تمهيد
1 - أصل العائلة المالكة
2 - أبو الملكة وأمها
3 - حداثة الملكة
4 - جلوس الملكة فكتوريا
5 - تتويجها
6 - زواج الملكة
7 - البرنس ألبرت زوج الملكة
8 - حياة الملكة العائلية
9 - حياة الملكة السياسية
10 - أولاد الملكة
11 - ارتقاء بلادها في عهدها
12 - يوبيل ألماس
تمهيد
1 - أصل العائلة المالكة
2 - أبو الملكة وأمها
3 - حداثة الملكة
4 - جلوس الملكة فكتوريا
5 - تتويجها
6 - زواج الملكة
7 - البرنس ألبرت زوج الملكة
8 - حياة الملكة العائلية
9 - حياة الملكة السياسية
10 - أولاد الملكة
11 - ارتقاء بلادها في عهدها
12 - يوبيل ألماس
فكتوريا
فكتوريا
ملكة الإنجليز وإمبراطورة الهند
تأليف
يعقوب صروف
تمهيد
أمران يضيق بهما الكاتب ذرعا؛ قلة المادة حتى تقصر عن مراده، وكثرتها حتى تزيد عليه. والثاني شأن من يحاول أن يلخص في صحف قليلة سيرة ملكة عظيمة جلست على سرير الملك ستين عاما، وساست نحو أربعمائة مليون من البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وشدت أزرها بأحكم الوزراء وأدهى رجال السياسة، فارتقت بلادها في عهدها ارتقاء لا مثيل له في عصر من العصور؛ فإن المادة غزيرة تملأ مجلدات كثيرة ومجال البحث واسع لا يتسنى للمؤرخ أوسع منه، ولكن تلخيصه في صحف قليلة يوقع الكاتب في حيرة فيتردد بين الإقدام والإحجام. غير أن مناقب هذه الملكة العظيمة، وتشوف المشارقة إلى استطلاع أخبارها والوقوف على سر السياسة التي ارتقى بها شعبها هذا الارتقاء النادر المثال، وخلو اللغة العربية من كتاب سطر فيه تاريخها وانضواء ملايين كثيرة من المتكلمين بها تحت اللواء البريطاني؛ كل ذلك حملنا على استخفاف المشاق والجري في هذه العقبة الكئود، فجمعنا الفصول التالية معتمدين على ما كتبه مترجمو حياتها، وعلى ما طالعناه في كثير من المجلات العلمية، وسنوجز المقال على قدر الإمكان.
الفصل الأول
أصل العائلة المالكة
العائلة المالكة الآن في بلاد الإنكليز من أصل ألماني دمه ممتزج بدم ملوك إنكلترا وملوك سكتلندا، وهي لم تستول على البلاد الإنكليزية بالفتح بل بحق وراثي خولها إياه الشعب البريطاني نفسه، وبحمايتها لمذهب الإصلاح المعروف بالمذهب البروتستانتي؛ فإنه لم يكد هذا المذهب ينتشر في ألمانيا حتى بلغ إنكلترا ومال إليه فريق كبير من أهاليها، ثم توالت على البلاد حوادث قوت شأن البروتستانت فيها واتفق أن فر ملكها من وجه شعبه فاستدعى الشعب أميرا ألمانيا ليكون ملكا عليهم، وهو ابن ابنة ملكهم تشارلس الأول، وزوج ابنة ملكهم جمس الثاني، فملك على البلاد هو وزوجته من سنة 1689 إلى سنة 1694 وتوفيت زوجته فاستقل بالملك ثم توفي سنة 1702، فخلفته أخت زوجته، وتوفيت سنة 1714 بلا عقب، فاستدعى الشعب الإنكليزي الأمير جورج لويس أمير هنوفر وملكوه عليهم؛ لأنه بروتستانتي المذهب، ونسب أمه متصل بملكهم جمس الأول، فملك على البلاد الإنكليزية باسم جورج الأول وتوفي سنة 1727، وخلفه ابنه جورج الثاني فملك 33 سنة وتوفي فجأة سنة 1760، وخلفه حفيده جورج الثالث جد الملكة فكتوريا، وكان صالحا محبا لشعبه فارتقت البلاد في أيامه واتسعت تجارتها ووفرت ثروتها، ولكنها خسرت الولايات المتحدة الأميركية، خسرتها لتصير بلادا جمهورية من أغنى جمهوريات الأرض وأقواها.
وتوفي الملك جورج الثالث سنة 1820، وكان ابنه قد ناب عنه في العشر السنوات الأخيرة من حياته، فاستقل بالملك حينئذ باسم جورج الرابع وتوفي سنة 1830، وكان له ابنة واحدة بارعة الجمال اسمها تشارلت اقترن بها الأمير ليوبولد الألماني أخو الأميرة التي صارت زوجة لأمير كنت ووالدة للملكة فكتوريا، وكانت الأمة الإنكليزية معلقة آمالها بالأميرة تشارلت لأدبها وكمالها، وحاسبة أن الملك يئول إليها لكنها توفيت سنة 1817 أي قبل أبيها وجدها فانتقلت ولاية العهد إلى أعمامها ومنهم دوق كنت أبو الملكة فكتوريا.
الفصل الثاني
أبو الملكة وأمها
إن أبا الملكة فكتوريا ولقبه دوق كنت هو الابن الرابع من أبناء الملك جورج الثالث، وكان طويل القامة جميل المنظر طلق المحيا لين العريكة فصيحا في الإنكليزية والفرنسوية، ميالا إلى حزب الأحرار، ولم يكن هذا الحزب مقربا إلى بلاط أبيه، فاختار أن يكون جنديا وهو في الثامنة عشرة من عمره، فأرسل إلى هنوفر حيث درس الفنون الحربية، وكان المال المقطوع له قليلا جدا لا يقوم بنفقاته، فاضطر أن يستدين وعاد إلى إنكلترا من غير أمر أبيه فسخط عليه وأقصاه وبعث به إلى جبل طارق قائدا لحاميته، وكانت الحامية على غاية من فساد الآداب، فلما رأت منه اللين والتؤدة تمردت عليه فأرسلت إلى كندا بأميركا، وأرسل معها إلى تلك البلاد فأقام فيها إلى سنة 1794، وحضر بعض المعارك في جزائر الهند الغربية، وعاد إلى بلاد الإنكليز سنة 1800 وجعل حاكما على جبل طارق، وكانت حاميته قد شقت عصا الطاعة فرأى أن سبب ذلك السكر؛ فأخمد ثورتها وقاص زعماءها، ومنع باعة المسكرات من بيعها فأخلدت إلى السكينة.
وكان كريما مبذالا فاشترك في أكثر الجمعيات الخيرية التي كانت في عصره، ورأس في سنة واحدة اثنتين وسبعين جلسة من جلساتها، وكان محبا للعلم والتعليم وهو أول من أنشأ مدرسة لتعليم الجنود، ولكرمه وبذله وسعيه في مصالح الناس كان يقصد من كل فج فلا يخيب طالبا، قيل إنه كان عائدا مرة من ألمانيا إلى إنكلترا فأصابه الدوار واشتد عليه ورآه أحد المسافرين على تلك الحالة، فقال لأحد خدمه قل لمولاك إن معي دواء يريحه من ألم الدوار، فلما قال له ذلك قال: من هذا الرجل الذي همه أمري وأراد تخفيف كربي؟ فقيل له هو رجل ذاهب إلى إنكلترا في طلب الرزق. فقال: قولوا له أن يوافيني إلى قصر الملك بعد وصوله، فوافاه إلى هناك فسعى له في منصب يليق به.
شكل 2-1: الأميرة تشارلت.
هذا من قبيل دوق كنت أبي الملكة فكتوريا، أما أمها فاسمها فكتوريا أيضا وهي ابنة دوق ألماني وأخت البرنس ليوبولد زوج الأميرة تشارلت الذي صار ملكا لبلاد البلجيك سنة 1831، ولدت سنة 1786 واقترنت بأمير ألماني فمات عنها سنة 1814 ولها منه ولدان صبي اسمه تشارلس وابنة اسمها فيودورا.
ورآها دوق كنت وهو يفتش عن زوجة فأعجبه حسنها ورائع أدبها، فاقترن بها في الخامس عشر من شهر يوليو (تموز) سنة 1818 وهو موقن أن الملك يصل إليه وينتقل إلى نسله؛ لأنه كان أقوى من إخوته بنية، وأجود منهم صحة، ولما علم أنها حامل أسرع بها إلى البلاد الإنكليزية؛ لكي تلد فيها ويكون المولود إنكليزيا مولدا فولدت له الملكة فكتوريا في الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة 1819، وفرح بولادتها فرحا عظيما، وكان ينظر إليها معجبا ويقول: اعتنوا بها فإنها ستكون ملكة إنكلترا يوما ما. ولما جاء الشتاء انتقل بها إلى سواحل ديفونشير؛ لأنها أقل بردا من مدينة لندن فقضى البرد عليه؛ وذلك أنه ذهب يوما في طريق كثير الثلج وعاد وحذاؤه مبلل، وفيما هو ذاهب إلى غرفته رأى ابنته مع المرضع فوقف يلعب مع الابنة إلى أن أصابته قشعريرة من تبلل حذائه وبرد رجليه، وتبع القشعريرة التهاب في رئتيه قضى عليه في عشرة أيام، فحزنت عليه زوجته والبلاد الإنكليزية حزنا شديدا، وأوصى قبل وفاته أن تكون زوجته وصية على ابنته فقامت بحق الوصاية أحسن قيام كما سيجيء، وتركت بلادها وأهلها لكي تربي ابنتها في البلاد الإنكليزية على الأخلاق الإنكليزية، وقد ربتها حتى يكون غرضها الأول أن تسلك مع شعبها سلوكا يجعله أمينا لها مقيما على ولائها، ونجحت فيما توخته النجاح التام، فشكرتها الأمة الإنكليزية وأحبتها العائلة المالكة ورأت بعينيها نجاح عملها وتوفيق الله له، وهذا هو السرور الأكبر.
الفصل الثالث
حداثة الملكة
ولدت الملكة فكتوريا في قصر كنسنتون بمدينة لندن في الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة 1819 كما تقدم وعمدت (نصرت) في الشهر التالي، وحضر عمادها عمها الأكبر وكان نائبا عن الملك، وعمها الثاني دوق يورك نائبا عن قيصر الروس إسكندر الأول، واقترح أن تسمى ألكسندرينا جيورجينا نسبة إلى قيصر الروس وملك الإنكليز، فاعترض عمها الأكبر على ذلك وقال: لا أريد أن يجعل اسم الملك تاليا لاسم آخر فليدع اسمها ألكسندرينا فكتوريا باسم القيصر واسم أمها، فسميت كذلك وغلب عليها اسم فكتوريا وحده، وسندعوها باسم الأميرة فكتوريا فيما يلي إلى أن تعطى لقب ملكة.
شكل 3-1: أم الملكة فكتوريا.
وكانت قوية البنية من صغرها فمرت الأيام والأعوام وهي تنمو وتتقوى وتزيد جمالا واعتدالا على رزانة ودعة ووقار كما شهد الذين رأوها في صغرها، ومرت عليها مخاطر كثيرة فحفظتها العناية منها. كان ولد يرمي العصافير بجانب غرفتها وهي في الشهر السادس من عمرها، فمر الخردق (الرش) بجانب رأسها تماما ولكنه أخطأها ، ولما كان لها أربع سنوات من العمر كانت سائرة في مركبة يجرها فرس من الأفراس الصغيرة القد فقلبت المركبة بها، وكان أحد الجنود مارا فأسرع إليها وأخرجها من المركبة قبل أن تصل إلى الأرض فنجاها من الموت وهو لا يعلم من هي فجوزي في الحال بجانب من المال.
شكل 3-2: الأميرة فكتوريا في السادسة من عمرها.
وأحسنت أمها ومعلماتها تعليمها وتهذيبها عالمات أنها ستكون يوما ما ملكة على المملكة الإنكليزية، فقرأت مبادئ العلوم والفنون، وتعلمت الألمانية والفرنسوية والإيطالية واللاتينية مع آداب اللغة الإنكليزية والرسم والموسيقى.
وتوفي عمها الأول الملك جورج الرابع سنة 1830 وخلفه عمها الثالث وسمي وليم الرابع؛ لأن عمها الثاني دوق بورك توفي سنة 1827 قبل عمها الأول، وكان لعمها وليم الرابع ابنتان فتوفيتا قبله وصارت الأميرة فكتوريا ولية عهده، ولم تكن تعلم ذلك لكن معلمتها البارونة لهزن وضعت لها شجرة العائلة المالكة في كتاب تاريخي كانت تدرسه، فلما رأتها قالت ما هذه الورقة فإني لم أرها قبلا؟ فقالت لها المعلمة: لم نر أنه يحسن بك أن تريها إلا الآن. ثم أمعنت نظرها فيها ففهمت مغزاها وقالت: إذن أنا أقرب إلى الملك مما كنت أظن! فقالت معلمتها: نعم. فصمتت ثم قالت: إن كثيرين يفتخرون إذا كانوا في مقامي؛ لأنهم لا يعلمون مصاعبه ففيه مجد كثير وفيه تعب أكثر. ثم رفعت يدها وقالت: أما أنا فسأسير السير الحسن. وقد اتضح لي الآن لماذا تحثينني على الدرس حتى على درس اللغة اللاتينية التي هي أساس اللغة الإنكليزية - كما قلت لي - وأصل كل التعبيرات البديعة فيها، وقد درستها كما طلبت مني، أما الآن فصرت أعلم سبب ذلك، ثم كررت قولها الأول وهو أني سأسير السير الحسن.
فقالت لها معلمتها: ربما يولد أولاد أيضا لامرأة عمك الملك فيكون الملك لهم لا لك. فقالت: إن ذلك لا يغيظني بل يسرني؛ لأني أعلم أنها تحب الأولاد من محبتها لي.
ولما توفيت ابنتا عمها كتبت أمها إلى دوقة كنت أم الأميرة فكتوريا تقول: ماتت ابنتاي ولكن ابنتك حية وهي ابنتي. إلا أن عمها الملك لم يكن وديعا مثل زوجته ولا كان بلاطه لائقا بأميرة مثل الأميرة فكتوريا فأبعدتها أمها عنه.
وذكر كثيرون من الكتاب الأميرة فكتوريا في ذلك الحين ووصفوها بالنباهة والدعة، قال السر ولترسكوت الشاعر الشهير في يوميته بتاريخ 19 مايو سنة 1828: «تغديت اليوم مع دوقة كنت فرحب بي البرنس ليوبولد (أخوها) وقابلت فكتوريا الصغيرة ولية العهد، وقد أحسنوا تهذيبها ولم يدعوا أحدا من الخدم يهمس في أذنيها قائلا إنك ولية العهد، ولكنني أظن أننا إذا دخلنا إلى أعماق قلبها وجدنا أن حمامة أو طائرا آخر من طيور السماء نقل هذا الخبر إليه.» وجاء في سيرة لورد كمبل أنه زار قصر كنسنتون وشاهد الأميرة فكتوريا فوجدها أنيسة المحضر على غاية الحشمة والتأدب.
وكل الذين ذكروها في حداثتها أطنبوا في مدحها، وأكثرهم لا يحسبون أن ما كتبوه يشيع ويطلع عليه أحد لأنهم كتبوه في يومياتهم أو في مكاتيب خصوصية، وقد ظهرت ثمرة تعليمها وتهذيبها فيما أبدته من حسن السياسة وفي تحملها الرزايا التي حلت بها بالصبر الجميل كما سيجيء.
وسنة 1836 زارها خالها دوق سسكس كوبورج مع ولديه أرنست وألبرت، وكأن الغاية من ذلك أن ترى هذين الأميرين لعلها تطلب الاقتران بأحدهما، ويقال إنها أحبت البرنس ألبرت من ذلك الحين، وكتبت إلى خالها تقول أتوسل إليك يا خالاه أن تهتم بصحة من هو عزيز إلي وتعتني به اعتناء خاصا، وإني أثق أن كل شيء يجري طبق المرام في هذا الأمر الذي صار عندي كبير الأهمية.
ولم يخبر البرنس ألبرت بهذا الكتاب ولكن غيرت دروسه في المدرسة لكي تناسب البلاد الدستورية التي كانت الآمال معقودة بمجيئه إليها.
وفي الرابع والعشرين من شهر مايو (أيار) سنة 1837 بلغت الأميرة فكتوريا سن الرشد حسب شرائع الإنكليز، وهو الثامنة عشرة لأولياء العهد، فاحتفل بذلك احتفالا عظيما وجاءتها هدية نفيسة من عمها الملك، وكان قد علم أنها ستخلفه على سرير الملك، وود أن تبلغ سن الرشد قبل وفاته، وبعد أيام قليلة وفد البارون ستكمار من قبل خالها البرنس ليوبولد للغرض الآتي ذكره في الفصل التالي.
الفصل الرابع
جلوس الملكة فكتوريا
مرض الملك وليم الرابع بضعة أسابيع وقضى نحبه في قصر وندسور في العشرين من شهر يونيو (حزيران) سنة 1837 الساعة الثانية بعد نصف الليل، وكان رئيس أساقفة كنتربري عنده فقام هو ومركيز كوننهام وطبيب من الأطباء الذين شاهدوا وفاته وأسرعوا إلى قصر كنسنتون؛ حيث الأميرة فكتوريا فبلغوه الساعة الخامسة صباحا، وجعلوا يقرعون الباب مدة إلى أن استيقظ الحاجب وفتح لهم فطلبوا أن يروا الأميرة فكتوريا ليخبروها بأمر هام، فقال لهم الخدم: إنها نائمة. فقالوا إننا جئنا بأمر متعلق بمملكتها فيجب أن تستيقظ لأجله. فنهضت حالا وطرحت رداء على كتفيها وقابلتهم على تلك الحالة والدموع ملء عينيها، ويقال إنه لما أخبرها رئيس الأساقفة بوفاة عمها، قالت له: ألتمس منك أن تصلي لأجلي. فركعوا كلهم وطلبوا العون الإلهي.
وانتشر نعي الملك في البلاد حالا، وأول شيء فعلته الملكة فكتوريا أنها كتبت تعزي امرأة عمها وعنونت الكتاب «إلى جلالة الملكة في قصر وندسور» واطلع بعض الحضور على العنوان قبل إرسال الكتاب، فقالوا لها: أنت هي الملكة! فقالت: نعم، ولكنني لا أريد أن أكون السابقة إلى تذكير امرأة عمي بذلك. وعرضت على امرأة عمها أن تبقى في قصر وندسور فلم تر مسوغا لذلك.
وبعد بضع ساعات أقبل لورد ملبرن رئيس الوزراء إلى قصر كنسنتن؛ لكي يقابل الملكة ويتلقى أوامرها، وكان شيخا واسع الاختبار، لين العريكة، عارفا بأطوار الناس، عرك الدهر أعواما كثيرة، وخبر ضروب السياسة، ولما وقع نظرها عليه عرفت بالزكانة التي يمتاز بها نوع النساء أنه موضع ثقتها ومعتمد سياستها، وكانت أمها قد علمتها كل ما يتعلق بتاريخ بلادها وأحوالها السياسية على ما في كتب التاريخ والسياسة، وأرتها واجبات الحاكم الدستوري، وكيف يجب أن يتصرف مع شعبه ووزرائه إلا أن هذا التعليم كان نظريا، ولم يبتدئ أن يكون عمليا إلا حينئذ حينما أخذت تشارك وزراءها في سياسة بلادها ولا سيما وزيرها اللورد ملبرن، فإنه كان يحترمها احتراما يفوق الوصف ويخلص لها النصح، ويشرح لها كل المسائل شرحا واضحا، لا هو بالطويل الممل ولا بالقصير المخل، وكان يقيم معها أربع ساعات كل يوم ويخرج معها راكبا ساعتين وهو يخاطبها في شئون الملك، ويشرح لها مشاكله ويفسر غوامضه حتى غار منه كثيرون من رجال الدولة، ولا سيما الذين يعدون مقامهم أرفع من مقامه، وعجب أصدقاؤه من صبره ونشاطه مع أنه كان محبا للراحة كارها للتعب ولم يكن له غرض من اهتمامه بشئون الملكة إلى هذا الحد إلا القيام بما شعر أنه واجب عليه نحو وطنه وأمته.
