد ظنون وأوهام،
وما أظن الساعة قائمة . وجزاء التكذيب بها عذاب سعير،
بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . التكذيب بها نتيجة للكفر،
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة . وقد ينشأ التكذيب بالساعة من غرور كاذب وثقة بالنفس زائدة،
وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى .
والساعة شيء عظيم،
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . لا يدرك خطورتها إلا المؤمنون. فهي نهاية العمر، وآخر الزمان. ولا يوجد بعدها إمكانية للسعي والكد والكدح وإثبات الجدارة وأداء الامتحان.
لا يعرف موعدها إلا الله،
يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي . يخفيها الله عن البشر حتى يسارعوا في الخيرات،
إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى . الله عنده علم الساعة كجزء من علمه مثل نزول الغيث وما تكتم الأرحام،
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام . ومهما سأل الإنسان عنها حبا للاستطلاع أو لمزيد من الاستعداد بناء على الترغيب أو الترهيب فإنه لا يجاب،
يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله . الله وحده هو الذي يعلم علم الساعة،
إليه يرد علم الساعة . وعلم الله يقيني لا ريب فيه،
وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون . ومع ذلك تأتي الساعة بغتة وعلى غير انتظار ودون توقع،
حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها . فاللاشعور هو الذي يتحكم في الشعور، واللامتوقع هو الذي يوجه المتوقع،
أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون . لذلك على المؤمن أن يستعد وأن يعمل لدنياه كأنما يعيش أبدا وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا،
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة . وإن أتت فإنها تأتي كلمح البصر حتى لا يستعد الناس في آخر لحظة،
وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب . هي بعيدة قريبة، غير متوقعة ومتوقعة،
وما يدريك لعل الساعة قريب . فإذا اقتربت انشق القمر وحدث الهول،
اقتربت الساعة وانشق القمر . والمؤمنون يصفحون الصفح الجميل،
وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل . ويشفقون منها ويخشون الله،
الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون . والمذنبون يأتيهم العذاب،
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون . فالعذاب لهم مقرون بالساعة،
حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة . يخافون وتلتبس عليهم الأمور،
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون . ويتفرقون بعد أن كانوا متضامنين،
ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون . لا يشعرون بها ولا بقيام الساعة لأنها لم تخطر على بالهم في الدنيا،
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة . ويخسر المبطلون،
ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . ويذوق الطغاة مثل فرعون سوء العذاب،
ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . فالساعة موعدهم وهي أدهى وأمر مما كانوا يتوقعون،
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر . (5) اليوم بين الماضي والحاضر والمستقبل
من مفاهيم الزمان في القرآن الكريم مع القرن والدهر والوقت والساعة «اليوم»، وهو أكثر ألفاظ الزمان حضورا في القرآن الكريم، حوالي خمسمائة مرة إلا قليلا (475). معظم الاستعمالات (حوالي 91٪) للإشارة إلى المستقبل، يوم القيامة، اليوم الآخر، يوم الفرقان. وله أوصاف أخرى عديدة مثل: عظيم، كبير، أليم، عصيب، محيط، مشهود ... إلخ. ويستعمل معرفة وليس نكرة لأنه يوم معلوم في صيغة «اليوم» (349 مرة)، ومفردا وليس جمعا لأنه لا يوجد إلا يوم واحد. ويستعمل أحيانا مضافا إلى ضمير المخاطب الجمع «يومكم» أو الغائب «يومهم» لأنه يتعلق بالخلق وبالبشر وبالناس، يوم البعث والحساب والجزاء، وهو ما يعبر عنه المثل الشعبي «لك يوم يا ظالم».
ويستعمل لفظ «اليوم» أيضا في الماضي لإبلاغ نهاية النبوة واكتمالها باستقلال العقل وحرية الإرادة،
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا . ويستعمل في القصص عظة وعبرة للصمود في مواجهة الأعداء،
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين . ونقد الفرار حين الزحف والخوف منهم،
قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . وساعة الهزيمة غرورا بالكثرة، واعتمادا على الكم دون الكيف،
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . والأعمال الخاسرة كرماد عصفت به الريح،
أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . وقد جمع فرعون السحرة في يوم معلوم ليتحدى موسى،
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم . وفي الأغاني الشعبية يستعمل أيضا اللفظ في الماضي في «في يوم من الأيام».
ويستعمل لفظ «اليوم» للإشارة إلى الحاضر وعادة ما يكون بمعنى العبادات والأوامر والنواهي، فالعبادات ثابتة ودائمة عبر الزمان،
كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . وكذلك السبت عند اليهود ونقدهم في خرقهم له،
إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم
فالحياة أكثر ضرورة وصدقا من النفاق في العبادة. ولا تكلم مريم يوم نذرها أن تصوم،
إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا . وعند المسلمين يوم الحج الأكبر،
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر
فالحج موعد سنوي. ويوم الفتح لا ينفع إلا إيمان المؤمنين،
قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . وتكثر استعمالات اللفظ مثنى «يومين»،
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، أو جمعا «أيام» تعويضا عن أيام الصوم في أيام أخرى،
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، فاليوم هنا مرة للتكرار. وذكر الله في أيام معدودات،
واذكروا الله في أيام معدودات ، وهو ما يظهر أيضا في الأغاني الوطنية مثل «اليوم اليوم، وليس غدا» لتحرير القدس.
وقد ظهرت هذه الأزمان الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، في الميلاد والموت والبعث في حياة المسيح سواء في صيغة إخبارية،
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، أو في صيغة المتكلم،
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا . فاليوم يعني الأمس واليوم والغد. وهي دورة الحياة الإنسانية منذ قدماء المصريين.
ويظهر اللفظ معرفة بالجمع «الأيام» بمعنى التاريخ،
وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وهو نفس المعنى في الأغاني الشعبية «ومرت الأيام، ودارت الأيام»، وهو نفس المعنى الوارد في التوراة في تعبير «أيام الله». فالتاريخ هو تراكم الأيام وتداولها باعتبارها قوة وريادة للبشر.
وفي صيغة جديدة «يومئذ» يضم لفظ «يوم» مع لفظ «إذن» أي عندما يحين اليوم بعد طول انتظار وهو يوم القيامة (حوالي سبعين مرة) أي الزمان باعتباره توقعا. والتوقع هو توتر بين أبعاد الزمان الثلاثة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. لذلك يعني اليوم الأمس والغد في آن واحد؛ لذلك يمكن إعادة بناء الوعي الشعبي بالزمان بدلا من انحيازه للماضي على حساب الحاضر أو المستقبل يمكن إيجاد ميزان التعادل بين هذه الأبعاد الثلاثة حتى تخف العودة إلى الماضي، ويتم التركيز على الحاضر، والإعداد والتخطيط للمستقبل. ولا يعني المستقبل يوم القيامة أو اليوم الآخر أي اليوم البعيد بل الغد أي اليوم القريب. فاليوم البعيد بعد الموت وحين البعث حين ينتهي الأجل. واليوم القريب قبل الموت وفي الحياة متسع للعمل والتصحيح. ولماذا يتفوق علينا الغربي في الإحساس بالزمان وإعطاء الأولوية للمستقبل على الماضي ويعيش الحاضر وينشط فيه دون إغراق في جنة الماضي أو وعود وأحلام المستقبل؟ (6) الفجر
لا يرتبط الزمان فقط بالإنسان مثل الوقت والساعة واليوم أو بالتاريخ مثل القرن والدهر، بل أيضا بدوران الأرض حول نفسها أي بالزمان الطبيعي أو الجغرافي، دورة النهار والليل، والصباح والمساء، والضحى والعشاء، والفجر والعصر، والشروق والغروب. يفهم حقيقة كزمان طبيعي أو مجازا كصورة فنية مثل الشروق والغروب في المعارف والأذهان والعقول والقلوب والحضارات كما يفعل الفلاسفة والصوفية.
وقد ورد لفظ «الفجر» في القرآن الكريم ست مرات. اثنتان للقسم نظرا لعظمة الفجر ورونقه وجماله ودلالته،
والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر . فهو فجر واحد وليال كثيرة. فجر متفرد. لكل فجر بهاؤه وطلعته في حين تتكرر الليالي، وهو وتر أي مفرد، والليالي شفع أي مزدوجة. يطلع لحظة، والليل ممتد، وهو نهاية الليل وبداية النهار، لحظة بين زمانين ممتدين،
سلام هي حتى مطلع الفجر . يسبقه نوم وهدوء واستكانة واطمئنان وسلام. ويتبعه يقظة ونشاط وحركة وقلق وجهاد. ومرتان اثنتان لقراءة القرآن. فإذا كان الليل للصلاة فإن الفجر لقراءة القرآن،
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر . فصوت القرآن نغم وسحر في هدوء الليل وصمت النائمين. يدخل إلى القلب مباشرة. يسمعه القاصي والداني، الناس والملائكة، الإنس والجن، البشر والله،
إن قرآن الفجر كان مشهودا . ومرة واحدة للصلاة،
من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ، إشارة إلى وقت الراحة وخلع الملابس ليلا في الظلام وظهرا اتقاء للحر دون حرج من الأطفال غير الكبار. ومرة واحد للصوم إعلانا عن نهاية الليل وبداية النهار، والكف عن الطعام والشراب وبداية الصوم، انشقاق النور من الظلام، حقيقة ومجازا،
وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . فالفجر علامة فاصلة بين لحظتين، وفعلين وسلوكين، من الطبيعة إلى الإرادة، ومن الإشباع إلى الامتناع، ومن الأرض إلى السماء، ومن الخلق إلى الخالق.
وهو نفس اللفظ الذي اشتق منه لفظ «فجر» و«تفجير» للماء من الأنهار والبحار والينابيع والعيون (إحدى عشرة مرة). انبثاق النور من الظلام لحظة الفجر مثل انفجار الماء من الأرض. وهي ليست استحالة كما يظن الكفار،
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، بل هي ممكنة بفعل الإيمان. فقد فجر موسى بعصاه البحر،
وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار . وفجر من الصخر ينبوعا. وجعل الله في الأرض اليابسة أنهارا وعيونا جارية دافئة. وفي الجنة أنهار وعيون مثل الأرض. ومن علامات الساعة تفجير البحار وبعثرة القبور،
وإذا البحار فجرت * وإذا القبور بعثرت . فالماء قوة. تتولد منها الكهرباء، وتدار بها الآلات، وتنظف بها الأرض والأجساد. يروي الظمآن، ويزرع الوديان. فالماء من الأرض لحظة الري كالنور من الظلام لحظة الفجر. وهي صورة الإسلام عند محمد إقبال وسيد قطب، تفجير الحياة من الصخر كما فعل الكليم موسى عند إقبال. وكان الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة عند سيد قطب.
وعلى النقيض، هو نفس اللفظ الذي يشتق منه لفظ «الفجور» أي خروج الفعل على المنهج القويم، وانحرافه عن الطريق السليم. فالخروج ليس فقط في الطبيعة، خروج النور من الظلام في لحظة الفجر أو تفجير الماء من الأرض في العين والينبوع وسريانه في البر والبحر، بل أيضا خروج الفعل عن التقوى مثل الفسوق، فسوق الحب. والفجور كفر وجحود. والالتزام إيمان وتقوى. والأصل هي المعاني الطبيعية التي يهتدي بها الإنسان في سلوكه وأفعاله.
