ولم تمض سنوات حتى حصل شكري على وظيفة للعمل بجامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين، ولم يكن بحثه عن العروس قد توقف، وقد سمعت شائعة مفادها أنه كان يحب فتاة في صباه، وهي أستاذة (لا أستطيع ذكر اسمها) في إحدى الجامعات، فلما رفضته سببت له هذا التأخير. على أي حال وجد ضالته ذات يوم في فتاة فلسطينية تعمل مذيعة في التلفزيون الإماراتي، وتزوجها، وكنا نتابع أخباره في سعادة، ولكن الزواج كانت له ذيول غير متوقعة؛ إذ كانت الزوجة تمارس نشاطا تجاريا يتطلب ضمانا من البنك قدره مائة ألف دولار، وكان من الطبيعي أن تطلب منه ضمانها، فوافق، ولم تمض فترة طويلة حتى أعلنت إفلاسها وكان عليه أن يدفع المبلغ، فدفع معظمه مما ادخر من راتبه، واضطر إلى بيع أملاكه في مصر لسداد الباقي، ومن ثم تركها وانتابه الاكتئاب وأهرع إليه أخوه الطبيب فعاد به إلى القاهرة، وما لبث أن أصيب بصدمة عصبية أودت بحياته وتوفي في غضون أيام معدودة - رحمه الله.
وكان الدكتور شفيق مجلي من أبناء الإسكندرية، ولم يكن متزوجا هو الآخر، ولكنه كان على علاقة وثيقة بفتاة بلجيكية تعرف عليها في لندن، واستمرت مراسلاتهما حتى حانت له الفرصة للحصول على إعارة للتدريس في جامعة فاس بالمغرب، ومن ثم تزوجها واستقر به المقام أعواما، ثم رحل معها إلى أوربا حيث انقطعت أخباره، وإن كنت أحاول متابعة أخباره من أخويه ، أستاذ الآثار النابه منير (الدكتور) وعالم اللغة الشهير فؤاد (الدكتور) الذي شارك في إعداد قاموس أكسفورد (إنجليزي عربي) وقال عنه «دونياخ» مؤلف القاموس إنه كان ذراعه اليمنى ويده اليمنى معا! وقد زرته في أكسفورد أثناء مقامي في إنجلترا، وأسعدني أن أسمع أن كنيته كانت «المصري النابه».
أما الدكتور شوقي السكري فقد استطاع الحصول على وظيفة للتدريس في أمريكا، في جامعة «سكرامنتو» في كاليفورنيا، وكان يختفي ويظهر تسبقه خطابات وشهادات تتغنى ببراعته ونشاطه العلمي، وكان رشاد رشدي يعجب مما أعجب الأمريكان فيه، ولكنني كنت أعرف مدى حب الأمريكان للفهلوة المصرية، واللهجة البريطانية التي تنم على ثقافة عالية، ولا شك أن الأمريكان كانوا يدهشون لبراعة ذلك المصري صاحب الذلاقة والبراعة، وكان الطلبة يتعلقون به لقدرته على استمالة المستمع بمنطقه الخاص، وهو الذي يوحي فيه بالتبحر والتعمق، ولم يكن الأمر يتعلق، في النهاية، بتوظيف باحث (فلديهم كثيرون) ولكن بتوظيف معلم قادر على اجتذاب الطلبة؛ فالطلبة يدفعون مصاريف الدراسة، ولا حياة للجامعات الأمريكية دون مصاريف!
وانتهى الأمر بالدكتور شوقي السكري إلى الزواج من مصرية اسمها سهيرندا، كانت زميلة لزوجتي نهاد، وفي نفس العمر تقريبا، واصطحبها معه إلى أمريكا (كانت الزوجة الرابعة أو الخامسة) وبعد أن أنجبا طفلين، انفصلت عنه وتأمركت وتزوجت من أمريكي.
كان ذلك كله ما يزال في طي الغيب عام 1964م، ولكن بوادر التشتت كانت تلوح في الأفق، وكنت أنا نفسي أتصور الاستقرار خارج مصر وأحيانا كنت أعجب لمن تتاح لهم فرصة «الخروج» ثم يرجعون، وكنت مشدودا بقوة جبارة إلى قصيدة صلاح عبد الصبور «أغنية للقاهرة» التي يقول فيها:
وعندما رأيت من خلال ظلمة المطار،
نورك يا مدينتي،
عرفت أنني غللت للشوارع المسفلتة،
إلى الميادين التي تموت في وقدتها خضرة أيامي!
كانت وقدة حر القاهرة وحدها كفيلة بإضفاء جو سحري على «بلاد برة»، ولكن اللغة العربية التي عادت بي من إنجلترا هي الحبل الذي كنت أستمسك به، وكنت لا أتصور لي وجودا حقيقيا خارج مصر؛ ولذلك فقد كان موضوع الرحيل والعودة من الموضوعات التي تشغل بالي بصورة مختلفة، وكان سمير سرحان يشاركني هذا الاختلاف، فلم يكن يتصور أبدا أن يحط الرحال خارج مصر إلى الأبد، وكنا أحيانا ما نناقش موضوع المستقبل من حيث العودة لا من حيث الرحيل، هذا إذا قدر الله لنا أن نرحل من مصر على الإطلاق!
نامعلوم صفحہ