ثناء على الكتاب
نبذة عن الكتاب
تمهيد
مقدمة: الجدل النظري
1 - مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
2 - الجذور العرقية والدينية
3 - المجتمع في العصور القديمة
4 - الأمم الهرمية
5 - الأمم العهدية
6 - الأمم الجمهورية
7 - مصائر بديلة
الخاتمة
الملاحظات
المراجع
ثناء على الكتاب
نبذة عن الكتاب
تمهيد
مقدمة: الجدل النظري
1 - مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
2 - الجذور العرقية والدينية
3 - المجتمع في العصور القديمة
4 - الأمم الهرمية
5 - الأمم العهدية
6 - الأمم الجمهورية
7 - مصائر بديلة
الخاتمة
الملاحظات
المراجع
الأسس الثقافية للأمم
الأسس الثقافية للأمم
الهرمية والعهد
والجمهورية
تأليف
أنتوني دي سميث
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
سارة عادل
هبة عبد المولى أحمد
ثناء على الكتاب
يظل أنتوني سميث الباحث صاحب الريادة في مجال القومية. في هذا الكتاب المهم، يلقي ضوءا جديدا على تقاليد الأمة خلال فترة ما قبل العصر الحديث؛ ويقدم تأريخا جديدا لظهور القومية.
جون هتشينسون، كلية لندن للاقتصاد
مرة أخرى يثبت سميث أنه عميد الدراسات القومية. في هذا الكتاب - المكتوب بنحو يعكس معرفته الواسعة وبأسلوب واضح، وهما أمران معتادان منه - يكشف عن مجموعة الأشكال المختلفة التي كانت تتخذها القومية عبر العصور. إن هذا الاستقصاء الذي يحدد «متى تكونت» و«كيف تشكلت» الأمم لهو عرض قوي لعلم الاجتماع التاريخي في أفضل صوره.
جون ستون، جامعة بوسطن
عمل فكري رائع، جريء ومثير ودقيق الحجة. يحدد سميث أنواعا تاريخية مختلفة من الأمم، وثقافات عامة مميزة، نشأت منذ العصور القديمة وحتى عصر العولمة، ويستعرض تراث الهرمية والعهد والجمهورية على الأمم المعاصرة، ويقدم تحليلا شائقا عن القوميات كأنواع من الدين العلماني للناس تطورت بالتوازي مع الأديان التقليدية أو بنحو مناهض لها.
مونسيرات جيبيرناو، كلية كوين ماري كوليدج، جامعة لندن
حدث تطور مهم بنشر هذا الكتاب الذي بين يديك؛ لقد دعم سميث وعمق على نحو كبير فهمنا للأمم وللقومية من خلال تحليل تاريخي لثلاثة أنماط من العلاقات الاجتماعية - الهرمية، والعهد، والجمهورية - يقر حقا الاستقلالية النسبية للثقافة. لقد أجرى التحليل باختلاف واسع النطاق وتاريخي على نحو مثير للإعجاب. إنه تحليل قوي لا يقتصر فحسب على السماح على نحو مناسب بالعديد من الأمور الغامضة والمعقدة، بل يرحب بها أيضا كما يجب أن يكون أي استقصاء جاد عن الأمم. بنشر هذا الكتاب أصبح كل الباحثين في مجال الأمم والقومية يدينون بالشكر لأنتوني سميث مرة أخرى، لكن بقدر أكبر من أي وقت مضى.
ستيفين جروسبي، جامعة كليمسون، مؤلف كتاب «القومية: مقدمة قصيرة جدا»
تخليدا لذكرى جدتي
عند قبول التراث فإنه يصبح لمن يقبلونه على القدر نفسه من الوضوح والأهمية كأي جزء آخر من أفعالهم ومعتقداتهم. إنه الماضي في حاضرهم، لكنه جزء من حاضرهم لا يعدوه أي ابتكار آخر مهما بلغ من الحداثة.