ونفس المعنيين الإيجابي والسلبي للفجر، تفجير المياه وفجور السلوك، موجودان في الحياة الشعبية في عادة الاستيقاظ مبكرا والارتباط بالشمس لدرجة عبادة الشمس والإله آتون في الدين المصري القديم. والغناء للجو الصحو دون السماء الملبدة بالغيوم. ويحب الأجانب من بلاد الشمال الجو الصحو في بلاد الشرق والجنوب. وعلى النقيض من هذه الصورة الإيجابية هناك صورة سلبية للإقطاعي الذي ينام حتى الظهر، والعاطل الذي لا يستيقظ عند نور الفجر. وهناك زوار الفجر للقبض على الأبرياء، ولصوص الفجر للسطو على ممتلكات الناس، وحروب الفجر للعدوان على الآمنين. والإنسان قادر على التمييز بين الصورتين واختيار أيهما أقرب إلى القرآن الكريم والسلوك القويم. (7) الضحى والعشي
من ألفاظ الزمان في القرآن الكريم مع الفجر والعصر، والصباح والمساء، والليل والنهار، الضحى والعشي على التقابل. فقد ورد لفظ «الضحى» سبع مرات بخمسة معان . الأول القسم،
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى ، وهو قسم بالليل أيضا للتقابل بين بداية النهار ونهايته أو بداية النهار وبداية الليل، من الصباح إلى المساء أي طول الوقت. والله حاضر مع النبي لم يتركه ردا على المشركين الذين ظنوا ذلك عندما تأخر نزول الوحي على الرسول، والوحي لا ينزل إلا عند الحاجة. والقسم أيضا بالضحى مقرونا بالشمس،
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها . فالضحى إشراق نور الشمس. وبعد أن يبدأ الليل يتلو القمر. فهو قسم بالنور، بمصباحي السماء، الشمس والقمر. والله يقسم بمخلوقاته لعظمتها. فهي التي تأتي بالليل ويخرج منها الضحى،
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، وهو المعنى الثاني في استعمالات اللفظ. والمعنى الثالث موعد اللقاء في أول النهار،
قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ، وهو الموعد الذي حدده فرعون لمواجهة موسى بالسحرة لإثبات أنه ليس نبيا ولا يقدر على ما يقدر عليه سحرة فرعون من إتيان بالمعجزات. وفي المعنى الرابع يتم الانتقال من الحدث الأصغر إلى الحدث الأكبر، من موعد البشر إلى موعد الله يوم الحشر الذي قد يأتي بغتة في الضحى والناس لاهية تلعب،
أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون . فوظيفة الحشر الإحساس بالزمان وتوقع الأحداث فيه. فإذا وقع فإنه يقع بغتة. ولا يشعر الإنسان أنه عاش إلا نهارا أو مساء، ضحى أو عشية،
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها . والخلود في الجنة لا ظمأ فيه ولا ضحى، أي لا عطش ولا زمان،
وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . فالخلود ري دائم.
وفي المعاني التداولية يعني الضحى الإشراق بعد ظهور الشمس وبداية الصباح وأول النهار. هي مرحلة من مراحل النور بعد الظلام، من الفجر إلى الصباح إلى الظهر إلى العصر إلى المغرب إلى العشاء والمساء، وهي مواعيد الصلاة، وهو نفس الاشتقاق الذي منه لفظ «ضحى» و«ضحية» أي الفداء وقت الضحى في عيد الأضحى، وهو في النحو فعل ينصب مفعولين «أضحى» مع «أمسى» و«أصبح» أفعال التغير والتحول ضد الاتهام الشائع للإسلام بأنه ثقافة الثبات والسكون مع الثناء على الغرب بأنه ثقافة التحول والحركة.
وقد ورد لفظ «العشي» في عدة صياغات: «العشاء» و«العشي» و«عشية» بخمسة معان كذلك. الأول الموعد في الزمان. ففترات الزمان عبر النهار من الصباح إلى المساء مواعيد للعمل،
وجاءوا أباهم عشاء يبكون . فالعمل بالنهار وحصيلته سلبا أم إيجابا بالليل. وقد عرضت على داود الجياد بالعشي رمزا للقتال الليلي،
إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد . وسخرت له الجبال يسبحن معه من الشرق إلى الغروب،
إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق . والله له الحمد في السموات والأرض، في الصباح وفي المساء،
وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون . والثاني موعد الصلاة،
وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء . وهي آخر صلاة بالنهار بعدها تبدأ الراحة والسكينة والتجرد عن الملابس للاستجمام. والثالث في مقابل الإبكار أي البداية في مقابل النهاية،
واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار . فالإبكار بداية النهار أو نهاية الليل. كما أنه وقت الذكر والتسبيح، هو أيضا وقت الاستغفار،
واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار . والإبكار مثل البكرة، الإبكار فعل ذاتي، والبكرة وقت موضوعي،
فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا . وجزاء لذلك ينالون الجنة التي لهم فيها رزقهم من الصباح إلى المساء،
لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا . والرابع في مقابل الغد أي صبيحة اليوم التالي، بداية الليل ونهايته لدعاء الله،
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . وهم في حاجة إلى صبر معهم لأنهم ينتظرون الآجل دون العاجل،
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . وقد يحدث النقيض لمن لا يؤمن بالله ولا يدعوه أو يسبح له أو يذكره. إذ يعرض على النار ذهابا وإيابا من النهار إلى المساء ومن المساء إلى النهار،
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا . والخامس اللحظة المباغتة التي لا يعيها الإنسان إذا كانت في الصباح أو في المساء، في الضحى أم في العشي لأنه لاه عن الزمان غير واع به،
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها .
ولا تخرج المعاني التداولية في الحياة اليومية عن هذه المعاني الخمسة، الموعد في «أجيلك في العشية»، والطعام في «موعد على العشاء»، وفي الصلاة «صلاة العشاء»، ومن نفس اللفظ اشتق «عاش»، «يعيش» «عيشا» أي الحياة. والخبز قوام الحياة. والزمان هي الحياة. (8) الصبح والإصباح
ومن مفاهيم الزمان الجغرافي مع الفجر والضحى والعشي، الصبح والإصباح. ولا يوجد في مقابل المساء فعلا أو اسما بل يوجد الأمس في مقابل اليوم والغد، أبعاد الزمان الثلاثة.
وقد ورد اللفظ في القرآن خمسا وأربعين مرة لأهميته، فعلا أكثر منه اسما بنسبة الثلاثة الأخماس إلى الخمسين (28 : 17)، للدلالة على التحول والتغير عكس الثبات والسكون. والفعل من أخوات كان مع «أمسى» و«صار» ضد شبهة ثبات الفكر العربي وسكون الفكر الإسلامي، وهو سبب تأخر المسلمين. في حين تقدم الغربيون الذين آثروا التحول على الثبات، والتغير على السكون، وكما عبر عن ذلك أدونيس في رسالته الشهيرة ذات الأربعة الأجزاء «الثابت والمتحول».
والغريب ورود اللفظ بمعان سلبية أكثر منها بمعان إيجابية، أربعة أخماس في مقابل خمس (36 : 9). فهل يعني ذلك أن التحول سلبي أكثر منه إيجابيا، أم أن التحول لو ترك لنفسه لكان سلبا ويحتاج إلى إرادة الإنسان للمقاومة وتحويله من سلب إلى إيجاب؟ قد يصيب التحول السلبي الثمر فيفسد،
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها . وقد يصيب نبات الأرض فيصبح هشيما تذروه الرياح،
فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح . وقد يصيب الجفاف الماء فلا ينبت زرع ولا ثمر،
قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين . وقد يهرب الماء إلى باطن الأرض فلا يمكن رفعه،
أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا . وقد تجف الخضرة وتصفر وتصبح الجنة كالصريم،
فأصبحت كالصريم . وقد يصيب الهلاك الحرث،
فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . وقد يصيب الفساد حياة البشر وتمنع أرزاقهم،
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء . وتهدم مساكنهم،
تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . وقد يصيب الفساد حياة الإنسان، ضميره وفؤاده. يصاب بالخوف من القتل،
فأصبح في المدينة خائفا يترقب . ونتيجة لذلك ينتاب الإنسان من سوء أفعاله الندم لأنه لم يستطع حتى أن يواري سوءة أخيه بعد قتله،
فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين . وعقر اليهود الناقة عاصين ربهم فأصبحوا من النادمين،
فعقروها فأصبحوا نادمين . بل يندم الإنسان على ما يسر في نفسه من شر،
فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين . وتؤدي سوء الأفعال إلى الخسارة،
فقتله فأصبح من الخاسرين . تحبط الأعمال. يكفر بالنعمة، وينهار البنيان والعمران وتأخذ الناس الرجفة والصيحة،
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين .
وفي مقابل هذا التحول السلبي من جراء سوء الأفعال هناك تحول إيجابي لحسن الأفعال. فيهبط الماء وتخضر الأرض،
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة . ويتحول الليل الهادئ السكان إلى صبح للنشاط والفعل،
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا . والتحول من الكراهية إلى المحبة، ومن الفرقة إلى الجماعة، ومن التفكك إلى الترابط،
فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا . والتحول من الهزيمة إلى النصر، ومن التقهقر إلى الظفر،
فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ، وهو نفس المعنى الاشتقاقي الذي منه المصباح، مفردا وجمعا. فنور الله مثل نور المصباح في المشكاة، والمشكاة في زجاجة،
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة . وقد زينت السماء الدنيا بمصابيح،
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ، وهو نفس المعنى الاشتقاقي للصبح كموعد للقاء، سلبا لفعل السوء أو إيجابا لفعل الخير. فالسلب مثل،
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر . وقد تحل به المصائب،
إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح . ويحل الجزاء في الصباح،
فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . وقد يكون الصبح موعدا للثواب جزاء على حسن الأفعال عن قريب،
أليس الصبح بقريب ، وهو عنوان كتاب الطاهر بن عاشور ليعلن فيه بزوغ فجر الإصلاح. لذلك يكون القسم به للتأكيد على سوء الأفعال،
والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر ، أو على صدق الرسول،
والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول، إنه لقول رسول كريم ، وهو وقت حضور الملائكة،
والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا ، أو النشاط والحركة.
وفي المعاني التداولية والاستعمالات الشعبية الصباح أقرب إلى الإيجاب منه إلى السلب. فالصبح هو الإشراق والبداية والاستفتاح والبراءة وحب الخير للناس. هو السلام واللقاء ووقت الذهاب إلى الأعمال. يذكر في الأغاني الشعبية «يا صباح الخير، يا صباح النور» فإذا حدث مكروه فإنه يكون مشئوما بوجه غير صبوح، وهو اسم لفتاة «صباح» ولفتى «صبحي». ولا يكون المساء اسما. إنما الصباح والمساء موعد للتسبيح،
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . الصباح يجب المساء. فالصباح تحول وإشراق، نشاط وحركة، فرح وتفاؤل، واستبشار وأمل. (9) الليل والنهار
من مفاهيم الزمان الجغرافي مثل الضحى والعشي، الصبح والإصباح، واليوم والأمس والغد، والساعة والسنة، والفجر والعصر، الليل والنهار. وقد ورد لفظ الليل في القرآن اثنتين وتسعين مرة أكثر من النهار، سبعا وخمسين مرة، لأن الليل أكثر إغراء ووقت العبادة.
ورد لفظ «الليل» مقرونا بالنهار ثمانيا وأربعين مرة، وبمفرده أربعا وأربعين مرة، أي أكثر من النصف بمعنى تعاقبهما، وهو المعنى الجغرافي الناتج عن دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة. ويستعمل القرآن عدة ألفاظ لذلك. منها اختلاف،
اختلاف الليل والنهار ، مع خلق السموات والأرض، والحياة والموت، ونزول الرزق من السماء، وولوج أي دخول وخروج،
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وتكوير أي تلبيس أحدهما في الآخر،
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، وسلخ أي إخراج،
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ، والقلب أي التحول،
يقلب الله الليل والنهار ، وتسخير لصالح الإنسان،
وسخر لكم الليل والنهار ، والغشي أي الحلول والحضور،
يغشي الليل النهار ، في مقابل النهار والتجلي،
والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى ، والآية،
ومن آياته الليل والنهار ، والتقدير،
والله يقدر الليل والنهار ، تعاقب الليل والنهار نظام كوني،
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ، والمحو والإثبات والتحول من العمى إلى الإبصار ،
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، والسكن والإبصار،
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا . يسكن الإنسان بالليل ويعمل بالنهار،
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار . الليل للسكن والنهار للسعي والرزق،
جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله . وفيهما يتحقق الأمر الإلهي،
أتاها أمرنا ليلا أو نهارا . والليل والنهار وقت للإنفاق والصلاة والتسبيح والدعاء، الإنفاق سرا بالليل وعلانية بالنهار، والصلاة،
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، والتسبيح،
ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار ، والدعاء،
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا .
