) أي هل معك نقود؟ وسمعنا الدكتور محمد صقر خفاجة ذات يوم نتحدث اللاتينية فقال معلقا: «دا لاتيني جيزاوي!» وكنت أحب أن أفيض في ذكر الخناقات حول اللغة اللاتينية معهم، والواقع أنها استمرت فترة حتى عثرت على زميل جديد في قسم اليوناني واللاتيني، يتسم بالتمكن التام من مادته ويعشق متابعة أصول الكلمات وتطورها مثلي، واسمه حمدي إبراهيم (الدكتور)، فكان هو ملاذي عند الخلاف، وقد دارت الأيام فالتقينا من جديد ونحن أساتذة، وهو حاليا عميد كلية الآداب بجامعتنا العريقة.
كان هؤلاء الأصدقاء جزءا لا يتجزأ من طليعة متعطشة للعلم، في مجتمع يمر بتحولات كبيرة، وكان يمكن أن أسترسل في قص ما سمعه عما صار إليه عبد المنعم حجاب مثلا وما فعله في أمريكا ثم في أوروبا، ولكن اختفاءه من الساحة حتى الآن يفرض علي الصمت - مثلما فعلت مع فريد صالح الذي اختفى من قسم الإنجليزي إلى الأبد. وقال قائل إنه عاد إلى اسكتلندا، ليقيم مع أسرة والدته، وإنه عمل محصل تذاكر في الأتوبيس الاسكتلندي، ثم ذهب إلى السعودية لتعليم الطلبة باعتباره من أبناء اللغة، دون نجاح، وقد رأيته ذات يوم في أواخر السبعينيات (أو خلت أنني رأيته) يسير بنشاط في دهاليز قسمنا. أين فريد صالح؟
وأما سيد الناصري فقد تخصص في التاريخ في جامعة لندن، وتقلد شتى المناصب الجامعية حتى أصبح رئيسا لقسم التاريخ بكلية الآداب لدينا، وكذلك أصبح نعيم اليافي رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق، وكان وما يزال يحمل أصدق الحب لمصر وللقاهرة، وقد قابله سمير سرحان أثناء مؤتمر في تونس، إبان أحلك أزمة سياسية بين القاهرة ودمشق (بسبب معاهدة الصلح مع إسرائيل)، وسمعه وهو يعارض من يشتم مصر، ويهب مدافعا عن القاهرة، وكان في ذلك ما فيه من مخاطر ومن مساءلات. وأما ماهر البطوطي فبعد أن عمل فترة ما في وزارة التعليم العالي، توفر على تعلم اللغة الإسبانية، فأصبح يجيدها إجادته للإنجليزية والفرنسية، ومن ثم عمل في المكتب التعليمي بمدريد فترة ما، ثم عاد إلى القاهرة، ثم اجتاز امتحان الترجمة بالأمم المتحدة، وبدأ العمل في نيويورك عام 1978م، وشغل عدة مناصب حتى أصبح رئيسا لتحرير المطبوعات العربية كلها في تلك المنظمة الدولية، وعكف في السنوات الأخيرة على الترجمة والتأليف فكتب كتبا عن لوركا ونيرودا وسيرة ذاتية مختصرة هي «عزلة النسر».
