قال لي صديقي، وسوف أخفي اسمه الحقيقي وأسميه «عبده» إنه تعرف بإحدى زميلاته في الكلية، وكان يعمل معها كل يوم في المختبر؛ إذ كانا متخصصين في الكيمياء العضوية
organic chemistry
وبعد عام تقريبا من الزمالة قال لها أثناء ساعة الغداء إنه يحبها! وفوجئ بأنها تنكر هذا القول وتقول له ببسمة صافية: «لا أعتقد ذلك! لقد اعتدت مصاحبتي في العمل فقط!» ولم يجد ما يرد به عليها فلغته الإنجليزية محدودة، وهو لا يملك إلا بعض العبارات التي يحفظها منذ الصبا، أو مما سمعه يتردد حوله في محيط الجامعة؛ ولذلك لم يجد بدا من تكرار ما قاله، مؤكدا أنه يحبها من زمن بعيد! وهاله أن تنصرف الفتاة في عجلة دون تعقيب، بل وأن تغيب عن الكلية عدة أيام، مما جعله يلجأ إلي طالبا النصح!
ولم تكن لدي نصائح حاضرة؛ فأنا لا أعرف الفتاة، بل ولا أعرف شيئا عن الفتيات، أو الإنجليزيات بصفة خاصة، ولم أكن أمضيت في إنجلترا إلا شهورا معدودة، ولكنني حاولت أن أعرف منه بعض التفاصيل، فهونت عليه الأمر وطلبت منه أن يتصل بها تليفونيا ليرى إن كانت غابت بسبب المرض. وعندما قابلني بعد نحو أسبوع سمعت منه ما كان يمكن أن أتوقعه لو أنني أوليت الأمر عنايتي الصادقة ولو أنني أحطت بالمعلومات الكافية؛ إذ جاءت الفتاة إليه بعد المحادثة التليفونية، وقد ارتدت أجمل أثوابها، وبدت مشرقة وضاءة، ووجهها - كما يقول - ينطق بالسعادة الغامرة، واستأنفت العمل في المختبر دون أن تشير إلى ما قاله أو ما قالته، وعندما حان موعد فسحة القهوة عرض عليها الذهاب إلى الكافيتريا (ويسمونها في جامعة لندن
buttery ) لكنها رفضت وقالت إنها ستستمر في العمل، ولم يجد بدا من الاستمرار هو الآخر، حتى حان موعد الغداء فبادأته هي بالدعوة، وعندما جلسا لتناول الطعام قال لها: «كنت قلقا عليك.» وكان ردها مقتضبا (شكرا)؛ ومن ثم انطلق يبثها لواعج غرامه مؤكدا أن حبه قديم. وهنا قالت له عبارة لم يفهمها وإن حفظها وهي: “But you didn’t do much about it, did you?”
أي ولكنك لم تفصح عنه طيلة هذه المدة، واعتذر بأنه كان يخاف رفضها، فقالت: «هل تظنون أن الإنجليز يتسمون بالبرود؟» وفوجئ وانعقد لسانه، بينما انطلقت هي تتحدث، فأخبرته أنه ظل يشغل فكرها شهورا، وكانت تحلم باللحظة التي يميل فيها قلبه إليها! وكاد يطير من الفرح فعرض عليها الخروج فورا، ولكنها قالت إن العمل في المختبر متأخر، وإن صدمة اعترافه بحبها قد أربكتها عدة أيام، وهي تحاول الانتهاء من العمل في موعده رغم التأخر، ولكنها ضربت له موعدا في عطلة نهاية الأسبوع.
كان «عبده» منفعلا وهو يحكي لي ما حدث، وكان ينظر إلى الورقة التي دون فيها كلامها خشية أن ينسى شيئا منه، وقلت له إن ذلك أمر طبيعي وهي قصة حب عادية بل عادية جدا، وقد تنجح وتكلل بالزواج. وبدا الهم على وجهه. الزواج؟ «نحن لم نذكر شيئا عن الزواج!» وضحكت وقلت له: إذن تراجع وأنت على البر! فرد قائلا: «ولكنني أحبها!» وشرحت له أن ذلك هو ما كانت تعنيه عندما أنكرت أول الأمر حبه لها، فالحب
Love
عند الإنجليز يعني الزواج، ولم يكن هناك ما يدعو إلى استخدام تلك الكلمة ما دام لا يريد الزواج، ودهش «عبده» من كلامي وقال لي إنني ملم بأحواله، وإنه لن يتسنى له الزواج قبل الانتهاء من الدكتوراه، وربما يكون أهله قد رتبوا له زواجا في مصر عند العودة، وزواجه من هذه الفتاة معناه اصطحابها إلى مصر «حيث عليها أن تجد عملا، أو أن تقنع بمرتب الجامعة الذي سأتقاضاه (نحو أربعين جنيها في الشهر)، أو أن أعيش أنا هنا إلى الأبد بعيدا عن أهلي!»
لم يكن «عبده» سعيدا سعادة صافية بالحب الوليد، بل كان يرى فيه مصدر هم أو عبئا لم يعتد حمله ولا يعرف كيف يحمله، وتخفيفا عنه حاولت الدخول من باب آخر، فقلت له «ربما لم تكن تحبها حقا.» أو «ربما تكون قد تسرعت أنت فأسأت فهم عاطفتك.» وألا يمكن أن تكون هي أيضا قد تسرعت بإعلان «استجابتها» لك؟ فبدت عليه الحيرة، وانصرف على أن نلتقي بعد مقابلته لها في عطلة نهاية الأسبوع.
نامعلوم صفحہ