وسنة 1865 توفي اللورد بامرستون فشكل اللورد رسل وزارة وجعل غلادستون رئيسا لمجلس النواب، واتفقا كلاهما على توسيع نطاق الانتخاب وأنشآ لائحة في ذلك قدماها إلى المجلس فقاومها المحافظون وجم غفير من الأحرار، فسقطت الوزارة بسبب ذلك ودعي دزريلي لتأليف وزارة جديدة، ولكنه رأى أن لا بد له من السير في خطتهما من حيث توسيع نطاق الانتخابات.
ثم التفت غلادستون إلى أرلندا وما فيها من الضيق فاهتم بإصلاح شئونها وتعليم شعبها وتوسيع نطاق التعليم في البلاد الإنكليزية كلها، وغلب الوزارة في أمور كثيرة فحل مجلس النواب وأعيدت الانتخابات فكانت الأكثرية من الأحرار، فجعل رئيسا للوزارة وذلك سنة 1869، ومن ثم أخذ الإصلاح يتسع نطاقه في أرلندا وإنكلترا كلها، ودامت وزارته إلى سنة 1873 ثم غلبت فاستعفى وأعيدت الانتخابات فكان الفوز للمحافظين ورأس دزريلي الوزارة سنة 1874.
وكثر اشتغال غلادستون حينئذ بالتأليف والتصنيف في المواضيع الأدبية والتاريخية، ثم حدثت حوادث البلغار فرمى الأقلام والدفاتر وهاج خواطر أوروبا كلها ضد الدولة العثمانية، وحل مجلس النواب الإنكليزي سنة 1880 وأعيد الانتخاب، ففاز الأحرار ورأس الوزارة والمشاكل كثيرة في كل مكان لكنه نجح في توسيع نطاق الانتخاب حتى كاد يكون عاما. ولم يصف لوزارته الزمان فحدثت في أيامها مشاكل كثيرة أهمها الثورة العرابية وسقوط الخرطوم، ثم قدم لائحة الاستقلال الإداري في أرلندا فانشق الأحرار بسبب ذلك وخرج كثيرون من مشاهيرهم واتحدوا مع المحافظين ضده فغلبوه، وما من أحد منهم ينكر عليه خلوص النية وحسن الطوية فيما أراده لأرلندا ولو كان غير ما تقضي به مصلحة إنكلترا، وتربع المحافظون في الوزارة إلى سنة 1892 وحينئذ أعيدت الانتخابات فأجلت عن فوز الأحرار بأكثرية قليلة فأدليت رئاسة الوزارة إليه وهي المرة الرابعة . وفي غرة مارس من سنة 1894 خطب الخطبة الأخيرة في مجلس النواب، واستعفى في اليوم التالي؛ لأنه أصيب بالكتركتا في عينيه كلتيهما وعملت له عملية الكتركتا في شهر مايو، ولا يزال مكبا على الأشغال العلمية والكتابات الجدلية في أشهر جرائد إنكلترا، وقد ناظر الأستاذ هكسلي مناظرة عنيفة في مجلة القرن التاسع عشر في العلم والوحي تدفقت فيها ينابيع البلاغة تدفقا لا مثيل له؛ لأن الرجلين من أشهر كتاب العصر وأرفعهم منزلة وأكثرهم اطلاعا.
وتذهلنا خطبه في مجلس النواب؛ فإنها كلها مفعمة بالمعاني والأدلة العقلية والنقلية، ولو كانت ارتجالية لأمر يدعو إليه الحال أو الجدال بينه وبين الخصم أو لإيضاح مشكل أو للرد على منتقد، فقد يتكلم ساعة كاملة لا يكرر عبارة ولا يتردد في قول ولا تغيب عن ذاكرته حادثة تاريخية ولا تفوته نكتة أدبية، أما كتاباته الجدلية فلا تخلو من الضعف إذا كانت المواضيع علمية طبيعية؛ لأنه ليس ثقة في موضوع منها.
ولقد أجمع مشاهير الكتاب على أنه لم يفقه أحد في الخطابة والجدل من وزراء الإنكليز، والمرجح أيضا أنه لم يبلغ أحد شأوه فيهما حتى الآن.
وسياسة غلادستون معروفة مشهورة، وهو مثل بامرستون في عزمه وحزمه، وينظر إلى الملكة كرقيبة على سياسة البلاد وممهدة لعقابها، وهي تصب على حدته زيتا وبلسما، وتوفق بينه وبين خصومه بحكمة فائقة، كما يظهر من حوادث كثيرة نؤثر منها الحادثة التالية:
دخل الوزارة سنة 1869 ومعه أكثرية عظيمة في مجلس النواب وهو عازم أن يجري بواسطتها أمرا للكنيسة الأرلندية لا توافق عليه الملكة ولا رئيس أساقفة كنتربري، فطلبت منه أن يقابل رئيس الأساقفة ويتفق معه على ما به المصلحة العامة، فقال لها: إن رئيس الأساقفة قد رفض كل اتفاق من هذا القبيل فلا سبيل له لمقابلته في ذلك، فكتبت من ساعتها إلى رئيس الأساقفة وقالت إنها قابلت غلادستون فرأته على تمام الاستعداد لمقابلته، وإنه راغب جدا في الاتفاق معه، وطلبت من رئيس الأساقفة أن يمهد السبيل لهذه المقابلة ولا يكون أقل رغبة منه في الاتفاق معه، فكتب رئيس الأساقفة إلى غلادستون فزاره غلادستون في اليوم التالي وشرح له مشروعه فاستحسنه وزالت أسباب الجفاء من بينهما.
قد كان يوافيها دائما بخلاصة الخطب التي تتلى في مجلس النواب والمناظرات التي تدور بين أعضائه، ونسب نجاحها ونجاح مملكتها في عهدها إلى أنها «تدرك إدراكا تاما شروط العهد العظيم المعقود بينها وبين شعبها وتعمل به.»
سلسبري
هو روبرت آرثر تلبت غسكوين سسل مركيز سلسبري، ولد في الثالث عشر من فبراير سنة 1830 من عائلة قديمة عريقة في المجد يتصل نسبها بداود سسل الذي كان في عصر الملك هنري السابع منذ أربعمائة سنة، وقد أعطيت إمارة سلسبري لسلفائه سنة 1605، أي منذ مائتين وثلاث وتسعين سنة، درس في مدينة أكسفرد - حيث درس غلادستون - باسم اللورد روبرت سسل، ونبغ في العلوم الرياضية، وكان يناضل عن حزب المحافظين، وانتخب عضوا في مجلس النواب وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واشتغل بالسياسة حالا فنصر رجال الدين في مجلس النواب، وقاوم غلادستون في مسألة رسوم الورق بقوة وبلاغة، فعرف النواب قدره وأجلسوه على المقاعد الأمامية حيث يجلس زعماؤهم، واشتهر حينئذ بدقة البحث وقوة العارضة، ولكنه لم يكن قوي الحجة إلا إذا تكلم عن الكنائس والمدارس أو عن المسائل الخارجية.
نامعلوم صفحہ