وربما كان من المناسب هنا أن أروي قصة زميل لنا سأشير إليه بحروف اسمه الأولى وهي «معم» فقط، زميل ماهر البطوطي وسمير سرحان في القسم، كان «معم» طموحا، وكان يشاركنا جلساتنا في «صان صوصي» بميدان الجيزة، وعندما تخرج حصل على عمل بالكويت، وعاد في صيف العام التالي «مدججا بالأموال» (وهو التعبير الذي أضحك أفراد الشلة جميعا). كان ذلك في صيف عام 1962م. والذي حدث أننا كنا نتراسل، وكان يحتفظ بخطاباتنا لما فيها من تعزية عن عزلته، وقرأ ذات يوم بعض قصائد في صحيفة من صحف الكويت، فقرر كتابة نقد عنها، وبعد أيام من نشر النقد، زار المدرسة التي يعمل بها وكيل وزارة المعارف (التربية) وسأل عن كاتب المقالات، وشحب لون «معم» وأحس بأن مصيره في الميزان، ولكنه عندما قابل وكيل الوزارة وجد منه عكس ما يخشى؛ إذ اتضح أنه هو صاحب تلك القصائد، وأن النقد الذي كتبه لاقى في نفسه هوى، ومن ثم كلفه الوكيل بالإشراف على النشاط الأدبي في المدرسة مقابل مبلغ نقدي كبير. أما الطريف في القصة فهو أن ذلك النقد كان لا يزيد عن مقتطفات من الرسائل التي كان يتلقاها منا! أما العبقرية التي أدهشتني فكانت تتجلى في تحويل فقرات كاملة من رسائلنا إلى نقد أدبي يمكن للجميع أن يقبلوه!
وعندما وصل «معم» بالمال، صارحني بأنه يخشى عليه ممن يعيش معهم؛ لأن أهله يريدون الاستيلاء على المال لتزويجه من عانس تكبره بأعوام كثيرة، ولا تتمتع بأي قسط من التعليم، وإن كانت «غضة بضة»، أو على حد تعبيره «أنثى فائرة»، ويبدو أنهم كانوا يدبرون زواجه منها بطريقة فيلم «الماضي المجهول»، حيث يدخل أخوها عليهما فيجدهما في خلوة فيصيح والسكين في يده «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى»، وبحيث يكون المخرج الأوحد هو عقد القران فورا، والاستيلاء على النقود. وهكذا جاء إلي بالمال ووضعه بنفسه في الدرج (درج مكتبي الكبير) واطمأن إليه ومضى. وكان يأتي كل يوم إلى المنزل (لا للاطمئنان إلى المال طبعا) فنجتمع أنا وهو وماهر البطوطي لتدبير «رسائل» نقدية أخرى، أي رسائل في نقد الشاعر وكيل الوزارة للحصول على المزيد من المال!
وذات يوم قال لي «معم» إن من حقنا الاحتفال بهذا النجاح بأن نذهب إلى كباريه مثل الذي نراه في السينما؛ لأنه لا يصح لشباب تخرجوا في الجامعة وتحقق لهم الثراء أن يحرموا متعة النساء ! وبالفعل قررنا الذهاب إلى الكباريه (ملهى فتحية أحمد بشارع الألفي) وكان التمويل كما يلي: خمسة جنيهات من ماهر، وعشرة جنيهات مني ومثلها من «معم»، وهنا قال «معم» إنه ما يزال مدينا لي بنحو ذلك المبلغ، وكنت أقرضته بعض المال أثناء استعداده للسفر، وكان قد اشترى لي قلما ذهبيا هو باركر 61 (ما يزال لدي حتى الآن) وتصورت أن في ذلك سدادا للدين، ولكنه أصر على أن يتولى هو الإنفاق على ليلة الكباريه ففتحت الدرج وسحبت منه عشرين جنيها ووضعتها في جيبي، وانطلقنا في المساء.
كان العرض رائعا، إذ بدأ في العاشرة ببعض الرقصات والأغاني، ثم جاء نجم السهرة وهو محمد عبد المطلب، فغنى بعض أغانيه التي أشاعت البهجة في القلوب، ثم عادت الرقصات، ثم جاءت فتحية أحمد نفسها (أو امرأة تشبهها) ولم أكن أعرفها إلا من الصور التي تنشرها الصحف أو من اللوحات المعلقة على جدران الملهى. كانت ضخمة سميكة، وكانت تلبس ملابس فاضحة، ووقفت فغنت أغنية كنت سمعتها في طفولتي للمطربة ملك، ولا أذكر منها غير الكوبليه الذي تقول فيه:
سلمت له قلبي
ونزلت في بحوره
لما الغرام قال لي
نامعلوم صفحہ