وجاء أيضا عماها دوق كمبرلند ودوق سسكس ورئيسا الأساقفة وغيرهم من رجال الدولة، ولما كان عددهم كثيرا ارتأى أحدهم أن تدخل لجنة منهم فتخبر الملكة بما تم فكان كذلك، واجتمع المجلس الخاص وخرجت اللجنة من حضرة الملكة ومعها المنشور التالي منها فتلاه على الحضور وهو:
إن الخسارة الفادحة التي أصابت الأمة بوفاة جلالة عمي المحبوب قيدتني بواجبات الاهتمام بحكومة هذه السلطنة، وقد ألقيت علي هذه الواجبات فجأة على صغر سني، ولولا اعتقادي أن العناية الإلهية التي دعتني إلى هذا المنصب تؤيدني في القيام بما يطلب مني، ولولا أني أجد من نبالة مقاصدي وغيرتي على خير شعبي العضد الذي يرافق الشيخوخة وطول الخبرة لرزحت تحت هذا العبء، وإني ألقي اتكالي على حكمة العناية الإلهية وعلى ولاء شعبي وحبه لي، ولقد كان من نصيبي أن أخلف ملكا أحبه شعبه واحترمه؛ لأنه كان محافظا دائما على ما لشعبه من الحقوق والحرية، ولأن أقصى مرامه كان ترقية البلاد وإصلاح قوانينها، وإني ربيت في البلاد الإنكليزية، ربتني أمي بما يعهد فيها من الحنو والذكاء، وهي أشد الأمهات حبا، وتعلمت من حداثتي أن أحترم قوانين بلادي وأحبها، وسيكون غرضي الدائم أن أحتفظ الاحتفاظ التام بالديانة المصلحة التي قررتها الشرائع مذهبا لهذه البلاد، مبيحة لكل أحد الحرية الدينية وأحمي حقوق كل رعاياي وأزيد من راحتهم ورفاهتهم بكل جهدي.
وقد مرت سبعون سنة منذ نطقت بهذه الوعود والعهود، وكل سنة منها تشهد بأنها قامت بعهودها، ولم تخلف وعدا من وعودها والسماء والأرض وأمم الشرق والغرب تزكي هذه الشهادة، ومن لا يزكيها وهو يرى بلاد الإنكليز ملجأ لكل مضطهد لسبب ديني أو سياسي، ورايات النجاح والفلاح تخفق في البلاد الإنكليزية في كل القارات والجزائر في مشارق الأرض ومغاربها.
وفيما كان الجرس الكبير في كنيسة مار بولس يدق دقة الحزن على الملك، كان رجال السلطنة ومشيرو الدولة تفدون إلى قصر كنسنتون لمبايعة الملكة، ولما انتظم عقدهم دخلت عليهم بثياب الحداد فاستقبلها عماها وركعا أمامها وبايعاها الملك وأقسما لها يمين الطاعة، فاحمر وجهها خجلا كأنها استغربت الفرق الشاسع بين علائق الناس النسبية والسياسية، ثم دنا بقية رجال الدولة وركعوا أمامها بحسب طبقاتهم، وقبلوا يدها فقابلتهم وهي على تمام الرصانة والهدو كأنها ألفت ذلك منذ حداثتها، قال السر روبرت بيل الوزير الشهير إنه كانت تلوح على وجهها أمارات من يعرف ثقل مهام الملك فيهابها ولكنه لا يجزع منها.
وهذه ترجمة البيعة التي تليت حينئذ:
لقد شاءت العزة الإلهية أن تتوفى إلى رحمتها ملكنا وسيدنا ومولانا الملك وليم الرابع السعيد الذكر الذي بوفاته آل تاج الممالك المتحدة ممالك بريطانيا العظمى وأرلندا إلى الأميرة العظيمة السامية ألكسندرينا فكتوريا مع حفظ حق من يولد لملكنا وليم الرابع المتوفى بعد وفاته، فنحن أمراء هذه المملكة الروحيين والزمنيين المجتمعين في هذا المكان مع الذين من مجلس ملكنا المتوفى الخاص، وغيرهم من السادة وذوي المقامات ومحافظ لندن وسكانها نعترف ونعلن بصوت واحد واتفاق اللسان والقلب، أن الأميرة السامية القديرة ألكسندرينا فكتوريا قد صارت الآن بموت ملكنا السعيد الذكر ملكتنا الوحيدة الشرعية بنعمة الله ملكة الممالك المتحدة بريطانيا العظمى وأرلندا حامية الإيمان، التي لها نعترف بالولاء التام والطاعة الدائمة بالحب والخضوع، ونسأل الله الذي منه الملوك والملكات ينالون الملك أن يبارك الأميرة فكتوريا لتملك علينا سنين كثيرة سعيدة.
وكان دوق ولنتون القائد الشهير والسر روبرت بيل الوزير الكبير بين الحضور الذين بايعوها، وأقسموا يمين الطاعة فخرجا مدهوشين مما شاهداه من عزة نفسها ووقار مجلسها، وقال اللورد كمبل «لقد أبهجني سلوك هذه الملكة الفتية؛ فإنني لم أشاهد شيئا أوقع في النفوس مما شاهدته منها، حشمة ودعة وحزن وحذر ومهابة ووقار وشمم وعزة نفس.»
ونودي بها ملكة في اليوم التالي وهو الحادي والعشرون من شهر يونيو (حزيران) في قصر سنت جمس باحتفال عظيم، وسر شعبها بذلك وحيوها بالغناء والتهليل، ولما رأت شدة حبهم وولائهم ملأت عينيها العبرات، وقد أشارت إلى ذلك أليصابات برونن الشاعرة الإنكليزية؛ حيث قالت ما معناه:
سلام الله يا من قد تولت
ودمع العين هطال هتون
سلام الله يملأ منك قلبا
وديعا لا تخامره الظنون
وحين تغادرين العرش طوعا
لمن في أمره كاف ونون
تتوجك الملائك تاج مجد
ولا دمع هناك ولا شجون
ودهش رجال السياسة المحنكون مما كان يبدو على الملكة من دلائل الذكاء والحزم مع الوقار والدعة، فقالوا إن في نفسها جوهرا مكنونا تظهره الأيام وتجلوه التجارب. ومرت الأيام وهي تلتفت إلى كل أمر من الأمور، وتقوم الساعة الثامنة صباحا وتأكل الغداء في غرفتها ثم تقرأ المراسلات السياسية، وتنظر في مهام المملكة المعروضة عليها إلى الساعة الحادية عشرة فيأتيها الوزير ملبرن حينئذ وينظر معها في الأشغال إلى الساعة الثانية بعد الظهر فتركب جوادها، وتخرج بموكب كبير والوزير ملبرن معها وتبقى في النزهة ساعتين وتعود الساعة الرابعة وتقيم إلى الساعة السابعة تتسلى بالموسيقى والغناء والرياضة، وتجلس للعشاء الساعة الثامنة فيتقدمها رجال بلاطها وتتلوها أمها والسيدات اللواتي عندها، وتأخذ بيد أعلى الحضور مقاما وتدخل غرفة المائدة وتجلس في صدرها ولورد ملبرن عن يسارها، ثم تقابل الحضور بعد العشاء في غرفة الاستقبال وتكلم كلا منهم، وتقيم معهم إلى الساعة الحادية عشرة وتنام بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة، وجرت على ذلك أكثر أيام حياتها.
شكل 4-1: قصر بكنهام.
وبعد ستة أيام من المناداة بها ملكة على المملكة الإنكليزية جاءها كتاب من ابن خالها البرنس ألبرت يقول فيه: «الآن أنت ملكة على أقوى مملكة في أوروبا، وفي يديك سعادة ملايين من الناس، أسأل الله أن يعضدك ويقويك بقوته لكي تقومي بمهام الملك، وأرجو أن تكون سنو ملكك طويلة سعيدة مجيدة، وأن تجازي على سعيك بشكر شعبك وحبهم لك.»
وكان مجلس الوزراء قد رفع إليها ختوم مناصبه بعد اجتماع المجلس الخاص على جاري العادة فردتها إليه؛ أي إنها ثبتت الوزراء في مناصبهم.
وبقيت في قصر كنسنتون مع أمها، ولكنها أقامت في قسم خاص منه لكي لا يقال إن أمها تتعرض لشئون الملك، وبقيت البارونة لهزن معها دائما لا تفارقها إلا حينما يأتي الوزراء ليعرضوا عليها مهام الملكة، وكانت تنظر في كل المسائل بالتروي ولا تبت حكما قبل إعمال النظر فيه، وكان اللورد ملبرن كبير الوزراء حينئذ قد اختار لها النساء اللواتي يقمن على خدمتها فلم تعارضه في ذلك، ولكنها اختارت أيضا مربيتها البارونة لهزن؛ لتكون كاتمة لأسرارها، ومعلمتها مس دافس لتكون من خادمات الشرف، وجعلت أباها الدكتور دافس مطرانا على بتربرو، وكانت تحكم في بيتها بسلطة ووداعة، قيل إن خادمة من خادمات الشرف تأخرت عن الحضور ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة رأت الملكة قائمة في انتظارها وساعتها في يدها، فانتبهت لذلك وقالت لعلي تأخرت عن جلالتك. فقالت الملكة: نعم، عشر دقائق. فاحمرت هذه خجلا وجعلت يداها ترجفان جزعا، ورأت الملكة منها ذلك فرأفت عليها وساعدتها في إصلاح ردائها وهي تقول: سنصطلح كلنا إن شاء الله ونقوم بواجباتنا.
وفي الثالث عشر من يوليو (تموز) انتقلت بحاشيتها إلى قصر بكنهام المرسوم [في شكل
4-1 ] وهو في مدينة لندن يحيط به جنات يانعة مساحتها خمسون فدانا فيها بحيرة مساحتها عشرة أفدنة وجعلت بلاطها فيه، وفي السابع عشر من الشهر ذهبت بنفسها إلى البرلمنت وحلته وجرت الانتخابات العمومية لمجلس النواب في شهر أغسطس (آب) وكانت ميالة إلى حزب الأحرار؛ لأن أباها كان ميالا إليه.
وفي تلك الأثناء حوكم أحد الجنود في مجلس حربي وحكم عليه بالقتل، فجاءها دوق ولنتون بالحكم لكي تؤيده فارتاعت من ذلك، وقالت له والدموع ملء عينيها: «ألم يفعل هذا الرجل شيئا يستحق الرأفة!» فقال: كلا؛ فإنه هرب من الجيش ثلاثا. فقالت فكر أيضا. فقال: يا مولاتي، إن هذا الرجل لا يصلح للجندية ولكنني سمعت واحدا يقول إنه حسن السيرة، فلا يبعد أن تكون سيرته حسنة في بيته. فتنهدت وقالت: الحمد لله وكتبت يعفى عنه. ولما رأت البرلمنت رقة قلبها عفاها من تأييد أحكام القتل.
وفتحت البرلمنت الأول في 20 نوفمبر (ت2) فجعل راتبها 385000 جنيه في السنة، وراتب أمها 30000 جنيه، وأخذت البلاد تستعد للاحتفال بتتويجها.
الفصل الخامس
تتويجها
كان تاج الملك وليم الرابع عم الملكة فكتوريا كبيرا ثقيلا لا يحسن أن تتوج به، فصنعوا لها تاجا صغيرا يصلح لرأسها ويقدر ثمن ما فيه من الحجارة الكريمة بمائة وثلاثة عشر ألف جنيه، وتوجت به بعد أن نودي بها ملكة بسنة وثمانية أيام، وكان لتتويجها احتفال لم يكن له مثيل اجتمعت له إنكلترا كلها.
قال المستر غرافل كاتب المجلس الخاص ما ترجمته: «لم تر هذه العاصمة (لندن) في وقت من الأوقات كما ترى الآن، فكأن عدد سكانها قد تضاعف خمسة أضعاف بغتة، والجلبة والضوضاء مما يفوق الوصف والفرسان والمشاة والمركبات تزدحم وتختبط، والناس يرقون السواري وينصبون الأعلام وأصوات المطارق تصم الآذان، والمدينة كلها ازدحام واضطراب، والناس كالبناء المرصوص يموجون كالبحر ويتلفتون يمنة ويسرة، والروض مملوء بالخيام والأعلام ولا تزال الطرق غاصة بالواردين إلى المدينة والمركبات مزدحمة بهم والمناظر كلها غريبة مدهشة، ولكن المرء يود أن ينقضي أمرها وتزول بأسرع ما يكون.»
وأصبح الصباح يوم الاحتفال والأمطار تهطل والمدافع تطلق، وخرجت الملكة من قصر بكنهام الساعة العاشرة صباحا بموكب يعز نظيره، وسارت سيرا وئيدا بين صفوف الجماهير وهم يحيونها بالهتاف ويحسبون أنها أول مرة صار فيها الملك للشعب لا الشعب للملك، إلى أن بلغت كنيسة وستمنستر حيث يتوج ملوك الإنكليز، وكانت الكنيسة قد زينت زينة يعجز القلم عن وصفها؛ أفرغ فيها الصناع أقصى مهارتهم وجمعوا بين أبهة الملك وعظمة الديانة، وانتظم في ذلك البناء الفاخر نخبة رجال الإنكليز ونسائهم، رجال السيف ورجال القلم، رجال الحرب والسياسة، رجال الثروة والجاه، رجال الصناعة والتجارة، وكل حسناء فتانة ، ولما وصلت الملكة إلى باب الكنيسة قابلها الأساقفة وقدمها رئيس أساقفة كنتربري إلى الشعب قائلا: أقدم إليكم أيها السادة الملكة فكتوريا، ملكة هذه المملكة التي لا ريب في صحة دعواها، فهل تعاهدونها عهد الطاعة؟ فأجابوه داعين لها بطول البقاء. ويقال إنه فيما كان التاج يوضع على رأسها انكشفت غيوم السماء، وبان وجه الشمس، ودخلت أشعتها الكنيسة، وانعكست عن جواهر التاج فتلألأت تلألؤا أبهر الأبصار وتفاءل به الناس أن ملكها سيكون بهيجا كنور الشمس.
وقال المستر غرافل بتاريخ 29 يونيو: انقضى الاحتفال ولله الحمد ولم يكن الهواء حارا ولا باردا، وكان الازدحام شديدا في الشوارع ولكن النظام كان سائدا فلم يحدث ما يكدر الصفاء. ثم وصف كيفية الاحتفال داخل الكنيسة، وقال إن القائمين به اضطربوا في أمرهم حتى لم يكونوا يدرون ما يعملون، مثال ذلك أن خاتم الياقوت الذي وضع في أصبع الملكة حينئذ صيغ لخنصرها فقال رئيس الأساقفة: إن الرسوم تقضي بوضعه في البنصر لا في الخنصر. فأدخله في بنصرها غصبا فآلمها كثيرا واضطرت بعد ذلك أن تغطس يدها في ماء مثلوج حتى أمكنها إخراجه.
وقبل أن مسحت بالزيت وألبست تاج الملك وقف رئيس الأساقفة أمامها وسألها عما إذا كانت تحكم بلادها حسب دستور البرلمنت وشرائع البلاد وقوانينها وعوائدها، وعما إذا كانت تقرن الشريعة بالعدل والرحمة، وعما إذا كانت تقيم حدود الله وتحافظ على حقوق خدمة الدين، فركعت أمام التوراة ووضعت يدها عليها، وأقسمت أنها تفعل ذلك بكل جهدها، وكان لورد ملبرن واقفا بجانبها وبيده سيف المملكة وإلى يساره عمها دوق سسكس ووراءه دوق ولنتن القائد الشهير وحولهم أمراء المملكة وعظماؤها، ويرى كل ذلك واضحا في [شكل
5-1 ]، ثم مسحها رئيس الأساقفة بالزيت على جبينها ويديها، وقال لتمسحي بالزيت المقدس ملكة على هذا الشعب الذي أعطاك إياه الرب إلهك؛ لتملكي عليه كما مسح الملوك والكهنة والأنبياء من قبلك، وقدم لها لورد ملبرن سيف المملكة ثم افتداه منها بخمسة جنيهات حسب عوائد البلاد، وألبست حلة الملك وخاتمه، وأعطيت الكرة والصولجان، ووضع رؤساء الكهنة التاج على رأسها، وللحال وضع الأمراء والعظماء تيجانهم على رءوسهم، وأطلقت المدافع، وصدحت الآلات الموسيقية بالنشيد الوطني، وأجلست على عرش الطاعة، ودنا منها رئيس أساقفة كنتربري وجثا على ركبتيه بالنيابة عن رؤساء الدين ثم قبل يدها، وتبعه سائر رؤساء الكهنة في تقبيل يدها، وتلاهم عماها دوق سسكس ودوق كمبردج فرفعا تاجيهما وخضعا لها ولمسا تاجها، وتلاهم سائر الأمراء والعظماء، وكان رئيس كل فريق منهم يقسم يمين الطاعة نيابة عن فريقه، وكان بينهم أمير اسمه لورد رول كان شيخا جاوز الثمانين فعثر وهو صاعد على درج العرش وسقط فأنهضه اثنان من الأمراء وساعداه على الصعود، ورأت الملكة ذلك فنهضت عن عرشها ودنت منه ومدت إليه يدها لتساعده على الدنو منها، ورأى الناس ذلك فسرهم عملها وهتفوا لها بالدعاء، وجرت رسوم أخرى لا داعي لبسطها هنا، وتم الاحتفال نحو الساعة الرابعة بعد الظهر، وعادت الملكة إلى قصر بكنهام وتاج الملك على رأسها والصولجان في يدها، وعاد معها الأمراء والعظماء وتيجانهم على رءوسهم رجالا ونساء، ولا تسل عن بهاء ذلك المشهد وما فيه من الأبهة والمجد، وكانت الشوارع والكوى والشرفات والسطوح المشرفة على الشوارع التي سار الموكب فيها غاصة بالجماهير وهم يهتفون هتاف الفرح والابتهاج.
شكل 5-1: الملكة تقسم على التوراة.
وأولمت الملكة وليمة فاخرة تلك الليلة لمائة من رجالها، وأولم رجال الدولة ولائم عظيمة احتفالا بتتويجها.
وبلغت النفقات التي أنفقتها الحكومة على تتويج الملكة سبعين ألف جنيه، ودفع الشعب مائتي ألف جنيه أجرة للأماكن التي وقفوا فيها لمشاهدة موكب الاحتفال.
الفصل السادس
زواج الملكة
قلنا في فصل سابق إن الملكة رأت البرنس ألبرت ابن خالها آرنست، وأحبت أن تقترن به ولكنها لما تربعت في سرير الملك شغلتها مهامه عن الزواج، فكتبت إلى خالها ليوبولد ملك البلجيك أنها صرفت فكرها عن الزواج حينئذ، وأنها لا تقدر أن تهتم به قبل بضع سنوات، وبلغ البرنس ألبرت ذلك فقال لخاله إنني أنتظرها كما تريد إذا كنت واثقا أنها تقترن بي بعد ذلك، ولكنني لا أريد أن أنتظرها بضع سنوات ثم أجد أنها عدلت عن الزواج فأصير هزءا في الدنيا ومضغة في أفواه الناس.
وحدث في تلك الأثناء أن استعفت وزارة ملبرن لأنها غلبت في مجلس النواب، فحزنت الملكة من جراء ذلك واستدعت دوق ولنتن ليشكل وزارة جديدة، وأخبرته بحزنها على استعفاء الوزارة القديمة ولا سيما على استعفاء رئيسها لورد ملبرن لما كانت تراه فيه من صدق النصح ولين العريكة، فسر ولنتن بما أبدته له من حرية الضمير، وقال لها إنه لا يستطيع أن يشكل وزارة لكبر سنه وضعف سمعه، ولكنه نصح لها أن تستدعي السر روبرت بيل وتطلب منه تشكيل الوزارة، فكتبت تدعوه إليها فحضر وقبل بتشكيل الوزارة الجديدة، واقترحت عليه أمورا أجراها حالا لكنه قال لها إنه لا بد من إبدال بعض السيدات القائمات على خدمتها بغيرهن من السيدات اللواتي حزبهن السياسي لا يخالف حزبه؛ لكي لا يعرقلن مساعيه فأبت عليه ذلك وأصرت على الإباءة، فقال لها إنه يستشير إخوانه في هذا الأمر وانصرف وهو يرى أن تشكيل الوزارة على تلك الحال ضرب من المحال، فعادت وزارة ملبرن إلى منصة الأحكام والأمة غير راضية عنها وكثر القيل والقال بسبب ذلك.
