الفصل الثالث فى شبهة منكرى عالم الغيب على الوحى الإلهى وتصويرهم لنبوة محمّد ﷺ بما يسمونه الوحى النفسى
خلاصة رأى هؤلاء الماديين: أن الوحى إلهام كان يفيض من نفس النبى الموحى إليه لا من الخارج، ذلك أن منازع نفسه العالية وسريرته الطاهرة، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة، يكون لها فى جملتها من التأثير ما يتجلى فى ذهنه ويحدث فى عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه إرشادا إلهيا نازلا عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثل له رجل يلقنه ذلك يعتقد أنه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك، وإنما يرى ويسمع ما يعتقده فى اليقظة، كما يرى ويسمع مثل ذلك فى المنام الذى هو مظهر من مظاهر الوحى عند جميع الأنبياء، فكل ما يخبر به النبى كلام ألقى فى روعه، أو عن ملك ألقاه على سمعه، فهو خبر صادق عنده.
يقول هؤلاء الماديون: نحن لا نشكّ فى صدق محمد فى خبره عما رأى وسمع وإنما نقول: إنّ منبع ذلك من نفسه، وليس فيه شىء جاء من عالم الغيب الذى يقال إنه رأى عالم المادة والطبيعة، الذى يعرفه جميع النّاس؛ فإنّ هذا (الغيب) شىء لم يثبت عندنا وجوده، كما أنّه لم يثبت عندنا ما ينفيه ويلحقه بالمحال، وإنما تفسير الظواهر غير المعتادة بما عرفنا وثبت عندنا دون ما لم يثبت.
ويضربون مثلا لهذا الوحى: قصة «جان دارك» الفتاة الفرنسية التى قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن، وهذا التصوير الذى يصوّرون به ظاهرة الوحى قد سرت شبهته إلى كثير من المسلمين المرتابين الذين يقلدون هؤلاء الماديين فى نظرياتهم المادية أو يقتنعون بها.
وإننى أفتتح الكلام فى إبطال هذه الصورة الخيالية بالكلام على (جان دارك) فقد ألقى إلى سؤال عنها نشرته مع الجواب عنه فى صفحة ٧٨٨ من المجلد السادس من المنار (سنة ١٣٢١) وهذا نصه:
1 / 59