ومن عجائب الزمن أن يدور الزمن دورته، فنسمع أشباه هذه الحكاية يقصها رواة صادقون، ويرويها - بصيغة أخرى - عدول لا يرتاب إنسان في نزاهتهم وصدق روايتهم ، وعن أية طائفة يروونها، عن طائفة من أكبر رجال العلم طالما تلقف الناس أقوالهم بلهفة وثقة حاسبيها الحق الصراح واليقين الذي لا يتطرق إليه الباطل، وهي طائفة الأطباء!
يا للعجب! لقد أظهر البحث أن كثيرا - من أطباء اليوم، والأمس، والغد المشتغلين بمسألة الطعام - دجاجلة ومنجمون، تتناقض أقوالهم وتتضارب آراؤهم في المسألة الواحدة؛ فتصل مسافة الخلاف بينها إلى ما بين الضد والضد، ولعل أبدع ما نسوقه دليلا على ذلك ما ترويه لنا مجلة من أشهر المجلات العلمية الأمريكية، إذ يقول راويتها الثقة - والتبعة عليه:
كان لي صديق - في مقتبل أيامه - وكان كثير الشكوى من اختلال صحته، فذهب ذات مرة إلى طبيب مشهود له بالكفاية، واسع الشهرة في فن الطب، وبعد أن أتم الطبيب فحصه - على أحدث الطرق العلمية - التفت إليه قائلا: «اسمع يا صديقي، إن متاعبك وآلامك كلها ناشئة من كثرة تهافتك على أكل اللحم بمقادير كبيرة جدا!»
ولم يكد صديقي يسمع من طبيبه ذلك حتى بلغت دهشته أقصاها، وأجابه قائلا: «ربما كنت مصيبا في حكمك يا دكتور، ولكني لم أذق لحما منذ عامين!»
وهنا وجم الطبيب، ولم يكن خجله بأقل من خجل ذلك المنجم الذي روينا قصته في أول هذا المقال!
وغير الطبيب تذكرته الطبية، وأشار عليه بوصفة أخرى، تتلخص في الابتعاد دائما عن الانفعالات النفسية التي تسبب له هذه المتاعب والآلام! •••
هذه حكاية واقعة صحيحة أيها القارئ، وهي - على غرابتها - كثيرة الأشباه والنظائر، وربما حدث لكل إنسان ما يقاربها أو يماثلها، وإني لأكاد أجزم موقنا أن ملايين من الناس يعانون من غموض نصائح الأطباء، وتناقض أقوالهم، واضطراب وصفاتهم، ما يعجز القلم عن وصفه!
والحق الذي لا مراء فيه، أن اتباع وصفة بعينها، أو السير على نمط خاص في التغذية، وتناول نوع واحد من الطعام، من الأشياء التي مني بها هذا العصر، بل هو - على الأصح - بدعة ممقوتة فيها من الأضرار ما لا قبل لإنسان باحتماله، وما أعجب غرام الأطباء، ومصالح الصحة بإصدار قوائم مطولة، يحصون فيها ما يجب أكله من الطعام وما لا يجب، ويقيدون بها ما يزعمونه صالحا للتغذية وما يزعمونه ضارا من الأطعمة!
وفي الواقع أن النصائح الطبية للتغذية؛ لا يرضخ لها رضوخا تاما إلا في أحوال مرضية حادة أو خاصة، وفي الحميات، وفي الحالات الجراحية، والبول السكري. وما أشد ما يغررون بنا؛ إذ يقررون لنا أن اتباع نصائحهم سيقودنا إلى السلامة ويكسبنا الصحة والعافية، ويرد لنا ما فقد من قوانا، وما بهت من ألواننا، ويطيل من أعمارنا، إلى آخر هذه المزاعم الطويلة العريضة التي لا آخر لها، وليس هذا شأن دجاجلة الطب وحدهم؛ بل إن كثيرا من أفاضل الأطباء يندفعون في هذه الطريق بحسن نية، ويصفون ذلك بإخلاص وأمانة منساقين في تيار هذه البدعة الجارف!
لقد طالما نصحنا الأطباء بأكل كل الخضر نيئة، ثم نصحونا أيضا بطبخها، وطالما أشاروا علينا بأكل الفاكهة، ثم أشاروا علينا بالكف عن أكلها، وهكذا وهكذا مما لا نهاية من الأوامر التي لا تلبث أن تصير نواهي، حتى أصبح الرجل الذي يستطيع أن يمنع نفسه من الحيرة والارتباك - أمام هذه الأوصاف المربكة المتناقضة ويستخلص من هذه الشعاب المتلوية طريقا واضحة - جديرا أن ندعوه بطلا، وأن نطلق عليه اسم الإنسان الأعلى «السبرمان».
نامعلوم صفحہ