اكتب وانا أملي
قلت الهوان مكتوب!
ولا أذكر إن كان اللحن من مقام «العجم» (لأنني أعزفه من سلم دو الكبير) أم أن به «مي» نصف بيمول، وربما يكون من مقام البيات، وكانت المطربة الكبيرة تتمايل وتتشخلع وهي تؤدي الأغنية، وكان أداؤها يبعث على الضحك، وكنت آنذاك أذكر قول جدتي «الشايب لما يدلع، زي الباب لما يتخلع!» ولجدتي أقوال أخرى في هذا الباب فكانت تقول عن أم كلثوم وغيرها من المطربات: «أخذت الصحيح وأعطتهم الريح» أي إنها نالت النقود ولم تعط السامعين شيئا! وعلى أي حال فقد استمتعت بفكرة الكباريه نفسها، خصوصا جو الأضواء الخافتة في الصالة، ومنظر البلطجية الواقفين على الأبواب! وبعد انتهاء العرض، أنزلت الستار، ورحل البعض، بينما اقترح «معم» أن نشرب «شمبانيا»، وإلا فما معنى الكباريه. وأين النساء؟
وذهب ثلاثتنا إلى «لوج» جانبي، وهو ركن من أركان كثيرة على جوانب الصالة، ولمحت بطرف عيني وأنا أدلف إليه ضابط شرطة كبيرا أعرفه خير المعرفة، وكان يجلس بجثته الضخمة وكرشه الهائل في مقعد وثير ذي مساند، وحوله ثلاث فتيات. كان متزوجا من خالة أحد أصدقائي، وكان له سبعة أبناء، أحدهم طبيب حديث التخرج كنت لا أتردد في استشارته عندما أصاب بالتهاب في الحلق أو في القولون! وعلى الفور جاءت ثلاث فتيات فجلسن معنا، وتبينت من ملامح إحداهن أنها كانت الراقصة التي صاحبت المطربة المشهورة، وبمجرد جلوسهن جاء النادل فقالت الراقصة هات لنا شمبانيا! وسمعت الصوت الداخلي يصيح في أعماقي: هذا هو الكباريه إذن! وهذه هي الشمبانيا! نحن في مشهد سينمائي ولكن أين فريد شوقي؟ وسألتها في حذر (فأنا أمين الصندوق) كم سعر الكأس؟ وأجابت: خمسين قرش! ولم أعلق. وعندما جاءت المشروبات وذقتها كنت متأكدا أنها مشروبات غازية عادية، ولكنني دفعت ثلاثة جنيهات للنادل، أخذها وانصرف.
وسرعان ما أدركت إحداهن أن «رئيس» الشلة هو «معم»، فهو الذي يأمر بالإنفاق، فجلست إلى جواره على الأريكة، وأتاحت له أن يرى بعض ما كان يرجوه، بل وأن يلمس بعض ما كان ينشده، وعلى الفور أمرني بطلب المزيد من «الشمبانيا»، وتنبه ماهر إلى «اللعبة» فحذره وحذرني، ولكن «معم» كان قاطعا حاسما، بل ومنفعلا، فطلبنا المزيد والمزيد، وبدأت أحس بالخداع، ولم يعد يروقني ما يحدث فبدأت الحوار مع الفتاة التي كانت تجالسني فصارحتني بأن شكوكي صحيحة، وأن أثمان التذاكر لا تكفي لتغطية نفقات المحل، ولا بد من حيلة «الشمبانيا» لكسب المال. وسألتها عن الضابط الكبير فضحكت وقالت إنه شخص مهم ومفيد، دون أن تقول لي أي شيء عنه، ولم أشأ أن أفشي أنا السر، وأدركت منها أنه يسهر هنا مجانا؛ لأنه ينفع العاملين في الملهى في الحالات الحرجة، وأخيرا طلبت منها أن تحدثني بصراحة عما يشاع عن حياة اللهو والعربدة وصورة الكباريه في السينما، فقالت لي باقتضاب: إنها أم لثلاثة أطفال وإنها ترجو أن «أقرضها» خمسين قرشا من ميزانية السهرة وألا أفصح عنها لزميلتيها؛ فإن أصحاب الملهى لا يدفعون لها ما يكفي من المال، وأنها تخفي عن أطفالها حقيقة عملها الذي يجلب لها العار، وأنها تزعم في الحي الذي تقيم فيه أنها ممرضة، وأن لها اسما آخر يختلف تماما عن اسم الشهرة التي تظهر به في الملهى، وباختصار أظهرت نفسها في صورة الضحية البريئة للمجتمع القاسي، ولم أعرف هل أصدق ما أسمع أم أكذبه، ولكنني دفعت لها ما طلبته سرا، فأخفت الورقة في طيات ملابسها، وحينما رأيت أن «معم» قد اندمج مع زميلته إلى حد لا تسمح به الميزانية طلبت من ماهر أن يحمله على الانصراف. ونهض ثلاثتنا وانصرفنا.
وبعد يومين زارني «معم» وأخذ نقوده وانصرف، ولم أسمع عنه بعد ذلك؛ أي بعد رحيله إلى الكويت، وعندما عدت من إنجلترا عام 1975م كنت أسير في شارع جانبي متفرع من أحد الشوارع المطلة على ميدان الجيزة، فلمحته يسير وحده وناديته لكنه لم يسمع ندائي، وعندما انعطفت في حارة تابعته لكنه اختفى ولا أعرف أين ذهب حتى الآن.
ولم يكن «معم» إلا واحدا من زملاء الكلية الذين اختفوا من حياة القاهرة، وقدر لي أن أرى بعضهم في مناسبات غريبة، مثل شخص يدعى «الزغبي» (ولا أذكر اسمه الأول) قابلته بعد عودتي من إنجلترا وعاملته بحرارة، مستجيبا للحرارة التي استقبلني بها في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي عملت فيها بالترجمة، وفوجئت بعد قليل بأنه يعامل باعتباره رجلا من كبار رجال الأعمال الأمريكيين، وسألته ضاحكا: إنت بقيت مليونير؟ فرد ضاحكا: أنا بدأت مليونير! دلوقتي عندي بيزنيس بمئات الملايين، وإن شاء الله نستثمر في مصر! ولم أره بعد ذلك.
أما المليونير الآخر الذي ما فتئ يظهر ويختفي فهو منسي يوسف. وقصة منسي قصة لا تنسى. ففي يوم من أيام أكتوبر 1963م جاءنا فراش القسم بالكلية (عم علي رحمه الله) ليقول إن الدكتور منسي في انتظار طلبة الدراسات العليا. ولم أعرف أن أحدا في الكلية اسمه الدكتور منسي، فدفعني حب الاستطلاع إلى النهوض وذهبت إلى المكتبة فرأيت رجلا ربعة أسمر، يميل إلى الصلع، ويشبه رشاد رشدي إلى حد بعيد، وكان يجلس صامتا وألقيت عليه التحية فرد بالإنجليزية «هالو». وكان أول انطباع لي أنه أمريكي زنجي، مثل الأستاذ «بوس» (Boas)
الذي كان يدرس الأدب الأمريكي مع «بوب هاتش» (Bob Hatch)
للسنة الرابعة، ولكنني عرفت فيما بعد أنه مصري.
نامعلوم صفحہ