وقد يأتي الليل منفردا دون النهار. يجن ويحل ويغشى ويسجى ويعسعس ويدبر وينشأ ويمر. جن،
فلما جن عليه الليل ، أي حل وأتى، وأدبر،
والليل إذ أدبر ، وعسعس،
والليل إذا عسعس ، وعم وغم،
والليل وما وسق . يسري فيه الظلام،
والليل إذا يسر ، ويغشى،
والليل إذا يغشى ، ويسجى،
والليل إذا سجى ، ويعمى ويغطش،
وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ، وهو نوم وقيام وسكن ولباس وغطاء. هو سكن،
وجعل الليل سكنا ، ولباس،
وجعلنا الليل لباسا ، وهو موعد للقاء، وفترة من الزمن،
فأسر بأهلك بقطع من الليل . ويطول ويقصر بأمر الله،
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ، وهو لقاء وموعد،
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة
أو ثلاثين. وهو وقت للسير الآمن
سيروا فيها ليالي وأياما آمنين
أو وقت هبوب الريح،
سخرها عليهم سبع ليال . وبه يكون القسم بليال عشر،
والفجر * وليال عشر . وفي ليل تتم انفراجة السماء وينزل القرآن في ليلة القدر المباركة،
إنا أنزلناه في ليلة القدر . وفي الليل تقوم الصلاة ويكون الصيام والتهجد والقنوت والتسبيح والسجود والدعاء، الصلاة،
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، والصيام،
ثم أتموا الصيام إلى الليل ، والتهجد،
ومن الليل فتهجد به نافلة لك ، والقنوت،
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ، والتسبيح،
ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ، والقيام،
قم الليل إلا قليلا ، والسجود،
ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ، والهجوع،
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وهو وقت الإسراء،
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ، ووقت الدعاء،
قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا .
وقد ورد لفظ «النهار» سبعا وخمسين مرة، واحدا وخمسين مع الليل، وست مرات فقط بمفرده. ومع الليل بنفس المعاني، اختلاف الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر، والتقلب والتكوير والتقدير والغشيان والخلق. وله نفس التقابل مع الليل بين السر والعلانية، والسكون والحركة، والنوم واليقظة، والخفاء والتجلي، واللباس والصحو. وله نفس المعاني المفردة مثل المدة من الزمن والآية والنظام الكوني، والتسخير والأمر. وبه نفس الأفعال، التسبيح والصلاة والدعاء. والنهار من اشتقاق «النهر» فكلاهما سريان.
وفي التجارب الحية يشعر الإنسان بالليل والنهار على نفس النحو، النوم واليقظة، السكون والحركة، الهدوء والصخب، العبادة والمعاملة، الراحة والتعب. وتؤكد الأمثال العامية هذه التجارب مثل «النهار له عينان»، «كلام الليل زبدة يطلع عليه النهار يسيح»، والتوعد بالليلة السوداء «ليلتك سودا»، والبشارة بالنهار الأبيض «نهارك أبيض»، «نهارك فل»، «نهارك عسل». والليل للغناء للحبيب «يا ليل»، والسهر في حبه له وشقائه به ليلا ونهارا، وهو التقابل بين سهر الفنانين ونوم العاطلين. (10) الأمس والغد
ومن مفاهيم الزمان مع القرن والدهر، والوقت والساعة، واليوم، والضحى والعشي، والصبح والإصباح، والليل والنهار، الأمس والغد. وقد شاعت فكرة وصلت إلى حد اتهام الفكر العربي والإسلامي كله أنه ماضوي، الأمس فيه أفضل من اليوم، وأن التاريخ ينهار كلما تقدم الزمان، وأن السلف خير من الخلف، وأن السلف ما ترك للخلف شيئا،
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات . وكانت النتيجة أن أصبح التقليد أفضل من الإبداع، والقدماء أفضل من المحدثين. فالتاريخ طبقات. والطبقة الأولى أفضل من الثانية. والصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من تابع التابعين. المعتزلة طبقات، والفقهاء طبقات، والمحدثون طبقات، والمفسرون طبقات. وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع طبقات، والناس طبقات، والعالم طبقات، والزمان طبقات، كل شيء طبقات. فما هي صورة الأمس والغد في القرآن؟
ورد لفظ «الأمس» في القرآن أربع مرات وفي صورة لغوية واحدة. في حين ورد لفظ «الغد» خمس عشرة مرة مما يدل على خطأ الفكرة الشائعة أن الأمس أفضل من اليوم، واليوم أفضل من الغد. في حين أن الغرب قد تقدم بالتصور المضاد أن اليوم أفضل من الأمس، وأن الغد أفضل من اليوم. وقد ورد لفظ القرآن «الأمس» في مراته الأربع كأسماء بمعنى الانهيار والتلاشي مقارنة باليوم،
فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس . فبناء الأمس وهم لا يصمد بالنسبة لقوى اليوم، الأمس يوم الاستنصار ولكن اليوم يوم التخلي والانهيار،
فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه . الأمس يوم القتل وسفك الدماء،
قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس . الأمس زمان الأوهام والتمنيات الخادعة،
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء . وفي نفس الوقت يمكن تأويل هذه المعاني السلبية تأويلا إيجابيا أن الأمس ينهار لصالح اليوم، وأن الأمس أقرب إلى الوهم والخداع الذي ينقشع اليوم. وبالتالي الأمس لا ثبات له ولا أساس مما يجعل التقليد مستحيلا، والتشبث بالماضي ضد التقدم في الزمان. وفي اللغة التداولية للأمس نفس المعنى، التحسر على أيام زمان والنعيم الضائع والفردوس المفقود، والهناء الذي تحول إلى شقاء «امتى الزمان يرجع يا جميل، واسهر معاك على شط النيل». وفي نفس الوقت الأمس وقت القلق والأرق «ليلة امبارح ما جانيش نوم». فلا يوجد تصور ثابت للأمس إذ يمكن اعتباره الزمن الضائع ويمكن تأويله على أنه يمكن تغييره إلى غد أفضل.
أما لفظ «الغد» فقد ورد في القرآن خمس عشرة مرة بصور لغوية مختلفة، فعلية ثلاث مرات، واسمية اثنتي عشرة مرة في صورتين. «الغد» ست مرات أي الزمان القادم، و«الغدو» ست مرات أي التحرك نحو الغد. ويفيد فعل «يغدو» التحول من الأمس إلى اليوم، ومن اليوم إلى الغد أي مسار الزمان المتصل،
وغدوا على حرد قادرين . وقد يكون التحول سلبا بمعنى أصبح،
فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . وقد يكون إيجابا،
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . أما الصيغة الاسمية «الغد» فقد تعني المستقبل البعيد،
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد . وغد الغد هو يوم القيامة والبعث، يوم الحساب والجزاء،
سيعلمون غدا من الكذاب الأشر . والمستقبل القريب، الغد بالمعنى الزمني هو استعداد،
أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون . وقد يعني الغد الاحتمال والتوقع والتخطيط والإمكانية، وهو ليس بيد الإنسان وحده. فهناك عوامل موضوعية أخرى محددة له، وهو ما يسمى في العقائد مشيئة الله،
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله . أما صيغة «الغداة» فتعني فترة من الزمن في مقابل العشي أي المساء. والغد مقدم على العشي في حين أنه في التوالي الزماني بعده. وهما وقتان للدعاء،
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . ويحتاج الدعاء إلى صبر قبل أن يتحقق،
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . أما صفة «الغدو» فتعني الحركة في الزمان مقرونة بالآصال،
ودون الجهر من القول بالغدو والآصال . ويعني الصباح أو المساء. فالغدو حركة متصلة من الأمس إلى اليوم للريح،
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر . فالغدو قد يمتد من يوم إلى شهر وهو المستقبل بين القريب والبعيد. والغدو للتسبيح،
يسبح له فيها بالغدو والآصال ، وللسجود لله،
ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ، وهو مع العشي يوم الحساب لأهل النار إشارة إلى استمرار العذاب ليل نهار،
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا . وفي الأمثال العامية يفيد لفظ «بكرة» نفس المعنى، وهو نفس اللفظ القرآني،
بكرة وأصيلا . ويستعمل إما للتسويف أي الغد الذي لا عمل فيه «فوت علينا بكرة» أو للغد المملوء بالأمل، الأمل في اللقاء «حاقبله بكرة» أو الأمل في السفر واكتشاف الجديد وارتياد المجهول «بكرة السفر بكرة». (11) الحين
قد تكون ألفاظ الزمان مزدوجة على التقابل مثل الضحى والعشي، الليل والنهار، الأمس والغد. وقد تكون مفردة مثل القرن والساعة والفجر. ومنها الحين. وقد ورد لفظ «حين» أربعا وثلاثين مرة بثلاثة معان. الأول الحياة المؤقتة وليست الدائمة والتي نهايتها الموت. هي حياة الأرض وليست حياة السماء،
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . والمتعة فيها أيضا مؤقتة،
ومتعناهم إلى حين . ودفء الدنيا وزينتها متاع إلى حين،
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين . وهي فتنة في الدنيا،
وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ، وهو ما حدث لقوم ثمود،
وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين .
وقد يعني اللفظ ثانيا فترة من الزمان ووقتا محددا سلبا أم إيجابا. فالوقت محل للفعل. والفعل حسن أم قبيح، ونتيجته ثواب أو عقاب. فالقرآن ينزل في الزمان،
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن . والأرض تنبت بالزرع خضراء للآكلين كل حين،
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها . وفي الأرض جمال حين الراحة فيها وحين التجوال،
ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . ووقت الظهيرة يضع الإنسان ملابسه من الحر إلى حين وأثناء النوم،
من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة . وذكر الله في المساء وفي الصباح، حين يمسي الإنسان وحين يصبح،
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . والإنسان يستيقظ ويقوم في الوقت حينا من الزمان،
وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم . وفي هذه الحالة يكون على صلة بالله،
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم .
والحين أيضا ثالثا هو وقت للفعل السلبي. هو وقت البأس والضراء،
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، وهو وقت التغطية بالثياب ظانين الستر والتخفي،
ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون . والحين هو وقت الغفلة والنسيان،
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ، وهو وقت العذاب،
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ، وهو وقت العدم قبل الخلق وبعد الموت،
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، وهو وقت الموت والوصية،
شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية . والنفس تموت حين يأتي الأجل،
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .
وفقدان الإنسان حريته ودخوله السجن إلى حين. فلا يوجد سجن أبدي مدى الحياة،
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين . وقد يكون المسجون مظلوما والسجان ظالما. والجنون أيضا مؤقت والاتهام به إلى حين،
إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين . والغفلة أيضا إلى حين؛ إذ لا توجد غفلة دائمة. فكل غفلة تتبعها يقظة،
فذرهم في غمرتهم حتى حين . والإعراض والتولي إلى حين. فلا يوجد إعراض إلى الأبد لأن كل شيء يتحول ويتغير،
فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون . بعدها تبدأ اليقظة ويكون الإبصار.
والعذاب في الآخرة إدراك في الزمان ووعي بالفعل في الزمان،
لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ، وهو إدراك متأخر وقت الجزاء. فالوعي له لحظته ووقته،
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . وإن لم يتيقن الإنسان بذلك في اللحظة الراهنة فإنه يعلم النبأ بعد حين،
ولتعلمن نبأه بعد حين .
وقد أتى لفظ «حين» مرة واحدة في صيغة «حينئذ» أي هذا الحين عندما يحين الحين للتأكيد على صفة الوقوع. فالحين ليس مجرد فترة زمنية مؤقتة في زمان مجرد كزمان ساعة اليد بل هو زمن واقع ولحظة راهنة.
ولا يظهر اللفظ في اللغة التداولية لأنه لفظ عربي فصيح لا يتحول إلى لفظ عامي لقصره. فهو مجرد حرفين ساكنين بينهما حرف علة. واستبدل بألفاظ وظروف زمان أخرى مثل «لما» أو «عند» أو أسماء مثل «شوية» أي بعض الشيء، فترة من الوقت. وعادة ما تكون لطلب الانتظار وتأخير الفعل. وفي الأغاني الشعبية «عندما يأتي المساء»، وليس «حينما يأتي المساء».
و«الحين» اسم فعل من «حان» «يحين» أي أتى الوقت وحل الزمن، وهو ما يندر الإحساس به في الوعي العربي. فالزمن لا يحين. والفعل ينتظر. وبالرغم من الأذان للصلاة للإعلان عن حلول الوقت وبالرغم من أن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخره، إلا أن الفعل يمكن أن يؤدى على التراخي وليس على الفور، قضاء لا أداء. وهناك أمثلة عامية لترحيل الحين إلى وقت آخر مثل «هيه الدنيا طارت»، «ربنا خلق الدنيا في ستة أيام»، «هو أنت ابن سبعة»، «على مهلك شوية»، «سوق على مهلك سوق، بكره الدنيا تروق». فالكل واقف في ساحة الانتظار. (12) الأجل
من ضمن المفاهيم المفرودة للزمان في القرآن مثل القرن والدهر والساعة والفجر والعصر مفهوم الأجل، وهو زمن الإنسان وحياته أي عمره المحدد بالميلاد وبالموت، وقد ورد اللفظ ستا وخمسين مرة بخمسة معان مختلفة:
الأول:
الأجل بمعنى المدة المعينة في العلاقات الزوجية (ست مرات) سواء في عقد النكاح،
ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله
أو في مدة الحمل،
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
أو الطلاق والفراق،
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف
دون حسم حتى لا تترك كالمعلقة، لا زوجة ولا مطلقة،
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن . فالإمساك بمعروف والتسريح بإحسان،
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف . فإذا طلقت الزوجة وانقضت العدة فهي حرة في نفسها أن تتزوج من جديد،
فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن .
