وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
حجة تؤسس صدق نظرية ما مرة وإلى الأبد. (أما الذي قد يحدث فهو تفنيدات النظريات العلمية). ومن الجهة الأخرى فإن الرياضيات البحتة والمنطق - اللذين يسمحان بالبراهين - لا يقدمان لنا معلومات عن العالم، بل يطوران فحسب وسائل وصفه. بذلك يسعنا أن نقول (كما أشرت في موضع آخر): «بقدر ما تشير الجمل العلمية إلى عالم التجربة يتعين عليها أن تكون قابلة للدحض، وبقدر ما تكون غير قابلة للدحض، فإنها لا تشير إلى عالم التجربة.» ولكن على الرغم من أن البرهان لا يلعب أي دور في العلوم الإمبيريقية فما تزال الحجة تلعب دورا، بل إن دورها مساو في الأهمية على أقل تقدير للدور الذي تلعبه الملاحظة والتجربة.
كما أن دور التعريفات في العلم بخاصة مختلف تماما عما كان يقر في ذهن أرسطو. كان أرسطو يعلم أننا في التعريف نشير أولا إلى الماهية بتسميتها ثم نصفها تماما كما في جملة عادية مثل: «هذا الجرو بني اللون.» نحن نشير أولا إلى شيء معين بقولنا: «هذا الجرو»، ثم نصفه بأنه «بني اللون». وكان يعلم أننا بوصفنا هكذا للماهية التي يشير إليها الحد المعرف فنحن نحدد أيضا أو نفسر «معنى» الحد. يعني ذلك أن التعريف قد يجيب في وقت واحد عن سؤالين مرتبطين أشد الارتباط: السؤال الأول هو «ما هو؟» مثلا: «ما هو الجرو؟» وهو يسأل: ما هي الماهية التي يشير إليها الحد المعرف؟ والسؤال الثاني هو «ماذا تعني؟» مثلا: «ماذا تعني لفظة «جرو»؟» وهو يطلب معنى حد ما (أي معنى الحد الذي يشير إلى الماهية). وليس من الضروري في السياق الحالي أن نميز بين هذين السؤالين. أما المهم فهو أن نرى ما يتشاركان فيه، وأود بخاصة أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن كلا السؤالين يطرحهما الحد الذي يقع في التعريف على الجانب الأيسر (الأيمن في اللغة العربية)، وتجيب عنهما الصيغة المعرفة التي تقع على الجانب الأيمن (الأيسر في العربية). هذه الحقيقة تميز وجهة النظر الماهوية التي يختلف عنها المنهج العلمي للتعريف اختلافا جذريا .
فبينما يمكننا القول بأن التأويل الماهوي يقرأ التعريف «اعتياديا»؛ أي من اليسار إلى اليمين (العكس في العربية)، فإن بوسعنا القول بأن التعريف العلمي يجب أن يقرأ من الخلف إلى الأمام، أو من اليمين إلى اليسار (العكس في العربية)؛ لأنه يبدأ بالصيغة المعرفة ويطلب تسمية قصيرة لها. بذلك تكون النظرة العلمية للتعريف «الجرو هو كلب صغير» أنه جواب عن السؤال: «ماذا سنسمي الكلب الصغير؟» وليس جواب السؤال: «ما هو الجرو؟» (إن أسئلة من قبيل «ما هي الحياة؟» أو «ما هي الجاذبية؟» هي أسئلة لا تلعب أي دور في العلم). هذه النظرة العلمية للتعريف التي تتسم بالمقاربة «من اليمين إلى اليسار» (العكس في العربية) يمكن أن نطلق عليها تأويله «الاسمي»
nominalist ، كمقابل لتأويله الأرسطي أو «الماهوي»
essentialist . في العلم ليس ثمة إلا تعريفات اسمية؛ أي إدخال رموز أو تسميات اختزالية من أجل اختصار قصة طويلة. من هذا يمكننا أن نرى للتو أن التعريفات لا تلعب أي دور بالغ الأهمية في العلم؛ ذلك أن الرموز الاختزالية - بطبيعة الحال - يمكن دائما أن يستبدل بها التعبيرات الأطول، الصيغ المعرفة التي ترمز إليها هذه الرموز. من شأن هذا أن يجعل لغتنا العلمية شديدة البطء في بعض الحالات، وأن يهدر الوقت والورق؛ غير أننا لن نفقد أبدا مثقال ذرة من المعلومات الوقائعية. إن «المعرفة العلمية»
