فلما رأت إكباره لها ورفقه بها اطمأنت إليه وأنست به واحتفظت بمكانتها منه، فجعلت تتحدث إليه حديث السيد إلى العبد، ولكن في شيء من التواضع والأناة وحسن التأتي، وجعل هو كلما رأى منها رفقا به وعطفا عليه ازداد لها حبا واشتد إكباره لها وتوقيره لمكانتها، وأنفقا على ذلك أشهرا وأشهرا، والفتى حفي
131
بزوجه، لا يدع شيئا يقدر عليه إلا أتاه ليجنبها ما تكره، وليجعل الرق أخف عليها حملا، ولييسر لها الصبر على محنتها، ولكن أمور الناس تجري على غير ما يقدرون ويدبرون.
فقد أزمع الفتى في نفسه أن يسير مع هذه الفتاة سيرة الخادم المهين مع السيدة الكريمة المستعلية التي تملك من أمره كل شيء، وأزمع في نفسه أن هذا الزواج ليس إلا خداعا لهذا السيد العربي الذي أراد أن يهين أميرة من أميرات الحبشة، وأي بأس عليه في أن ينصح لسيده ما وسعته النصيحة، ويخلص في خدمته ما وجد إلى الإخلاص فيها سبيلا، ويقوم على ماله أحسن قيام وأرفقه؛ يدبره ويثمره كأحسن ما يكون التدبير والتثمير، لا يستثني من ذلك كله إلا هذه الفتاة، فإنه لا ينصح فيها لمولاه، ولا يطيع فيها أمره، وإنما ينصح فيها لنفسه وقومه، فيؤثرها بالحب ويختصها بالإكبار والكرامة؛ رعاية لمنزلتها في بلادها تلك البعيدة النائية.
هي زوجه عند خلف وأضرابه من سادة قريش، وهي زوجه عند هؤلاء الغلمان الذين يسوسهم بالحزم ويأخذهم بالعنف، ولكنها مولاته وأميرته فيما بينها وبينه وفيما بينه وبين نفسه.
أضمر الفتى ذلك في قلبه، وفهمت عنه الفتاة ما أضمر، فقبلته راضية، واطمأنت إليه مغتبطة، واعتقدته في ضميرها مخلصة، وسارت معه سيرة الأميرة لا سيرة الزوج، ولكنه يغدو عليها بالطاعة والرضا، ويروح عليها بالطاعة والرضا، يقوم دونها
132
ما أضاء النهار، ويسهر عليها ما أظلم الليل، وهي ترى ذلك لها حقا أول الأمر، ثم تفكر وتقدر فتعلم أنها أمة
133
ليس لها حق على أحد، وإنما لسادتها عليها الحق كل الحق، ولهذا الغلام عليها نصيب من حق سادتها، فهم قد جعلوها له زوجا، وجعلوا له عليها حقا.
نامعلوم صفحہ