والثاني:
الأجل بمعنى مدة الدين قبل الوفاء به وقضائه (مرتين). والأشياء أقل أهمية من الأفراد. فالدين إلى أجل يكتب حتى يلتزم الطرفان، الدائن والمدين، بشروطه،
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه . ولا يهم إذا كان الدين صغيرا أم كبيرا. فحفظ الحقوق جزء من العلاقات الإنسانية السليمة،
ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وهو ما دفع الحضارة الإسلامية كلها إلى تدوين العلوم بما في ذلك القرآن.
والثالث:
الأجل بمعنى حياة الفرد والعمر، وهو أكثر المعاني شيوعا (إحدى وثلاثين مرة). ويزيد على نصف المرات. فالأجل نهاية الحياة المحددة بالميلاد والموت،
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى ، وهو معنى الآية الشهيرة،
لكل أجل كتاب . ولا تغيير فيه،
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . وإذا جاء الأجل لا يتأخر ساعة ولا يتقدم،
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ،
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ،
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها . فالله هو الذي يحدد الآجال،
ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . وتحدد الآجال والنفوس ما زالت في الأرحام،
ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى . فالأجل محدد منذ ساعة الخلق،
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا ، وهو يقين لا ريب فيه،
وجعل لهم أجلا لا ريب فيه . والوفاة حين يأتي الأجل،
ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى . ونظرا لحب الإنسان الحياة لما فيها من متع بالأشياء وبالأفراد فإنه يتمنى تأجيل الأجل، والتأجيل والأجل من نفس الاشتقاق،
ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا . فإذا تمت الاستجابة فإلى أجل معدود وليس إلى الأبد،
وما نؤخره إلا لأجل معدود ، وهو تأجيل رحمة من الله للعباد وليعطيهم فرصة أخرى للقيام بأعمال صالحة،
يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . ويتم ذلك بناء على طلب البشر، من يشعر منهم بأنه في حاجة إلى وقت ليصلح بعد أن أفسد،
فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب ، وهو تحقق مطلب إنساني وليس كل مظاهر الحياة التي لها أجل محدد كالنبات والحيوان لأن الإنسان فقط هو المسئول الحر القادر على تغيير الأفعال،
ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى . ومن الناس من يستعجل العذاب لأنه لا يأمل في التغيير،
ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب . فالحساب له وقت محدد. فلعل الإنسان يستفيد من طول العمر،
ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم ، ولكن الغالبية من الناس تريد مهلة وفرصة ممتدة لتعمل عملا صالحا،
فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ويقابل الله السيئة بالمغفرة،
يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . ومهما استعجل الإنسان الشر أو الخير فإن العمر ما زال أمامه مديدا،
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم . وقد يتمنى أحد تأجيل الأجل لتأجيل القتال إشفاقا منه،
وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب .
والرابع:
حياة الجماعة والأمة. فلكل أمة أجل،
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة . وتلك هي دورات الحضارات، وقيام الأمم وسقوطها،
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . وكما يبعث الأفراد تنهض الأمم والشعوب من جديد،
ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم .
والخامس:
أجل الكون والطبيعة،
ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى . فالكون له أجل محدود منذ الخلق إلى البعث،
لأي يوم أجلت . فكل شيء في الطبيعة يسير طبقا لقانون زماني،
وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى .
وفي اللغة التداولية الأجل بمعنى العمر المحدد بالموت هو المعنى الشائع كما هو الحال في القرآن، المعنى الثالث، ويستعمل في الدعاء على الأعداء «ربنا يأخذ أجلك». وقد تحولت آية
لكل أجل كتاب
إلى مثل شعبي وقول مأثور. ومع ذلك لا يمنع تحديد الأجل من الاستعجال فيه أي القفز إلى الأمام أو الاستبطاء فيه. فالحركة داخل الزمان ممكنة للإسراع والتأخير. حينئذ يتحول الزمان إلى خلود. (13) المشرق والمغرب
من مفاهيم الزمان المزدوجة في القرآن مثل الضحى والعشي، والليل النهار، والأمس والغد، «المشرق والمغرب». وهما الأكثر استعمالا أو «الشروق والغروب» وهما الأكثر دلالة على الزمان، وهو الزمان الجغرافي المرتبط بدوران الأرض حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة مرة. فينشأ تعاقب الليل والنهار، والشروق والغروب، واليقظة والنوم، والنور والظلام.
وقد ورد لفظ «شرق» في القرآن سبع عشرة مرة في صيغ عديدة كلها اسمية باستثناء مرة واحدة في صيغة فعلية «أشرق» بمعنى أشرقت الأرض أي سطع عليها النور حين الشروق،
وأشرقت الأرض بنور ربها . والصيغة الأكثر استعمالا «المشرق» بالمفرد في مقابل «المغرب»، وكلاهما لله في
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ، وهو ما اعتمد عليه الصوفية في وحدة الشهود ووحدة الوجود. ويهدي الله من يشاء إلى أي اتجاه،
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وليس الإيمان في الاتجاه المكاني بل في تقوى القلب،
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب . والله هو رب المشرق والمغرب بحكم العقل،
قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون . إله واحد عليه التوكل،
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . هو الذي يأتي بالشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب كقانون طبيعي ضروري وليس إرادة الإنسان الحرة،
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . ويستعمل اللفظ في صيغة المثنى مرتين. فالله هو رب المشرقين،
رب المشرقين ورب المغربين . ويرمز إلى البعد،
يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . ويستعمل في صيغة الجمع ثلاث مرات. فالله هو رب المشارق ورب المغارب،
فلا أقسم برب المشارق والمغارب ، وهو رب المشارق والسموات والأرض وما بينهما،
رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق . ويعني اللفظ جمعا أيضا جميع الأمكنة التي يمارس فيها الإنسان نشاطه،
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها . أما الاستعمالات الأخرى فتعني وقت الشروق بالجمع،
فأخذتهم الصيحة مشرقين ،
فأتبعوهم مشرقين . وقد يكون في صيغة «إشراق» بمعنى الصباح مقرونا بالعشي،
يسبحن بالعشي والإشراق . وقد يعني الاتجاه نحو الشرق،
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا . فالشرق كمكان أفضل من الغرب. والحقيقة في الوسط لا شرقية ولا غربية،
يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، ضد الميل والانحياز للأطراف.
أما لفظ «غرب» فقد استعمل ست عشرة مرة تقريبا على قدر مساو للفظ «شرق» وبنفس المعاني. أكثرها في صيغة اسمية، أربع عشرة مرة، ومرتين فقط في صيغة فعلية لوصف غروب الشمس على أهل الكهف،
وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال
أو أمام ذي القرنين،
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة . والأكثر استعمالا في الصيغ الاسمية المفردة «المغرب»، سبع مرات لوصف الله بأنه مالك المشرق والمغرب،
ولله المشرق والمغرب ، وهو
رب المشرق والمغرب . وفي المثنى مرة واحدة،
رب المشرقين ورب المغربين ، وفي الجمع مرتين،
رب المشارق والمغارب ، ووراثة الكون كله للمستضعفين في الأرض،
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ، وهو وصف للمكان،
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ، وهو صفة للوسطية،
لا شرقية ولا غربية .
ويتضح من هذا التحليل أن اللفظين «شرق» و«غرب» مرتبطان بالزمان المكاني أكثر من ارتباطهما بالزمان الإنساني. فالكون له زمان كما أن الإنسان يعيش في الزمان. ويعنيان أيضا المكان الشامل. والله رب المكان والزمان. فيهما يتجلى الحضور الإلهي وتتحقق القدرة الإلهية.
وفي الاستعمالات اليومية،
لا شرقية ولا غربية
هو المعنى الأكثر تداولا، ويعني عدم الانحياز والوسطية كما تجلت في سياسة عدم الانحياز بين الشرق والغرب وفي مفهوم العالم الثالث ومفهوم الحياد الإيجابي، كما يستخدمان أيضا ضد السلوك المتطرف والمواقف المتطرفة، وهو ما يتفق مع وصف الأمة بأنها أمة وسط. وأحيانا يستعمل على نحو سلبي لتثبيت الوضع القائم والوقوف ضد التغيير بدعوى الوسطية وكأن كل تغير هو تطرف بالضرورة، وهو ما تفعله الطبقة المتوسطة دفاعا عن حقوقها ضد الطبقتين المتطرفتين الأخريين، العليا والدنيا، الأغنياء والفقراء. تدافع عن القانون والنظام. فكل دعوة من الفقراء للمشاركة في أموال الأغنياء تطرف شيوعي. وكل دعوة للأغنياء لمزيد من الغنى تطرف رأسمالي. مع أن الله هو الجامع لكل شيء، وهو الشامل لكل الاتجاهات، والجامع لكل الطبقات. هو الواحد الذي يجمع اثنينية المشرق والمغرب، وجمع المشارق والمغارب.
الفصل الثاني عشر
المجتمع
(1) وحدة الأمة
إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي هي تحرير الأرض من الاحتلال واستكمال حركة التحرر الوطني، والقضية الثانية هي تحرير المواطن من كل صنوف القهر، والقضية الثالثة العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، فإن القضية الرابعة هي وحدة الأمة، عربية أو إسلامية.
فقد قضي على الدولة العثمانية وتقطعت أطرافها بعد الحرب العالمية الأولى. وسقطت الخلافة بعد الثورة الكمالية في 1923م. ووجد العرب في القومية العربية بديلا يحميهم من أطماع الاستعمار والتي لم تتوقف، تلم شمل الدول العربية التي أنشئت بفعل اتفاقية سايكس- بيكو. ثم انهارت القومية العربية بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م وانتهى المشروع العربي التحرري القومي إلى احتلال مصر وكل فلسطين وسوريا. وبعد أن عادت إليها الروح في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973م انهارت مرة أخرى بعد غزو العراق لإيران في 1980م في حرب الخليج الأولى ووضع تناقض بين الثورة العربية والثورة الإسلامية، ثم غزو العراق للكويت في 1990م حرب الخليج الثانية ووضع تناقض بين القومية والقطرية.
والآن تغزى الدول من جديد كما حدث في العراق وأفغانستان. وتفكك الأوطان كما يحدث في السودان والصومال. وتتحول إلى فسيفساء طائفي عرقي مذهبي، سني وشيعي وكردي وتركماني في العراق، وسني ماروني درزي في لبنان، وسني شيعي في دول الخليج، ومسلم قبطي في مصر، وعربي بربري في المغرب العربي كله، وعربي أفريقي في السودان، وزيدي شافعي في اليمن، ونجدي حجازي في السعودية، وصومالي سنغالي في موريتانيا، ومغربي صحراوي في المغرب الأقصى. وبالتالي تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة لإقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، وطرد أكثر من مليون فلسطيني من عرب 1948م. وتمنع أكثر من مليونين آخرين من اللاجئين من نكبة 1948م ونكسة 1967م. وتنتهي أية قوة وحدوية في المنطقة، إسلامية أو عربية أو قطرية في الدول التاريخية في المنطقة، مصر والعراق والمغرب. ويقضى على إمكانية تكوين قطب إسلامي أو عربي في مواجهة القطب الأول، الولايات المتحدة الأمريكية، وإقامة عالم متعدد الأقطاب. فالعولمة ذات اتجاهين وليست اتجاها واحدا، توحيد المركز، مجموعة الثمانية، الشركات المتعددة الجنسيات، الغرب الصناعي، وتفتيت الأطراف في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كي تبقى سوقا للاستهلاك أو مصادر للمواد الأولية أو للعمالة الرخيصة.
وقد ذكر لفظ «الأمة» ومشتقاته في القرآن حوالي مائة وثماني عشرة مرة. منها ما يقرب الثلث بمعنى الأم والرحم. فالأمة بمثابة الأم، أم الجميع. والثلثان تقريبا بمعنى الأمة، معظمها بالمفرد «أمة» وأقلها بالجمع «أمم». ومن اللفظ اشتق لفظ «إمام» بمعنى القيادة. والنادر «أمي» بمعنى صاحب العلم الطبيعي الذي لا يأتي فقط من القراءة والكتاب. فمحور استعمالات «الأمة» كفرد حوالي النصف.