إدوارد شيلز
يختص النوع الثاني (من الدين) بدولة واحدة فقط؛ فيمنح تلك الدولة الرعاة والآلهة الحارسة الخاصة بها. وينص القانون على عقائدها، وطقوسها، وعباداتها الظاهرية، ويعتبر كل شيء خارج الأمة الواحدة التي تتبعه كافرا، وغريبا، وبربريا، ولا تتجاوز حقوق الإنسان وواجباته مذابح معابدها.
جان جاك روسو
تمنى الرب أن تكون الأمم كيانات فردية مستقلة، كما البشر، كي تكون وسيلة للتأثير على الجنس البشري كله، ولتحقيق التناغم الضروري في العالم.
كاجيميرش برودجينيسكي
نبذة عن الكتاب
متى تنشأ الأمة؟ لقد شغلت الباحثين مؤخرا مسألة التحقيب الزمني لتاريخ الأمم والقومية منذ أن أثارها ووكر كونور عام 1990، وذلك بما تعنيه هذه المسألة من تقسيم هذا التاريخ إلى فترات واضحة ومحددة. وقد خلص إلى أن فكرة أنه من غير الوارد أن تكون الأمم الحديثة قد نشأت في وقت سابق على أواخر القرن التاسع عشر؛ تتجاوز الرؤية الحداثية التقليدية التي ترى أن الأمم والقومية ظهرت مع الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. إن هذا الاستنتاج يأخذ ذلك الافتراض، الذي يؤمن فيه عديد من الباحثين في أن الأمم والقوميات ظواهر سياسية ذات ثقافات جماهيرية موحدة، إلى ذروته القصوى؛ ومن ثم لا يمكننا الحديث عن الأمم والقومية إلا بداية من ظهور الحداثة - أيا كان تعريفها. وهذه الافتراضات فقط هي ما يعزم هذا الكتاب تفنيدها، وسيفند معها منظومة الفكر الحداثي بأكملها.
في كتاب «الأصول العرقية للأمم»، أوضحت أسباب اعتبار أن الأمم الحديثة تكونت، في الغالب، على أساس روابط عرقية وتوجهات موجودة من قبل. وعلى الرغم من أن وجهة النظر تلك تنطبق على عدد كبير من الحالات، فإن ثمة أمثلة كافية لحالات لعبت فيها العرقية دورا ثانويا، أو لاحقا، في نشأة الأمم الحديثة. كانت الروابط العرقية ذات أهمية مؤكدة في فترات مختلفة، مثل الشرق الأدنى القديم وفجر أوروبا الحديثة، لكن الأشكال السياسية الأخرى للمجتمع الجمعي، والهوية الجمعية مثل الدول المدن، والاتحاد القبلي، وحتى الإمبراطورية؛ أسهمت في تكوين الأمم.
لعل الأهم من ذلك أنها تركت علامة أيضا على السمات اللاحقة للأمم والقوميات، وهذا يقدم حلا للمشكلة الأولى المتمثلة في التحقيب الزمني للتاريخ؛ فبدلا من تحديد تاريخ واحد أو فترة واحدة للنشأة، تظهر أشكال تاريخية مختلفة للتصنيف التحليلي للأمم في فترات متعاقبة، تبين كل منها أنواعا مختلفة من الثقافات العامة المميزة، وتلك الثقافات بدورها متأثرة بقوة بأحد التقاليد الحضارية الأساسية الثلاثة في العصور القديمة المتمثلة في الهرمية والعهد والجمهورية المدنية. من خلال نموذج روما والإمبراطوريات والجمهوريات المدنية التي خلفتها، وكذلك من خلال المعتقدات والممارسات اليهودية والمسيحية، ظلت تلك التقاليد الثقافية محكمة قبضتها على الطبقات الأوروبية المتعلمة من إنجلترا إلى روسيا، ومن السويد إلى إسبانيا.