وبلغ الملك ليوبولد ومشيره البارون ستكمار ما جرى فرأيا أن الملكة أمست في مركز حرج أمام وزرائها، فلاما لورد ملبرن وبادرا إلى رفء الخرق قبل اتساعه، وحسبا أن لا بد للملكة من مشير حكيم يخلص لها النصح، وتجد من نفسها ارتياحا إلى اتباع مشورته، وكان البارون ستكمار واثقا أنها إذا رأت البرنس ألبرت حينئذ تذكرت ماضي حبها له ودعته ليكون زوجا لها وشريكا في السراء والضراء، فأتى البرنس ألبرت وأخوه البرنس آرنست إلى بلاد الإنكليز فرحبت بهما، ولما وقع نظرها على البرنس ألبرت، وكان قد صار رجلا بارع الجمال تلوح في وجهه مخائل النجابة والهمة، كتبت إلى خالها الملك ليوبولد في اليوم التالي تقول إن جمال ألبرت يفوق الوصف، وهو على جانب عظيم من الأنس والطلاقة، وهو وأخوه غاية في الدعة وأنس المحضر، وقد سرني مجيئهما إلى هنا.
والقوانين المتبعة في بيوت الملك تقضي أن تكون الملكة هي البادئة في مخاطبة من تريد الاقتران به فدعته إليها بعد أيام قليلة، وسألته عما إذا كان يريد أن يقاسمها أفراح الحياة وأحزانها فأجابها بالإيجاب، وكتبت ذلك اليوم إلى خالها تقول:
خالي الأعز
لا بد من أنك تسر بكتابي هذا؛ لأنك كنت دائما تعرب عن سرورك واهتمامك بكل ما يختص بي، قد صممت النية الآن على الاقتران بألبرت وأخبرته بذلك وسررت جدا بما بدا منه من دلائل الحب الصادق، وإني أراه عين الكمال وأعتقد أني سأكون سعيدة به، وسأبذل جهدي لأخفف عليه الخسارة التي سيخسرها لأجلي، وأراه شديد الدربة وذلك لازم جدا لمن كان في منصبه، وقد مرت هذه الأيام القليلة كأنها أحلام، وتركتني مضطربة في أمري حتى لا أدري كيف أكتب إليك، ولكنني مسرورة جدا، ولا بد من كتم هذا الخبر فلا تخبر به أحدا إلا خالي آرنست (أبو البرنس ألبرت) حتى يجتمع البرلمنت، وإلا حسب عدم جمعي البرلمنت واطلاعه على هذا الأمر إهمالا مني.
وقد استشرت لورد ملبرن في كل شيء فصوب رأيي وأظهر السرور التام، وجرى في هذه المسألة كما جرى في غيرها باللطف التام، واستحسنا أنا وألبرت أن يكون اقتراننا في أوائل فبراير (شباط) المقبل بعد اجتماع البرلمنت.
وختمت كتابها بعد أن أباحت له أن يخبر البارون ستكمار بذلك فأجابها في الرابع والعشرين من الشهر بما ترجمته:
ما كنت لأسر بشيء كما سررت بكتابك، وكدت أقول كما قال الشيخ سمعان «الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام.» فقد اخترت من كنت واثقا أنه أصلح لراحتك من كل أحد، ولأنني كنت مقتنعا بذلك تمام الاقتناع كنت أخشى ألا يتم؛ لأن الدهر كثيرا ما يعكس الآمال.
وأنت في منصبك السياسي المحفوف بالمتاعب لا يمكنك أن تستغني عن الراحة والسعادة اللتين يجدهما الإنسان في بيته، وأنا واثق أن في ألبرت من المناقب ما يلزم لسعادتك وما يناسب أخلاقك وطبعك.
ولقد قلت إنه يخسر كثيرا إذا اقترن بك ، وهذا صحيح من وجوه كثيرة؛ لأنه يكون في مركز حرج جدا، ولكن خسارته وربحه يتوقفان عليك، فإن كنت تحبينه وتكرمينه سهل عليه ما يجده في هذا الموقف الحرج، وهو صبور رضي الأخلاق فلا يصعب عليه ذلك.
وقد استحسنت رأيك في كتم الأمر إلى حين اجتماع البارلمنت؛ لأن جمع أعضائه الآن ليس بالأمر السهل عليهم.
وكتب البرنس ألبرت بعد ذلك بأيام إلى جدته يقول:
جدتي العزيزة
أخذت القلم ويدي ترتجف؛ لأنني أخشى أن ما سأخبرك به يجعلك تفتكرين بأمر آخر يؤلمك كما يؤلمني وهو الفراق، فقد تم الأمر الذي كنا نتذاكر فيه. استدعتني الملكة منذ أيام، وقالت لي صريحا إنني أنيلها أقصى السعادة إذا أمكنني أن أقاسمها سراء الحياة وضراءها، ولو كان في ذلك خسارة كبيرة علي، وقالت إن الأمر الوحيد الذي يكدر صفاء عيشها هو أنها لا تحسب نفسها أهلا لي، قالت ذلك على أسلوب سحر لبي ببساطة فلم أر لي بدا من التسليم لها، وإني أثق أننا سنعيش عيشة راضية.
وكتب إلى البارون ستكمار يجيبه على كتاب بعث به إليه، فقال:
تمت نبوءتك بأسرع مما كنا ننتظر، وقد حفظت وصيتك الصالحة من قبيل الأساس الذي تبنى عليه راحتي وسعادتي، وهذه الوصية تنطبق على المبادئ التي اتخذتها أساسا لأعمالي؛ أي أن أكون في آدابي وسلوكي مستحقا لرضا الملكة وشعبها وحبهم وثقتهم، فإذا كنت كذلك وبدا مني قصور أو تقصير وجدت من يقيل عثرتي؛ لأنه مهما كانت الأعمال عظيمة والغايات نبيلة لا يرتفع بها مقام المرء ما لم يكن فيه من الأخلاق ما يحمل الناس على الثقة به، فإذا أثبتت أعمالي أني أمير نبيل كما تنتظر مني سهل علي السلوك الحسن المقرون بالحكمة والسداد، واجتنيت ثماره الصالحة، وإني أراني شديد العزيمة لكي أتحلى بأفضل المناقب ولكن لا بد لي من النصح الصالح ومن أقدر منك عليك، فحبذا لو استطعت أن تنقطع إلى إرشادي ولو في السنة الأولى من قيامي في هذه البلاد.
هذه كتابة شاب في العشرين من عمره، وغني عن البيان أن من كان في هذا السن وبدت منه هذه الشمائل وخط قلمه هذه الحكم؛ حيث لا داعي إلى التصنع والمراءاة لجدير بأن توسد له المناصب السامية ويكون شريكا لأعظم ملكة ورئيسا على بيتها.
وكان يعلم علم اليقين أن مركزه سيكون حرجا جدا بعد اقترانه بالملكة؛ لأن مقامه الزوجي أعلى من مقامها ولكن الشعب الإنكليزي لا يرضى إلا أن يبقى مثل واحد من رعيتها، أما هو فساد بيته كما يحق للرجل الفاضل الحكيم بالصبر والرزانة والدعة، وساعده على ذلك تعقل الملكة وحسن نظرها في العواقب، والفضل كل الفضل للحب المشترك الذي ساد عليهما كليهما وقادهما في سبيل الوفاق والوئام، وأبعد عنهما كل أسباب الجفاء والخلاف.
ويقال إنه لما جرى الاحتفال بقرانهما سألها الأسقف عما إذا كانت تبيح له قراءة فصل من الكتاب المقدس تؤمر فيها المرأة بطاعة زوجها وهو يقرأ عادة في صلاة الزواج، فقالت: «إنني أقترن كامرأة لا كملكة فلا تحذف شيئا من قول الكتاب.» وهو جواب حكمة وسداد لا يصعب على من تقوله في مثل ذلك الموقف أن تعيش مع زوجها كزوجة لا كملكة، وقد عاشت كذلك كما سيجيء.
ودعت أعضاء مجلسها الخاص إلى قصر بكنهام وأخبرتهم بما تم من أمر الخطبة، وهذه ترجمة ما تلته عليهم حيئنذ:
جمعتكم الآن لكي أخبركم بما عزمت عليه في أمر له ارتباط شديد بخير شعبي وبسعادة نفسي، فقد عزمت أن أقترن بالبرنس ألبرت السكسكوتي، وعلمت أن الأمر هام جدا؛ ولذلك لم أقدم عليه إلا بعد التبصر الطويل وبعد أن تحققت أنه يدعو إلى راحتي البيتية ويخدم مصالح بلادي ببركة الله القدير، وقد رأيت أن أطلعكم على ذلك في أول فرصة لكي تعلموا هذا الأمر الهام لي ولمملكتي، والذي أشعر من نفسي أنه مقبول جدا لدى رعيتي المحبوبة.
وكتبت في يوميتها حينئذ تقول في الساعة الثانية تماما دخلت المجلس وكان غاصا بالحضور، وأنا لا أعلم من هم وشاهدت اللورد ملبرن بينهم وعيناه مغرورقتان بالدموع فتلوت عليهم الخبر ويداي ترتجفان، وفرحت لما أتيت على آخره ثم قام اللورد لنسدون (رئيس المجلس الخاص) وطلب مني باسم المجلس أن أسمح بطبع هذا الخبر ونشره.
وفرح الشعب الإنكليزي بذلك فرحا عظيما؛ لأنهم كانوا يخشون أن تعيش ملكتهم عزبة كالملكة أليصابات الشهيرة فنموت بلا عقب ويخلفها ملك هنوفر لأنه كان الوريث الوحيد لها ولم يكن محبوبا لدى الشعب الإنكليزي.
ولما اجتمع البرلمنت بعد ذلك (في 16 يناير) أتته الملكة نفسها، وأعلنت فيه خطبتها فهنأها أعضاؤه جميعا، واقترح لورد ملبرن أن يجعل راتب البرنس ألبرت خطيبها خمسين ألف جنيه في السنة، فلم يقر البرلمنت إلا على ثلاثين ألف جنيه، وعين له الوزير ملبرن سكرتيرا ليكون معه ويطلع على كل أموره، وهو سكرتير اللورد ملبرن الخاص فغاظه ذلك أولا ولا سيما لأنه كان يكره الانحياز إلى حزب من الأحزاب، ولكنه عاد فرأى ذلك السكرتير موضع ثقة فسر به واعتمد عليه.
وعين يوم الزواج، وكان البرنس ألبرت قد عاد إلى بلاده فأتى منها مع أبيه وأخيه وقوبل باحتفال عظيم ودخل في الرعوية الإنكليزية، وزار أعضاء العائلة المالكة ولقي منهم كل أنس ووداد.
وجرى الاحتفال بصلاة الإكليل ظهيرة العاشر من شهر فبراير سنة 1840 في كنيسة قصر سنت جمس، وتقاطر الناس لمشاهدة موكب الزفاف في ذهابه إلى الكنيسة وإيابه منها، وقام رئيس أساقفة كنتربري بصلاة الإكليل وعاد الموكب إلى قصر بكنهام الساعة الثانية بعد الظهر وانتظم حول المائدة الملكية، وبعد الطعام ذهبت الملكة وزوجها البرنس ألبرت إلى قصر وندزور وهو إلى الجنوب الغربي من مدينة لندن على ضفة نهر التيمس اليمنى، والقصر قديم من قبل أيام وليم الظافر، ولكنه تجدد مرارا كثيرة وأضيفت إليه مبان فخيمة وحوله رياض نضرة وغياض يكثر فيها الصيد، وترى في [شكل
6-1 ] صورة عرش الملكة في إحدى مقاصير هذا القصر.
شكل 6-1: عرش الملكة في قصر وندزور.
واحتفلت البلاد الإنكليزية احتفالا باهرا بزفاف الملكة ووقفت الجماهير على الطريق المؤدي إلى قصر وندزور يحيون العروسين بأصوات الهتاف ويدعون لهما بالعيش الرغيد والعمر المديد.
الفصل السابع
البرنس ألبرت زوج الملكة
ولد البرنس ألبرت في السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1819، واقترن بالملكة فكتوريا في العاشر من فبراير سنة 1840 - كما تقدم - وأصيب بالحمى التيفويدية، وتوفي في الرابع عشر من ديسمبر سنة 1861، وهو الابن الثاني من أولاد البرنس إرنست دوق سسكس كوبرج من نسل منتخبي سكسونيا.
وبدت على هذا البرنس مخايل النجابة من صغره فبرع في دروسه الكثيرة وامتاز بالصلاح من نعومة أظفاره، وكان يسعى جهده ليعين غيره ويذكر كل صنيعة تصنع له بالشكر والامتنان مهما كانت طفيفة، ولما كان له ست سنوات من العمر بلغه أن رجلا مسكينا احترق بيته، فأخذ يجمع له المال من المحسنين ولم يهنأ له عيش حتى جمع له ما يكفي لبناء بيته ثانية، ونما خلق الإحسان فيه بتقدمه في السن حتى صار ديدنا له.
وكان أخوه آرنست أكبر منه بسنة وقد ربيا معا وعاشا كروح واحدة في جسمين، ولذلك شق عليه فراقه كثيرا لما قضى عليه اقترانه بالملكة أن يقيم في البلاد الإنكليزية بعيدا عنه، وقد أشارت الملكة إلى ذلك مرارا في يوميتها، وعبرت عنه على أسلوب يحق أن يكون أنموذجا لكل زوجة، قالت: ما أشد ما أشعر به نحو زوجي العزيز! فقد ترك أباه وأخاه وبلاده لأجلي، فأسأل الله أن يأخذ بيدي وينعم علي حتى أجعله يسلو الذين فارقهم لأجلي وسأبذل جهدي في هذا السبيل.
وكان مع ذكائه ونجابته ولين قلبه شجاعا مهابا من حداثته، قيل إنه كان يلعب مع أترابه وهو فتى صغير السن فمثلوا الهجوم على برج قديم، وقال واحد منهم: هلم ندخل البرج من ثغرة وراءه. فقال لهم: كلا، لا يليق بفرسان مثلنا أن يهاجموا عدوهم إلا مواجهة. ولما أقام في البلاد الإنكليزية عرف أنه من أفرس الفرسان وأصبرهم على متون الجياد، وكان مغرما بالصيد والقنص، ولكنه كان يكره قتل الحيوانات لرقة قلبه.
شكل 7-1: البرنس ألبرت زوج الملكة.
ولما اقترن بالملكة رأى أن لا بد له من تجنب المشاكل الكثيرة التي يدعو إليها انحيازه إلى حزب من حزبي المملكة فتجنبهما كليهما وجعل نفسه فوق الأحزاب السياسية، وكتب إلى أبيه سنة 1841 يقول كل ما يمكنني أن أقوله عن مركزي السياسي الآن هو أنني أدرس المسائل السياسية الحاضرة باجتهاد عظيم، وأتجنب كل حزب سياسي، وأهتم بكل الجمعيات والنوادي العمومية وأكلم الوزراء جهارا في كل المواضيع لكي يكون لي إلمام بها كلها، ولا أجد منهم إلا كل لطف ودعة، وغرضي أن أساعد فكتوريا في منصبها بكل طاقتي.
ولم يمض وقت طويل حتى صارت الملكة تعتمد عليه في كل المسائل وتعمل برأيه في حل المشاكل حتى لما توفاه الله قالت: إنني سأشرع الآن في حكمي من جديد. قال المستر غرافل سكرتير المجلس الخاص: إن اللقب كان للملكة، وأما إدارة شئون المملكة فكانت بيد زوجها. وقال دزرائيلي لسفير سكسونيا لما توفي البرنس ألبرت: «قد دفنا الآن ملكنا، فإن هذا الأمير الألماني حكم إنكلترا إحدى وعشرين سنة، وكان في حكمه أحكم من كل ملك من ملوكنا، ولقد كان وزيرا للملكة كل مدة حياته معها، ولو بقي حيا إلى بعد وفاة فريق من وزرائنا المحنكين لنلنا به فوائد الحكومة المستقلة المضمونة بكل الضمانات الدستورية، أما نحن الأحداث الذي يحق لنا الانتظام في مجلس الوزراء فكل واحد منا يعترف للبرنس ألبرت بالفضل والتقدم، ولا نعلم ما يأتي به الغد، ونحن من اليوم سائرون في ليل بهيم يحيط بنا الظلام من كل ناحية.» وقال المسيو دورين ده ليس السياسي الفرنسوي: «إن الحكومة الإنكليزية لم تقلد البرنس ألبرت منصبا سياسيا، ولكنه ساس بفضائله الشخصية والعمومية، بمحبته لكل ما هو صالح بفعله السامي ومعارفه الواسعة، وفضائله الشخصية رفعت له عرشا لا ينازعه فيه أحد، عرشا في مملكة العلم والصناعة لا تصل إليه اضطرابات السياسة.» وقال غيره من مشاهير الكتاب: إن البرنس ألبرت كان يعرف أحوال البلاد والزمان، فترك مشاغل الأحزاب السياسية للذين يسرون بها، ووقف نفسه على ما هو أسمى منها على المطالب العلمية والمنافع العمومية؛ حيث لا ينازعه أحد في سلطته، فخسر عرشا ماديا ليقيم لنفسه عرشا عقليا أدبيا. وسنأتي على طرف من أعماله فيما يلي من الفصول عن سيرة الملكة وأحوال البلاد في أيامها.
الفصل الثامن
حياة الملكة العائلية
كانت الملكة فكتوريا تكتب كل ما يجري لها يوما بعد يوم حسب العادة الجارية عند كثيرين من الأوروبيين، ولم تكن تقتصر على سرد الحوادث مجردة بل كانت تعقب عليها بما يبدو لها من الآراء، وكانت تطالع الجرائد وتقرأ فيها الخطب والمناظرات التي تتلى في مجلس النواب والأعيان وتكتب خلاصتها، واقتطفت من ذلك كتابا نشرته سنة 1868 وضمنته كثيرا من حوادث حياتها بين سنة 1848 وسنة 1861، ثم أتبعته بكتاب آخر سنة 1883 نهجت فيه منهج الأول وجعلته تتمة له. وألف السر ثيودور مارتن كتابا كبيرا بإرشادها في ترجمة زوجها البرنس ألبرت وهو في خمسة مجلدات، وكانت النساء المنتظمات في خدمتها يكتبن في يومياتهن ما يرينه ويسمعنه منها وما يشاهدنه في قصورها، وكثيرا ما كن يصفن ذلك فيما يكتبن به إلى أهلهن، وعليه فالمواد كثيرة لوصف حياتها كامرأة وزوجة ووالدة، وكثيرة أيضا لوصفها كملكة مما هو مشاهد من الارتقاء العظيم في ممالكها، ومما كتبه كبار المؤرخين عن ملكها، وهي في كل حال من هذه الأحوال قد بلغت غاية ما يطلب من نوع الإنسان من الكمال.
والحياة سهول وحزون وصفاء وكدر، والحكيم من لم تأخذه هزة الطرب إذا صفت له ولا أبطرته النعمة إذا جاءته، ومن يتحمل الأكدار بالصبر الجميل ويتعظ بها ويتعلم منها الإشفاق على المبتلين، ولقد أحسن من قال:
ألا إنما الدنيا كظل غمامة
إذا ما رجاها المستظل اضمحلت
فلا تك مفراحا إذا هي أقبلت
ولا تك محزانا إذا هي ولت
وما الملوك بمعزل عما ينال أبناء نوعهم من ضروب السراء والضراء، وما هم بالنسبة إليها إلا على ما فيهم من الأمزجة وما أدبوا به من مهذبات الأخلاق ومثقفات العقول.
ومن طالع الفصول الماضية عن حداثة الملكة فكتوريا وزوجها يتوقع لهما العيش الرغد لا بالنسبة إلى أنهما كانا محفوفين بكل أسباب الراحة والرفاهة؛ لأن هذه قد تسعد المرء وقد تشقيه، بل بالنسبة إلى حسن تربيتهما وتدينهما ورضي أخلاقهما ، لكن نوائب الدهر لم تحالفهما وشمس الحياة لم تقو دواما على تبديد غيوم الهموم والغموم من أمامهما، وإذا لم يكن في هذه الحياة الدنيا سوى المرض والموت، فكفى بهما مكدرين لكل صفاء، أضف إلى ذلك حسد الحاسدين وحماقة الحمقى.
وأول بلية كادت تقع بهما ودفعتها الأقدار أن البرنس ألبرت ركب مرة وذهب يطارد الأوعال وأطلت الملكة من إحدى كوى القصر فشاهدته راكبا فرسا جموحا، وقد عدا به في غابة غبياء ملتفة الأشجار فخفق فؤادها ووقفت حيرى في أمرها، ولطم البرنس بفرع كبير من فروع الأشجار فسقط عن الجواد وترضض قليلا، فركب جوادا آخر وعاد إلى القصر والملكة بانتظاره وهي لا تكاد تصدق بسلامته، وحدث ذلك بعد زواجهما بشهرين.
