وكنت أتصور أن بغداد لا تزال فيها بقايا من تقاليد الزخرف البراق الذي عرفه الخلفاء، فوجدتها مدينة لا تعرف غير خشونة الحقائق، ورأيت الوزراء مجتمعين في قصر ساذج لا يعرف معنى للتصاوير والتهاويل التي تعرفها بعض القصور في بعض الحكومات، وقد دهشت حين زرت وزير المعارف، وكان أول من رأيت من الرجال يوم وصلت إلى بغداد، فقد رأيتني أمام وزير المعارف فقط أمام المنطق والعقل، ولم أر في غرفته شيئا يدل على ذوق الترف في فهم المعاش، وكذلك كان الحال حين زرت رئيس الوزراء، فقد رأيتني أواجه رجلا يمثل أدب النفس، وذلك كل حلاه وهو رئيس الوزراء.
وكذلك يمكن الحكم بأن دور الحكومة في بغداد هي مواطن أعمال لا مواطن استقبال.
كنت أتصور بغداد قد تأثرت بالمدنية الحديثة فأصبحت كالقاهرة فيها حي قديم وحي جديد، فلما وقعت عيني عليها رأيتها مدينة شرقية من جميع النواحي، ورأيتها لم تأخذ من المدنية الحديثة غير الإضاءة، وتوزيع الماء على البيوت، وفيما عدا ذلك تعيش بغداد عيشة القاهرة قبل جيلين، فتجد فيها الأسواق والخانات على نحو ما كانت القاهرة في عهد المماليك، والشبه كبير جدا بين سوق الفحامين في القاهرة وسوق الشورجة في بغداد، ولا أكتم القارئ أن بغداد تفتنني من هذه الناحية أشد الفتون، ففي أسواقها ملهاة للنظر والذوق، وفي خاناتها تذكير بأحاديث «ألف ليلة وليلة» وفي مساجدها العتيقة ما يذكر بدعابات أبي الفتح في مقامات بديع الزمان.
وقد ثارت نفسي ثورة عنيفة يوم رأيت بغداد، وهممت بأن أقترح على رئيس الحكومة العراقية هدم هذه المدينة وبناءها من جديد، ولكن لم تمض أيام حتى رأيت التطور يأخذ مجراه، فقد شرع الناس في الهجرة إلى الضواحي وأخذوا يشيدون منازل جديدة على الطراز الحديث، فإن زرتم بغداد بعد عشرين عاما فسترونها كالقاهرة تنقسم إلى قسمين عظيمين: قسم جديد، وقسم حديث.
على أنني أصبحت أتمنى أن لا تبيد بغداد القديمة، فلأسواقها جاذبية، ولدروبها الضيقة ملامح من الحسن الأصيل، وهي فوق ذلك صورة من المدينة الشرقية التي يحرص عليها أستاذنا الدكتور منصور فهمي أشد الحرص، ويتمنى لو يعود إليها الشرقيون أجمعون!
وكنت أتصور دجلة نهرا صغيرا لم يأخذ عظمته إلا بفضل أخيلة الشعراء، فلما رأيته أخذت مني الروعة كل ما أخذ، وتمنيت لو جاء شعراء مصر فرأوه وعرفوا أن في الدنيا نهرا يشابه نهر النيل، إن دجلة هائل جدا، وهو حين يساير بغداد يقرب من النيل في الاتساع، ولا يمتاز عليه النيل إلا بمزية واحدة هي قوة تدفق الماء، أما دجلة فله مزايا كثيرة أظهرها قيام النخيل على جانبيه، وحرص أهل بغداد على إقامة المنازل والشرفات بحيث تواجه منظره الجميل.
وقد بحثت عن الجسر الذي قال فيه ابن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
نامعلوم صفحہ