وعی: دلیل مختصر برای معمای بنیادی ذهن
الوعي: دليل موجز للغز الجوهري للعقل
اصناف
لكن «إحساسنا الداخلي» يمكن أن يخدعنا كذلك، و«الحدس الخاطئ» يمكن أن ينشأ بعدد كبير من الطرق، لا سيما في مجالات الفهم التي لم يكن من الممكن أن يتنبأ بها التطور؛ مثل العلوم والفلسفة. تأمل الاحتمالات والإحصاء، حيث يشتهر حدسنا بأنه لا يعتمد عليه على الإطلاق: كثيرون منا يشعرون بالقلق من السفر بالطائرة، على الرغم من أننا نحتاج - إحصائيا - إلى الطيران يوميا لنحو 55 ألف سنة قبل أن نتعرض لحادث تحطم طائرة مميت (ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن الناس لا يصابون عادة بنوبات ذعر عند الجلوس خلف عجلة قيادة سياراتهم استعدادا لرحلة إلى متجر البقالة، فإن سلامة المرء في مثل هذه الرحلات في الواقع تكون أقل بأضعاف مضاعفة مقارنة بالطيران).
2
إننا بالكاد نستطيع التوفيق بين حدسنا وبين بعض الحقائق العلمية الأساسية؛ إذ بدت لنا الأرض مسطحة إلى أن كشفت لنا التطورات المذهلة في القياسات الفلكية غير ذلك. وفي بعض مجالات البحث - مثل فيزياء الكم - لا يعد حدسنا عديم الفائدة فحسب، بل إنه يشكل عقبة صريحة أمام تحقيق التقدم. الحدس ببساطة هو شعور قوي بأن شيئا ما صحيح دون أن يكون لدينا وعي أو فهم للأسباب الكامنة وراء هذا الشعور؛ بصرف النظر عما إذا كان هذا الشيء يمثل حقيقة صحيحة في العالم أم لا.
في هذا الفصل من الكتاب، سوف نتناول حدسنا فيما يتعلق بكيفية حكمنا على ما إذا كان شيء ما واعيا أم لا، وسنكتشف أن الإجابات التي تبدو واضحة بديهية تنهار أحيانا عند فحصها فحصا دقيقا. وأحب أن أبدأ هذا الاستكشاف بسؤالين يبدو للوهلة الأولى أنهما بسيطان للغاية وتسهل الإجابة عنهما. لاحظ أول الاستجابات التي تطرأ على ذهنك، وتذكرها جيدا بينما نستكشف بعض الحدسيات والأوهام النمطية. (1)
في نظام نعرف أن لديه تجارب حسية واعية - ألا وهو الدماغ البشري - ما هو الدليل الذي يمكننا استقاؤه من العالم الخارجي على وجود الوعي؟ (2)
هل الوعي ضروري لسلوكنا؟
يتداخل هذان السؤالان في عدة نقاط هامة، لكن من المفيد تناول كل منها على نحو مستقل. فكر أولا في أنه يمكن أن توجد تجربة واعية دون أي تعبير خارجي على الإطلاق (على الأقل في الدماغ). أحد أبرز الأمثلة على ذلك الحالة العصبية التي تسمى «متلازمة المنحبس» (أو «السبات الكاذب»)، والتي يكون فيها جسد الإنسان بأكمله مشلولا ولكن الوعي سليم تماما. اشتهرت هذه الحالة العصبية من خلال جان دومينيك بوبي، رئيس التحرير السابق لمجلة «إل» الفرنسية، الذي ابتكر بعبقرية طريقة للكتابة عن معاناته الشخصية مع متلازمة المنحبس. فبعد أن أصابته جلطة دماغية بالشلل، لم يستعد بوبي شيئا من قدرته على الحركة سوى الرمش بعينه اليسرى. ومن المدهش أن القائمين على رعايته لاحظوا جهوده من أجل التواصل، وطوروا بمرور الوقت طريقة تمكنه من تهجئة الكلمات من خلال الرمش بعينه بنمط معين، وهكذا تمكنوا من الكشف عن النطاق الكامل لحياته الواعية. وقد وصف بوبي هذه التجربة المروعة في مذكراته التي نشرت عام 1997 بعنوان «جرس الغوص والفراشة» والتي كتبها من خلال نحو مائتي ألف رمشة. قد نفترض، بالطبع، أن وعيه لم يكن سيتغير بأي حال من الأحوال لو أن جفنه الأيسر استسلم للشلل بدوره. ومن دون هذه القدرة على تحريك جفنه الأيسر، لما كانت ثمة وسيلة لديه لإخبارنا بأنه واع وعيا تاما.