وبعد شهرين آخرين كانت الملكة والبرنس سائرين في مركبة مفتوحة نحو شروق الشمس في جهة الروض الأخضر، فلقيهما فتى في أثناء الطريق وأخرج غدارة من جيبه وأطلقها على الملكة فأجفلت الخيل وأوقفها السائق، لكن البرنس أمره أن يبقى سائرا، والتفت إلى الملكة وسألها عما إذا كانت قد ارتعبت مما جرى فضحكت وانغضت رأسها، لكن الفتى صوب غدارة أخرى وأطلقها عليها، وأحنى البرنس رأسها فمرت الرصاصة فوقه، وبادر الناس إلى الفتى فأمسكوه ووقفت الملكة في المركبة لتري شعبها أنها لم تصب بمكروه، ثم أسرعت مع زوجها إلى بيت أمها لئلا يبلغها الخبر فتضطرب، وعادت بعد ذلك إلى الروض، وكان الذين فيه قد بلغهم ما جرى لها فاجتمعوا بمركباتهم واصطفوا صفين سارا حول مركبتها كحراس لها وهي تومئ إليهم وتشكرهم باسمة مسرورة، ولكنها عادت إلى قصرها ودخلت غرفتها اغرورقت عيناها بالدموع شكرا لله واستعظاما للخطر الذي نجت منه.
وفي الصيف ذهبت هي والبرنس إلى قصر وندزور هربا من دخان لندن، وهما بارعان في الفنون الجميلة فكانا يقضيان ساعات الفراغ في التصوير والنقش والموسيقى. ورزقت ابنة في الحادي والعشرين من نوفمبر، وهي أرملة فردرك وليم إمبراطور ألمانيا المتوفى، ووالدة وليم الثاني الإمبراطور الحالي، وقبل أن مرت سنة على زواجهما كان البرنس يجري على الجليد في بحيرة قصر بكنهام فانكسر الجليد به وسقط في الماء المثلوج ولو لم تبادر الملكة إلى إغاثته لكن الخطب عظيما.
وحكم بالقتل على الفتى الذي أطلق الرصاص عليها فكرهت أن يقتل أحد بسببها، وبعد مداولة طويلة في هذا الموضوع أبدل القضاة عقوبة القتل بالنفي، ويوم اشتهر هذا الحكم حاول رجل آخر قتلها، وأطلق النار عليها فأخطأها فقالت إنني لا أستغرب ذلك ما دام قتل الملوك يعد في شريعتنا ذنبا سياسيا لا جناية، وبلغ السر روبرت بيل ذلك وكان رئيسا للوزراء فبادر إليها ليتداول مع البرنس ألبرت في هذا الأمر، ولما وقع نظره عليها اغرورقت عيناه بالدموع خجلا مما جرى، وللحال أقرت الحكومة الإنكليزية على ما طلبته الملكة وهو أن تحسب محاولة قتلها جناية كبرى.
وزارها في تلك الأثناء مندلسن الموسيقي الشهير وكتب إلى أمه يقول:
دعاني البرنس ألبرت لكي أرى أرغنه الجديد قبلما أبرح البلاد الإنكليزية، فذهبت إليه ووجدته جالسا وحده في غرفته، ودخلت الملكة حينئذ بثياب الصباح وقالت إنها عزمت على المضي إلى كلارمنت بعد ساعة ثم التفتت إلى ما حولها وقالت: انظروا كيف عبثت الرياح بأوراق الموسيقى وملأت أرض الغرفة بها، وانحنت وصارت تجمعها فأخذنا نساعدها في ذلك أنا والبرنس، ثم رجوت من البرنس أن يضرب على الأرغن أولا، حتى أفتخر بذلك حينما أعود إلى بلادي فضرب غيبا وأجاد إجادة يفتخر بها كل موسيقي، ووقفت الملكة بجانبه مسرورة، وتلوته أنا فضربت الفصل القائل ما أجمل إقدام المبشرين! وقبل أن آتي على آخر السطر الأول شاركاني في الغناء ... ثم سألتني الملكة عما إذا كنت قد نظمت أغاني جديدة، وقالت إنها مولعة بأغاني المطبوعة، فقال لها البرنس إذن يجب أن تغني له واحدة منها، فامتنعت أولا ثم قالت إنها تغني وفتشت عن الأغنية فلم تجدها؛ لأنها كانت قد ربطت مع بعض الأوراق والكتب لترسل إلى كلارمنت؛ حيث كانت عازمة أن تذهب، فقلت: لماذا لا تفكها؟ فنادت إحدى السيدات لتفكها وتأتي بها، ولما لم تحضر حالا ذهبت هي بنفسها لتأتي بها، فأعطاني البرنس ألبرت حينئذ خاتما بديعا من ألماس، وقال إن الملكة ترجو منك أن تقبل هذه الهدية تذكارا. ثم عادت الملكة وقالت إن الكتب قد أرسلت الآن فلا سبيل إلى إرجاعها، فقلت عساني ألا أحرم مما وعدت به بإرسالها، فجعلت تتداول مع زوجها، وأخيرا قر القرار على أن تغنينا أغنية أخرى، فذهبنا معها إلى غرفتها لنفتش عن هذه الأغنية فوجدت هناك مجموعة من أغاني الأول فطلبت إليها أن تغني واحدة منها بدل تلك، فأخذتها وغنتها ولم تخطئ إلا في صوت واحد منها، وأجادت في بقية الأصوات إجادة لا مثيل لها، لكنها قالت إنها خافت مني لأني أستاذ هذا الفن فلم تحسن الغناء أمامي، فمدحتها بما هي أهله وأشرت إلى الصوت الذي لم تجده، ثم غنى البرنس وغنيت أنا وأجدت على خلاف عادتي في مثل ذلك الموقف، واستأذنت بالانصراف فطلبا مني أن أعود إلى البلاد الإنكليزية سريعا وأزورهما.
ومرت السنون بحوادثها الكثيرة والناس يسعدون ويشقون في أطراف المعمورة، والملكة فكتوريا تشارك شعبها في سرائه وضرائه، وزوجها يدرس الشرائع الإنكليزية ويحل المشاكل السياسية، ورزقهما الله أربعة بنين وخمس بنات من سنة 1840 إلى سنة 1857 فربياهم في خوف الله.
والملكة فكتوريا مشتهرة بالتقوى ولكنها تكره التعصب الديني، والأدلة على ذلك كثيرة، منها كلام كتبته سنة 1850 وكانت مدرسة أكسفورد الجامعة ومدرسة كمبردج الجامعة والمجلس البلدي في مدينة لندن قد بعثوا إليها وفودا يشكون مما حسبوه اعتداء من الكاثوليك على سلطتها فكتبت: «إنني لا أريد أبدا أن أقول قولا تشتم منه رائحة التعصب، نعم إني متمسكة بمذهب البروتستنت أشد التمسك، وسأبقى متمسكة به ما دمت حية، ومستاءة من الذين يظهرون التدين وهم غير متدينين، لكنني آسفة جدا على ما أراه من التعصب الذي يبدو من كثيرين، ولا أحتمل أن أسمع الأقوال التي تقال ضد المذهب الكاثوليكي؛ لأنها تؤلمني جدا ولأنها اعتداء على كثيرين من الكاثوليك الفضلاء، ومع ذلك فإني أرجو أن تزول أسباب هذا الاضطراب حالا، وتكون النتيجة حسنة على كنيستنا.»
ومن كانت كذلك يسهل عليها أن تحكم ملايين من الناس على اختلاف مذاهبهم وتربي أولادها في خوف الله وحب القريب، ونشأ أولادها على ما ربتهم، وابنتها الأولى صورت صورة بديعة وهي في الخامسة عشرة من عمرها وعرضتها في معرض الصور فبيعت بمائتي جنيه، فدفعت ثمنها لأرامل الضباط الذين قتلوا في حرب القرم، وذلك أدل دليل على حسن التربية والرأفة بالمبتلين.
ولم تكتف بتعليم أولادها وتهذيبهم بل عودتهم هي وزوجها تحمل المشاق من صغرهم؛ لكي يرثوا للرعية، فكان الصبيان يعملون مع العمال في بستان قصر وندزور، ويأخذون أجرة مثلهم، وبنوا مرة حصنا بأيديهم وضربوا له الآجر وشووه أيضا، وكانت البنات يتمرن على كل الأعمال المنزلية حتى الطبخ، وكن يطبخن ويوزعن ما يطبخنه على الفقراء، وكانت الملكة تمضي بأولادها إلى المعابد في أوقات العبادة وتنتبه إلى مواعظ الواعظين أشد الانتباه وتستفيد منها، قالت مرة في يومياتها: «وعظنا القس كيرد المحترم وهو من أشهر الوعاظ في سكتلندا، فأبان لنا أن الديانة الصحيحة تتغلب على كل أعمال الإنسان، لا تقتصر على القيام بالفروض الدينية، ولا تمنع معاملة الناس، بل تجعل صاحبها صالحا في كل أعماله.» وقد مدحت هذه العظة وأمرت بطبعها على نفقتها.
ودخلت سنة 1861 والحزن بين يديها فتوفيت فيها أم الملكة فحزنت عليها الملكة وزوجها وأولادهما حزنا شديدا، وكان البرنس قد أصيب بألم عصبي في وجهه، فجاء موت حماته واهتمامه الشديد بتوزيع تركتها؛ لأنها أقامته وصيا عليها ضغثا على إبالة، ثم بلغه أن الحمى التيفويدية دخلت بلاط ملك البرتغال فأماتت الملك وأخاه، وكان هذا الملك صديقا حميما له، فحزن عليه حزنا شديدا، وجعل يفكر في زوال الدنيا ودنو الأجل، وقال للملكة: لو عرفت أن أحبائي الذين أتركهم يعتنى بهم الاعتناء الواجب لقلت إني مستعد لمفارقة هذه الحياة غدا.
وكانت جراثيم الحمى التيفودية قد دخلت بدنه من حيث لا يدري، وحاربت جيوش الكريات الدموية وتغلبت عليها فلزم فراشه أياما وهو يزداد ضعفا وسقما والملكة قائمة على خدمته بنفسها لا تفارقه ساعة، ولما دنا الأجل اجتمع أولاده في غرفته وركعوا حول سريره هم ووالدتهم، فتنفس النفس الأخير وفاضت روحه إلى باريها، ولا تسل عما شمل البلاد الإنكليزية من الدهشة والكآبة، أما حزن الملكة عليه فلا يصفه لسان ولا يعبر عنه قلم، وقفت في أول الأمر حيرى وقد جفت الدموع من عينيها فخاف الأطباء من ذلك وأوجسوا شرا، ثم احتضنت ابنتها الصغرى ففاضت عيناها بالدموع وجرى الحزن مجراه الطبيعي، ولولا ذلك لقضي عليها. وقد تكرر هذا المصاب على الملكة بموت ابن وابنة وحفيد، ولكن موت زوجها كان أشد مصاب عليها، ولم تبرأ نفسها من أثره حتى الآن، وتزوج أولادها بعد ذلك وتوالت عليها أسباب الهناء والسرور، لكن حزنها لم يفارقها ولو لم يصرفها عن القيام بمهام ملكها والاهتمام بشأن أولادها.
شكل 8-1: الملكة فكتوريا تكلم ابنة صغيرة في مستشفى لندن.
وتعلمت من هذا المصاب الفادح أن ترثي لكل مصاب من رعاياها ومن غيرهم، وقد انتبه المصورون لذلك فصوروها وهي تزور المستشفيات وتكلم المرضى وتواسيهم وترثي لمصابهم كما ترى في [شكل
8-1 ]، وقد حدث ذلك في مستشفى لندن سنة 1876؛ فإنها كانت تطوف في غرف ذلك المستشفى يوما ما وبلغ ابنة صغيرة أنها هناك فجعلت تنادي بأعلى صوتها دعوني أر الملكة، فإن رأيتها زال ما بي من المرض، وبلغ الملكة ذلك فأسرعت إليها وأخذت بيدها وجعلت تكلمها باللطف والدعة كما ترى في [شكل
8-1 ]، وصوروها أيضا وهي تصنع الأحرمة بيديها كما ترى في [شكل
8-2 ] لتبعث بها إلى المرضى في المستشفيات، ذلك فوق الأموال الطائلة التي تجود بها كل سنة على المعوزين، نعم إن حراما تصنعه لا يدفئ المتدثر به أكثر من حرام يصنعه غيرها، ولكن في هذا الصنيع فائدة لا تقدر للأمة كلها؛ لأن الناس على دين ملوكهم، فإذا رأوا هذا الفضل وهذا الاهتمام من ملكتهم أخذوا إخذها وجروا على خطتها.
شكل 8-2: الملكة فكتوريا وابنتها البرنسس بينرس تصنعان أحرمة لمستشفى ننلي.
الفصل التاسع
حياة الملكة السياسية
لا نجد بين الألوف الذين سادوا الممالك وقاموا بمهام الملك إلا قليلا من النساء، كأن المرأة لم تولد لتسود بل لتساد ولو كانت سيدة في بيتها، لكن النساء القليلات اللواتي أدليت الأحكام إليهن كزينوبيا ملكة تدمر، وكاترينا ملكة الروس، وأليصابات ملكة الإنكليز؛ قبضن على أزمتها بأيد من حديد وسسن ممالكهن بالحكمة والسداد، والملكة فكتوريا أطولهن حكما وأوفرهن حكمة بإجماع كل الذين انتقدوا أعمال الملوك، وسر نجاحها في حكمها جريها على إرادة شعبها ووزرائها، فإنها لم تترك شعبها ليختار له النواب الذين يريدهم، فتسلم مقاليد الأحكام لزعيم الحزب الأكبر من هؤلاء النواب، ولا تقف عند هذا الحد ولا تكف عن الاهتمام بشئون المملكة، بل تساعد وزراءها في أعمالهم كأنها تصب عليها زيتا وبلسما حتى يقل، الاحتكاك بين مصالح العباد ويصحب كل سهم نافذ بمرهم يداوي الجراح ويزيل الآلام، فتاريخها السياسي هو تاريخ وزرائها الذين ولتهم الأحكام من حين تربعت في سرير الملك إلى الآن، وسنقتصر على ذكر أشهرهم.
لورد ملبرن
لما دعيت الملكة فكتوريا من المدرسة إلى سرير الملك كان لورد ملبرن رئيسا للوزراء، فجعل غرضه الأول اطلاعها على أسرار السياسة وأساليبها، فنجح في ذلك نجاحا تاما؛ لأنه كان ينظر إليها نظر الوالد إلى ولده، فاعتبرته والدا رءوفا وصديقا حميما، لكن تعليمه لها لم يقتصر على شرح أساليب السياسة وغوامضها بل تناول تعويدها الصفح والتغاضي عن الذين يسيئون إليها، وكان هو أول مسيء في أمر الراتب الذي عين لزوجها وفي أمر تقدمه على غيره في الاحتفالات الرسمية، فإنه جعل الراتب أولا خمسين ألف جنيه في السنة، ولكنه لم يذاكر زعماء المحافظين فيه قبل أن يعرضه على المجلس كما هو الواجب عليه، فعارضوه فيه لما عرضه، وجعلوه ثلاثين ألف جنيه فقط، ثم جعل منزلة زوجها بعدها تماما ولم يذاكر زعماء الأشراف قبل أن يعرض عليهم هذا الأمر فأغضوا عنه، وبقي البرنس كأحد العامة، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة للملكة والغض من كرامة زوجها، لكنها تحملته بالصبر الجميل وأغضت عنه إغضاء الكرام، ولم ينقص اعتبار لورد ملبرن في عينيها لعلمها أن الإساءة غير مقصودة وأن الحسنات يذهبن السيئات.
وكان لورد ملبرن شيخا واسع الرواية عارفا بأساليب السياسة وأخبار الأيام، قوي الحافظة يستحضر ما يشاء من الأخبار والأشعار فيرويها على صحتها، وكان السر روبرت بيل نده في السياسة يقول إن ليس للملكة سبيل أفضل من اتباع مشورة لورد ملبرن في كل ما يشور به عليها، وكذلك دوق ولنتن زعيم حزب المحافظين في مجلس الأعيان قال جهارا في ذلك المجلس إن لورد ملبرن قد خدم الملكة أعظم خدمة ممكنة بإطلاعها على أساليب السياسة وتدريبها على الحكومة الدستورية وتعليمها كيف تسوس شعبها بموجبها.
شكل 9-1: الملكة ورؤساء وزرائها.
وكان خالها ملك البلجيك ومشيره البارون ستكمار يبذلان الجهد في تدريبها على الجري، بموجب مطالب الحكومة الدستورية وترفعها عن الأحزاب السياسية؛ حتى لا تنقاد إلى حزب من حزبي بلادها فتغضب الحزب الآخر وتصبح زعيمة حزب لا ملكة البلاد كلها، بل تبقى فوق الحزبين وتراعي مصالحهما على حد سوى، ولو كان لورد ملبرن قليل الولاء لمولاته أو مفضلا مصلحة حزبه على مصلحتها؛ لسهل عليه أن يقودها إلى حزبه ويجعلها منه لكنه لم يفعل ذلك ولا تركها تنقاد إلى حزبه من تلقاء نفسها، بل قاوم ميلها الطبيعي وعلمها أن تكون ملكة على البلاد كلها لا أن تكون رئيسة حزب من حزبيها.
ولما سقطت وزارة ملبرن حزنت على فراقه، ثم لما فارق الحياة الدنيا سنة 1848 لم يحزن عليه أحد قدر ما حزنت، بعد أن بذلت هي وزوجها جهدها ليسراه ويحليا مرارة حياته في السنين الأخيرة من عمره، وكتبت في يوميتها تقول: «إني أندب الآن، فقد الصديق الصادق والخل الوفي الذي كان يودني ويسعى في مصلحتي بكل جهده عن إخلاص تام وحب صادق، الذي كان صديقي الوحيد تقريبا في السنتين الأوليين من ملكي.»
وحدثت حوادث سياسية ذات شأن مدة وزارته، فثار أهالي كندا ونهض محمد علي باشا في مصر على الدولة العلية، فاتفقت إنكلترا والنمسا مع تركيا على إخراج إبراهيم باشا من سورية، وأخذت بيروت وهدمت حصون عكاء وردت العمارة التركية إلى الدولة العلية، وكادت تنشب الحرب بين إنكلترا وفرنسا بسبب ذلك ؛ لأن فرنسا كانت عازمة على مظاهرة محمد علي باشا لكي يكون لها الشأن الأعلى في مصر فتنضم عمارة مصر إلى عمارتها في البحر المتوسط وتصير قادرة على مقاومة إنكلترا، فأحبطت مساعي فرنسا بالمحالفة التي عقدت في 15 يوليو سنة 1840 بين إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا وتركيا؛ لحماية القطر المصري، وكان تيرس وزيرا لفرنسا فدهش لما سمع بهذه المحالفة وأخذ منه الغيظ كل مأخذ، وعزم الفرنسويون على محاربة الإنكليز لو لم يصرفهم ملك البلجيك عن ذلك، وكان قد اقترن بابنة الملك لويس فيليب ملك فرنسا، ونشبت الحرب بين إنكلترا والصين بسبب تجارة الأفيون، وعقد الصلح سنة 1842 على أن تدفع الصين 21 مليون ريال وتتنازل لإنكلترا عن هنغ كنغ.
وولد لورد ملبرن سنة 1779 وتوفي سنة 1848.
السر روبرت بيل
تولى الوزارة سنة 1841بحكم الشعب؛ لأن أكثرية النواب كان من المحافظين، فاضطرت الملكة أن تسند الوزارة إلى زعيمهم، وكان قد طلب منها أن تبدل نساء بلاطها بغيرهن على ما تقدم فساءها ذلك جدا، ثم كرر الإساءة إليها بطلبه تخفيض المال الذي قطع لزوجها لكن لورد ملبرن علمها مدة وزارته أن أول واجب عليها الخضوع لمطالب الأمة، فلم تر بدا من إسناد الوزارة إلى السر روبرت بيل حينما فاز حزبه في الانتخابات العمومية، فأخذت الختوم من الوزراء المعزولين وسلمتها له وللوزراء الذين اختارهم معه، ولم تكن قد فعلت ذلك قبلا، فعلت وجهها حمرة الخجل لكنها ملكت نفسها، وأظهرت الحزم الشديد ورأست مجلس الوزراء بعزيمة صادقة، واضطرب السر روبرت بيل في أمره أكثر منها مع ما هو مشهور عنه من الهمة والإقدام؛ لأنه شعر من نفسه أنه كان السبب في الإساءة إليها لكنه لم ير منها إلا كل دعة ولطف، فسكن جأشه ولا سيما لما رآها تكلمه كما كانت تكلم وزيرها السابق كأنها صفحت عما مضى وقصرت نظرها على مصلحة البلاد. ولما اعتزل الوزارة بعد خمس سنوات كتبت إلى خالها ملك البلجيك تقول: «لقد كان أمس يوما عبوسا؛ إذ اضطررت أن أفارق السر روبرت بيل ولورد إبردين وفراقهما خسارة لا مثيل لها علينا وعلى البلاد، فإنهما كانا صديقين مخلصين وكنا في أشد الأمن والاطمئنان معهما، وفي كل هذه السنوات الخمس التي توليا فيها الوزارة لم يشيرا بشيء إلا وفيه المصلحة لي ولبلادي.»