وهي أمة واحدة، تعبيرا عن الإله الواحد، وانعكاسا لصفة الوحدانية في حياة البشر،
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون . وهي أمة مسئولة على البشر جميعا. فهي آخر الأمم،
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا . وهي صاحبة رسالة،
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله . وهي رسالة الإله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع، وحدانية البشر، دون تمييز بين قوة وضعف، كثرة وقلة، لون أو لغة أو دين. أمة تدعو وتبلغ وتبين للناس. وهي رسالة خلقية توحيدية لا تقوم على المعيار المزدوج أو قسمة البشر إلى مركز ومحيط، متحضر وبدائي،
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . وهي أمة وسطية لا تغالي. تأبى التطرف والغلو،
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . وهي أمة ملتزمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. لذلك كانت خير أمة أخرجت للناس،
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله . هي أمة إبراهيم،
إن إبراهيم كان أمة . هي أمة في التاريخ لها عمر كالأفراد لا تقلدها غيرها من الأمم السابقة. فالمتقدم لا يقلد المتأخر،
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون . وبالرغم من أن المسئولية فردية،
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، إلا أن المسئولية أيضا جماعية،
أن تكون أمة هي أربى من أمة ،
كلما دخلت أمة لعنت أختها ، جزاء التقليد الذي يؤدي إلى الهلاك وعدم تحمل المسئولية الجماعية.
ليست وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية مركزية كما كان الحال في السابق في الدول الأموية والعباسية حتى العثمانية. فقد كانت الخلافة اسمية، والأمصار مستقلة عنها، أكثر أو أقل. بل هي وحدة الأخوة والتعاطف المشترك، الوحدة الوجدانية. وهي أيضا وحدة نسق القيم والمبادئ والتصور المشترك للعالم المستمد من التوحيد. وهي وحدة التضامن الاجتماعي والشعور بالأمة. هي وحدة المبادئ والغايات، المقاصد والأهداف لتحقيق الإسلام كنظام مثالي للعالم. وبلغة المحدثين هي وحدة الثقافة والحضارة ونسق القيم والتصور للحياة. وهي وحدة الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك. وهي وحدة المصالح في الحرية والاستقلال والتنمية والتعاون ضد الأخطار المشتركة، الاستعمار وكل أشكال الهيمنة، والصهيونية كاستعمار استيطاني جديد.
لا تعني وحدة الأمة بالضرورة وحدة سياسية كما كان الحال عند القدماء في نظام الخلافة بل تعني اللامركزية التي طالما دافع عنها المصلحون. وقد تعني الفيدرالية أي سلطة مركزية في الدفاع والخارجية، وسلطات محلية في التنمية والحكم المحلي، جمعا بين العام والخاص. وقد تكون تعاونا إقليميا بين دول الجوار مثل مجلس التعاون الخليجي ومجالس التعاون بين كل دولتين جارتين قريبتين مثل مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، مصر والسعودية، أو بعيدتين مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب، مصر والعراق، مصر وسوريا. فمصر باستمرار هي أحد الأطراف بدلا من الشكل القديم للوحدة المركزية بقيادة الدولة القاعدة.
لا تعود وحدة الأمة إلا تدريجيا ابتداء من وحدة الأقطار والحوار الداخلي بين تياراتها المختلفة في جبهة وطنية أو ائتلاف وطني مع اتفاق على الحد الأدنى على البرامج الوطنية. ثم تبدأ وحدة دول الجوار مثل الوحدة المدنية بين الشمال والجنوب، وحدة سياسية في دولة مركزية واحدة. ثم تأتي وحدة مجالس التعاون مثل مجلس التعاون الخليجي كنوع من الفيدرالية. ثم تأتي مجالس التنسيق والتعاون بين دولتين، قريبتين أم بعيدتين كما تفعل مصر. ثم تأتي الوحدة الإسلامية في النهاية، في صورة عالم إسلامي متفق في الأهداف. يكون كتلة تاريخية كبيرة مثل باندونج، العالم الثالث، عدم الانحياز، دول القارات الثلاث.
ليست الوحدة شعارات أو تمنيات. بل هي وحدة عملية تتحقق في الواقع ويشعر الناس بآثارها وأهميتها ونفعها وصلابتها. تتحقق بفتح الحدود، ورفع الحواجز الجمركية، وحرية التجارة، وإلغاء تأشيرات الدخول في «شنجن» عربي. فالعرب يتمتعون بالشنجن الأوروبي، ويمنعون بالساعات في مطاراتهم أو يرحلون حيث أتوا حرصا على الأمن. وقد كانت السوق العربية المشتركة في أوائل الخمسينيات أسبق من السوق الأوروبية المشتركة. وقد تستطيع معاهدة الدفاع العربي المشترك أن تمنع من غزو الأقطار، واحدا تلو الآخر كما حدث في العراق وفلسطين. قرارات كثيرة وتحققات قليلة. كلام كثير وأفعال قليلة،
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . (2) التنمية المستدامة
إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض من الاحتلال، والثانية تحرير المواطن من القهر، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد فقر الأغلبية وثراء الأقلية، والرابعة الوحدة ضد مخاطر التجزئة والتقسيم الطائفي المذهبي والعرقي، فإن القضية الخامسة هي التنمية المستدامة.
والمصطلح غربي، من الدراسات التنموية الحديثة بعد صعود العالم الثالث إثر حركات التحرر الوطني، وأخذه مكان الصدارة، وأغلبية الأصوات في الأمم المتحدة، وثلثي سكان العالم. ولا يعني لفظ «التنمية» مجرد النمو الاقتصادي الكمي أي تنمية الموارد، بل يعني أساسا التنمية البشرية أو التنمية الشاملة. فالإنسان هو الهدف الأول من التنمية، تنمية الإدراك والقدرات الذهنية والبواعث النفسية من أجل التوجه نحو الطبيعة، ووجود الإنسان في العالم، ويتم الفعل والإنتاج والعمل والكد والكدح والسيطرة على مظاهر الطبيعة من خلال التعرف على قوانينها.
وهي التنمية المستدامة أي التي تعتمد على ذاتها وليس على المعونات الخارجية التي تنضب بالتوزيع دون إيجاد وسائل للاستثمار وتحويلها من كم إلى كيف، من توزيع إلى إنتاج. هي التنمية التي تولد ذاتها بذاتها مثل التيسير الذاتي، تنمية الإنتاج وليس تنمية الاستهلاك. وهي التنمية التي تحققت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق مشروع مارشال، وفي اليابان لإعادة بنائها بعد تدميرها في الحرب، وفي كوريا الجنوبية وماليزيا والصين والهند، اعتمادا على القدرات الذاتية ووضع خطط للتنمية المستمرة بعد الدفعة الأولى.
والهدف من التنمية المستدامة تحرير الإرادة الوطنية من الاعتماد على الخارج ودون ارتهانها بالمعونات الأجنبية المشروطة بالدخول في أحلاف مع الدول المانحة أو إقامة قواعد عسكرية، برية وبحرية على أراضيها. فالطعام لا يستورد وإلا جاع الشعب في حالة الحصار. والأمة التي لا تأكل مما تنتج تظل أسيرة لمصادر طعامها، وأهمها القمح، فرغيف الخبر حاجة أساسية كالماء والهواء والتعليم والصحة والإسكان. تدعمه الدولة حتى تستطيع الطبقات الفقيرة شراءه بالأجور المحلية التي لا تستطيع مجاراة الأسعار العالمية.
وتدخل التنمية المستدامة ضمن إعمار الأرض وتأسيس العمران في مفهوم الأرض في القرآن الكريم، فالأرض خضراء وليست صفراء. تخضر من نزول الماء عليها،
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة . فالنبات الأخضر من فعل الطبيعة بنزول الماء على الأرض ومن فعل الإنسان بزراعة الصحراء،
فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا . فالإنسان في زراعته الأرض يتشبه بالله الذي ينزل الماء عليها لتصبح مخضرة. والأخضر ضد اليابس. يأكله ويحتويه،
وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات . واللون الأخضر هو لون أرائك الجنة،
متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ، ولون ثياب أهل الجنة،
عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق .
أما اللون الأصفر فهو لون سلبي، لون الجفاف والصحراء والهشيم الذي تذروه الرياح والذي يسهل اقتلاعه من الأرض،
ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما ، وهو لون الريح العاتية التي تهب فلا تبقى ولا تذر،
ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ، وهو لون شرار النار،
إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر . هو لون الموت والضحية مثل بقرة نبي إسرائيل،
قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين . وفي الثقافة الشعبية توحدت الثقافة العربية بالصحراء، التوحيد امتدادها اللانهائي، وأخلاقها التعاون والبر والتكافل، رموزها الجمل والناي والخيمة.
ويستمر الحديث في صورة القرآن في التأكيد على أن اللون الأخضر هو لون الحياة المستمرة. «لو جاء أحدكم ملك الموت وفي يده فسيلة فليغرسها». فالاخضرار فعل مستمر للإنسان من المهد إلى للحد. وفي زيارة القبور يوضع العشب الأخضر، والزرع الأخضر ترحما على الميت. فالحياة الخضراء مستمرة بعد الموت، وهو اللون المفضل عند الصوفية في عمائمهم وأعلامهم وشاراتهم وبيارقهم. والشيخ الخضر رمزهم وإمامهم، وهو اللون الذي آثرته العديد من الدول الإسلامية لأعلامها الوطنية رمزا للأرض الخضراء، وهو اللون الذي يستعمل في الحياة السياسية مثل «المسيرة الخضراء» و«الكتاب الأخضر».
مهمة الإنسان في الطبيعة إذن السيطرة عليها وتسخير قوانينها لصالحه. علاقة الإنسان بالأرض هي علاقة الفاعل بالمفعول، الزارع بالزرع. فقد خلق الكون كله لصالح الإنسان. الأرض لفأسه، والماء لريه. دوره زرع الأرض وتحويل الصحراء الصفراء إلى أرض خضراء، وإقامة السدود وبناء الجسور لحفظ المياه كما فعلت الملكة سبأ في تشييد سد مأرب. والإنسان قادر على تفجير الماء من الصخر كما فعل موسى حينما ضرب الصخر بعصاه فانفجرت منه العيون، وعندما سعت السيدة هاجر زوجة إبراهيم بين الصفا والمروة بحثا عن الماء لشرب ولدها إسماعيل حتى لا يهلكا عطشا فانفجرت عين زمزم والتي أصبحت فيما بعد من مناسك الحج.
ويرتبط مفهوم التنمية المستدامة ليس فقط بالطبيعة وتسخير قوانينها بل أيضا بمفهوم التقدم. وفعل «قدم» يعني في نفس الوقت القديم والتقدم والسبق،
والسابقون السابقون ، وهو عكس التأخر،
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . التنمية خير والسبق فيها فضيلة،
فاستبقوا الخيرات ، وهو منافسة في التقدم،
فالسابقات سبقا . والسابقون هم الذين ينالون الفوز،
والسابقون السابقون * أولئك المقربون . ولفظ «سبق» أيضا مزدوج المعنى. يعني السبق إلى الأمام والسبق إلى الخلف، وهو ضد تصور آخر شائع يقوم على أن السلف خير من الخلف،
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، وأيضا «خير القرون قرني، ثم الذي يلونه» حيث يبدو التاريخ منهارا، وأن السابقين خير من اللاحقين، وهو ضد الزمن والتقدم جوهره. وهي طبقات المؤرخين والمتكلمين والمفسرين والفقهاء.
إن كل شروط التنمية المستدامة متوافرة في الوطن العربي: رءوس الأموال من عوائد النفط، والعقول العربية القادرة على التنمية على مستوى أعلى الخبرات العالمية، والسواعد العربية والعمالة المهاجرة والخبرة التاريخية بالزراعة في مصر والسودان والعراق، والأسواق الشاسعة وملايين البشر للاستهلاك. فلا يوجد ما يمنع من إقامة السوق العربية المشتركة القائمة على التكامل الاقتصادي.
وإذا كان العالم، كما يقال قرية واحدة، وكانت العولمة قانونه فإنه لا يحل أزمة الغذاء وأزمة المياه في العالم إلا التوجه نحو الطبيعة والسيطرة عليها، وتسخير قوانينها، ونمو الأرض لزراعتها وتحويلها من أرض صفراء قاحلة إلى أرض خضراء يانعة. الإنسان في العالم مصدر خير وليس عدما أتى من لا شيء وينتهي إلى لا شيء.