نتيجة لذلك، فإن المسائل المتعلقة بالتسلسل الزمني لنشأة الأمم هي أيضا في حقيقة الأمر موضوعات متعلقة بالأسس الثقافية للأمم، وب «تكون» الأمة و«تحديد تاريخ تكونها». إلا أن هذا أيضا يثير موضوع التعريف وموضوع التصور النظري؛ من ثم، يبدأ هذا الكتاب بمناقشات عن الخلفية النظرية، وتعريفات المفاهيم، والعمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية، والموارد الثقافية لتكوين الأمم واستمراريتها. أما في بقية الكتاب، فتتوغل المناقشات في علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية في العالم القديم، والعصور الوسطى في أوروبا، وأوائل العصور الحديثة، والعصور الحديثة، ويختتم بنقاش عن المصائر البديلة التي تواجه الأمم المعاصرة نتيجة لشخصياتها المتعددة الجوانب في الغالب. (1) خطة الكتاب
المقدمة:
توضح المشاكل الأولية المتمثلة في «تأريخ الأمة» في أعقاب مناقشات ووكر كونور، والنماذج النظرية الأساسية - الحداثة، وفلسفة الحكمة الخالدة، والبدائية - التي سيطرت على مجال دراسات القومية ويمكنها أن تسلط الضوء على مسألة التحقيب الزمني لتاريخ الأمم.
الفصل الأول:
هنا أحلل مشاكل التصور الحداثي للأمة، وأوضح كيف أنه مقتصر على نحو مناسب على التعامل مع جزء واحد فقط من المجال، ألا وهو «الأمة الحديثة». ومن الضروري وجود تصور أشمل للأمة؛ تصور يميز بين الأمة باعتبارها فئة تحليل عامة وبين الإحصاء الوصفي للأنماط التاريخية للأمم. ومن خلال تعريف الأمة بطريقة مثالية نموذجية يصبح من الممكن الربط بين مجموعة من الأنماط التاريخية للأمم في فترات مختلفة؛ ومن ثم نتجنب القيود التعسفية للمنظور الحداثي ونعزز فهمنا للأمم بوصفها موارد ثقافية ومجتمعات محسوسة.
الفصل الثاني:
قبل الاستطراد في بحث لعلم الاجتماع التاريخي للأمم، نحتاج إلى استكشاف العوامل الأساسية لتكوين الأمم واستمراريتها. أفضل طريقة لرؤية الأمم هي رؤيتها من منظور الأنواع السالفة للهويات الثقافية والسياسية الجمعية مثل الدول المدن، والإمبراطوريات، والاتحادات القبلية، وفوق ذلك كله، الجماعات العرقية والعرقية الدينية. إلا أنه مع تطور عمليات اجتماعية ورمزية أساسية مثل تعريف الذات، وغرس الرموز، والأقلمة، ونشر الثقافة العامة، وتوحيد القوانين والأعراف بحيث تتمكن الجماعات من الاقتراب من النموذج المثالي للأمة، وفقط من خلال موارد ثقافية معينة مثل أساطير الشعوب المختارة، وذكريات العصور الذهبية، ومثل الواجب والتضحية؛ يصبح الاحتمال قائما في أن تستمر الجماعات على مر الزمان.
الفصل الثالث:
يجب أن يبدأ بحث علم الاجتماع التاريخي للأمم بالشرق الأدنى القديم. على الرغم من عدم وجود أمثلة للأمم، فإن العالم القديم كان يتميز بوجود الفئات والجماعات العرقية على نطاق واسع. وكانت العرقية متداخلة مع أشكال أخرى من الهوية السياسية والثقافية الجمعية، مثل الإمبراطوريات القديمة، والدول المدن، والاتحادات القبلية. ورغم ذلك، ففي حالات قليلة فقط - مصر القديمة، ومملكة يهوذا، وأرمينيا لاحقا - يمكننا أن نعثر حقا على مقومات الأمم. حتى في اليونان القديمة، على الرغم من كل التوجهات العرقية القوية على مستوى اليونانيين كافة وعلى مستوى «الدول المدن»، كانت الأبعاد الإقليمية والقانونية للأمة المستقلة منعدمة.
