وأقول: أخرج البخارى حديث جابر فى تفسير سورة المدثر من طرق فى بعضها: أن أولها هو أول ما أنزل مطلقا وفى البعض الآخر أنها من حديث النبى ﷺ عن فترة الوحى كالتى هنا، وقد عبّر ﷺ عن رعبه من رؤية الملك بقوله: (فجئثت منه رعبا) وفى رواية أخرى: (فجئثت منه حتى وهيت إلى الأرض)، أى فزعت وخفت وهو بضم الجيم وكسر الهمزة بالبناء للمفعول.
هذا هو المعتمد عند المحدثين فى أول ما نزل من القرآن، والمشهور أنه نزل بعد أول المدثر سورة المزمل تامة وبعدها بقية سورة المدثر؛ وقال مجاهد: أول ما نزل سورة (ن والقلم) وهو غلط، وروى عن علىّ كرم الله وجهه أن أول ما نزل سورة الفاتحة واعتمده شيخنا فى توجيه كونها فاتحة الكتاب، ويمكن أن يراد أنها أول سورة تامة نزلت بعد بدء الوحى بالتمهيد التكوينى، ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالى، وتلاها فرض الصلاة ونزول سورة المزمّل أو نزلتا فى وقت واحد.
وسيأتى كلام آخر فى فترة الوحى وأول ما نزل بعده.
_________
السورة دفعة واحدة- وتارة تنزل الآيات المتفرقة، وقد يكون بين ذلك فترات قصيرة، كالذى ورد فى سبب نزول سورة الضحى. وقد اختلط الأمر فى هذا على درمنغام فظن أنها هى التى نزلت بعد فترة الوحى، والمروى أنه نزل قبلها بضع سور. وكان سبب نزولها كما فى الصحيحين من حديث جندب بن سفيان أن النبى ﷺ اشتكى (أى وجع) فلم يقم ليلتين أو ثلاثا (أى إلى تهجده وتلاوته) فقالت: امرأة: يا محمد إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله ﷿:
وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: ١ - ٣] أ. هـ. تقرأ «ودعك» بالتشديد والتخفيف ومعناهما واحد وهو الترك، والقلى بالكسر والقصر: البغض، أى ما تركك ربك وما أبغضك، وهذه المرأة أم جميل امرأة أبى لهب وبنت أبى سفيان كما رواه الحاكم عن زيد بن أرقم، وكان هذا بعد نزول سورة (تبت يدا أبى لهب)، وروى ابن جرير من طريقين مرسلين أن جبريل أبطأ على النبى ﷺ، فجزع جزعا شديدا، فقالت خديجة: إنى أرى ربك قد قلاك مما يرى من جزعك، فنزلت- ومعارضة رواية الصحيحة بهاته الرواية المرسلة تسقط اعتبارها، وإن جمع الحافظ بن حجر بينهما بأن خديجة قالت ما قالت توجعا، وحمالة الحطب قالته شماتة.
1 / 80