وفي مدة وزارته قهرت الحامية الإنكليزية في مدينة كابول وأوقع الأفغان بها وهي عائدة، وكان فيها 4500 من الجنود و12 ألفا من القديديين فلم يسلم منهم سوى رجل واحد ترك حيا ليبلغ حامية جلال آباد ما حل برفاقه، لكن الإنكليز أخذوا بثأر إخوانهم وفتحوا كابول عنوة.
وتوفي السر روبرت بيل سنة 1850 فحزنت الملكة عليه حزنا شديدا، وقالت: «إنه كان صديقنا الأصدق ومشيرنا الأحكم.» وكأنها تتكلم بصيغة الجمع؛ لأن زوجها كان قد صار شريكا لها في الملك.
اللورد جون رسل
لما سقطت وزارة السر روبرت بيل استدعت الملكة اللورد جون رسل وطلبت منه أن يشكل وزارة جديدة ففشل في أول الأمر، وعاد بيل إلى الوزارة، ثم اضطر إلى الاستعفاء ثانية، فشكل اللورد رسل وزارة سنة 1846 واضطر أن يستعفي سنة 1852 كما سيجيء، وتلاه لورد دربي ولورد إبردين، وأخذ نظارة الخارجية في وزارة لورد إبردين وعاد إليها في وزارة بامرستون الثانية، ثم عاد إلى الوزارة بعد موت بامرستون سنة 1865 ولم يقم فيها طويلا، وأوقع المملكة في اضطراب شديد مدة وزارته، فاغتاظت الملكة منه لكنها صفحت عنه حالا، ولما توفي سنة 1878 كتبت إلى زوجته تقول: إني أسيفة على صديقي الذي أخلص لي الولاء أربعين سنة، وزيري الأول والأشهر الذي لا أنسى لطفه لي في أوقات الشدة والضيق.
وهذا شأنها مع كل وزرائها، فإنها تنظر إلى الكبير منهم نظر الابنة إلى أبيها، وإلى الصغير نظر الأخت إلى أخيها، وإلى الجميع نظر الصديق إلى صديقه.
لورد بامرستون
لما استعفى السر روبرت بيل وسلمت الملكة مقاليد الوزارة للورد جون رسل جعل اللورد بامرستون وزيرا للخارجية، وكان بامرستون شديد العزيمة في السياسة الخارجية يقتحم مخاطرها غير هياب، فلقب بالشعلة النارية، ولما اعترض على سياسته في مجلس النواب دافع عنها بخطبة طويلة دامت خمس ساعات، ففاز على خصومه.
ولما أراد لويس نبوليون الارتقاء إلى عرش عمه نبوليون الأول كتبت الملكة إلى وزيرها اللورد جون رسل تقول: إنها استغربت جدا الحوادث التي حدثت في باريس، واهتمت بها أشد الاهتمام، ولكنها تحسب أنه يجب أن يخبر سفيرها في باريس؛ لكي يبقى على الحياد ولا يشترك فيما هو جار فيها بوجه من الوجوه؛ لأن كل كلمة يقولها يمكن أن تفسر على غير مراده. ولا يخفى أن رأي الملكة هذا عين الصواب، لكن بامرستون لم يعمل به، بل سبق فأخبر سفير فرنسا في إنكلترا أنه مستحسن لما فعله لويس نبوليون، ولم يستشر اللورد جون رسل ولا الملكة، فأشار عليه اللورد رسل أن يستعفي من منصبه، فاستعفى ثم اعترض على وزارة اللورد رسل فأسقطها، وقامت بعدها وزارة لورد دربي، فلم يشترك فيها مع أن لورد دربي عرض عليه أحد مناصبها، ثم سقطت وزارة لورد دربي، وأتت بعدها وزارة أرل إبردين سنة 1852، فجعل فيها وزيرا للداخلية، وسقطت هذه الوزارة سنة 1854، فسلمت الملكة مقاليدها للورد بامرستون، وكان حينئذ في الحادية والسبعين من عمره، وكانت نار حرب القرم مستعرة، فأذكى نارها إلى أن انقضت بأخذ سباستوبول وعقد الصلح.
وحدثت في مدة وزارته الحرب الأهلية في أميركا، والحرب بين فرنسا والنمسا، وبين النمسا وبروسيا والدنمارك، وتوفي سنة 1865.
وقد يظن لأول وهلة أن الحوادث تحدث والملكة غافلة عنها لعلمها أن وزراءها يديرون دفة السياسة على ما يرام، والواقع على الضد من ذلك؛ لأنها تراقب سياسة بلادها وسياسة البلدان الأخرى بعين ساهرة، وتشارك وزراءها في آرائهم، وإذا أصروا على عمل شيء مخالف لإرادتها جارتهم فيه ولو رغما عنها؛ لأنها تعلم أن ذلك واجب عليها لا مفر لها منه ما دامت حكومة بلادها دستورية.
ومما يذكر لها مشفوعا بشكر شعبها أنها تشاركهم دائما في السراء والضراء، فلما اشتدت الفاقة عليهم سنة 1847 بمحل الغلال حثت أهالي البر على جمع الصدقات للمحتاجين، وتصدقت عليهم بجانب كبير من مالها الخاص، وأمرت ألا يستعمل الدقيق الجيد في قصرها، واقتدى بها عظماء المملكة فحرموا أنفسهم الملاذ لكي يطعموا الفقراء.
وعقبت سني الشدة سنو الرخاء، وكانت الجنود الإنكليزية تلاقي الأهوال في بلاد الهند، فاستتب النصر لها أخيرا، وتغلبت على مملكة بنجاب وضمتها إلى السلطنة الهندية.
وخافت إنكلترا أن يقفو نبوليون الثالث خطوات عمه نبوليون الأول، أما هو فأكد لأوروبا أن السلم غرضه الذي يرمي إليه، فاعترفت به إنكلترا وبروسيا والنمسا ثم روسيا، وعلم أن ملوك أوروبا لا يرغبون في مصاهرته، فاختار له زوجة أميرة إسبانية، وزار معها إنكلترا فرحبت بهما الملكة والشعب الإنكليزي، وأقامت له ليلة راقصة في غرفة ووترلو، وكتبت إلى خالها تقول «من أغرب ما حدث الآن أني أنا حفيدة جورج الثالث رقصت مع الإمبراطور نبوليون ابن أخ عدو إنكلترا الألد في غرفة ووترلو وهو الآن حليفي الأقرب.»
وردت له الزيارة في باريس مع زوجها وولي عهدها فرحب بهم الفرنسويون أعظم ترحيب، وزارت قبر نبوليون الأول متكئة على ذراع نبوليون الثالث، وكتبت في هذا الصدد تقول: «إنها وقفت أمام قبر عدو إنكلترا الألد وأرغن الكنيسة يضرب سلامها، وكأن هذه الزيارة وتقديم هذا الإكرام لرفات العدو الميت محيا العداوة القديمة.»
وكان قيصر الروس نقولا الأول قد كاشف وزراء إنكلترا بغرضه في تركيا، وأشار عليهم أن يأخذوا مصر وكريت ويتركوه وشأنه، ثم حدث خلاف في أورشليم بين الأرثوذكس واللاتين نشبت بسببه حرب القرم بين روسيا والدولة العلية، فبذلت إنكلترا جهدها لمنع هذه الحرب، ولما رأت أنها لم تفلح اتحدت مع فرنسا لمعاونة الدولة العلية على الروس، فألقت الحرب أوزارها، وتوفي القيصر نقولا الأول في 2 مارس «آذار» سنة 1855، وخلفه ابنه إسكندر الثاني فسار في خطة أبيه، واهتمت الملكة فكتوريا في غضون هذه الحرب بصحة جنودها ومؤاساة جراحهم، وكانت تصنع الأحرمة بيديها، وترسل بها إلى الجنود فاقتدى بها نساء المملكة في هذا العمل المبرور، ولما بلغها ما حل بالجنود من الشدة والضنك كتبت إلى قائدهم تقول لا يمكنك أن تتصور مقدار ألمنا وشدته من جراء ذلك، وعادت الجرحى الذين أعيدوا إلى بلادهم فلم تسر برؤية المستشفى الذي كانوا فيه لضيق غرفه وعلو كواه فطلبت من وزير الحربية أن يبني غيره.
ورأت في زيارة أخرى أحد الجرحى، وكانت يده اليمنى قد قطعت في الحرب، فسألته عما إذا كان يشعر بألم، فقال: نعم إني أشعر بألم ها هنا. وأراد أن يضع يده السليمة على قلبه فدلت على كتفه، فنظرت إلى الطبيب وقالت: سمعت أن الإنسان قد يفقد عضوا من أعضائه فيشعر بألم في مكان آخر، ولكنني لم أتحقق ذلك قبلا. فقال الجندي: كلا يا مولاتي، بل لما كانت ذراعي سليمة كنت أحارب بها في خدمتك، ولو كان لي خمسون ذراعا لوقفتها كلها لك ولبلادي، أما الآن ففقد ذراعي يؤلم فؤادي. ففهمت الملكة مراده وشكرته شكرا جزيلا.
وسنة 1857 اتقدت نار الثورة في بلاد الهند، وكانت تحت سلطة شركة الهند الشرقية، فأشارت الملكة بإرسال المدد إلى الجنود التي فيها حالا وصوبت رأي القائلين بزيادة الجنود الإنكليزية في تلك البلاد، وأشارت بأن يرسل المدد فيالق كاملة لا فصائل متفرقة، لكي يبقى القواد مع جنودهم الذين عرفوهم، وأن يزاد عدد الجنود في البلاد الإنكليزية إلى الحد الذي سمح به البرلمنت بدل الجنود التي ترسل إلى الهند خوفا من أمر يأتي فجأة، فأجابها لورد بامرستون أنه تلقى إشارتها وعلم ما فيها مما كانت تقوله لو كانت في مجلس النواب. وقال: إن الذين يخالفونها في ذلك يشكرون الله؛ لأنها ليست في ذلك المجلس وإلا للقوا منها خصما عنيدا قوي الحجة سديد البرهان، أما الذين يوافقونها فيرون فيها أعظم نصير لهم لو كانت في مجلس النواب. أما من حيث ما تستدعيه أحوال الهند الحاضرة فقال: إن وزارته لا تألو جهدا عن عمل ما تقتضيه الأحوال، ولكن لا بد من أن يكون ذلك رويدا رويدا. فلم ترتض الملكة بهذا الجواب ولا بهذه السياسة، سياسة الإمهال والتسويف، فكتبت إليه تقول: «إنها تريد أن يرسخ في نفوس وزرائها أنه لا بد من الاهتمام حالا بمركز إنكلترا الحربي بنوع عام، والجري على خطة تكفل راحتها في المستقبل بدلا من الجري على مقتضى الحال ومداواة الحاضر بالحاضر، والأسلوب الذي تحسب أن لا بد من اتباعه هو أن يرسل إلى بلاد الهند كل الجنود التي تحتاج إليهم، ثم يعوض عنهم حالا بجنود أخرى تجمع بدلا منهم، وذلك لا يكلف الخزينة شيئا، بل يرفع عنها بعض الكلفة الحاضرة؛ لأن شركة الهند الشرقية تدفع كل نفقات الجنود التي ترسل إليها، فالنفقات التي كانت الخزينة تدفعها لهم تدفعها للجنود التي تجمع بدلا منهم وترد الضباط الذين تدفع لهم معاشات الآن إلى الخدمة فتقتصد الخزينة المعاشات التي كانت تدفعها لهم. وإن قيل: إن جمع الجنود ليس بالأمر السهل، قلت امتحنوا ذلك قبل أن تحكموا فيه، وإن قيل إن شركة الهند لا ترغب في استخدام الجنود الإنكليزية، قلت يجب أن تجبر على ذلك.» فعملت الحكومة برأي الملكة ونجحت وأخمدت الثورة في بلاد الهند، ولكن بعد عناء شديد، وسفك دماء كثيرة، وانتقلت سلطنة الهند الوسيعة من يد شركة الهند إلى يد الدولة الإنكليزية وكان ذلك سنة 1859.
وتوفي اللورد بامرستون في الثامن عشر من أكتوبر سنة 1865، وهو في الحادية والثمانين من عمره، ودفن في وستمنستر مدفن عظماء الإنكليز، وكان أشهر وزراء عصره، محبوبا في بلاده مرهوبا في سائر البلدان، وبقيت فيه همة الشباب إلى حين وفاته.
لورد إبردين
ولد سنة 1774 ودرس في مدرسة كمبردج الجامعة شأن غيره من أولاد الأشراف في بلاد الإنكليز فإنهم يدرسون في أكبر المدارس، ويأخذون العلم عن أكبر العلماء، وقد يشاركون فيه حتى يبلغوا منزلة رفيعة منه، فإن لورد إبردين هذا نال رتبة معلم في الفنون في العشرين من عمره، وهي لا تعطى إلا لمن قرن العلم بالعمل، ثم دخل مجلس الأشراف وجلس مع حزب المحافظين ثم جعل سفيرا في بلاد النمسا سنة 1813 فأتم عقد المحالفة بين إنكلترا والنمسا، وانتظم في وزارة دوق ولنتون وزيرا للخارجية وفي وزارة السر روبرت بيل واستعفى معه سنة 1846. وتألفت وزارة ممتزجة من المحافظين والأحرار سنة 1852 فقبل أن يكون رئيسا لها إجابة لطلب الملكة، فإن أحوال الملكة كانت في اضطراب شديد، واشتد الخلاف بين حزبيها فرأت الملكة أن تصلح بينهما بتأليف وزارة رجالها منهما كليهما، فتألفت تلك الوزارة وكان ذلك غاية ما تمنته الملكة كما صرحت مرارا.
ومرت الأيام ووزارة لورد إبردين مفلحة في سياستها ناجحة في أعمالها إلى أن نشبت حرب القرم واحتدمت نارها فلم يقو على احتمال شدائدها وهياج الأمة الإنكليزية بسبب ما أصاب أبناءها، واستعفى اللورد جون رسل أحد أعضاء الوزارة فأضعف ذلك عزائم اللورد إبردين فسقطت وزارته وخلفه لورد بامرستون كما تقدم، وذلك في سنة 1855، وتوفي لورد إبردين في مدينة لندن في 13 ديسمبر سنة 1860.
لورد بيكنسفيلد
هو بنيامين بن إسحاق دزرائيلي من يهود إسبانيا الذين هجروها في أواخر القرن الخامس عشر فرارا من ديوان التفتيش، لجأت عائلته إلى البندقية فأثرت فيها، ثم هاجرت إلى إنكلترا وولد فيها بمدينة لندن في أواخر سنة 1804 وختن حسب شريعة اليهود، ثم نصر ودرس علم الحقوق ليتعاطى المحاماة، وألف كثيرا من الروايات فاشتهر بها بين رجال الأدب ومال إلى السياسة، فدخل البرلمنت سنة 1837 بعد عناء شديد، ولما خطب أول خطبة فيه قابله الأعضاء بالضحك والهزء حتى إذا فرغ صبره قال لهم: «لقد شرعت في أمور كثيرة مرارا مختلفة، وكنت في الغالب أنجح فيها أخيرا، نعم إني أصمت الآن، لكنه سيأتي وقت تصغون فيه إلي.» وفي أقل من تسع سنوات جاء ذلك الوقت فأصغت البلاد كلها إلى أقواله وقاد حزب المحافظين في مجلس النواب ضد وزارة الأحرار سبع سنوات، ثم جعل رئيسا للوزراء سنة 1868 واستعفى في آخر تلك السنة، وأعطته الملكة لقب لورد بيكنسفيلد، فاعتذر عن قبوله لكي لا يحرم من الجلوس في مجلس النواب ومناضلة الوزارة، ولكنه أبقاه لزوجته وأخذ رئاسة الوزراء ثانية سنة 1874 وبقي فيها إلى سنة 1880، وهو الذي ابتاع أسهم ترعة السويس من مصر فجعل لإنكلترا المصلحة الكبرى في هذه الترعة والشأن الأعظم في القطر المصري، وهو الذي أعطى الملكة فكتوريا لقب إمبراطورة الهند، ونودي بها بلقب قيصر الهند في دلهى عاصمة ملوك المغول في غرة سنة 1877، ونودي كذلك في بمباي وكلكتا ومدراس. ولم تكن الملكة تسمع عنه في أول أمره ما يسرها؛ لأنه كان شديد الوطأة على مناظريه في مجلس النواب، وكان أولئك المناظرون من المقربين إليها، ولكن لما رأت حسن سياسته نسيت السيئات ونظرت إلى الحسنات على جاري عادتها، ولا سيما لأنه أظهر ولاءه لها على أسلوب يؤثر في النفوس وفي أوقات يصل تأثير المؤاساة فيها إلى أعماق الفؤاد، ذلك أنه لما توفيت دوقة كنت أم الملكة تكلم في مجلس النواب في صدد كتاب التعزية الذي أراد المجلس أن يبعث به إليها، فقال: «إن الفاجعة الشديدة التي فجعت بها الملكة ليس لها عندنا إلا سبيل واحد للعزاء، وهو ذكر أمانتنا للفقيدة وحبنا لها، وإن الملكة لحرية بأن ترى منا هذا الذكر المعزي المسلي، ولقد يقال إن حزن الناس يقل بارتفاع مناصبهم ولكن ذلك لا يصدق على هذه الحال؛ لأن الملكة التي تملك علينا اختارت من نفسها أن يكون بيتها مثل بيوت شعبها مع ما هي محفوفة به من مظاهر الملك والعظمة.»
ولما نشبت الحرب الأخيرة بين الدولة العلية وروسيا أخذ يناصر الدولة العلية، وبعث الأسطول الإنكليزي إلى الدردنيل لصد الروس واستدعى الجنود الهندية إلى مالطة، وطلب من مجلس النواب ستة ملايين من الجنيهات تأهبا للحرب، وحضر مؤتمر برلين مع اللورد سلسبري وعقد معاهدة برلين المشهورة واحتل قبرص. ثم نشبت حرب الأفغان وحرب الزولو، ولا يسعنا المقام لوصف ما حدث في هاتين الحربين من الويلات، وإنما نكتفي بالإلماع إلى حرب الزولو وقتل البرنس إمبريال ولي عهد نبوليون الثالث لما ظهر فيه من عواطف الملكة، فإن هذا البرنس كان يدرس في المدرسة الحربية الإنكليزية بولج، فلما نشبت حرب الزولو ذهب إليها متطوعا وأمر رؤساؤه ألا يدعوه يقتحم المخاطر، وذهب يوما للاستطلاع مع قليل من الجنود، وبينا كانوا جالسين يطعمون خيلهم، ويرسمون شكل البلاد فاجأهم الزولو وقتلوه، وكان ذلك في غرة يونيو سنة 1879، ولما بلغ نعيه الملكة انقض عليها كالصاعقة، وقد كتبت في هذا الصدد تقول: «قرع برون الباب ودخل ، فسألته: ما الخبر ؟ قال: شر. قلت: وما هو؟ قال: قتل البرنس الفرنسوي. فلم أفهم مراده، وكررت السؤال عليه، وحيئنذ دخلت بيترس (ابنتها) وبيدها تلغراف وهي تقول: وا حسرتاه! فقد قتل البرنس إمبريال، وإني أكتب هذه الكلمات الآن وأعضائي ترتعش، وللحال مسكت رأسي بيدي وقلت: كلا كلا! ذلك ضرب من المحال وأعولت في البكاء، وكانت بيترس تبكي بجانبي والتلغراف بيدها فأعطتني إياه.
وا حسرتاه عليك! وا لهفتاه عليك أيتها الإمبراطورة العزيزة! ولدك الوحيد الوحيد يا للمصيبة! ضاع رشدي ولم أعد أفتكر بأمر آخر، وا مصيبتاه! كلما فكرت في هذا المصاب زادني هما وغما، وقد شملتنا الدهشة كلنا فلم أنم حتى الفجر.»
ويقال إن الحكومة الإنكليزية أخطأت في قبول هذا البرنس بين جنودها، ولكن إذا وقع القدر بطل الحذر.