الفصل الرابع:
إلا أن العالم القديم ترك أيضا لخلفائه الأوروبيين أمرا أكثر أهمية؛ ألا وهو ثلاثة أنواع من التراث والتقاليد الثقافية المهمة، وهي: الهرمية والعهد والجمهورية، والتي تعود بالترتيب إلى بلاد الرافدين ومصر الفرعونية، ويهوذا القديمة، واليونان القديمة. كانت هذه التقاليد الثقافية - التي انتقلت عبر كل من روما الجمهورية والإمبراطورية، وكذلك عبر الكتاب المقدس والمسيحية - تشهد صحوات مستمرة في أوروبا مع محاولة ممالك العالم المسيحي إضفاء الشرعية على حكمهم وتقوية دولهم، لا سيما في دوقية موسكو وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا. وفي أواخر العصور الوسطى، شهدنا ظهور أمم «هرمية» تراتبية أظهر فيها الحكام وطبقات النخبة في دول الغرب توجها وهوية وطنيين قويين.
الفصل الخامس:
بحلول القرن السادس عشر، كانت ثمة أدلة كثيرة على انتشار مشاعر القومية لدى النخب في عدة دول أوروبية، بدءا من روسيا وبولندا وحتى إنجلترا وفرنسا والدنمارك. إلا أن «الطفرة» التي أدت إلى نشوء الأمم الشعبية والقوميات الأولى، حدثت في أعقاب الإصلاح البروتستانتي. وبالعودة إلى العهد القديم وعهد إسرائيل، وسع المصلحون المتطرفون، لا سيما الكالفينيين، فكرة الاختيار الإلهي لتشمل كنائس وجماعات بأكملها وأمما. في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا، وأيضا في المدن السويسرية والمستعمرات الأمريكية، أدى تزايد ارتباط المجتمع القومي بفكرة الشعب المختار المحتمل بين البيوريتانيين إلى حشد أعداد أكبر من الأشخاص ومنحهم رؤية فعالة للخلاص الجماعي من خلال الوحدة السياسية، والحكم الذاتي، وهوية المصير. وأصبحت القوميات والأمم «العهدية» الناتجة مهودا ونماذج للأشكال العلمانية اللاحقة.
الفصل السادس:
بدلا من قطع العلاقة بكل ما حدث من قبل، تكونت الأمة «الجمهورية» العلمانية اعتمادا على تأثير وإلهام الأمم العهدية. وعلى نحو مشابه، فعلى الرغم من العلمانية الراديكالية للأمة الجمهورية، فإن قوميتها غالبا ما كانت محاكاة لطقوس الأديان التقليدية وليتورجياتها وممارساتها. وتمكنت القومية بوصفها «دينا علمانيا للشعب» أن تجمع بين ميثاق مواطنة إنساني وأرضي صرف وبين عبادة الشعب للأمة. وأثناء «مهرجانات» الاحتفاء بالثورة الفرنسية، تمكن هذا الجمع بين الروح العلمانية والروح الدينية، ممثلتين في وطنية الدول المدن القديمة المبعوثة من جديد، وفي العقود المقدسة لأساطير الاختيار الإلهي والعهد؛ من تعبئة جيوش هائلة وبث مشاعر حماسية على نطاق واسع. إن انتصار القومية الجمهورية داخل أوروبا والغرب، وفي الخارج أيضا، يعود بقدر كبير إلى أبعادها «المقدسة» والشعبية.
الفصل السابع:
على الرغم من ذلك، بدلا من التخلص من النماذج السابقة من الأمم، فإن القومية الجمهورية العلمانية تجد نفسها باستمرار في تحد مع ما تبقى من سمات ثقافية لهذه النماذج السابقة. ويتمثل ذلك في التاريخ الحديث لليونان؛ حيث واجه المشروع اليوناني الجمهوري تحديا من قبل النموذج القومي «البيزنطي»، ثم اندمج معه لاحقا، ذلك النموذج الذي كان يتكون من ذكريات هرمية (إمبراطورية) ومعتقدات عهدية أرثوذكسية يونانية بالمقدار نفسه. فعلاوة على أننا نجد آثارا للسمات الهرمية، في ملكية بريطانيا على سبيل المثال، فإن جمهوريات مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا ما زالت تعج بأساطير ومعتقدات نابعة من الأمم والقوميات العهدية السابقة؛ ومن ثم تقدم لكل جيل من أجيال الجماعة تواريخ عرقية ومصائر قومية بديلة. وعلى الرغم من أن هذه التقاليد الثقافية المختلفة يمكن أن تسفر عن صراع أيديولوجي داخل المجتمعات القومية، فإن تنافسها وتضافرها يمكن أيضا أن يقويا الوعي القومي، ويحافظا على نسيج الأمة.