ولما كانت الشعوب الإسلامية باستثناء البعض مثل ماليزيا وتركيا وإيران ضمن الدول النامية، حينئذ يكون معنى التنمية الدول التي تخطط للتنمية المستدامة وليست الدول الوسطى بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة. ويكون للتنمية معناها الدائم حتى عند الدول المتقدمة. فالتنمية موقف الإنسان من الطبيعة سيدا لها ومسخرا لقوانينها. وهي جانب من عملية التقدم الشاملة في الكون والتاريخ. (3) الهوية والتغريب
إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض استكمالا لحركات التحرر الوطني ضد الهيمنة الجديدة وعودة الغزو العسكري للأوطان كما حدث في العراق، وكانت الثانية حرية المواطن ضد صنوف القهر الداخلي من نظم الحكم، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين من لا يملكون أي شيء ومن يملكون كل شيء، والرابعة توحيد الأمة على المستوى الوطني أولا ثم العربي ثانيا ثم الإسلامي ثالثا طبقا لنظرية الدوائر الثلاث، الوطن والعروبة والإسلام، والخامسة التنمية المستقلة المستدامة ضد الاعتماد على الخارج والمعونات الأجنبية حتى تستهلك الأمة ما تنتج. فإن السادسة هي الدفاع عن الهوية ضد مظاهر التغريب، وإثبات الأنا ضد الآخر، وهو ما سماه الفلاسفة المعاصرون «الاغتراب»، أي تحول الأنا إلى آخر والذوبان فيه، وفقد هويتها بحيث يصبح الأنا غريبا على نفسه، فاقدا لهويته. والاغتراب في حياتنا المعاصرة تغريب؛ لأن الآخر الذي يستقطب الأنا هو الغرب. فأصبح الاغتراب تغريبا بالضرورة أي الانبهار بالغرب واعتباره هو النموذج الوحيد للتحديث. ومن لم يكن غربيا فهو ليس حدثيا، أو أصولي سلفي.
والتغريب هو أولا ظاهرة ثقافية تعبر عن الاعتداد بالنفس وهويتها المستقلة وكيانها الذاتي. تعبر عن نفسها من خلال الثقافة الوطنية التي تحمي هوية الشعب وخصوصيته. كما تتجلى في الفن وأساليب العمارة وطرز البناء، وفي الزي الشعبي مثل الجلباب والعباية والخف بعد أن اختفى الطربوش التركي، وفي الأثاث العربي المعروف باسم «الأرابيسك» وفي أنواع الأطعمة الشرقية الشهيرة. وتتمسك كل الشعوب بذلك. فهناك الطراز الصيني والياباني والكوري والهندي والماليزي والإندونيسي والتركي والإيراني والعربي والأفريقي والأوروبي. هذه الخصوصيات والتعددية الثقافية والفنية هي أساس التعارف بين الشعوب المختلفة اللغات والمشارب من أجل التعارف والإثراء المتبادل. ثقافات متعددة وحضارة إنسانية واحدة. ويقطع الناس الفيافي والبحار ويعبرون القارات للتعرف على ثقافات الشعوب الصينية واليابانية والهندية والفارسية والمصرية القديمة والعربية. يعشقون الآخر، ويتمثلون ثقافاته وفنونه حتى أصبحت السياحة لدى بعض الدول المصدر الأول للدخل القومي. كما أن التمسك بالهوية ليس مجرد عود إلى الماضي بل هو حفاظ على الاستمرارية في التاريخ وعلى الهوية المتجددة بين الماضي والحاضر والتي يساهم فيها كل جيل. هي موطن الإبداع، فلا معاصرة بلا أصالة، ولا جديد بلا قديم، ولا تحديث بلا تراث. لذلك أضيف إلى اسم بعض وزارات الثقافة «والتراث القومي»، بالإضافة إلى مصلحة الآثار والمهرجانات التراثية الشعبية التي تقام كل عام على الصعد الوطنية والعربية والعالمية.
والأهم من ذلك كله هو الأثر السياسي لقضية الهوية والتغريب؛ إذ تعني الهوية الاستقلال الوطني، والإرادة الوطنية المستقلة، والثقل السياسي، والتمسك بالثوابت الوطنية، وبالأمن القومي القائم على الجغرافيا والتاريخ والذى يعبر عن الموقع والموقف، تعني الهوية رفض الدخول في الأحلاف السياسية والعسكرية التي تجعل الدول الوطنية ملحقة بالدول المركزية الكبرى، وتبعية الأطراف للمركز كما كان الأمر في حلف وارسو، وكما هو قائم الآن في حلف شمال الأطلنطي ومشاركته في الغزو الأمريكي لأفغانستان. تفقد الدول شخصياتها، وتتصف مواقفها السياسية بالميوعة، ويغيب التعاون الإقليمي والاعتماد المتبادل بين دول الجوار. وتفقد قدرتها على التأثير في موازين القوى العالمية، وتعجز عن لعب أي دور مؤثر في السياسة الدولية.
مخاطرها بطبيعة الحال في تحدي القوى الكبرى ورغبتها في الهيمنة على الدول الصغرى لتأمين مصادر الطاقة، والاقتراب من روسيا والصين، ومقاومة سياسة الأحلاف كما فعل عبد الناصر في مقاومة حلف بغداد في 1954م، والحلف الإسلامي بين طهران وكراتشي في 1965م، ورفض إقامة أي قواعد عسكرية في مصر والوطن العربي، وهو ما تفعله الثورة الإسلامية في إيران الآن دفاعا عن حق إيران في الطاقة النووية مثل باكستان والهند شرقا وإسرائيل غربا وامتلاك كل القوى الكبرى غربا وشرقا لها.
والدفاع عن الهوية ضد التغريب هو روح القرآن والحديث تمسكا بالهوية الثقافية والشخصية المستقلة في سورة الكافرين،
قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين . وتتكرر بعض الآيات مثل،
ولا أنتم عابدون ما أعبد
للتأكيد. كذلك يرفض القرآن موالاة الآخر العدو مثل اليهود والنصارى،
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . ومن يواليهم يصبح منهم،
ومن يتولهم منكم فإنه منهم .
ويستمر الحديث في رفض الموالاة والتبعية للآخر «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى. قال: فمن إذن؟» وهو سبب كتابة «علم الاستغراب» للتخلص من صورة الغرب كمصدر للعلم كي يصبح موضوعا للعلم، وللقضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي وحد الغرب نفسه بها. وكل حضارة بنت تاريخها وظروفها وعصرها، وللقضاء على عقدة العظمة لدى الغرب، وعقدة النقص لدى الشعوب اللاغربية من أجل حوار متكافئ بين الحضارات يقوم على الأخذ والعطاء، والتعليم والتعلم ضد المعلم الأبدي والتلميذ الأبدي.
وكلما اشتد التغريب بكل ما ينتج عنه من قيم الاستهلاك وملذات الحياة والتميع والذوبان والانصهار في الآخر نشأت الحركات السلفية والأصولية للدفاع عن الهوية، والتمسك بالأصالة لدرجة «المفاصلة» بين الأنا والآخر، بين الإسلام والغرب طبقا لثنائيات الإسلام والجاهلية، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والهداية والضلال. وهي ظروف نفسية نشأت عن تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون كما حدث لسيد قطب في 1954م وكتابه «معالم على الطريق» الذي يكفر فيه المجتمع بعد أن كان من دعاة الاشتراكية الإسلامية في «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام». واليسار الإسلامي هو استئناف لسيد قطب الأول في المرحلة الاشتراكية بعد المراحل الشعرية والأدبية والنقدية والفلسفية. كما أنه استئناف لمصطفى السباعي في سوريا في «الاشتراكية والإسلام».
هذا التقابل بين الأنا والآخر، في الواقع النفسي والثقافي والسياسي والتاريخي، ليس موقفا مبدئيا بل فقط حين تتبع الذات الآخر وتذوب فيه. إنما الموقف المبدئي هو الحوار بين الذات والآخر كندين متكافئين مجتهدين دون تحديد مسبق أي الفريقين على خطأ وأيهما على صواب،
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين . وفي نفس الوقت الذي يحرم فيه القرآن موالاة الآخر بمعنى التبعية وفقدان الهوية يثبت المودة له،
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون . كما يؤكد التقاء الأنا والآخر على كلمة سواء، نسق من القيم يقوم على الحرية والعدل للجميع في آية المباهلة،
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . وبتعبير الثوار المحدثين، يد تقاتل التبعية والتغريب، ويد تسالم من أجل حوار متكافئ بين الطرفين. (4) تجنيد الجماهير
إذا كان فقه الأولويات في اليسار الإسلامي يبدأ أولا بتحرير الأرض ضد الاحتلال، وثانيا بحرية المواطن ضد القهر، وثالثا بالعدالة الاجتماعية ضد الفقر، ورابعا بوحدة الأمة ضد التجزئة، وخامسا بالتنمية المستقلة ضد التبعية، وسادسا بالهوية ضد التغريب، فإن القضية السابعة والأخيرة هي تجنيد الجماهير أو حشد الناس، وتحويل الأمة من الكم إلى الكيف، وتحويل حوالي مليار ونصف من المسلمين أي ربع سكان المعمورة من مجرد عدد كمي إلى طاقة كيفية قادرة على الصمود في مواجهة خمسة ملايين من المستوطنين في فلسطين. يساندهم ثمانية ملايين من يهود العالم. ومن ورائهم الدوائر العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة المحافظين الجدد. فالأفكار في حاجة إلى بشر، والأيديولوجيات في حاجة إلى جماهير، والنبوات حركات تغير ودفعات تقدم في مسار التاريخ. الأفكار بمفردها لا توجد إلا في أذهان النخبة ثم تتحقق في حركة الجماهير، من الخاصة إلى العامة، ومن القادة إلى الشعب.
وهو موضوع فلسفي واجتماعي وسياسي. تحدث فيه أورتيجا في «ثورة الجماهير» ودوسيل في «تربية المضطهدين». وتعرض إليه القدماء بتفرقتهم بين الخاصة والعامة على نحو معرفي خالص. فالخاصة هم القادرون على فهم الباطن وتأويل النصوص، في حين أن العامة وظيفتهم التطبيق لظاهر الشريعة وطاعة الأحكام.
والسؤال هو: لماذا هذا السكوت المطبق للجماهير؟ أين الشارع العربي؟ «وين الملايين ؟» يتحرك الشارع الأوروبي بالملايين من أجل قضايانا، ضد الغزو الأمريكي للعراق، وضد الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين، والشارع العربي صامت، إلا من بؤر محدودة هنا وهناك، في المغرب ومصر والبحرين والسودان واليمن وموريتانيا وعلى نطاق أوسع في لبنان، والعرب ثلاثمائة وخمسون مليونا لا يتحركون لفك الحصار عن غزة. والمسلمون مليار ونصف ولا يتحركون لتحرير القدس، أولى القبلتين وثاني الحرمين. فما السبب في هذا السكون المطبق؟
هل الخوف من السلطان وحكمه المطلق وأجهزة الأمن والشرطة العلنية والسرية؟ فهي الرعية وهو الراعي، تشبيه الغنم وراعي الأغنام. عليها السمع والطاعة،
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . الخروج عليه فتنة،
والفتنة أشد من القتل . هل العقائد الأشعرية هي المسئولة؟ القضاء والقدر والأمثال العامية التي تولدت منه والتي حاول المصلحون مناهضتها، فالحاكم الظالم قضاء من الله، وقدر منه، لا يمكن تفاديه. هو امتحان واختبار وبلاء. فالمؤمن مصاب. هل تصور الإمام عند الفلاسفة والمتكلمين، كامل الأوصاف الذي لا يوجد أكمل منه؟ حكمه بالطبيعة والتاريخ والزعامة الشخصية ومدى الحياة. ليس محددا بمدة أو بسلطة إلا الكتاب الذي يمكن تأويله لصالح النخبة ولصالح الجماهير في آن واحد وكما يتضح هذه الأيام في مبدأ «الحاكمية». هل الهروب إلى التصوف والطرقية هو السبب في تحويل الدين إلى اغتراب خارج العالم، والاتحاد بالله بالقفز فوق العالم، والتحول إلى الرأسي تعويضا عن الأفقي؟ هل هي كل القيم التي أفرزها التصوف، المقامات والأحوال، الصبر والتوكل والخوف والخشية والرضا والتسليم التي منعت الناس من الثورة والغضب والتمرد والاعتراض والنفي والمواجهة؟
هل تعودت الجماهير في تاريخها الحديث من محمد علي حتى عبد الناصر على أن تعمل في الدولة وتخدم مشروعها الوطني الذي تقوم به الدولة نيابة عن الأمة؟ فتعودت الجماهير على الطاعة والسلبية والتصفيق للحكام، حربا أم سلما، اشتراكية أم رأسمالية، قطاعا عاما أم خاصا، باسم الديمقراطية المباشرة التي يعبر فيها الزعيم والقائد والأخ عن مصالح الجماهير؟ هل اكتفاء الجماهير بالسعي وراء الرزق والبحث عن رغيف الخبز مع التنازل عن الحرية، في حين أن القرآن يجمع بينهما،
فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . هل لأن الفترة الليبرالية كانت قصيرة في حياتنا بعد ثورة 1919م؟ وكانت وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل. تمثلتها النخبة دون الجماهير.