واشتدت المجاعة في بلاد الهند وساءت أحوال التجارة، فعلت شكوى الناس ونقموا على الوزارة حتى إذا جرت الانتخابات العمومية سنة 1880، كانت الأكثرية من حزب الأحرار فاستعفى اللورد بيكنسفيلد وجلس في مجلس الأعيان، وتوفي في السنة التالية في التاسع عشر من أبريل، فحزنت عليه الملكة حزنا شديدا وسار أولادها الثلاثة؛ برنس أوف ويلس ودوق كنوت والبرنس ليوبولد في جنازته، ووضعوا على نعشه إكليلين من الأزهار بعثت بهما الملكة أولهما من زهر البرمروز وكان مولعا به، وكتبت عليه «جزية المحبة من الملكة فكتوريا.» ثم زارت قبره هي وابنتها البرنسس بيترس ووضعتا عليها إكليلا آخر، واشتركت البلاد الإنكليزية كلها في الحزن على هذا الوزير العظيم، وحتى الآن يغطي تمثاله بأزهار البرمروز في التاسع عشر من أبريل تذكارا لوفاته، ويلبس الناس أزهار هذا النبات يومئذ تذكارا لذلك، وألفت جمعية سياسية سميت باسم هذا الزهر تذكارا له أيضا.
لورد روزبري
هو من بيت اسكتلندي قديم عريق في المجد، ولد بمدينة لندن سنة 1847، وأبوه لورد دلمني وأمه ابنة أرل ستنهوب الرابع وأخت أرل ستنهوب الخامس المعروف بلورد ماهون، توفي أبوه سنة 1851 فتزوجت أمه بدوق كلفلند وهي المعروفة الآن بدوقة كلفلند المشهورة بمؤلفاتها التاريخية.
درس في مدرسة أكسفرد الجامعة حيث درس غلادستون، واشتهر بالاعتدال من حداثته، وحسب بين رجال السياسة قبل أن يناهز الرابعة والعشرين من عمره، حتى إنه لما خطب خطبته الأولى اعترف له زعيم الحزب المضاد لحزبه بالمقدرة وقوة المعارضة.
وجعل وزيرا للخارجية في وزارة غلادستون التي تألفت سنة 1885، ولم تعش إلا بضعة أشهر ثم عاد إلى وزارة الخارجية سنة 1892 فاقتفى فيها خطوات سلفه لورد سلسبري كما يعلم سكان هذا القطر، وخلف غلادستون في رئاسة الوزارة - كما سيجيء - وهو في السابعة والأربعين من عمره، وبقي فيها إلى أن انحلت وزارته بسبب مسألة طفيفة وأعيدت الانتخابات ففاز المحافظون وصارت الوزارة منهم إلى الآن.
وتزوج لورد روزبري بابنة البارون مايرده رشيلد، وهي وريثة أبيها الوحيدة، وتوفيت سنة 1890 بعد أن أقامت معه اثنتي عشرة سنة، وكتب تاريخ الوزير بت الشهير وأتمه سنة 1891 بعد وفاة زوجته فقال في مقدمته «ألفت هذا الكتاب الصغير والعوائق كثيرة، وما غرضي منه سوى تقرير الحقائق، ولقد كان غاية مناي أن أتمه وأهديه إلى زوجتي، أما الآن فإني أجعله تذكارا لها.» وقد أظهر في هذا الكتاب تضلعه من السياسة كما أظهر امتلاكه ناصية الإنشاء.
غلادستون
هو وليم أورت غلادستون، ولد بلفربول في 29 سبتمبر سنة 1809 ودرس في مدرسة أكسفرد الجامعة، وقد رأينا تمثاله فيها يباهي به أساتذتها كما يباهون بجميع العظماء الذين تلقوا الدروس فيها، واشتهر وهو في المدرسة بقوة العارضة في الخطابة، وكان يكره المتطرفين في السياسة ويقول قول المحافظين، فتوسم المحافظون فيه سمات الخبر، وقالوا إنه سيكون من زعمائهم ولا سيما لأن ظل سلطتهم كان قد تقلص في ذلك الحين، وخيف من نزع مقاليد السياسة من الأمراء والوجهاء وإعطائها لعامة الشعب.
وترشح لعضوية مجلس النواب فانتخب عضوا من المحافظين سنة 1832، وأول خطبة ألقاها كانت دفاعا عن أبيه في معاملة العبيد، فإنه كان ذا أملاك واسعة في الهند الغربية، واتهم بامتهان العبيد الذين فيها، فدافع عنه دفاعا مفحما اختلب الألباب ببلاغته وحسن بيانه، وجاهر حينئذ بكراهة الرق وبوجوب تحرير الأرقاء، ولكنه عارض الإسراع في تحريرهم كلهم دفعة واحدة لما في ذلك من الضرر عليهم وعلى أسيادهم فأعجب السامعون بفصاحته، والظاهر أن كبار رجال النقد وأصحاب الحل والعقد رأوا من ذلك الحين جوهره وأنبئوا بما سوف يكون منه، فلقبه كبيرهم ماكولي برجاء المحافظين.
ولما أدليت الوزارة إلى السر روبرت بيل في آخر سنة 1834 عين غلادستون في نظارة المالية، وبعد شهرين عينه وكيلا لوزارة المستعمرات، وتقلبت الشئون السياسية حينئذ بسبب موت الملك وتنصيب الملكة فكتوريا وإعادة انتخاب مجلس النواب، فلم يعين له منصب سياسي حتى سنة 1841 فأقيم نائبا لرئيس ديوان التجارة، ورئيسا لدار الضرابة ثم رئيسا لديوان التجارة ثم وزيرا للمستعمرات، ولكنه اضطر أن يستعفي من النيابة عن البلاد التي كانت تنيبه عنها؛ لأنه رأى مذهبه السياسي لا ينطبق على مذهب الأمير الذي له الشأن الأكبر في تلك البلاد فانتخبته مدرسة أكسفرد الجامعة نائبا عنها.
وامتاز من ذلك الحين على أكثر رجال السياسة بالشهامة والشفقة على المظلومين إلى حد ينسى معه غرضه السياسي، وزار نابلي سنة 1850 ورأى سجونها والفظائع التي تجري فيها فوصفها وصفا اهتزت له أوروبا كلها فطبقت شهرته آفاقها.
وفي تلك السنة مات السر روبرت بيل ففقد به صديقا صدوقا ومرشدا أمينا لكن موته لم يضر به، بل كشف فضائله أمام الجمهور فعدته البلاد زعيما من أعظم الزعماء في مجلس نوابها، وأول خطبة أطارت شهرته في البلاد كانت ردا على دزريلي (لورد بيكنسفيلد)، فإن دزريلي يئس مرة من بقاء وزارته - وهو من الرجال الذين ينهض اليأس همتهم ويقوي عزيمتهم - فخطب في مجلس النواب خطبة اختلبت الألباب ببلاغتها ومزقت الخصوم بأدلتها ونكتها، ولم يكد يجلس في كرسيه حتى انبرى له غلادستون وقاوم الحجة بالحجة والدليل بالدليل، واستخرج الدر من بحار الفصاحة، واستنزل السحر من سماء البيان حتى لم يبق في النفوس أثرا لخطبة دزريلي، ومن تلك الساعة عد خطيبا من أبلغ الخطباء الذين نبغوا في البلاد الإنكليزية، وابتدأ حينئذ النضال بين هذين البطلين المجربين دزريلي وغلادستون ودام أربعا وعشرين سنة بلا انقطاع، وكان غلادستون قد عدل عن آراء المحافظين واعتنق مبادئ الأحرار، فعين وزيرا للمالية في وزارة اللورد بامرتسون، ولما قدم الميزانية للمجلس خطب فيه خطبة طويلة جدا دامت ساعات كثيرة، ولكن الحضور سمعوا كل كلمة منها بلهفة كأنهم يسمعون غناء أطرب المغنين. ويقال إن هذه الخطبة تستحق أن تحفظ في دواوين الإنشاء والسياسة كما تحفظ صور أشهر المصورين في متاحف الفنون.
وسنة 1865 توفي اللورد بامرستون فشكل اللورد رسل وزارة وجعل غلادستون رئيسا لمجلس النواب، واتفقا كلاهما على توسيع نطاق الانتخاب وأنشآ لائحة في ذلك قدماها إلى المجلس فقاومها المحافظون وجم غفير من الأحرار، فسقطت الوزارة بسبب ذلك ودعي دزريلي لتأليف وزارة جديدة، ولكنه رأى أن لا بد له من السير في خطتهما من حيث توسيع نطاق الانتخابات.
ثم التفت غلادستون إلى أرلندا وما فيها من الضيق فاهتم بإصلاح شئونها وتعليم شعبها وتوسيع نطاق التعليم في البلاد الإنكليزية كلها، وغلب الوزارة في أمور كثيرة فحل مجلس النواب وأعيدت الانتخابات فكانت الأكثرية من الأحرار، فجعل رئيسا للوزارة وذلك سنة 1869، ومن ثم أخذ الإصلاح يتسع نطاقه في أرلندا وإنكلترا كلها، ودامت وزارته إلى سنة 1873 ثم غلبت فاستعفى وأعيدت الانتخابات فكان الفوز للمحافظين ورأس دزريلي الوزارة سنة 1874.
وكثر اشتغال غلادستون حينئذ بالتأليف والتصنيف في المواضيع الأدبية والتاريخية، ثم حدثت حوادث البلغار فرمى الأقلام والدفاتر وهاج خواطر أوروبا كلها ضد الدولة العثمانية، وحل مجلس النواب الإنكليزي سنة 1880 وأعيد الانتخاب، ففاز الأحرار ورأس الوزارة والمشاكل كثيرة في كل مكان لكنه نجح في توسيع نطاق الانتخاب حتى كاد يكون عاما. ولم يصف لوزارته الزمان فحدثت في أيامها مشاكل كثيرة أهمها الثورة العرابية وسقوط الخرطوم، ثم قدم لائحة الاستقلال الإداري في أرلندا فانشق الأحرار بسبب ذلك وخرج كثيرون من مشاهيرهم واتحدوا مع المحافظين ضده فغلبوه، وما من أحد منهم ينكر عليه خلوص النية وحسن الطوية فيما أراده لأرلندا ولو كان غير ما تقضي به مصلحة إنكلترا، وتربع المحافظون في الوزارة إلى سنة 1892 وحينئذ أعيدت الانتخابات فأجلت عن فوز الأحرار بأكثرية قليلة فأدليت رئاسة الوزارة إليه وهي المرة الرابعة . وفي غرة مارس من سنة 1894 خطب الخطبة الأخيرة في مجلس النواب، واستعفى في اليوم التالي؛ لأنه أصيب بالكتركتا في عينيه كلتيهما وعملت له عملية الكتركتا في شهر مايو، ولا يزال مكبا على الأشغال العلمية والكتابات الجدلية في أشهر جرائد إنكلترا، وقد ناظر الأستاذ هكسلي مناظرة عنيفة في مجلة القرن التاسع عشر في العلم والوحي تدفقت فيها ينابيع البلاغة تدفقا لا مثيل له؛ لأن الرجلين من أشهر كتاب العصر وأرفعهم منزلة وأكثرهم اطلاعا.
وتذهلنا خطبه في مجلس النواب؛ فإنها كلها مفعمة بالمعاني والأدلة العقلية والنقلية، ولو كانت ارتجالية لأمر يدعو إليه الحال أو الجدال بينه وبين الخصم أو لإيضاح مشكل أو للرد على منتقد، فقد يتكلم ساعة كاملة لا يكرر عبارة ولا يتردد في قول ولا تغيب عن ذاكرته حادثة تاريخية ولا تفوته نكتة أدبية، أما كتاباته الجدلية فلا تخلو من الضعف إذا كانت المواضيع علمية طبيعية؛ لأنه ليس ثقة في موضوع منها.
ولقد أجمع مشاهير الكتاب على أنه لم يفقه أحد في الخطابة والجدل من وزراء الإنكليز، والمرجح أيضا أنه لم يبلغ أحد شأوه فيهما حتى الآن.
وسياسة غلادستون معروفة مشهورة، وهو مثل بامرستون في عزمه وحزمه، وينظر إلى الملكة كرقيبة على سياسة البلاد وممهدة لعقابها، وهي تصب على حدته زيتا وبلسما، وتوفق بينه وبين خصومه بحكمة فائقة، كما يظهر من حوادث كثيرة نؤثر منها الحادثة التالية:
دخل الوزارة سنة 1869 ومعه أكثرية عظيمة في مجلس النواب وهو عازم أن يجري بواسطتها أمرا للكنيسة الأرلندية لا توافق عليه الملكة ولا رئيس أساقفة كنتربري، فطلبت منه أن يقابل رئيس الأساقفة ويتفق معه على ما به المصلحة العامة، فقال لها: إن رئيس الأساقفة قد رفض كل اتفاق من هذا القبيل فلا سبيل له لمقابلته في ذلك، فكتبت من ساعتها إلى رئيس الأساقفة وقالت إنها قابلت غلادستون فرأته على تمام الاستعداد لمقابلته، وإنه راغب جدا في الاتفاق معه، وطلبت من رئيس الأساقفة أن يمهد السبيل لهذه المقابلة ولا يكون أقل رغبة منه في الاتفاق معه، فكتب رئيس الأساقفة إلى غلادستون فزاره غلادستون في اليوم التالي وشرح له مشروعه فاستحسنه وزالت أسباب الجفاء من بينهما.
قد كان يوافيها دائما بخلاصة الخطب التي تتلى في مجلس النواب والمناظرات التي تدور بين أعضائه، ونسب نجاحها ونجاح مملكتها في عهدها إلى أنها «تدرك إدراكا تاما شروط العهد العظيم المعقود بينها وبين شعبها وتعمل به.»
سلسبري
هو روبرت آرثر تلبت غسكوين سسل مركيز سلسبري، ولد في الثالث عشر من فبراير سنة 1830 من عائلة قديمة عريقة في المجد يتصل نسبها بداود سسل الذي كان في عصر الملك هنري السابع منذ أربعمائة سنة، وقد أعطيت إمارة سلسبري لسلفائه سنة 1605، أي منذ مائتين وثلاث وتسعين سنة، درس في مدينة أكسفرد - حيث درس غلادستون - باسم اللورد روبرت سسل، ونبغ في العلوم الرياضية، وكان يناضل عن حزب المحافظين، وانتخب عضوا في مجلس النواب وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واشتغل بالسياسة حالا فنصر رجال الدين في مجلس النواب، وقاوم غلادستون في مسألة رسوم الورق بقوة وبلاغة، فعرف النواب قدره وأجلسوه على المقاعد الأمامية حيث يجلس زعماؤهم، واشتهر حينئذ بدقة البحث وقوة العارضة، ولكنه لم يكن قوي الحجة إلا إذا تكلم عن الكنائس والمدارس أو عن المسائل الخارجية.
وعين سنة 1866 وزيرا للهند (وكان يلقب بلقب لورد كرنبورن بدل أخيه الأكبر الذي مات) ولكنه لم يقم في هذا المنصب طويلا، بل استعفى وعارض غلادستون في مسألة كنائس أرلندا، وسنة 1868 انتقل إليه لقب مركيز سلسبري بموت أبيه، فدخل مجلس الأعيان ولم يمض عليه سنتان حتى اعترف له الجميع أنه زعيم المحافظين في ذلك المجلس.
ولما غلب الأحرار سنة 1874 وصار دزريلي رئيسا لوزارة المحافظين اختار سلسبري وزيرا للهند، ولم تمض عليهما سنة حتى اختصما لكنهما لم يفترقا؛ لأن مصالح المملكة كانت تقضي اتحادهما، وأنفذ حينئذ إلى الآستانة العلية لمنع الحرب الروسية فلم يفلح.
ثم توفي لورد بيكنسفيلد فصار سلسبري زعيما للمحافظين بعده، ولما خذل الأحرار سنة 1885 دعي لتأليف وزارة فألفها وأخذ نظارة الخارجية لكن وزارته لم تدم طويلا ؛ لأن الانتخابات العمومية التي حدثت تلك السنة رجحت جانب الأحرار، فعاد غلادستون إلى الوزارة ثم غلبت وزارته في لائحة استقلال أرلندا الإداري، فخلفه سلسبري وحدث عيد الملكة الخمسيني في وزارته هذه، وقد زارته الملكة بنفسها في قصر هتفيلد وذلك فخر عندهم قلما يناله أحد، ثم زاره فيه إمبراطور ألمانيا، وغلبت وزارته سنة 1892 وتلتها وزارة غلادستون وروزبري ثم عادت الوزارة إليه سنة 1895 ولم يزل رئيسا لها.
وهو خطيب مفلق وسياسي محنك ولا سيما في المسائل الخارجية يحفظها سرا غامضا لا يكاشف بها إلا الذين يعنيهم أمرها.
وقد اشتهر بكثرة البحث في المسائل الطبيعية ولا سيما فيما يتعلق منها بالكهربائية، وله الخطبة المشهورة في مجاهل العلم التي خطبها في مجمع ترقية العلوم البريطاني وأتينا عليها في المقتطف.
هذه فذلكة من تاريخ وزراء الملكة ومن تاريخ حياتها السياسية.
قال المستر ستد صاحب مجلة المجلات إنه زار بلاد الروس سنة 1888، وقابل القيصر إسكندر الثالث وكلمه في بعض المهام ثم قص ما قاله له القيصر على السر روبرت مورير سفير إنكلترا في بطرسبرج، فكتب السفير ذلك في كتاب وتلاه على المستر ستد فسأله المستر ستد مستغربا: هل تقصد أن ترسل هذا الكتاب كبلاغ إلى الحكومة؟ فقال: «معاذ الله، بل إنما كتبته لأبعث به إلى الملكة، فهو كتابي لها خاصة لا يطبع في الكتاب الأزرق ولا يطلع عليه الجمهور، ونحن نكتب إليها دائما بكل المهام السياسية.»
وقد شبه المستر ستد الملكة بمحرر جريدة يكتب فيها ما يشاء وينقح ما يشاء مما يكتبه فيها المساعدون له، والجريدة هي إدارة شئون السلطنة، ووزراؤها ورجال السياسة فيها المحررون والملكة رئيسة التحرير تكتب ما تشاء وتنقح ما تشاء، ولكن مشيئتها منطبقة على مشيئة شعبها ومصلحته؛ لأن الحكومة دستورية كما يتضح مما تقدم في الفصول السابقة ومما يأتي في الفقرات التالية.
لما استعفت وزارة لورد ملبرن الأولى سنة 1839 - على ما تقدم - غلب الحزن على الملكة لحداثة سنها حينئذ، فإنها كانت في التاسعة عشرة حتى إذا جاءها اللورد جون رسل ليخبرها باستعفاء الوزارة قابلته وعيناها مغرورقتان بالدموع حزنا على وزرائها، وخوفا من السر روبرت بيل الذي كان لا بد لها من وضع مقاليد الوزارة في يده؛ لأنها حسبته رجلا صعب المراس ولأنها كانت حينئذ متشيعة لحزب الأحرار مثل زعيمه لورد ملبرن، فأثبتت اهتمامها الشديد بسياسة مملكتها وهي فتاة في التاسعة عشرة من العمر.
ولما اقترنت بالبرنس ألبرت أشركته في مهام المملكة، فقام بأعبائها أحسن قيام مدة حياته معها، قال الكونت فتزوم وزير سكسونيا: «إن البرنس ألبرت زوج الملكة كان الحاكم المطلق في بيته والعنصر الفعال في السلطنة الإنكليزية المنتشرة في أقطار المسكونة، ولقد كان يهتم بمصالح كل تلك الملايين الخاضعين لها ولو كان الأمر عظيما عليه لحداثة سنه، وفي يده كانت مقاليد المملكة مدة عشرين سنة حتى لم تخرج رسالة من وزارة الخارجية إلا بعد اطلاعه عليها وإمعانه النظر فيها وتنقيحها إذا رآها محتاجة إلى التنقيح، ولم يأت تقرير مهم من سفير من السفراء إلا اطلع عليه، وكان كل من وزير المستعمرات ووزير الحربية ووزير الداخلية ووزير البحرية يقدم له كل يوم رزمة من الأوراق لا تقل عن أوراق وزارة الخارجية، فيقرأ كل ورقة منها ويعلق عليها ما يبدو له من الآراء، وكان فوق ذلك يكاتب الملوك والسفراء وحكام الولايات في الهند وكندا، ولم يجر شيء في بلاط الملكة إلا بأمره.»
