وعلى ذلك بادر جيلبير فأحضر كل ما طلبته، ثم عاد إلي مسرعا فتناولت القلم والقرطاس، وكتبت إلى زوجي راعول كتابا ضافيا أظهرت له فيه كل ما أوقعه علي من الإساءة والأذى، وأخبرته بأني مع كل ذلك أسامحه بذنوبه وآثامه إذا أحسن التصرف من الآن فصاعدا واعتنى بتربية ولدي الصغيرين وبذل جهده في كل ما يعود عليهما بالخير والسعادة في المستقبل، وأما أنا فقد كفاني ما ذقته من مرارة الذل والتعذيب؛ ولذا عزمت على ترك هذه الحياة غير آسفة عليها، وإني أوصيه بأن ينهج سبيل الرشد والهدى ولا يلقي بنفسه بعد الآن في مهاوي الردى، ثم أمضيت الرسالة وطويتها وانتظرت رجوع راعول حتى أسلمها له.
الفصل الرابع عشر
وفي الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم فتح الباب ودخل جيلبير ومعه أخوه روبير فهرعت إليهما وطفقت أقبلهما بحنو والدي وشفقة فائقة؛ لأني كنت أريد أن أودعهما وأزودهما النظرة الأخيرة، قبل أن أنتحر وأغادر هذه الحياة المرة.
أما جيلبير؛ فإنه لما شاهد مني هذا الانقباض العظيم والارتباك الشديد تعجب غاية العجب، ودنا إلي فانطرح بين ذراعي وسألني بلهفة: ما لك تبكين يا أماه؟ وما لي أرى الحزن متسلطا عليك أكثر من العادة؟ فأجبته: ليس بي حزن يا ولدي، ولكني أشعر بتوعك لا أعلم له سببا.
قال: لقد صدقت يا أماه؛ فإن اصفرار وجهك وارتجاف صوتك يدلان على ذلك، وقد تكدرت كثيرا لأنك لم تذوقي الطعام الذي أحضرته لك، فأواه كيف تكون حالتنا إذا قدر علينا أن تموتي وتتركينا وحدنا، حقا إني لا أستطيع البقاء بعدك، وقد فكرت في هذا الأمر قبل الآن وعزمت على أن ألحقك إلى عالم الأموات إذا اختطفتك يد المنون وأقتل نفسي بيدي إذا لزم الحال؛ لأني لا أحب شخصا في الدنيا أكثر منك يا أماه. قال روبير: وأنا أفعل مثل أخي أيضا إذا حرمت رؤيتك يا أماه. قلت: دعا عنكما هذه الأوهام يا ولدي؛ فإنكما الآن في مقتبل العمر، ولا بد لكما أن تعيشا كثيرا وتعمرا طويلا، ومن كان مثلكما يجب أن ينسى كل تلك المصاعب والأتعاب الآن.
أجاب جيلبير: حقا، إن من كان مثلنا يا أماه يحتاج إلى والدة شفوقة مثلك تعتني بأمرنا وتغمرنا بحنانها ومحبتها.
فلما سمعت هذا الكلام خارت عزائمي ووهنت قواي، ولم أتمالك عن البكاء، ورأيت أني لا أعيش لنفسي حتى أفعل ما أشاء، وأن العدل الإلهي ينتقم مني إذا تسببت في قتل نفس، بل نفوس حية حرم الله قتلها، وعندئذ تناولت الكتاب الذي كتبته لزوجي فمزقته، ثم قبضت بيدي على ولدي الصغيرين، ونزلت إلى الحجرة التي كان جالسا بها ذلك الوحش الضاري؛ فإذا به قد اتكأ مائدة بجانبه وهو يدخن بغليونه وأمامه زجاجة خمر كبيرة، فلما رآني مقبلة عليه أجر مطارف الذل والخضوع تبسم تبسم الدهاء والمكر، حتى إذا صرت على مقربة منه نظر إلي محملقا وقال متهكما: يظهر يا سيدتي أن بقاءك داخل الغرف وتحت سقوف البيوت يضر بصحتك كثيرا؛ لأنك تعودت المعيشة في الخلاء واستنشاق هواء الصحراء حتى أني أرى وجهك قد أكمد وعلاه الاصفرار، ولكن لا تلومي إلا نفسك؛ لأنك أنت التي جلبت عليها كل هذا الشقاء بسبب عنادك وسوء تصرفك.
وهو جالس يدخن بغليونه وأمامه زجاجة خمر.
قلت: ليس يا مولاي هذا وقت التوبيخ أو العتاب؛ فالذي مضى قد مضى وانقضى، ونحن نريد أن تنظر الآن إلى ما هو آت.
قال: وماذا تبتغين مني الآن؟
نامعلوم صفحہ