هل السبب هي الانقلابات العسكرية الأخيرة في منتصف الخمسينيات التي احتكرت من خلال الحزب الواحد، العمل السياسي، بعد ثقة الجماهير بالضباط الأحرار، ومشاهدتهم على الطبيعة إنجازات الثورة: الإصلاح الزراعي، التأميم، القطاع العام، تدعيم المواد الغذائية، لجان تقدير الإيجارات، بناء المدارس. وعلى الصعيد الخارجي: مقاومة الاستعمار والصهيونية، القومية العربية، باندونج، العالم الثالث. كانت هناك هبات شعبية محدودة مثل أزمة مارس 1954م، والمظاهرات الشعبية ضد أحكام الطيران في مارس 1968م، والهبة الشعبية ضد غلاء الأسعار في يناير 1977م، وتحركات الأمن المركزي ضد الفقر في يناير 1986م، والمظاهرات ضد العدوان الأمريكي على العراق في يناير 1991م وضد الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003م. فلا يمر عقد من الزمان إلا وفيه هبة شعبية. تنطفئ بمجرد أن تندلع لأنها لا عصب لها قادرا على أن يستولي على السلطة وأن يكون سلطة بديلة. كانت نخبوية طلابية دائما وفي أقلها شعبية جماهيرية بالاشتراك مع كافة طبقات الشعب، مطالبة بالخبز والحرية في آن واحد.
وكما يوجد في الموروث القديم ما يجعل الجماهير مطيعة للحكام فإن فيه أيضا ما يجعل الأئمة والناس، الخاصة والعامة خارجة على الحاكم الظالم. مثل: إن أعظم شهادة قولة حق في وجه إمام جائر. البداية بالنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقوم به صحافة المعارضة، ثم اللجوء إلى القضاء لمقاضاة الحاكم إذا ما صالح الأعداء، وتهاون في إقامة الثغور وتقوية الحدود ل «الذب عن البيضة»، وإن لم يأخذ حقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وإن قام الحكم على الظلم وليس العدل، فالعدل أساس الملك. وعليه قامت السموات والأرض بالميزان. وحاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم. فإن لم يرع الحاكم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والخروج عليه واجب بقيادة قاضي القضاة وعلماء الأمة كما يفعل نادي القضاة في هذا العصر.
كما يتحدث القرآن عن الشعوب والقبائل والأقوام والرهط والأناس أي الجماعات والفتية الذين آمنوا بربهم وازدادوا هدى. وفي الحديث الذي يروى أيضا عن موسى «تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم أمتي يوم القيامة». ويدعو القرآن إلى تحمل الأمانة والرسالة التي حملها الإنسان طوعا واختيارا،
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . هي أمانة تحقيق كلمة الله كنظام مثالي للعالم. وراثة النبي بعد استقلال العقل وحرية الإرادة.
لقد خرجت حركات التحرر الوطني في حياتنا المعاصرة عن جبة الحركات الإصلاحية في المغرب العربي والسودان واليمن وفلسطين لقدرتها على حشد الناس، والتوحيد بين الوطن والعروبة والإسلام دون وضع لتصادم مفتعل بينها كما هو الحال في القطرية المغالية، الوطن أولا أو القومية المغالية، القومية العربية العلمانية للجمع بين المسلمين والنصارى، والأصولية الأممية التي لا ترضى بأقل من الأمة الإسلامية ودولة الخلافة. وقامت الثورات الإسلامية، المهدية، والإيرانية على أكتافها. ونجحت في حصد الأغلبية مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب. وما زالت هي أقدر الحركات والتيارات السياسية قدرة على تحريك الجماهير في مصر والأردن. وتقاوم في العراق وفلسطين بل وأفغانستان والشيشان.
إن الجماهير هي القادرة على ردع العدوان كما فعل حزب الله في حرب يوليو (تموز) 2006م، والقادرة على تعمير الصحراء، وجذب العمالة والعقول المهاجرة، وإعادة ربطها بالأوطان بدلا من السكون المطبق للشارع العربي والغياب التام له. هي القادرة على رفع القهر في الداخل ومقاومة العدوان من الخارج. التحدي هو التحول من الكم إلى الكيف. كما تنبأ الرسول بأن الأمم ستتداعى علينا كما تتداعى الأكلة على قصعتها. ليس من قلة بل نحن كثير كغثاء النحل ولكن بسبب حب الحياة وكراهية الموت أي الاستشهاد في سبيل الأوطان وذهاب رهبة الأمة في قلوب أعدائها.
اليسار الإسلامي إذن ليس تأويلا ثوريا تقدميا اشتراكيا يساريا للإسلام، بل هو عمل جماهيري يبدأ بتحرير الأرض وينتهي بحركة الجماهير. (5) التقدم والتأخر
التقدم مطلب رئيسي لدى الشعوب النامية، شعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، شعوب العالم الثالث. وهي أسماء حديثة تشير إلى العالم الإسلامي. كما أن من ضمن أسماء اليسار الإسلامي في مصر الإسلام التقدمي في تونس وإذا كان لفظ اليسار لفظا قرآنيا بمعان مختلفة، فإن لفظ التقدم والتأخر لفظان قرآنيان، فماذا يعنيان؟
وقد قرن القرآن الكريم بين التقدم والتأخر وليس بين التقدم والتخلف كما تفعل النظريات التنموية المعاصرة. فقد ارتبط التخلف والخوالف بالقتال والقعود عن الجهاد. في حين ارتبط التقدم والتأخر بالعمل الصالح والطالح. التقدم للخير، والتأخر للشر. التقدم للحسنة، والتأخر للسيئة، وهو ما يعيه الإنسان يوم القيامة،
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . إذ تتكشف الحقائق بعد الموت،
وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت . حينئذ يعلم الإنسان من المتقدم ومن المتأخر،
ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين . وفي مقابل هذه الإمكانية للتقدم والتأخر في الحياة عن طريق أفعال الإنسان الحر. لا يتقدم الموت ولا يتأخر. ويقع في وقت معلوم،
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
والتقدم لغويا من فعل «قدم» الذي يعني شيئين: الأول القدم بمعنى القدم في الزمان، صفة لله، فالله قديم، والعرجون والضلال والإفك قديم، والآباء الأقدمون. والثاني بمعنى التقدم أي المستقبل. ويرمز إلى ذلك بصورة القدم في الرجل الذي يتقدم بالخطوة. فالتقدم إلى الأمام جهد إنساني. فالقدم قدم صدق،
وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم . والقدم يخشى من زلله،
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها . لذلك يحرص الإنسان على ثبات الأقدام،
وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . ويؤخذ الأشرار بالنواصي والأقدام، من أعلى ومن أدنى،
يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام . ويداسون بالأقدام،
أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين .
وقد ذكر لفظ التقدم في القرآن الكريم ثمانيا وأربعين مرة. معظمها أفعال، وأقلها (ثلاث عشرة مرة) أسماء. مما يدل على أن التقدم فعل بشري وليس جوهرا ثابتا في المجتمع والتاريخ، مرهون بالإرادة البشرية. والتقدم أو التأخر فعل حر،
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، وهو مرتبط بالإرادة الحرة أو المشيئة المختارة. فلا يوجد شعب متقدم بطبيعته، وآخر متأخر بطبيعته. ليس قدرا محتوما على أحد كما تروج لذلك بعض النظريات العنصرية البيضاء ضد الأفارقة والآسيويين لولا ظهور النمور الآسيوية، والنموذج الآسيوي للتنمية والتقدم.
ومعظم معاني اللفظ في القرآن تشير إلى الأعمال في صورة التقديم باليد. فاليد أداة العمل. والعمل تقديم، وهو في الغالب عمل سلبي، ذنب يرتكب أو مصيبة،
فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ، أو سيئة،
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم . وقد يكون التقديم أيضا للخير والعمل الصالح وليست للذنب والمعصية فحسب،
وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، وهو أيضا تقديم الصدقات،
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . والنسل والذرية تقديم للنفس وتقوية للأمة،
فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم .
والتقدمة تكون من النفس استعدادا للغد،
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد . وقد تقدم النبي بالوعيد إنذارا وتبصرة للمتخاصمين،
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد . فهم المستقبل أحد وسائل التقدم.
أما لفظ «أخر» فقد ورد في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، أقل كما من لفظ التقدم مما يدل على أهمية التقدم على التأخر. كلها أفعال إلا واحدة اسم فعل «المستأخرين» مما يدل على أن التأخر فعل بشري ومسئولية إنسانية. وقد ارتبط بالتقدم (عشر مرات) مما يدل مرة أخرى على اقتران الموضوعين، التقدم والتأخر. وهما للفعل وللأجل وللأفراد وللأمم،
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . وهنا يظهر لفظ سبق بمعنى تقدم مما يدل على أن التقدم سباق ومنافسة.
ولكل فعل وقته ولا يمكن التأجيل كما هو الحال في الصلاة أداء أو قضاء، على الفور أو على التراخي. فالفعل مرهون بالحياة. وللحياة أجل فلا يمكن تأجيل القتال لدرء العدوان،
ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب . وللدنيا أجل عندما يأتي يوم القيامة في الوقت المحدد،
قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة .
تأخير فعل إبليس وحده إلى يوم القيامة ممكن. فقد طلب من الله الوقت أي الزمان لغواية بني آدم ولإثبات أن إبليس أفضل منه، وأن آدم ليس بأفضل من إبليس،
قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . ويمكن التقدم أو التأخر في فعل محدد مثل ذكر الله أياما معدودات في مناسك الحج،
فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه . ولا يفيد الندم بعد فوات الوقت. فالزمان لا يستعاد. وما انقضى لا يعود،
ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . فإذا أتت الآخرة فلا يمكن استعادة الدنيا،
لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين .
ومع ذلك يمكن تأخير العقاب على الذنوب لاستثمار التوبة حتى يأتي الأجل،
ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ،
وما نؤخره إلا لأجل معدود ،
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ،
يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . فإذا انقضت الحياة وجاء الأجل انتهى التأجيل.
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها .
لقد استطاعت اليابان تحويل مفهوم التقدم الروحي الأخلاقي في البوذية إلى تقدم علمي وصناعي، وحولت المحور الرأسي للتقدم، التقدم إلى أعلى أو التقدم إلى الداخل، إلى أعماق النفس، إلى محور أفقي إلى الأمام، من أجل تأصيل نهضتها المعاصرة في موروثها الثقافي القديم. كما استطاعت توسيع مفهوم التقدم الفردي إلى تقدم جماعي لأمة.
أما نحن العرب والمسلمين فلم نؤصل مفهوم التقدم في تراثنا القديم بالرغم من أنهما مرتبتان حركيتان في المقدمات النظرية لعلم العقائد، التقدم بالرتبة وبالشرف. وأخذنا التقدم بالمفهوم الغربي إما بمعنى النمو الاقتصادي أو بمعنى التنمية البشرية الشاملة. وحاولنا القيام بالأول أكثر من الثاني لأنه أصعب. فمن السهل تنمية الموارد بوضع خطط للتنمية. ومن الصعب تنمية البشر بمكوناتهم التاريخية الموروثة. لذلك سرعان ما انهار التخطيط. وابتلعت الزيادة السكانية كل معدلات التنمية، بالإضافة إلى التبذير، وهدر الإمكانيات. كانت التنمية مركزية بفعل الدولة ودون مشاركة شعبية كبيرة أو رقابة، ودون إحساس من الناس بأن عائدها لهم. فإذا قامت محاولات تنموية جديدة فالأجدر أن تبدأ بإعادة صياغة مفاهيم التقدم والتأخر في الثقافة الموروثة حتى تتأصل مشاريع التنمية في الثقافة الشعبية، وتكون نابعة من الناس، من تاريخهم تحقيقا لمصالح حاضرهم وأملهم في المستقبل. (6) التخلف والقعود
ليس التخلف فقط في مقابل التقدم كما هو الحال عند المعاصرين بل هو أيضا في القرآن الكريم تخلف عن الجهاد وقتال العدو وقعود عنه كما هو الحال في ترك الفلسطينيين يقاومون الاحتلال وحدهم دون مساندتهم من الإخوة في العروبة والإسلام في دول الجوار القريب أو البعيد. ليس التخلف فقط هو المعنى الاقتصادي بل أيضا المعنى السياسي. المتخلف اقتصاديا من لا يطعم نفسه ويعيش على المعونة الخارجية، والمتخلف سياسيا هو من لا يستطيع أن يقاوم ويحرر نفسه.
