وعی: دلیل مختصر برای معمای بنیادی ذهن
الوعي: دليل موجز للغز الجوهري للعقل
اصناف
يبدو واضحا أننا لا نستطيع أن نقرر ما نفكر فيه أو نشعر به أكثر مما نستطيع أن نقرر ما نراه أو نسمعه. إن التقاء معقدا للغاية بين العوامل والأحداث الماضية - بما في ذلك جيناتنا، وتاريخ حياتنا الشخصية، وبيئتنا المباشرة، وحالة أدمغتنا - هو المسئول عن كل فكرة تالية نفكر فيها. هل قررت أن تتذكر الفرقة الموسيقية في مدرستك الثانوية عندما بدأ الراديو في إذاعة تلك الأغنية؟ هل قررت أنا أن أكتب هذا الكتاب؟ الإجابة بشكل ما هي نعم، لكن «أنا» في السؤال ليست هي تجربتي الواعية. في الواقع، قرر دماغي، بالاشتراك مع تاريخه ومع العالم الخارجي، أن أكتب هذا الكتاب. أما أنا (بمعنى تجربتي الواعية) فقد شهدت ببساطة هذه القرارات وهي تتجلى للعيان.
الفصل الرابع
رفيق في الرحلة
يمكن العثور على عدد هائل من الأمثلة التي من شأنها أن تقلب حدسنا رأسا على عقب، وتتحدى المفهوم النمطي للإرادة الحرة، في دراسة الطفيليات وكيفية تأثيرها على سلوكيات عوائلها. «التوكسوبلازما جوندي» هو طفيل مجهري يمكنه أن يصيب جميع الحيوانات ذات الدم الحار، لكنه لا يستطيع التكاثر الجنسي إلا في أمعاء القطط. ورغم أنه يمكن أن يعيش في أي حيوان ثديي، إلا أنه يجب أن يعود في النهاية إلى قطة لإكمال دورة حياته. عادة ما يصيب طفيل التوكسوبلازما الفئران؛ لأنها توجد في كثير من الأماكن التي توجد فيها القطط، وقد طور هذا الطفيل آلية بارعة ومخيفة للغاية للتغلب على التحدي المتمثل في الانتقال من الفئران - التي تشعر بخوف غريزي عميق من القطط - ليعود إلى المكان الذي يستطيع أن يتكاثر فيه؛ أي القطط. فمن خلال آلية عصبية لا يزال العلماء لا يفهمونها تماما بعد، يؤثر طفيل التوكسوبلازما على سلوك الفئران المصابة، فتتسبب في تخلي الفئران عن خوفها من القطط، لدرجة أنه في كثير من الحالات تسير الفئران (أو حتى تركض) باتجاه عدوها مباشرة. يخلق التوكسوبلازما مئات من الأكياس في دماغ مضيفه، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الدوبامين. والدوبامين هو ناقل عصبي يلعب دورا في استثارة مشاعر قوية مثل الرغبة والخوف، وهو ما يساعد في تفسير الكثير من السلوكيات التي نراها في الثدييات المصابة بهذا الطفيل. من المحتمل أن هذه الفئران تشعر بطريقة أو بأخرى أنه يتم التلاعب بها رغم إرادتها بواسطة قوة خارجية، ولكن يبدو من المرجح أكثر أن الكيمياء العصبية لديها تتغير، ومن ثم تتغير رغباتها ومخاوفها: إنها لم تعد تشعر بالخوف من القطط، بل على العكس، تشعر الآن أنها منجذبة إليها.
1
يمكن أن يصاب البشر بهذا الطفيلي بالطريقة نفسها التي تصاب بها الثدييات الأخرى - عن طريق استهلاك اللحوم غير المطهية جيدا للحيوانات المصابة، أو عن طريق الاتصال المباشر مع البيئات الملوثة بفضلات القطط، مثل مياه الشرب أو تربة الحديقة أو صناديق القمامة - وقد تبين أن طفيل التوكسوبلازما له أيضا تأثير على أدمغة البشر. وقد أشارت الصحفية العلمية كاثلين ماكوليف إلى الملاحظات التي أبداها علماء الطفيليات قائلة إن «الخلايا العصبية التي تؤوي الطفيلي تصنع الدوبامين بكميات تفوق تلك التي تصنعها الخلايا الطبيعية بثلاثة أضعاف ونصف. ويمكن في الواقع رؤية المادة الكيميائية وهي تتجمع داخل خلايا الدماغ المصابة». ويمكن أن تسبب التوكسوبلازما مجموعة متنوعة من التغيرات السلوكية في البشر، ويعتقد أنها تسبب حدوث انفصام الشخصية وغيره من الأمراض العقلية لدى كثير من الناس. ووفقا لما ذكرته ماكوليف فإن «الأشخاص المصابين بالفصام تزداد احتمالات أن تكون نتائج اختبارات وجود أجسام مضادة للطفيلي لديهم إيجابية بمرتين إلى ثلاث مرات مقارنة بأولئك الذين لا يعانون هذا الاضطراب.»
2
في مقالها الرائع الماتع في «نيويورك تايمز» الذي جاء بعنوان «كيف تتلاعب الطفيليات للحصول على المساعدة من عائلها للبقاء على قيد الحياة»، تقول ناتالي أنجيير:
عندما أجرى ياروسلاف فليجر من جامعة تشارلز في براغ اختبارات شخصية على مجموعتين من الناس، إحداهما تظهر عليها علامات مناعية لعدوى سابقة بالتوكسوبلازما، والأخرى لا تظهر عليها هذه العلامات؛ سجل الرجال المصابون درجات أعلى نسبيا من الرجال غير المصابين في سمات مثل الشك في السلطة والميل لكسر القواعد، في حين أن النساء المصابات سجلن ترتيبا أعلى نسبيا من النساء غير المصابات على مقاييس الحنان، والثقة بالنفس، والثرثرة.
وثمة أمثلة لا حصر لها على طفيليات أخرى تؤثر على سلوكيات عائلها. فتتسبب الديدان الشعرية مثلا في جعل الصراصير المصابة - التي تحافظ عادة على مسافة آمنة من المسطحات المائية الكبيرة - تعدو نحو أقرب بحيرة أو مجرى مائي. فعن طريق إطلاق مواد كيميائية عصبية تحاكي تلك الموجودة في الصراصير، تحث الدودة الصراصير على الغرق في الوقت المناسب لمشاركة الدودة في موسم التزاوج، الذي لا بد أن يحدث في الماء.
نامعلوم صفحہ