الخاتمة:
يختتم الكتاب بملخص لما سردته عن علم الاجتماع التاريخي للأمم، ويوضح باختصار بعض الآثار الأطول أمدا التي من المحتمل أن تؤثر على الأمم والقومية في العالم المعاصر.
تمهيد
انبثق هذا الكتاب عن بحث قدمته للمؤتمر السنوي الرابع عشر لجمعية دراسة العرقية والقومية في كلية لندن للاقتصاد في أبريل 2004. وأصبح موضوع المؤتمر: «متى تنشأ الأمة؟» موضوعا لكتاب حمل الاسم نفسه، حرره الدكتور أتسوكو إيتشيجو والدكتورة جوردانا أوزيلك، اللذان نظما أيضا هذا المؤتمر البالغ النجاح. وإني لأدين لهما بوافر الشكر على تكريمهما الرائع لي عند تقاعدي، وأيضا على التحفيز المبدئي والدعم المستمر.
إلا أنني سرعان ما وجدت أن ما بدأ كإسهام في النقاش الدائر حول تحديد تاريخ نشوء الأمم تحول إلى استقصاء أكبر عن «الشخصيات» المختلفة للأمم؛ فالأمم فريدة بطبيعة الحال - من ناحية أن أفرادها يميلون إلى اعتقاد أنها كذلك، ومن ناحية أخرى يمكننا كذلك أن نفصل السمات المتكررة في النماذج التاريخية للمجتمعات والهويات المصنفة ك «أمم» و«هويات قومية» - بوصفها مغايرة للمجتمعات والهويات الأخرى. ورغم ذلك، فإن بين طرفي النقيض المتمثلين في الخصوصية والعمومية، من الممكن أيضا اكتشاف أنماط متكررة متمثلة بوضوح شديد في أنواع معينة من الثقافات العامة للأمم. لقد وجدت أن تلك الأنماط متأثرة تأثرا قويا بالتقاليد الثقافية الراسخة التي تعود إلى العالم القديم، وأنها، في أشكالها المتغيرة، استمرت في جعل تأثيرها ملموسا، حتى في ظل عالم غاية في المدنية قائم على الاعتماد المتبادل.
من الواضح أن هذا الموضوع شاسع، ووجدت أنه من الضروري تقييد نطاقه إلى حد بالغ؛ وذلك لافتقاري إلى الكفاءة في الكثير من المجالات التاريخية؛ ولذلك ركزت على المجالات التي أحيط بها علما إلى حد بعيد - العالم القديم وأوروبا في بداية الحداثة وفي عصر الحداثة - تاركا للآخرين تناول الموضوعات المتعلقة بالفترات والحضارات التي تحظى بالقدر نفسه من الأهمية، مثل تلك المتعلقة بالشرق الأقصى. وفي هذا الصدد، فإن المقالات الواردة في كتاب «الأنماط الآسيوية من الأمم»، الذي حرره ستاين تونسين وهانز أنتلوف، ترتبط ارتباطا مهما ببعض موضوعات هذا الكتاب، في حين أن مجموعة المقالات التي حررها لين سكيلز وأوليفر تسيمر تحت عنوان «السلطة والأمة في التاريخ الأوروبي»؛ ترتبط ارتباطا مهما بالقدر نفسه بفترة العصور الوسطى.