المتخلف عن القتال تضيق عليه الأرض بما رحبت كما حدث للثلاثة الذين تخلفوا عن القتال أيام الرسول،
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت . يشعر بالذلة والمهانة. يسير مطأطئ الرأس، منحني الظهر، مطبق الجفنين من الإحساس بالعار والانكسار.
ولا يجوز لمن يقول إنه مسلم يتبع الرسول أن يتخلف عنه،
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله . والعرب أهل قتال وحرب في الجاهلية من أجل العصبية والعدوان وهم كذلك في الإسلام دفاعا عن المظلوم والمستضعف. وتسمع في المساجد كل أسبوع ضرورة الاقتداء بالرسول. يفهم بعض المسلمين الأفارقة الاقتداء في تعدد الزوجات لإيجاد شرعية للعادة الأفريقية. وفي الطرق الصوفية وصل الإصرار على الاقتداء إلى حد التأليه في «الحقيقة المحمدية»، وفي الأدعية «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله». مع أن الاقتداء به لشعب محتل هو التحرر وجهاد العدو.
وكيف يفرح المتخلفون عن الرسول في الجهاد ،
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله
والاقتداء يتطلب العزة والكرامة ورفع الرأس وارتفاع القامة «مرفوع القامة أمشي»؟ إنه فرح زائف، ورضا بالحياة الدنيا. التخلف عن القتال رضا بالضيم وقبول بالمهانة، جهل وسوء فهم،
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ، وتغييب للوعي. والأعذار كثيرة للتخلف منها الانشغال بالدنيا والحرص عليها، السلطة والثروة،
سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ، إيثار الدنيا على الآخرة، وتفضيل المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. ومع ذلك يريد القاعدون والمخلفون أخذ نصيبهم من الغنائم وآثار النصر المادية والمعنوية دون جهاد ومقاومة،
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم . يريدون الغنم وليس الغرم، يحرصون على العاجل دون الآجل. مع أن الجهاد مكسب مرتين: الأولى دفع العدوان، والثانية نيل أجر الشهادة.
والمتخلفون والقاعدون مضطرون إلى مواجهة العدوان،
قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد . فالجهاد مفروض على الناس لدرء العدوان،
كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وإذا كان العدوان طبيعيا في البشر فإن الدفاع والمقاومة طبيعيان أيضا.
والقعود تخلف. والقاعدون مثل المتخلفين،
إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين . فالقعود أول مرة يؤدي إلى القعود ثاني مرة حتى يصبح القعود عادة مهما وقع على الذين تعودوا على القعود من عدوان مستمر ويومي كما يحدث في فلسطين.
القعود تكذيب للرسول، وإنكار لنبوته، وعصيان لرسالته
وقعد الذين كذبوا الله ورسوله . فالإيمان ليس نظريا بل هو إيمان عملي. ليس قولا باللسان بل عملا بالأركان ومنها الجهاد. واتباع الرسول ليس فقط في العبادات بل أيضا في المعاملات، ليس فقط في الأخلاق بل أيضا في السياسة.
القعود رفض لاتباع الرسول،
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون
كما فعل بنو إسرائيل مع موسى. وفي قلوب المسلمين جميعا، الرسول قدوة. وفي شعار كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة «الرسول قدوتنا». ولم يكن قاعدا عن قتال ولا متخلفا عن غزوة. بل إنه لما لبس لأمته استعدادا للقتال بناء على مشورة المسلمين الذين تراجعوا عن مشورتهم .
والقعود لا يمنع من الموت، فلكل أجل كتاب، والشهادة في القتال خير من الموت على الفراش كما قال الشاعر:
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
وكما تأسف خالد بن الوليد وهو يموت بأنه خاض مئات المعارك، ولا توجد قطعة من جسمه لا يوجد فيها طعنة رمح أو ضربة سيف ومع ذلك يموت في فراش كما تموت النعاج، فالموت مصير البشر، وهكذا فسر الأفغاني الإيمان بالقضاء والقدر بأنه لا يبعث على الكسل والتواكل ما دام كل شيء قد قدر سلفا بل يبعث على الشجاعة والإقدام. ومن الأفضل أن يموت الإنسان في ساحة الوغى على أن يموت خوفا من المرض.
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا .
والاستئذان في القعود حرص على السلطة والوجاهة والصدارة الاجتماعية،
استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين . هو إيثار للدنيا على الآخرة، وقبول الدنية في الدين. وقديما كان يعفى من الجهادية أولاد الطبقة العليا من الباشوات، ودفع البدلات. فيقع الجهاد على الفلاحين نزعا من الأرض «يا أعز من عيني أنا نفسي أروح بلدي، بلدي يا بلدي، السلطة خدت ولدي».
ولا يستوي القاعدون مع المجاهدين في الدرجة والمقام،
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله . فالقاعد غير المجاهد، والمتخلف غير المتقدم. وجزاء الحسنة حسنة مثلها. وجزاء السيئة سيئة مثلها. يظن القاعد أنه كسب مرتين، بالقعود خوفا من الموت وفي التمتع بالغنيمة بعد النصر، ماديا ومعنويا، وهو خاسر في الحالتين. خسر الكرامة والعزة وخسر الشهادة والتضحية والنعيم الأوفى. ويظن القاعد أن المجاهد قد خسر مرتين، خسر حياته في الدنيا بالاستشهاد وخسر نعيمها في المال والبنين، وهو إدراك خاطئ لأن المجاهد كسب حياته مرتين، احترام الناس والدفاع عن العزة والكرامة في الدنيا، والنعيم الأوفى في الآخرة. ولا يستوون في الأجر والفضل والجزاء،
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . فالقاعد خسر كل شيء ولم يكسب شيئا. والمجاهد كسب كل شيء ولم يخسر شيئا.
فصبرا آل غزة ، إن غدا لناظره قريب.
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا . (7) إنما المؤمنون إخوة
في هذا الوقت الذي يضع فيه كل فلسطيني وعربي ومسلم يده على قلبه وأنظاره إلى القاهرة لمعرفة نتيجة الحوار الفلسطيني الفلسطيني، خاصة بين فتح وحماس تستدعي الثقافة الوطنية مع مفاهيم الصلح والخصام مفهوم الأخوة، فقد ورد لفظ «أخ» بكل مشتقاته في القرآن الكريم ستا وتسعين مرة أي إنه موضوع رئيسي. بل إن اللفظ يتردد أكثر من لفظي «صالح» و«خاصم».
ويرد لفظ «الأخ» إيجابا بستة معان:
الأول:
أخوة النبي لقومه. فالنبي أخ لبني قومه،
وإلى عاد أخاهم هودا ،
وإلى ثمود أخاهم صالحا ،
وإلى مدين أخاهم شعيبا ،
إذ قال لهم أخوهم نوح ،
إذ قال لهم أخوهم لوط . فالنبوة أخوة، والأخوة من النبوة. والإخوة والأنبياء لا يتقاتلون بل يتكاملون. والنبوة نموذج للسلوك الفاضل.
والثاني:
الأخوة للنبي مثل أخوة هارون لموسى. يخلفه من بعده حتى يعود موسى من تعبده في سيناء. ويغضب منه عندما يجد قومه قد عادوا إلى عبادة العجل. وأخو النبي نبي مثله،
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا . وأحيانا يسمى وزيرا،
ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا . ولكل آيات وسلطان،
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين . وقد دعيا كلاهما إلى السكن بمصر،
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر بيوتا . ولما استخلف موسى أخاه،
وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي
عصاه قومه ولم يستطع هارون الحفاظ على إيمانهم فعبدوا العجل، وعاد موسى غاضبا وأخذ بلحية أخيه وألقى الألواح التي دونت بها التوراة،
وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه . فبنو إسرائيل يعصون الأنبياء ويعودون إلى طبيعتهم الوثنية إذا ما تركهم النبي أو توفي.
والثالث:
أخوة المؤمنين جميعا بعضهم لبعض،
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، فلا يجوز الخصام بينهم. ولا يجوز الفصال والقطيعة، هؤلاء في الضفة وهؤلاء في القطاع،
وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح . والله يساعدهم، وينزع ما في قلوبهم من غل،
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين . ويؤلف بينهم،
فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .
والرابع:
الأخوة علامة الإيمان حتى بعد الكفر والتوبة،
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم . فالإيمان مقياس الأخوة وليس المصلحة أو السلطة أو الثروة أو الاحتجاج والتذرع بالضعف والموازين الدولية،
الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، أو القعود بدعوى الإعاقة،
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا
أو النفاق وتناقض القول والعمل،
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا .
والخامس:
لا فرق بين الإخوة في الجنس، ذكر أم أنثى. فالأخت مثل الأخ، مثل أخت هارون أي مريم،
يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا . وتسير أخت موسى لترشد القوم على من يكفل الطفل،
إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله .
والسادس:
الأخوة في الميراث. فالأسرة واحدة. والإخوة، ذكرا أم أنثى، من نظام القرابة. فلكل منهما نصيب من تركة الأب،
وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس
وكذلك بنات الأخ وبنات الأخت. ومع الميراث الزواج، وعدم جواز الجمع بين الأختين، وتحريم الأمهات والبنات. فالأخوة رابطة طبيعية تسبق المصاهرة.
ويفيد لفظ الأخ سلبيا أيضا بستة معان:
الأول:
ما فعله قابيل بأخيه هابيل بقتله غيرة وحسدا وهو ما يحدث أحيانا بين الفلسطينيين من فتح وحماس،
فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين . بل إنه لم يشعر بضرورة مواراته التراب كما فعل الغراب،
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه . وربما هذه الخطيئة الثانية قتل الأخ لأخيه أهم من الخطيئة الأولى، الأكل من الشجرة المحرمة.
والثاني:
عداوة إخوة يوسف ليوسف وكراهيتهم له لمحبة أبيه له،
إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا ، ووضعه في البئر ثم إنقاذه وبيعه إلى منزل فرعون، ثم اتهام إخوته لأخيه الثاني بالسرقة،
قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . فقد نزغ الشيطان بين يوسف وإخوته،
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي .
والثالث:
الجشع، رغبة ممن له تسع وتسعون نعجة أن يستولي على نعجة أخيه الواحدة،
إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة . الأخوة تعني المشاركة والمساواة، والعطاء وليس الأخذ، والكثير يذهب إلى القليل، وليس القليل الذي يذهب إلى الكثير.
والرابع:
غيبة الأخ لأخيه أو التعريض به علنا في أجهزة الإعلام وتشويه صورته
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، وإعطاء الأولوية للخلاف بين الإخوة على الاتفاق بينهم، ونسيان أن بين الإخوة هناك حقا موضوعيا، يرمز إليه الإيمان بالعقيدة والوحي والعمل الصالح.
والخامس:
إخوان الشياطين الذين يفرقون أكثر مما يجمعون، وينفرون أكثر مما يوحدون والذين يبذرون في ثروات الأوطان بدلا من المحافظة عليها،
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين
هم الذين يجعلون الشيطان فيما بينهم وليس الحق أو الأخوة في الدين،
فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم .
والسادس:
الكافرون والمخادعون الذين يفضلون الحزب على الحق، والفصيلة على الوطن،
لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، وسماع صوت الأخ مشروط بسماع صوت الحق،
وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون .
ومع ذلك على كل أخ مسئولية فردية،
يوم يفر المرء من أخيه ،
وصاحبته وأخيه . فلا ذريعة بالجماعة أو المذهب أو الطائفة. إن هذه الأخوة تمنع من الخلافات القطرية في فلسطين والعراق والسودان ولبنان والصومال واليمن كما تمنع من الخلافات العربية وسياسة المحاور بين مصر والسعودية والأردن والمغرب من ناحية وسوريا وحزب الله وإيران من ناحية أخرى. الأخوة تآلف وتوحد، والمحاور تفرق وصراع. الأخوة من الله، والتنازع من الشيطان.
نامعلوم صفحہ