وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
اصناف
الفصل الخامس
اللاماهوية عند كارل بوبر
كان كارل ريموند بوبر (1902-1994م) من أشد المناوئين لنزعة الماهية والرافضين لفكرة وجود «واقع نهائي» علينا أن نكتشفه ونفسر في ضوئه كل شيء آخر، في كتابه (المشترك) «النفس ودماغها» يعرض بوبر لعالم المثل الأفلاطونية فيقول: إن عالم المعقولات عند أفلاطون رغم شبهه بالعالم 3 عند بوبر، فإنه شديد الاختلاف عنه من نواح كثيرة، فهو يتكون مما أسماه «الصور»
forms ، أو «الأفكار/المثل»
ideas ، أو «الماهيات»
essences ؛ أي الأشياء التي تشير إليها المفاهيم أو الأفكار العامة. وأهم الماهيات في عالم الصور أو الأفكار المعقولة عند أفلاطون هي «الخير» و«الجمال» و«العدالة». وهو يتصور هذه الأفكار على أنها ثابتة، ولا زمنية أو «أزلية»، ومن مصدر إلهي. وعلى خلاف ذلك فإن العالم 3 عند بوبر هو صنيعة الإنسان من حيث مصدره (رغم استقلاله الجزئي). وهو رأي كان كفيلا أن يمثل صدمة لأفلاطون. يقول بوبر: «بينما أؤكد على وجود أشياء العالم 3، فأنا لا أعتقد أن الماهيات لها وجود، بمعنى أنني لا أسبغ أي وضع على الموضوعات أو المسميات الخاصة بمفاهيمنا أو أفكارنا. إن التأملات النظرية في الطبيعة الحقيقية أو التعريف الحقيقي للخير أو للعدالة؛ تؤدي - في رأيي - إلى مماحكات لفظية وعلينا اجتنابها؛ فأنا من المناهضين لما أسميته «نزعة الماهية»
essentialism ... لقد وصف أفلاطون عملية فهم الصور أو الأفكار على أنها نوع من الرؤية . إن عيننا العقلية (النوس، العقل)، «عين الروح»، قد وهبت حدسا فكريا وبوسعها أن «ترى» الفكرة أو الماهية أو الشيء الذي ينتمي إلى عالم المعقولات. وما إن نتمكن من أن نراه - أن نفهمه - فإننا نعرف هذه الماهية، نستطيع أن نراها «في ضوء الحقيقة». هذا الحدس الفكري متى يتم الوصول إليه فهو معصوم من الخطأ.»
يذهب بوبر إلى أن هناك شيئا من قبيل الحدس الفكري ولكنه يؤكد أنه بعيد عن المعصومية، وأنه يخطئ أكثر مما يصيب. ويذهب إلى أننا لا نملك شيئا من قبيل «عين العقل» أو عضو الإحساس الفكري، رغم أننا قد اكتسبنا ملكة - شيئا ما أشبه بعضو - للجدل أو الاستدلال. ويرى أننا نفهم موضوعات العالم 3 من خلال عملية صنعها أو إعادة خلقها، وهي قدرة تنتج عن الممارسة؛ فنحن نتعلم بالممارسة وليس بالتأمل المباشر، نتعلم بالإسهام النشط، نتعلم كيف نصنع موضوعات العالم 3 وكيف نفهمها وكيف نراها.
1
كان بوبر يكره أسئلة «ما هو؟ ما هي الجاذبية؟ ما هي الحياة؟ ... إلخ». إن أسئلة من هذا القبيل هي أسئلة لا يرجى منها أن تصنع تقدما في العلم، مثلما أن «ما هي الحرية؟ ما هي العدالة؟ ... إلخ» لا تصنع تقدما في السياسة. مثل هذه المحاولات شبه السحرية لحبس ماهية الواقع في تعريف هو ما حدا ببوبر إلى أن يدرجها تحت تصنيف «الماهوية». ومن طبيعة هذا المدخل الماهوي في السياسة أن يؤدي إلى اليوتوبية والصراع المذهبي. أما الأسئلة الأكثر أصالة وجدوى فهي أسئلة من قبيل: «ماذا ينبغي علينا أن نفعل في هذه الظروف؟» «ما هي مقترحاتك؟» ... فإجابات مثل هذه الأسئلة يمكن أن تناقش وتنقد بطريقة مثمرة، فإذا صمدت لذلك فهي جديرة بأن نجربها عمليا؛ فالعمل الأجدى في السياسة - كما في العلم - ليس تحليل المفاهيم بل التمحيص النقدي للنظريات وتعريضها لاختبار التجربة.
نامعلوم صفحہ