وقد يكون في هذا الكلام شيء من المبالغة، ولكن لا مبالغة في أن الملكة قبضت على أزمة المملكة بيديها قبل اقترانها، وأشركت زوجها معها مدة حياته ثم استقلت بالملك بعد وفاته، وهي التي فضت كثيرا من المشاكل الداخلية والخارجية، ولولاها لبلغ بسمارك مأربه من إنكلترا بمعاضدة روسيا، ولاشتركت إنكلترا في الحرب الأمريكية الأهلية سنة 1861 وفي الحرب الأوروبية سنة 1864 فعادت منهما بالخزي والخسران، ولولاها ما بلغ مجد إنكلترا ما بلغه في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت في كل ذلك محافظة على نظام البلاد الدستوري وجارية بحسب إرادة شعبها.
الفصل العاشر
أولاد الملكة
رزقت الملكة فكتوريا خمس بنات وأربعة بنين على هذا الترتيب: (1)
البرنسس فكتوريا إمبراطورة الألمان، ولدت سنة 1840، واقترنت سنة 1858 بفردرك وليم الذي صار إمبراطورا لألمانيا وهو أبو الإمبراطور الحالي، فإن ذلك البرنس زار بلاد الإنكليز ورأى البرنسس فكتوريا وطلب الاقتران بها فأجابته إلى ما طلب وعرض الأمر على مجلس النواب فأقر عليه أعضاؤه كلهم بلا خلاف، وأقروا أيضا على إعطائها أربعين ألف جنيه صداقا وثمانية آلاف جنيه كل سنة مدى الحياة، واحتفل بزيجتها في الكنيسة الملكية بقصر سنت جمس في الخامس والعشرين من شهر يناير سنة 1858، وتوفي زوجها الإمبراطور فردرك الأول في 15 يونيو سنة 1888 فخلفه ابنها ولهلم الثاني الإمبراطور الحالي. (2)
البرنس ألبرت إدورد برنس أوف ويلس، ولد في التاسع من نوفمبر (ت2) سنة 1841، واقترن بالبرنسس ألكسندرا ابنة كرستيان التاسع ملك الدنمارك في العاشر من شهر مارس (آذار) سنة 1863، فرزق منها ابنين: البرنس ألبرت فكتور ولد سنة 1864 وتوفي سنة 1892، والبرنس جورج دوق ولد سنة 1865، وثلاث بنات: لويزا زوجة دوق فيف، ومود زوجة البرنس كارل الدنماركي وفكتوريا، وفي حياة برنس أوف ويلس وحياة زوجته أمور كثيرة لا يليق الإغضاء عن ذكرها، ولو التزمنا الاختصار التام في هذه الفصول.
ولدت البرنسس ألكسندرا زوجة برنس ويلس سنة 1844، ولم يكن أبوها ملكا ولا كان قريبا من سرير الملك بل لم يكن نسبه متصلا بنسب ملك الدنمارك إلا في أسلافهما في القرن الخامس عشر، ثم ترجح أن الملك سيموت بلا عقب فيخلفه أبوها؛ إذ لا أقرب منه إليه، ويقال إنه لم يكن على شيء من الثروة في ذلك الحين، ولكن لما ظهر أنه ولي العهد حسنت حاله، حتى إذا صارت البرنسس ألكسندرا في السادسة عشرة من عمرها كان قادرا على السياحة معها في مدائن أوروبا، واتفق أن برنس أوف ويلس لقيها أكثر من مرة في سياحته فوقعت عنده موقعا عظيما وخطبها إلى أبيها سنة 1862، فسر أهالي إنكلترا وأهالي الدنمارك بهذه الخطبة لا سيما وأن البرنس خطبها حبا بها لا لغرض سياسي كما يحدث كثيرا في زيجة الملوك، ولما حان الوقت المعين للزيجة جاء بها أبوها وأمها وإخوتها إلى البلاد الإنكليزية فبلغوها في السابع من شهر مارس سنة 1863، فرحبت بها البلاد أعظم ترحيب واحتفل بالزيجة في العاشر من مارس في كنيسة قصر وندزور، ولم تحضر الملكة الاحتفال رسميا لحدادها على زوجها، بل أقامت وراء مشبك ترى منه الاحتفال ولا ترى.
شكل 10-1: البرنس أوف ويلس.
شكل 10-2: برنسس أوف ويلس وبناتها.
ومن ذلك الحين إلى الآن امتزجت حياة هذه الأميرة بحياة زوجها وأولادها، فلا يراها الإنكليز إلا معهم أو مهتمة بأعمال البر، وقد أحبوها حبا صادقا لجمالها ودعتها وفضائلها الكثيرة حتى قال أحد أساقفة الكنيسة الإنكليزية: «إنها مقيمة في قلوب شعبها.»
وأصيب ولي العهد بالحمى التيفويدية سنة 1871 فاهتمت الأمة الإنكليزية كلها بمرضه اهتماما شديدا كأن في كل بيت منها مريضا، وكانت البرنسس تجلس بجانب سريره نهارا وليلا تمرضه بنفسها، واشتد عليه الداء وغاب عن الصواب، ولم يعد يعي على شيء لكنه فتح عينيه ذات يوم وكان عيد ميلادها فقال: «اليوم عيد ميلاد البرنسيس.»، ثم غاب عن الصواب ثانية فأظهر بهذه الكلمات الوجيزة أن اهتمامه بها لم يكن أقل من اهتمامها به، ولو تغلب عليه الداء حتى أخرجه عن دائرة الشعور.
ومن الله عليه بالشفاء فاجتمع الناس في الكنائس ألوفا مؤلفة؛ ليشكروا الله على ذلك، وقد زادوا إكراما لزوجته على ما بدا منها من الحب له والاهتمام به.
ولا يغرب عن الأذهان أن نصف نوع الإنسان نساء، وأن للنساء في البلاد الإنكليزية وفي كل الممالك الأوروبية شأنا لا يقل عن شأن الرجال؛ فأولئك النساء ينظرن إلى الملكة فكتوريا وإلى كنتها البرنسس ألكسندرا كمثالي الكمال الواحدة في رفعة المقام ونفوذ الكلمة، والثانية في حسن المنظر وجمال الطلعة والعطف على البائسين، فهما قدوة النساء والمثال الذي يحاولن النسج على منواله.
وقد امتاز ولي العهد وزوجته بحبهما لأولادهما وتعلقهما بهم واستصحابهما إياهم كلهم أو بعضهم أينما ذهبا، وبناتهما الثلاث بارعات الجمال مثل أمهن كما ترى في [شكل
10-3 ، شكل
10-4 ] ومحبات البر والإحسان مثلها.
شكل 10-3: دوق سسكس كوبرج.
شكل 10-4: دوق كنوت.
ولا ينشأ مقام خيري ولا عمومي في البلاد الإنكليزية إلا ويشترك البرنس أو زوجته في وضع حجر زاويته، وكثيرا ما يشترك في إظهار فضل الفضلاء وتعظيم مقام العلماء كما يشارك أمه في استعراض الجيوش والأساطيل، وقد وصفته إحدى الجرائد الأمريكية بأنه أكثر الناس شغلا في البلاد الإنكليزية؛ لأنه من حين وفاة أبيه إلى الآن وهو يقوم بأعمال أبيه في كل الاحتفالات الرسمية وبجانب كبير من أعمال أمه، وقد استعد لذلك بالدرس في مدرسة أكسفرد وكمبردج ثم ساح في أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا ورأس دار العلم الإمبراطورية، واشترك في كل الأعمال النافعة، وهو مشهور بطلاقة الوجه وحسن المحاضرة والصيد والقنص وكل ما يباهي به رجال الإنكليز، ولا يظهر اهتمامه بشئون السلطنة الإنكليزية الآن؛ لأن مقاليدها في يد أمه، ولكن العارفين بحقائق الأمور لا ينكرون عليه هذا الاهتمام. (3)
البرنس ألفرد دوق أدنبرج، وهو الآن دوق ساكس كوبرج غوثا بألمانيا، ولد في التاسع من أغسطس سنة 1844، واقترن بابنة القيصر إسكندر الثاني سنة 1874، ودخل الخدمة البحرية وهو في الرابعة عشرة من عمره جاريا في خطة أسلافه الذين عززوا قوة إنكلترا البحرية بانضمامهم إليها، ولم يكن له امتياز على غيره من التلامذة البحرية ولم يبلغ رتبة ملازم إلا بعد أن صار له تسع عشرة سنة من العمر، وعرض عليه قبيل ذلك أن يكون ملكا على بلاد اليونان فأبى مفضلا أن يكون ضابطا صغيرا في بلاده على أن يكون ملكا في غيرها، ثم ارتقى في المناصب البحرية رويدا رويدا إلى أن صار ثاني القبطان بعد ثلاث سنوات، واتصل به حينئذ لقب دوق أدنبرج، وأول سفينة وضعت تحت إمارته سفينة غلاطية فاشتهرت بحسن إدارتها، وبقي يرتقي في المناصب البحرية مثل غيره من أمراء البحر إلى أن توفي عمه دوق كوبرج سنة 1893، فآلت تلك الدوقية إليه، وهو ميال إلى الموسيقى فيحسن اللعب على الكمنجة وحيثما حل اجتمع حوله الراغبون فيها. (4)
دوق كنوت، ولد في غرة مايو سنة 1850، ودخل المدرسة الحربية بولج وهو في السادسة عشرة من عمره، وارتقى في المناصب العسكرية رويدا رويدا إلى أن بلغ رتبة جنرال سنة 1893، وقاد آلاي الغاردس في الحملة المصرية، وحضر معركة التل الكبير سنة 1882، وقاد الجنود الهندية من سنة 1887 إلى سنة 1890، ثم خلف السر أفلن ود في الدرشت سنة 1893 وحيثما اتجه عد من نخبة القواد.
وللملكة ثلاث بنات أخرى، وهن: البرنسس هيلانة زوجة أمير شلسوغ هلستن، والبرنسس لويز زوجة مركيز لورن بكر دوق أرجيل، والبرنسس بيترس زوجة البرنس هنري باتنبرج الذي توفي في أوائل سنة 1896، وتوفي لها ابن وابنة حزنت عليهما الممالك الإنكليزية كلها حزنا شديدا، وعقبت وفاتهما وفاة ابن برنس أوف ويلس ولي عهدها وهو خاطب وعلى أهبة الاقتران، فزادت وفاته في أحزانها ونغصت عيش أبويه، وما الملوك والعظماء بمأمن من نوائب الدهر، بل هم فيها مثل أضعف رعاياهم وقد تكون وطأتها عليهم أشد، ومهما بالغوا في اتقاء الكوارث يبقى الموت لهم بالمرصاد، وكتبت الملكة حينئذ إلى رعاياها تقول: إن وفاة حفيدها هذا كانت أشد المصائب عليها هولا بعد وفاة زوجها، وختمت كتابها بما ترجمته:
إن المشاغل والمتاعب التي تحف بمنصبي عظيمة جدا، ولكني أطلب من الله أن يديم لي الصحة والعافية ما دمت في قيد الحياة؛ لكي أقوم بما يجب علي لخير بلادي وسلطنتي وسعادتهما.
وولاية عهدها الآن لابنها برنس أوف ويلس، ومن بعده لابنه دوق يورك ثم لحفيده البرنس ألبرت بن دوق يورك الذي ولد سنة 1894، فلها الآن ثلاثة من ولاة العهد الواحد بعد الآخر، وقد رسموا معها في [شكل
10-5 ].
شكل 10-5: الملكة وولاة عهدها الثلاثة الواحد بعد الأخرى.
الفصل الحادي عشر
ارتقاء بلادها في عهدها
ارتقاء بلاد كبيرة كالبلاد الإنكليزية عمل عظيم جدا يستدعي إعمال ألوف من العقول الكبيرة والآراء السديدة مدة سنين كثيرة، لكن هذه الآراء وتلك العقول قد تعجز عن ترقية البلاد إذا كان ملكها ظالما غشوما أو خاملا لا يسعى في مصلحة بلاده ولا يهتم بإصلاح شأنها، فالملك الحكيم الذي يشارك رجاله في سياسة بلاده ويختار الأكفاء منهم لتولي خططها ويقودهم بحكمته في مسالك الأمن الشأن الأعظم في إنجاح البلاد وتعزيز أركانها.
وغني عن البيان أن للملكة فكتوريا اليد الطولى فيما بلغته البلاد الإنكليزية من الارتقاء في عهدها؛ لأنها اتصفت بكل صفات الملك الحكيم العادل المشارك لرجاله في كل ما يعود على بلاده بالخير والفلاح، وارتقاء بلادها لا يتضح مقداره إلا بالمقابلة بين حاضرها وماضيها، وهذه المقابلة لا توفى حقها في أقل من مجلد كبير، لكن الارتقاء عظيم وشامل لكل الأعمال والمعاملات مادية كانت أو أدبية حتى تكفي الإشارة إليها بالإيجاز إذا تعذر الإسهاب فنقول: جلست الملكة فكتوريا على سرير الملك والحواجز كبيرة والأسوار منيعة بين السوقة والأعيان، هؤلاء يتربعون في المناصب العالية ويتمتعون بأطايب الحياة، وأولئك يقصون عنها ويمنعون من الدنو منها، نعم كانت قوانين البلاد تقضي بالمساواة وعدم المحاباة لكن كان فيها عوامل أخرى تخص النعم والمنافع بقوم دون غيرهم، فكانت خدمة الحكومة مباحة للجميع ولكن لم يكن يعين فيها ولا ينتفع منها إلا أناس مخصوصون لقيود وروابط كثيرة يقضي بها ذوو المآرب مآربهم، وكذلك قل عن حق الانتخاب والدخول في مجلس النواب وفي المدارس العالية، فقام أنصار الحق في عهد الملكة فكتوريا وقطعوا تلك القيود ويسروا على الوضيع مجاراة الرفيع ولا يزال هذا دأبهم.
وسعى العلماء والأطباء في اكتشاف أسباب الأمراض والوقاية منها وساعدتهم المجالس البلدية على اتخاذ التدابير الصحية، فقل معدل الوفيات وخفت وطأة الأوبئة، فزاد عدد السكان زيادة عظيمة حتى ملئوا الجزائر الإنكليزية، وهاجر أكثر من تسعة ملايين منهم لتعمير مستعمراتها الوسيعة، وللانضمام إلى إخوانهم في الولايات المتحدة الأميركية، وحيثما ذهبوا أخذوا معهم لغتهم وعلومهم ومبادئ الحرية والإنصاف التي نشئوا عليها، وهذا سر نجاحهم في مستعمراتهم، فإنهم لا يكتفون برفع رايتهم على البلدان التي يفتحونها بل يرتحلون إليها ويسكنون فيها ويشاركون أهلها في تعميرها.
وقد زادت مستعمراتهم في هذه الأثناء زيادة لا مثيل في تاريخ الممالك، فزادت مساحتها في بلاد الهند 275 ألف ميل مربع؛ أي أكثر من مساحة بلاد النمسا، وفي سائر آسيا 80 ألف ميل مربع؛ أي قدر مساحة بريطانيا نفسها، وفي جنوبي إفريقيا 200 ألف ميل مربع، وفي شرقيها مليون ميل مربع، وكانت مساحة البلاد الإنكليزية ومستعمراتها حينما جلست الملكة على سرير الملك 8329000 ميل مربع، فبلغت الآن 11250000 أي زادت 2921000 ميل مربع في ستين سنة، وكان عدد سكانها 168 مليونا فبلغ الآن 400 مليون، وكان عدد الإنكليز في جزائرهم 25750000 وفي مستعمراتهم نحو 1500000 فبلغ عددهم الآن في جزائرهم 39500000 وفي مستعمراتهم 10500000 أي زاد عددهم من 27 مليونا إلى خمسين مليونا عدا الذين هاجروا منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكان دخل الحكومة الإنكليزية منذ ستين سنة نحو 75 مليون جنيه 50 منها في بريطانيا و25 من الهند، وهو الآن 110 ملايين جنيه من بريطانيا و63 مليون جنيه من الهند و30 مليون جنيه من أستراليا و8 ملايين جنيه من كندا و7 ملايين جنيه من بلاد الراس، و7 ملايين من سائر المستعمرات الإنكليزية، وجملة ذلك 225 مليون جنيه.
واتسع نطاق التعليم والتهذيب في الممالك الإنكليزية بنوع عام وفي البلاد الإنكليزية الأصلية بنوع خاص، فبلغ عدد تلامذتها اليوم ستة ملايين ونصف، وكانوا قبلا 250 ألفا فقط، وبلغت الأموال التي تنفقها الحكومة على التعليم عشرة ملايين جنيه، وكانت لا تزيد على مليون جنيه.
ولانتشار المعارف واستتباب الأمن اتسع نطاق الصناعة، فمن بعد ما كان الإنكليز يستخرجون عشرين مليون طن في العام من الفحم الحجري، ومليونا وخمس مليون طن من الحديد في السنة صاروا يستخرجون الآن 190 مليون طن من الفحم الحجري و
مليون طن من الحديد، وباتساع نطاق الصناعات والمستعمرات اتسع نطاق التجارة اتساعا لم يسمع بمثله في سابق الأعصار، فقد كانت قيمة الصادر والوارد في بدء ملكها 260 مليون جنيه في السنة فصارت الآن 738 مليونا، وكان محمول سفنها التجارية نحو مليونين ونصف مليون طن، فصار الآن تسعة ملايين طن، وزاد طول السكك الحديدية فيها من 2400 ميل إلى 21000 ميل، وكانت قيمة الصادر والوارد إلى مستعمراتها 49 مليون جنيه، فبلغت الآن 484 مليون جنيه.
وزادت ثروة الأمة الإنكليزية في بلادها من ألفي مليون جنيه إلى عشرة آلاف مليون، وزادت أسباب الرفاهة والنعيم على أكثر من هذه النسبة، وزاد المال الذي يقتصده فقراء الأمة في بنوك الاقتصاد من
مليون جنيه إلى 150 مليونا.
وكثر عدد المحسنين، فبنوا ملاجئ للأرامل والأيتام والمنقطعين وبيوتا صحية للفقراء على اختلاف طبقاتهم، ومن هؤلاء المحسنين بيبدي الغني الأمريكي الذي وهب فقراء لندن خمسمائة ألف جنيه، ولما كانت الملكة شاعرة بكل ما يجري في مملكتها كما يجب أن يكون الرأس في الجسم الحي، عرفت قدر هذه الهبة وكتبت إليه تقول:
بلغ الملكة أن المستر بيبدي عزم على العودة إلى أميركا، وهي لا تريد أن يترك بلادها من غير أن تثبت له شدة اعتبارها للعمل الشريف والهبة التي تفوق هبات الملوك التي أراد بها تخفيف المصايب عن الفقراء من رعاياها المقيمين في مدينة لندن، وفي اعتقاد الملكة أن هذا العمل الشريف لا مثيل له بين أعمال الناس، وأفضل جزاء له ما شعر به عامله من السرور حينما يعلم مقدار النفع العظيم الذي نفع به أولئك المساكين، ولم تكن الملكة لترضى بإظهار شكرها من غير أن تعطي المستر بيبدي علامة من علامات دولتها تدل على اعترافها بفضله العظيم، وكانت تسر لو منحته رتبة عالية أو نشانا ساميا ولكن بلغها أن المستر بيبدي ممنوع من قبول ذلك بقوانين بلاده، فلم يبق للملكة والحالة هذه سوى أن تقدم له هذه السطور المعربة عما تشعر به من الشكر وتطلب منه أن يقبل منها صورة من صورها تصور له خاصة، ومتى تم تصويرها ترسل إليه إلى أميركا أو تعطى له حينما يعود إلى هذه البلاد؛ إذ بلغها ما سرها وهو أنه عازم على العودة إلى هذه البلاد المديونة له دينا عظيما.
وصنعت الصورة حسب إشارة الملكة، وهي أول مرة صنعت فيها صورتها لتهدى إلى غير الملوك، والصورة من المينا على لوح من الذهب يحيط بها برواز كبير من الذهب الإبريز وعليه التاج الملكي والملكة فيها لابسة الحلة الملكية التي فتحت بها البارلمنت، وهي الحلة الملكية الوحيدة التي لبستها بعد ترملها.
ومنذ ثلاث سنوات احتفل أهل مدينة بيبدي بأميركا بعيد مائة سنة من يوم ميلاده، فبعثت إليهم الملكة رسالة برقية تقول فيها: «إن تذكار جورج بيبدي لم يزل يتجدد في قلبي وقلب شعبي بالشكر الجزيل لما له من المبرات المقرونة بالكرم والفضل.» فملكة مثل هذه تنهض همم المحسنين وتحيي آثارهم، توجدهم من العدم وتجعل المال في أيدي الأغنياء آلة للبر والإحسان بدلا من أن يكون آلة للشر والفساد.
