ويعود أبو حذيفة بأهله وبسالم إلى مكة في وفد قريش، فلا يكاد يستقر فيها حتى ينكر من أمرها بعض الشيء. لقد أصبح فغدا على أندية قريش، ثم أمسى فراح إلى أندية قريش، ولكنه يعرف من أمر هذه الأندية كثيرا، وينكر من أمرها كثيرا، تريد نفسه أن تطمئن وأن تأمن وأن ترضى، كما تعودت من قبل، ولكنها لا تجد إلى الطمأنينة ولا إلى الأمن ولا إلى الرضا سبيلا. يحس أبو حذيفة كأن شيئا ينقص هذه الأندية، وكأن حدثا قد حدث في مكة لا يدري أيسير هو أم خطير، ولكن شيئا قد حدث فتغير من أمر قومه تغييرا يحسه ولا يحققه. ثم يتلمس بعض صديقه في أندية قريش فلا يجدهم، يسأل: أين عثمان بن عفان الأموي؟ وأين طلحة بن عبيد الله التيمي؟ وأين فلان وفلان من ذوي مودته؟ فلا يجيبه قومه بالتصريح، وإنما يؤثر بعضهم الصمت، ويذهب بعضهم مذهب التورية، ويلوي بعضهم ألسنتهم بأحاديث لا تفصح ولا تبين.
ويرى أبو حذيفة ويسمع، فيبعد الأمد بينه وبين الطمأنينة والأمن والرضا، ثم يصبح ذات يوم وقد انجلت له بصيرته، ووضح له وجه الحزم من أمره. إن صديقه أولئك بمكة لم يفارقوها ولم يبرحوا أرض الحرم، فما له يسأل عنهم ولا يلم بهم؟! ولا يكاد هذا الخاطر يخطر له حتى يقصد قصد فلان أو فلان من أولئك الصديق.
وقد ألم بعثمان بن عفان وكان له خليلا على ما كان بينهما من تفاوت في السن، كان عثمان قد تخطى الأربعين أو كاد، وكان أبو حذيفة لم يبلغ الثلاثين بعد، ولكن الود كان بينهما قديما متينا، زادته الصحبة في الأسفار قوة وأيدا، فلما بلغ أبو حذيفة دار عثمان ودخل عليه تلقاه صديقه بما تعود أن يتلقاه به من البشر والبشاشة ومن الرفق واللين، ولكن أبا حذيفة آنس من صديقه على ذلك كله شيئا من تحفظ واحتشام.
قال أبو حذيفة: لقد التمستك
203
أبا عمرو في أندية قريش منذ عاد الوفد إلى مكة فلم أجدك، فما عسى أن يكون قد حبسك عن قومك؟
قال عثمان: لم أنشط لهذه الأندية، ولا لما يدور فيها من حديث.
قال أبو حذيفة: فهل أنكرت من قومك شيئا؟ وهنا سكت عثمان ولم يجب. فأعاد عليه أبو حذيفة مقالته، فأمعن عثمان في الصمت.
قال أبو حذيفة: إن لك أبا عمرو لشأنا ولا واللات والعزى، ولكن عثمان لم يكد يسمع قسمه هذا حتى لوى وجهه.
204
نامعلوم صفحہ