مثال آخر على الحبس الجسدي هو حالة تسمى «الوعي أثناء التخدير»، حيث يعاني المريض الخاضع للتخدير العام لإجراء عملية جراحية الشلل دون أن يفقد وعيه. ومما لا شك فيه أن الأشخاص الذين يمرون بهذه الحالة يعيشون كابوسا متمثلا في شعورهم بكل خطوة من خطوات العملية الجراحية، التي تكون أحيانا عبارة عن تدخل طبي شديد مثل استئصال أحد أعضاء المريض، دون القدرة على التحرك أو إخبار من حولهم بأنهم مستيقظون تماما ويشعرون بالألم. يبدو أن هذا المثال والمثال السابق يأتيان مباشرة من فيلم رعب، لكن يمكننا أن نتخيل حالات أخرى أقل إزعاجا يفتقد فيها العقل الواعي القدرة على التعبير؛ كما في سيناريوهات تنطوي على ذكاء اصطناعي - على سبيل المثال - يصبح نظاما متقدما واعيا، ولكن ما من سبيل لديه لتوصيل هذه الحقيقة على نحو مقنع لنا. ولكن إن كان ثمة شيء مؤكد بالنسبة إلينا فهو أنه: من الممكن أن توجد تجربة وعي مفعمة بالحياة دون إمكانية رصدها من الخارج.
والآن، لنعد إلى السؤال الأول ونسأل أنفسنا: ما الذي يمكن اعتباره دليلا على الوعي؟ إننا نعتقد، إلى حد كبير، أنه يمكننا تحديد ما إذا كان الكائن الحي واعيا أم لا عن طريق دراسة سلوكه. فيما يلي افتراض بسيط يقوم به أغلبنا، تماشيا مع حدسنا، ويمكننا استخدامه كنقطة بداية: «البشر واعون؛ النباتات ليست واعية.» يعتقد معظم الناس بشدة أن هذه جملة صحيحة، وثمة أسباب علمية جيدة للاعتقاد بأنها كذلك. إننا نفترض أن الوعي لا وجود له في غياب الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي. لكن ما الدليل أو السلوك الذي يمكننا رصده لدعم هذا الادعاء بشأن التجربة النسبية للبشر والنباتات؟ فكر في أنواع السلوك التي نعزوها عادة إلى الحياة الواعية، مثل الاستجابة للضرر البدني أو رعاية الآخرين. تكشف الأبحاث العلمية أن النباتات تقوم بكل من هذين الأمرين بطرق معقدة؛ رغم أننا، بالطبع، نتصور أنها تفعل ذلك دون الشعور بالألم أو الحب (أي دون وعي). لكن بعض سلوكيات البشر والنباتات متشابهة للغاية إلى حد أن هذا التشابه يشكل في واقع الأمر تحديا لاستخدامنا سلوكا معينا باعتباره دليلا على وجود خبرة واعية.
في كتابه «ما يعرفه النبات: دليل ميداني للحواس»، يصف دانيال تشاموفيتز بتفاصيل رائعة كيف يمكن لتحفيز النبات (باللمس، أو الضوء، أو الحرارة ... إلخ) أن يستحث استجابات مماثلة لاستجابات الحيوانات في ظل ظروف مشابهة. فالنباتات يمكنها أن تستشعر بيئتها من خلال اللمس، ويمكنها اكتشاف العديد من جوانب محيطها - بما في ذلك درجة الحرارة - بوسائل أخرى. بل إنه من الشائع جدا أن تتفاعل النباتات مع اللمس: فالكرمة تزيد من معدل نموها وتغير اتجاه هذا النمو حين تشعر بوجود جسم قريب يمكنها الالتفاف حوله، ويمكن لنبات «خناق الذباب» سيئ السمعة أن يميز بين الأمطار الغزيرة أو هبة رياح قوية - وهما أمران لا يتسببان في إغلاق شفرات النبات - وبين عمليات التسلل المترددة الوجلة لخنفساء أو ضفدع يعتبره النبات غذاء، وحينها يغلق النبات شفراته عليها في عشر ثانية.
نامعلوم صفحہ