ومما يذكر في هذا الصدد أنه لما نشبت الحرب الأخيرة بين فرنسا وبروسيا جمع الإنكليز الصدقات والإعانات وبعثوا بها إلى فرنسا على جاري عادتهم، فكتب الفرنسيون ألف عريضة من عرائض الشكر، وأمضوها باثني عشر مليون إمضاء وجلدوها أربع مجلدات كبيرة وقدموها إلى الملكة مع وفد من عظمائهم، ولا يعرف الفضل إلا ذووه.
والارتقاء الصحيح سلسلة محكمة الحلق، فلما زادت المستعمرات واتسع نطاق التجارة دعت الحال إلى تقوية العمارة البحرية لكي تحمي السفن التجارية والمستعمرات النائية، ولما استوت الملكة فكتوريا على سرير الملك كانت إنكلترا سلطانة البحار، وكانت أساطيلها قد قهرت أساطيل فرنسا وإسبانيا والدنمارك، ولم يبق لها ند في المسكونة، ومضت ستون سنة والدول تجد وتسعى في مناظرتها، ولا تزال سلطانة البحار ولا يزال أسطولها يغالب أساطيل كل الدول التي يمكن أن تجتمع عليها فيغلبها، لكن بوارجها التي محقت بها أسطول بونابرت في أبي قير تعد كالعصافة أمام البوارج التي بنتها في هذه الأعوام، فقد استعرضت بوارجها سنة 1814 أمام إسكندر الأول قيصر الروس وفردرك وليم ملك بروسيا، وكانت أربع عشرة من النوع المسمى ببوارج المصاف وإحدى وثلاثين فرقاطة، وكان علم أمير البحر حينئذ على بارجة محمولها 2270 طنا، وفيها 98 مدفعا كبيرا و10 مدافع صغيرة وأكبر مدافعها وزن قنبلته 32 ليبرة، واستعرض الأسطول الإنكليزي في الصيف الماضي وقت يوبيل الملكة فكان فيه اثنتا عشرة بارجة من البوارج المدرعة بنيت منذ أقل من عشر سنوات ست منها محمول، كل بارجة منها خمسة عشر ألف طن وسرعتها 18 ميلا بحريا في الساعة، ويمكنها أن تقيم في عرض البحر دائما مهما كان النوء شديدا ولا تضطر أن تلجأ إلى مرفأ، وليس في أساطيل الدول الأوروبية والأميركية كلها ست بوارج مثل هذه، ومدافعها من أحدث المدافع المصنوعة من أسلاك الفولاذ، وثقل المدفع منها 46 طنا وثقل قنبلته 850 رطلا، إذا أصابت حائطا من الفولاذ سمكه متر خرقته كما تخرق الرصاصة لوح الخشب الرقيق، وكان الإنكليز قد صنعوا مدفعين ثقل كل منهما 111 طنا لكنهم وجدوا هذه المدافع أقوى فعلا، وبعد هذه الستة البارجة المسماة رينون وهي أسرع منها سيرا ثم خمس بوارج كبيرة المدافع ثقل كل مدفع من مدافعها 67 طنا، وثقل قنبلته 125 رطلا، أما البوارج التي بنيت منذ أكثر من عشر سنوات إلى عشرين سنة فعرض منها ثمان بوارج ومنها البارجة دفاستاشن المرسومة في [شكل
11-1 ] وهي أصغرها، فإن محمولها 9330 طنا ولكنها إذا قوبلت بها البوارج الحربية التي كانت عند الإنكليز في أول حكم الملكة باتت أمامها كالولد الصغير أمام الجبار الكبير، وفي هذه البوارج من الآلات البخارية والكهربائية ومن أحكام الصناعة الهندسية ونتائج العلوم الطبيعية ما لو قيست به معارف الناس منذ ستين عاما لبانت كالمصباح الضئيل أمام شمس الظهيرة، وهذا الارتقاء الهندسي والصناعي غير خاص بإنكلترا ولكن نصيبها منه أعظم من نصيب غيرها؛ لأنها تفوق كل الممالك في الصنائع الهندسية ولا سيما في بناء البوارج الحربية والسفن البخارية.
شكل 11-1: البارجة دفاستلشن.
وأبلغ من تقدمها العقلي والمادي تقدمها الأدبي والاجتماعي، فأخص ما يمتاز به حكمها تعميم الحرية والمساواة حتى يشترك في خيرات ممالكها كل أحد من رعاياها كبيرا كان أو صغيرا، غنيا أو فقيرا. وكل بلاد ارتفع فيها العلم البريطاني صارت مقصدا للناس على اختلاف أجناسهم يقصدونها للارتزاق والاتجار فتساوي بينهم كأنهم من رعاياها. وقد منحت كندا وأستراليا وزيلندا الجديدة وبلاد الراس حكومة نيابية تكاد تكون مستقلة في كل شيء، بل صار النساء ينتخبن أيضا للنيابة في بعضها، ولا يبعد أن تشمل الحكومة النيابية أقسام بلاد الهند فتصير السلطنة الإنكليزية كلها مجموع ولايات مستقلة تربطها رابطة الحرية الشخصية والمصلحة العمومية.
وخلاصة الكلام أن الملكة فيكتوريا سادت على قلوب شعبها بمزايا حكمها، فإذا ذكرت الفتوحات وضخامة الملك «كان الإسكندر وقيصر ونابوليون بونابرت دونها كثيرا ؛ لأنه لم يحكم أحد منهم على ربع أهل الأرض مثلها، ولا أنشأ سلطنة لا تغيب الشمس عنها مثل سلطنتها، وإن ذكر المجد والغنى وعظمة الشأن لم يقم في الأرض ملك بلغت مملكته ما بلغت مملكتها في ذلك كله، وإن ذكرت العدالة والحرية ولا سيما الحرية الدينية، فأي ملك يشبه فكتوريا وهي الملكة المسيحية التي يخضع لها نيف وستون مليونا من المسلمين ومعظم الإسرائيليين وأكثر من 260 مليونا من الوثنيين؟ فهي الأولى بين الملوك والسلاطين في كثرة رعاياها المسلمين، والثانية في كثرة رعاياها الوثنيين، والثالثة في كثرة رعاياها المسيحيين، وكلهم أحرار في ديانتهم وعبادتهم وعوائدهم وآرائهم وأقوالهم. وكل بلادها وممالكها مفتوحة الأبواب للغريب ليستوطنها ويتاجر فيها ويكسب منها بلا امتياز لأهلها عليه خلافا لما تفعله الممالك الأخرى. وإذا ذكرت الأريحية والمروءة لإغاثة الملهوف وإجارة المرهق والعطف على المنكوب، فإنكلترا بلاد الصدقات والمبرات والحسنات بلا خلاف.
فلا غرو إذا كانت هذه منزلتها عند قومها، ولا عجب إذا استعظمها كل محب للعدل والحرية والتمدن والتقدم، وود أن يكون تقدم بلاده كتقدم بلادها وأحكام مملكته كأحكام مملكتها.»
الفصل الثاني عشر
يوبيل ألماس
الشكر على النعمة فرض، وله أساليب شتى تعلو شأنا بارتقاء الحضارة فلا تبلغ أسماها إلا عند أرقى الشعوب، لكن هؤلاء لا تخلو أساليب شكرهم مما هو فطري محض تشاركهم فيه العجماوات جريا على كل الأفعال التي تشترك فيها القوى العقلية والعواطف النفسية، فيظهرون شكرهم بأسمى الأعمال الأدبية ويظهرونه أيضا بالطرب والجذل، والعيد الذي عيده الإنكليز في الصيف الماضي لمرور ستين سنة منذ رقيت ملكتهم سرير الملك وهو المسمى بيوبيل ألماس إنما هو شكر نفوسهم على ما نالوه في عهدها من الراحة والرفاهة والمجد والسؤدد، وقد أبدوه على أساليب شتى من إقامة المدارس والمستشفيات وإطعام الجياع وإكساء العراة وإنشاء المقالات الضافية في الصحف والمجلات إلى الرقص والطرب وإيقاد الأنوار والنيران، واشترك فيه خاصتهم وعامتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وبين كل الشعوب والألسنة فأعربوا عن شكرهم قولا وفعلا، وشهدت لهم أمم الأرض كلها أنهم محقون فيما أبدوا من ضروب البهجة ومظاهر الافتخار.
قال أحد كتاب العربية القدماء وأجاد: «لقد سمعت تغريد الأطيار بالأسحار في فروع الأشجار، وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن، وما سمعت أحسن من شكر حر لرجل حر.»
ومن ينكر على الأمة الإنكليزية ما أبدته من مظاهر الشكر في عيد ملكتها وقد بلغت في عهدها شأوا لم يبلغه الرومان في عهدهم، فملكت خمس الكرة الأرضية ودان لها ربع سكانها، بل من ينكر على أولئك السكان المستظلين بالعلم البريطاني مشاركتهم للأمة الإنكليزية في عيد ملكتها وكلهم حر مطلق؛ ليتمتع بثمار عقله وجني يديه، وكيفما اتجه وحيثما سار رافقته الحماية البريطانية.
شكل 12-1: فكتوريا ملكة الإنكليز وإمبراطورة الهند.
وقد شرع الإنكليز في الاهتمام بهذا اليوبيل من أول السنة الماضية، وجاهر سكان مستعمراتهم برغبتهم في مشاركة الأمة الإنكليزية في هذا الاحتفال، وطلبت دول الأرض كلها أن تشترك فيه، خمسون دولة مستقلة لم تحجم واحدة منها عن إنابة من ينوب عنها في المجيء إلى مدينة لندن والاشتراك في هذا الاحتفال؛ لأنه ليس بين دولة منها والدولة الإنكليزية عداء يمنع هذا الاشتراك. وأول خاطر خطر للإنكليز في بلادهم ومستعمراتهم وكل البلدان التي يقيم فيها جمهور منهم أن يظهروا شكرهم وولاءهم لملكتهم بعمل نافع وأثر ثابت، كمستشفى يقيمونه لتطبيب المرضى وتخفيف الآلام، أو مدرسة ينشئونها لتثقيف العقول وتهذيب الأخلاق، أو وليمة يولمونها للفقراء والمساكين الذين حرموا من أطايب الحياة، وقام شعراؤهم وكتابهم يتغنون بفضائلها ويصفون مزايا ملكها لتبقى نفثات أقلامهم أثرا راسخا لا تمحوه كرور الأيام.
وابتدأ الاحتفال رسميا يوم السبت في التاسع عشر من شهر يونيو الماضي، وسار موكبه في بعض أنحاء لندن التي لا يسير فيها يوم الثلاثاء، وهو يوم الاحتفال العظيم لكي يراه سكانها، وكان فيه 2236 فارسا و150 ضابطا، وفي اليوم التالي - وهو يوم الأحد - اجتمعت الجماهير في الكنائس تشكر الله على نعمه وتدعو للملكة بطول البقاء، ويوم الاثنين خرجت الملكة من قصر وندزر وجاءت إلى قصر بكنهام في مدينة لندن وأولمت فيه وليمة ملكية فاخرة للأمراء والعظماء الذين وفدوا من كل البلدان للاحتفال باليوبيل، واستقبلتهم في المساء، وهي ترى في [شكل
12-2 ] جالسة واللورد سالسبري كبير وزرائها منحن أمامها لتقبيل يدها ووراءها أمير من أمراء الهند بعمامته وما عليها من الجواهر، وإلى يمينها ولي عهدها برنس أوف وايلس. وأقر الأعيان والنواب في مجلسيهم ذلك اليوم على رفع عريضتين لها يظهرون فيهما الشكر والولاء، فلم يعترض على ذلك إلا نفر قليل من أعضاء أرلندا وهم على قلتهم لم يحذروا المجاهرة بمخالفة سائر النواب بل بمخالفة أمم الأرض كلها، فكانوا دليلا آخر على بلوغ الحرية والاستقلال في الرأي حدا لا مثيل له في تواريخ الأمم.
شكل 12-2: الملكة تستقبل عظماء السلطنة.
ويوم الثلاثاء - وهو اليوم المشهود - انشق فجره عن سماء موشحة بالغيوم، ثم أخذت الغيوم تنقشع رويدا رويدا فصفا وجه السماء، وتكسرت أشعة الشمس عن أسلحة الفرسان وحللهم المقصبة وجواهر العقائل ربات المجد والدلال، وكان الموكب قسمين: قسم المستعمرات، وفيه فرسان من كندا وأستراليا وزيلندا الجديدة ورأس الرجاء الصالح وناتال وسيلان وترينيدال وقبرص وروديسيا ومشاة من هنغ كنغ وسنغافورة وجزائر الهند الغربية وشاطئ الذهب وغير ذلك من البلدان الإفريقية، وفيه أيضا وزراء المستعمرات. وقسم المملكة وفيه فرسان ومدافع من أقسام الجيوش الإنكليزية وأمراء السلطنة وقواد جيوشها البرية وأمراء أساطيلها البحرية ونواب الدول وأعضاء العائلة المالكة وأمراء الهند، وفيه مركبة الملكة نفسها يجري ثمانية من الجياد المطهمة ومعها زوجة ولي العهد وبرنسس كرستيان، وقد ركب دوق كمبردج على يسارها وبرنس أوف ويلس ودوق كنوت على يمينها، وأمام المركبة أربعون أميرا بأبهى الحلى والحلل، وخرجت الملكة من قصر بكنهام الساعة العاشرة صباحا والموسيقى تصدح والمدافع تطلق، وأصوات التهليل والابتهاج من الجموع المزحمة في كل المسالك والكوى والشرفات تملأ عنان السماء، ولما خرجت من باب القصر وضعت يدها على زر آلة كهربائية، فأرسلت رسالة برقية في تلك اللحظة إلى كل الممالك الإنكليزية في أقطار المسكونة تقول فيها : «إنني من صميم الفؤاد أشكر شعبي المحبوب ولتحل عليه بركات الله.» ولما بلغت مدخل المدينة القديمة مكان تمبل بار كان محافظ لندن وحكام أقسامها وأعضاء مجلسها البلدي في انتظارها فترجل المحافظ وحكام أقسام المدينة ودنا من مركبتها وبيده سيف المدينة على حسب العادات القديمة، فرحب بها وقدم لها السيف فلمسته بيدها كما ترى في [شكل
12-3 ] وأمرته أن يرده إلى مكانه ويحتفظ به ويتقدمها إلى المدينة، فصدع بالأمر وعاد إلى ظهر جواده وسار أمامها حاسر الرأس والسيف في يمينه، وكان الأساقفة ورؤساء الأساقفة قد انتظموا على درج كنيسة مار بولس أكبر كنائس لندن، وقام حول رواقها الوزراء والسفراء وأعضاء المجالس وكبار المستخدمين هم وزوجاتهم، فلما وصلت مركبة الملكة إلى أمام باب الكنيسة علت أصوات المرتلين تشاركهم الموسيقات العسكرية وصلى رؤساء الأساقفة، واستنزلوا البركات الإلهية ثم عادوا إلى الترتيل، ولم يكن إنشاد سلام الملكة في ترتيب الاحتفال، لكن الموكب اندفع إلى إنشاده من تلقاء نفسه وإلى الدعاء بطول العمر، ثم عاد الموكب إلى السير فبلغ قصر بكنهام نحو الساعة الثانية بعد الظهر.
شكل 12-3: محافظ لندن يقدم السيف إلى الملكة.
وزينت المدينة تلك الليلة زينة باهرة لم يسبق لها مثيل، اشتركت فيها أنوار الغاز والكهربائية والأكسجين والهيدروجين، وأوقدت النيران الكبيرة في ألفين وخمسمائة مكان في إنكلترا وسكتلندا وأرلندا.
ويوم الأربعاء جاء نواب الأمة من مجلس الأعيان ومجلس النواب ورفعوا إلى الملكة عريضتي الشكر المشار إليهما آنفا، ثم استقبلت رؤساء المجالس البلدية وحكام الأقاليم، وعادت إلى وندزور واستعرضت عشرة آلاف ولد من تلامذة المدارس الابتدائية.
ويوم الخميس استقبلت أمراء الأساطيل البحرية التي حضرت للاحتفال باليوبيل، وكانت زوجة ولي العهد قد سعت في جمع مال تولم به وليمة فاخرة لفقراء مدينة لندن، فدفع واحد من المحسنين خمسة وعشرين ألف جنيه لهذا الغرض، وبعثت بلاد أستراليا عشرين ألف خروف وأكل في هذه الوليمة 310000 نفس، وقضي يوم الجمعة بالولائم والأفراح، واستعرضت البوارج الحربية يوم السبت فكان استعراضها أعظم ما جرى في هذا الاحتفال، وهي 65 بارجة ثمنها 35 مليون جنيه ومحمولها 549885 طنا، وقوة آلاتها البخارية مليون حصان، وفيها من الرجال والضباط 38577، وكل بارجة منها مجهزة بكل ما يلزم لها لتسير حالا إلى أي مكان قريبا كان أو بعيدا، بل سار بعضها فعلا إلى أبعد الأقطار حالما تم الاستعراض.
ولما استعرضت وقفت في خمسة صفوف طول كل صف منها نحو خمسة أميال، وما هي إلا قسم من البوارج الإنكليزية المنتشرة في كل البحار، ولم تدع واحدة منها للاشتراك في ذلك الاستعراض بل بقيت في أماكنها لتقضي ما يطلب منها من حماية المستعمرات الإنكليزية والتجارة الإنكليزية وهي 125 بارجة كبيرة وبعضها من أكبر البوارج وأسرعها، وما أحسن ما قاله الفيكونت ده فوغوي في جريدة الفيغارو الفرنسوية في وصف البوارج التي استعرضت حينئذ وهو: «إن البحر وطنها، وهو الدار التي تسير فيها على هدى ولو كانت مغمضة العينين، والمادة التي تتصرف فيها كيف شاءت، ووراء هذه البوارج التي تصل إليها أبصارنا يرى الإنكليز بوارج أخرى كحلقات كثيرة متصلة من سلسلة تحيط بالكرة الأرضية، فإن البوارج التي كنا نراها حينئذ هي الأولاد المقيمة في البيت، أما أخواتها المنتشرة في كل البحار فلم تتحرك عن أماكنها وهي اليوم رابضة في بحار آسيا وإفريقيا والبحر المحيط كما كانت أمس وما قبله، منتظرة أمرا من إنكلترا لتعمل به، والأمر يبلغها في لحظة من الزمان يجري في قاع البحر على الأسلاك الإنكليزية وسطح البحر وقاعه شبكتان من الحديد: شبكة تجري عليها الأوامر، وشبكة تقوم بها الأعمال وكلتاهما محيطة بالأرض. الدنيا كلها في شبكة الأمة الإنكليزية، سلطنة لا تعد سلطنة الرومان في جنبها إلا ولاية، وقد تخطئونني وتقولون شبهها بقرطاجنة لا برومية، نعم هي مثل قرطاجنة من بعض الوجوه بتفضيلها المصالح المادية ورغبتها الشديدة في الكسب، ولكن الإنصاف يجبرنا على أن نشبهها برومية أيضا، برومية في الحزم والشجاعة وسمو المدارك وشرف المبادئ.»
ولم تحضر الملكة هذا الاستعراض، بل حضره ولي عهدها بالنيابة عنها في السفينة المسماة فكتوريا وألبرت تتبعها السفينة قرطاجنة وعليها أمراء الهند، ثم سفن أخرى تقل أمراء البحرية ووزراء المستعمرات وسفراء الدول وأعضاء مجلس الأعيان وأعضاء مجلس النواب، وكانت البوارج تطلق مدافع التحية كلما مرت بها هذه السفن، وفي المساء بزغت فيها كلها الأنوار الكهربائية في لحظة واحدة، وكانت مصفوفة على جوانبها وسواريها فترسم أشكالها بالنور الساطع على صفحات ذلك الليل البهيم.
ولقد شارك العثمانيون الأمة الإنكليزية في أفراحها، فبعث مولانا السلطان الأعظم سفيره في باريس إلى لندن مندوبا خاصا لحضور الاحتفال باليوبيل، وبعث سمو الخديوي المعظم أخاه البرنس محمد علي لهذه الغاية، وظهرت الجرائد العربية والتركية كلها مدبجة بالمديح ناشرة فضائل الملكة فكتوريا مهنئة الأمة الإنكليزية بما حازته في عهدها من المجد ورفعة الشأن.
هذا ما أردنا جمعه ونشره من تاريخ الملكة فكتوريا إفادة للقراء وتذكرة لأرباب السيادة منهم، وقد اقتصرنا على ما قل ودل لضيق نطاق المقتطف؛ حيث نشرنا هذه الفصول أولا، أما تاريخ الملكة فكتوريا بالتفصيل فلا تستوفيه المجلدات الكبيرة، والله مالك الأرض وما عليها.
نامعلوم صفحہ