scientific knowledge - بالمعنى القويم لهذا المصطلح - تظل دون أدنى مساس إذا ما استبعدنا جميع التعريفات. الشيء الوحيد الذي يتأثر هو لغتنا التي ستفقد لا نقول الدقة بل الإيجاز فحسب (ليس يعني ذلك أنه لا يمكن في العلم أن تكون ثمة حاجة عملية ملحة إلى إدخال تعريفات من أجل الإيجاز). هذه النظرة للدور الذي تلعبه التعريفات تقف على النقيض التام من نظرة أرسطو؛ فالتعريفات الماهوية عند أرسطو هي المبادئ التي تستمد منها معرفتنا كلها؛ فهي بذلك تتضمن كل معرفتنا، وهي تعمل على أن تستبدل بالصيغة الطويلة صيغة أقصر. أما التعريفات العلمية أو الاسمية فهي على النقيض من ذلك لا تحتوي على أي معرفة كانت، ولا حتى أي «رأي»
opinion ، وكل ما تعمله هو إدخال تسميات مختزلة اعتسافية جديدة، إنها تختصر رواية طويلة.
لهذه التسميات أعظم النفع في الممارسة، ويكفينا لكي ندرك ذلك أن نتأمل المصاعب الشديدة التي ستعرض إذا كان على عالم بكتريا كلما تحدث عن سلالة معينة من البكتريا أن يكرر وصفها كله (بما فيه طرائق الصباغة إلخ التي تميزها عن عدد من الأنواع الشبيهة). ولعلنا نفهم أيضا - بتأمل مماثل لذلك: لماذا أغفل كثيرا جدا - حتى من جانب العلماء - أن التعريفات العلمية يجب أن تقرأ «من اليمين إلى اليسار» (العكس في العربية) مثلما أوضحنا آنفا؛ ذلك أن معظم الأشخاص عندما يدرسون علما ما - وليكن البكتريولوجيا - للمرة الأولى يجب أن يحاولوا كشف معاني كل هذه المصطلحات الفنية التي تصادفهم. وهم بهذه الطريقة - في حقيقة الأمر - يتعلمون التعريف «من اليسار إلى اليمين»، كما لو كان تعريفا ماهويا، مستعيضين عن رواية طويلة جدا بأخرى قصيرة جدا؛ غير أن هذا مجرد عرض سيكولوجي، وقد يمضي معلم أو مؤلف كتاب دراسي حقا بطريقة مختلفة تماما، بمعنى أنه قد لا يدخل أي مصطلح فني إلا بعد أن تعرض له الحاجة لهذا المصطلح.
لقد حاولت حتى الآن أن أبين أن الاستخدام العلمي أو الاسمي للتعريفات مختلف تماما عن المنهج الماهوي لأرسطو في التعريفات. ولكن بالإمكان أيضا تبيان أن النظرة الماهوية في التعريفات هي ببساطة أمر مغلوط بحد ذاته. وسأكتفي - لكي لا أطيل هذا الاستطراد فوق ما ينبغي - بأن أنقد مذهبين فقط من المذاهب الماهوية، مذهبين لهما أهمية من حيث إن بعض المدارس الحديثة الذائعة لا تزال قائمة عليهما. الأول هو المذهب الخفي الخاص بالحدس الفكري، والآخر هو المذهب الشديد الرواج القائل بأننا يجب أن «نعرف مصطلحاتنا» إذا شئنا الدقة.
ذهب أرسطو مع أفلاطون إلى أننا نمتلك ملكة - هي الحدس الفكري - يمكننا بها أن نبصر الماهيات ونتحقق أي التعريفات هو الصحيح، وكثير من الماهويين المحدثين قد أعادوا هذا المذهب ، وذهب فلاسفة آخرون - مقتفين أثر كانت - إلى أننا لا نملك أي شيء من هذا القبيل. ورأيي أن بوسعنا أن نسلم طوعا بأننا نملك شيئا ما قد يوصف على أنه «حدس فكري»
نامعلوم صفحہ