أثناء إعداد هذا الكتاب، وجدت أنه من الضروري مراجعة أفكاري في موضوعين رئيسيين؛ يتعلق الموضوع الأول ب «الأصول العرقية» للأمم. مع الاستمرار في اعتبار العرقية والروابط العرقية أساس تكوين الأمم، فإن رؤية أشمل للأسس الحضارية للأمم أبرزت أهمية أنواع أخرى سياسية ودينية من المجتمعات والهويات؛ ينعكس ذلك في الأهمية الممنوحة لكل من «الهرمية» و«الجمهورية» باعتبارها تقاليد حضارية لها أصولها في الشرق الأدنى القديم وعالم العصور الكلاسيكية. أما الموضوع الثاني، فيتعلق بتحديد تاريخ ظهور أيديولوجية «القومية». مرة أخرى، على الرغم من التمسك برؤية أن القومية باعتبارها معتقدا نشأت في القرن الثامن عشر، فقد وجدت أن عديدا من سماتها نشأ في وقت أسبق بكثير، وبوجه أكثر تحديدا، فإنه بالنظر إلى القومية من حيث كونها برنامجا سياسيا، فإنه يمكن العثور على نوع معين من القومية الشعبية والعامية في بعض دول القرن السابع عشر، مثل إنجلترا واسكتلندا وهولندا، وربما في دول أخرى أيضا. وهذا بدوره كان يعني مراجعة التسلسل الزمني الحديث ل «القومية»، بالإضافة إلى التسلسل الزمني الحديث للأمم.
تتأكد هذه الرؤية بمحورية فكرة الميثاق الغليظ أو العهد الغليظ، وهو نوع من الالتزام أقوى وأكثر استمرارية من العقد المعتاد. لطالما كان حلف اليمين والمواثيق العامة مرتبطين بفكرة الأمة الشعبية وتاريخها، ولهذا السبب يتحدث كثير من الطبقات المتعلمة عن نماذج العهد والميثاق في العالم اليوناني الروماني القديم وفي العهد القديم. ومن هنا كان اختيار مجلس أوصياء أمستردام لموضوع أسطورة باتافيا ذات الأصول الهولندية للقصر الملكي في أمستردام، ولوحة «مؤامرة كلاديوس سيفيليس» ضد الرومان عام 70 قبل الميلاد للرسام رامبرانت الناتجة عن هذا الاختيار؛ على الرغم من أن لوحة رامبرانت الواقعية والمشعة بالضوء هذه لم تنل استحسانا، وسرعان ما أنزلت ومزقت، ولم يتبق منها في وقتنا الحاضر سوى قطعة معروضة في متحف استوكهولم القومي، ومخطط لتصميم اللوحة بالكامل في ميونخ. على الرغم من ذلك كله، تنقل تلك القطعة المتبقية من لوحة رامبرانت الرائعة لمحة خافتة عن ميثاق غليظ من العصور القديمة أبرمه المشاركون فيه لمقاومة الحكم الأجنبي وتحرير بلادهم، مثلما فعل الهولنديون المعاصرون قبل عدة سنوات.
يتمحور الحديث في بقية الكتاب على علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، إلا أن هذا أثار حتما موضوعات معقدة متعلقة بالتعريف والنموذج النظري. في الواقع، من المستبعد أن تؤلف كتابا عن القومية لا يثير هذه الموضوعات بشكل أو بآخر؛ لذلك، حاولت تناول هذه الموضوعات في المقدمة وفي أول فصلين، فوضحت وصفي الخاص لما أصبح معروفا باسم منظور «الرمزية العرقية». أرى أن مثل هذا المنظور مكمل مفيد ومصحح للمعتقد الحداثي السائد، لكنه ليس نظرية بأي حال من الأحوال؛ لذلك جعلت النقاش مقتصرا على الفصل الثاني. ونظرا أيضا لأن الهدف من الكتاب هو تقديم سرد اجتماعي تاريخي لنشأة وتكون أنواع مختلفة من الأمم، فقد جعلت النقد، باستثناء الاختلاف المبدئي مع المفهوم الحداثي للأمة، في أدنى مستوى ممكن، لا سيما في الملاحظات.
