وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
ومن ثم فإن عبارة «خطأ مشهور» شأنها شأن «مربع مستدير» ... تناقض ذاتي! فإذا ما وجدت الخطأ المشهور أكثر جمالا ووضوحا وإبانة، فاعلم أن شهرته مشروعة مستحقة: الجمال والوضوح والإبانة. وماذا يكون «الصواب» أكثر من ذلك؟! «خطأ مشهور» هي ذاتها خطأ مشهور!
حين تشيع مجاوزة لغوية وتنشر رايتها على الألسنة يتحول عنصرها وتتبدل صفتها وتأخذ رتبة «قاعدة»؛ قاعدة لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق. وما كان لهذه «المخالفة» أن تبسط سلطانها لو لم تكن تقدم فكرا وتحقق وصلا وتسد فراغا وتثبت نجاعة. لقد تمت لها «المواضعة»
convention
فصارت من ثم «لغة»، ومن السفه أن نتنازل عنها بدعوى قل ولا تقل! وهل اللغة إلا «مواضعة» جدت - على رسلها - لتحقيق التواصل بعد أن كانت وسيلة التواصل فأفأة و«قاعدته» صراخا و«نحوه» صفيرا ونخيرا. هل اللغة إلا ذاك «الخروج» على الصراخ والمروق من الحبسة؟ وإذا كان الخطأ هو خروج عن المتبع وتململ عن المستقر؛ فاللغة بقضها وقضيضها هي بهذا المعنى خطأ مشهور، وإن امتاز عن غيره من الأخطاء بأنه خطأ كبير ... بحجم العالم. •••
ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يملي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا قنعت بأن اللغة عرف اجتماعي اتفاقي، فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح. أما إذا امتلأت بأنها ماهية مقدرة و«توقيف» إلهي
50
فسوف تصطنع في دراستها القاعدة الصارمة والمعيار الملزم، وسوف تتحول إلى شرطي لغوي وإرهابي نحوي!
ولكن ما احتيالك فيمن شرع في بحثه اللغوي وقد وقر في قلبه أن اللغة ماهية ثابتة وتوقيف إلهي أو وضع حكماء أو سليقة سحرية؟ إنه مدفوع بأحسن نية إلى حفظها والذود عنها ضد أي تحول أو تغير. ومدفوع إلى فرض قواعدها الموروثة بلا هوادة. ومدفوع إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه الظواهر اللغوية التي لم تأت عبثا ولم تنشأ اعتباطا. يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة الله فيما صنعه» (التوقيف). ويقول سيبويه: «وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها» (حكمة العرب).
إنما اللغة ملك مستخدميها، اللغة لمن ينطقها، لمن يتواصل بها، والصواب هو الصواب التواصلي، والتغير اللغوي نفسه ضرب من القول، يترجم البيئة القائمة، ويعكس الثقافة الراهنة، ويشفر الخبرة الجديدة. وعلى منظري اللغة أن يلاحقوا الكلمة المنطوقة ويتأقلموا معها لا العكس ... أن يصفوها لا أن يحاكموها! ولو كان شكسبير قد اتبع مبدأ قل ولا تقل لما أرفد الإنجليزية بفيض من التعبيرات الجريئة والألفاظ المبتكرة تحفظ رمقها وتجدد دماءها، مثل:
eyeball, obscene, hot-blooded, epileptic, alligator ... etc. . •••
نامعلوم صفحہ