أتوجه بعميق ووافر الشكر إلى الباحثين، وأخص بالذكر منهم ووكر كونور لتحفيزه المستمر وحجته السديدة، بالإضافة إلى لطفه الكبير. وأود أن أعبر عن امتناني لجون هتشينسون على نقاشاته الكثيرة المثيرة وعلى دعمه المستمر. وأدين بالشكر أيضا لطلاب الدراسات العليا السابقين وطلاب جمعية دراسة العرقية والقومية، بالإضافة إلى أصدقائي في فريق التحرير في دورية الأمم والقومية «نيشنز آند ناشوناليزم»، على الاهتمام، وأخص بالشكر سيتا بيرصاد على مساعدتها الدائمة. وأتقدم بعظيم الامتنان بصفة خاصة لزوجتي، ديانا، لدعمها المستمر في الأوقات العصيبة الكثيرة، وإلى جوشوا على البهجة البالغة التي يمدنا بها.
أتحمل وحدي مسئولية الآراء التي عبرت عنها في هذا الكتاب، وكذلك الأخطاء والسهو.
أنتوني دي سميث
لندن
مقدمة: الجدل النظري
الهدف من هذا الكتاب مزدوج؛ فهو يرمي إلى تتبع الأسس الثقافية للأمم في فترات مختلفة من التاريخ عن طريق تحليل عملياتها الاجتماعية والرمزية ومصادرها الثقافية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على بعض المسائل المعقدة المتمثلة في تعريف «الأمة» وتحديد تاريخ ظهورها. وهاتان المسألتان مرتبطتان ارتباطا وثيقا؛ لأن كلتيهما تتعلق بموضوع أكثر جوهرية يتمثل في إمكانية الحديث عن وجود مفهوم واحد للأمة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يرتبط ذلك المفهوم بالأشكال المتعددة للأمة في فترات مختلفة من التاريخ.
سأوضح أن أنماط المجتمع القومي تعتمد على تقاليد ثقافية معينة نابعة من العصور القديمة التي كونت الأخلاقيات وحس الهوية القومية لدى أفرادها. بيد أننا قبل أن نتمكن من استعراض تلك التقاليد نحتاج إلى التركيز على مسألتي تعريف الأمة والتحقيب الزمني لتاريخها. وهاتان المسألتان، بدوريهما، جزء لا يتجزأ من مناهج نظرية مختلفة؛ لذلك، في هذه المقدمة، سوف أوضح أولا في اقتضاب المناهج الأساسية في هذا المجال وحلولها لإشكالية «تأريخ ظهور الأمة». وسيمثل هذا مدخلا لموضوعين أساسيين، هما: تعريف فئة «الأمة»، والتكوين الاجتماعي للأشكال التاريخية للأمم. وهذا بدوره سوف يسمح لنا بالبدء في إجراء دراسة علم اجتماع تاريخي على تكوين المجتمعات القومية واستمرارها، في فترات مختلفة من التاريخ.
تعد مقالة ووكر كونور القصيرة التي نشرت عام 1990 تحت عنوان «متى تنشأ الأمة؟» نقطة انطلاق جيدة؛ إذ قال في هذه المقالة إن الباحثين طالما ركزوا على سؤال «ما الأمة؟» لكنهم أهملوا سؤالا عل القدر نفسه من الأهمية والإثارة، ألا وهو «متى تنشأ الأمة؟» حتى لو كان السؤال الأول له الأسبقية منطقيا، فإنه في حد ذاته، باعتباره تعريفا لمفهوم الأمة، لا يمكنه حسم إشكالية تحديد الوقت الذي تكونت فيه أمم بعينها. بالإضافة إلى ذلك، تطلب هذا الأمر بيانات تاريخية وأيضا نموذجا أو نظرية لتكون الأمة. وقدم كونور كلا من تعريف الأمة والنموذج الذي يوضح، على أقل تقدير، كيفية تكون الأمم الحديثة.
1
يرى ووكر كونور أن الأمم جماعات عرقية تتمتع بوعي ذاتي حقيقي. وتشكل الأمة أكبر جماعة مؤسسة على اعتقاد أفرادها أن بينهم صلات قرابة تعود إلى سلف مشترك. إن احتمالية عدم وجود صلة قرابة تعود إلى سلف مشترك فيما بينهم، أو احتمالية نشوئهم أيضا من سلالات عرقية مختلفة، كما هي الحال في أغلب الأحيان؛ من الاحتماليات غير المطروحة من الأساس. إنه ليس تاريخا وقائعيا، بل تاريخ محسوس يشمل عملية تكوين الأمم؛ ولهذا السبب يشبه القوميون المعاصرون الأمة بأسرة كبيرة، ولهذا السبب فإن توسلهم ب «صلة الدم» يثير دائما تعاطف أعضاء الأمة. كيف تتكون الأمة من أساسها العرقي؟ يرى كونور أن هذه العملية قد تكون مطولة للغاية؛ لأن الأمم تنشأ على مراحل. إلا أن التحديث (التحول إلى الحداثة) يعمل محفزا قويا يسرع من هذه العملية؛ نظرا لأنه يجعل الكثير من الجماعات يتواصل عن كثب وبانتظام، بالإضافة إلى أنه منذ الثورة الفرنسية حرضت أفكار السيادة الشعبية واعتبار حكم الأجنبي حكما غير شرعي جماعات عرقية متعاقبة على التطلع إلى تكوين أمم مستقلة. رغم ذلك، لا يمكننا حقا الحديث عن نشوء أمم إلا بعد أن يكون لدى غالبية أعضائها وعي بمن يكونون ومن لا يكونون، والأهم من ذلك أن يكون لديهم شعور بالانتماء إلى الأمة وأن يشتركوا في حياتها. ومن منظور الديمقراطية، يكون معنى ما سبق أننا لا يمكننا الحديث عن أمة قبل أن يمنح غالبية أفرادها حق التصويت كأحد حقوق المواطنة، وهذا أمر لم يشرع حدوثه إلا مع نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. وقد تكون الجماعات العرقية «من ثوابت التاريخ»، وموجودة في كل حقبة، لكن الأمم القائمة أمم حديثة، وقريبة العهد تماما.
2 (1) الحداثة
يتوافق تأريخ كونور لظهور الأمم مع التاريخ الذي حدده غالبية الباحثين في الوقت الحاضر، هؤلاء الباحثون الذين من الممكن أن يطلق عليهم «حداثيون» لهذا السبب. من منظور الحداثيين، فإن كلا من الأمم والقوميات قريبة العهد وحديثة، وكلتاهما ثمرة «التحديث». ويختلفون بطبيعة الحال في الأسباب الدقيقة التي تجعل الأمم قريبة العهد وحديثة؛ فالبعض يبحث عن الأسباب في الرأسمالية الصناعية، والبعض الآخر يبحث عن الأسباب في نشأة الدولة المركزية المحنكة، وغيرهم يبحث عن الأسباب رغم ذلك في طبيعة وسائل الإعلام الحديثة والتعليم العلماني. إلا أن ما يهمني في هذا الصدد ليس أسبابهم، بل طريقة تقسيمهم للفترات والافتراضات التصنيفية التي أرخوا تكون الأمم على أساسها.
3
من منظور الحداثيين، فإن الأمم لا توجد ولا يمكن أن توجد قبل نشأة الحداثة، أيا كان تعريف الحداثة. وهذا يعني من الناحية العملية أننا لا نستطيع الحديث عن الأمم أو القومية قبل أواخر القرن الثامن عشر، وليس قبل ذلك. وحسب ما ذكره إرنست جيلنر، فمن غير الممكن أن تكون الأمم قد ظهرت قبل فجر الحداثة. في المجتمعات التي يطلق عليها المجتمعات «الماهرة في الزراعة»، كانت قلة نخبوية تحكم قاعدة هائلة من منتجي الطعام، وكانت الثقافة المكتوبة لهذه النخب مختلفة تماما عن الثقافات الكثيرة «المتدنية» والشفهية والعامية لعوام الفلاحين. ولم يكن لدى النخب رغبة في نشر ثقافتهم، ولا اهتمام بذلك، وحتى رجال الدين الذين كان لديهم اهتمام بنشر الثقافة كانوا يفتقرون إلى وسائل القيام بذلك. لم يخلق الحاجة إلى «الثقافات الرفيعة» المكتوبة المتخصصة التي يجعلها جيلنر مناظرة لظهور الأمم إلا سهولة الحركة والنقل التي تتطلبها المجتمعات الصناعية.
4
بالنسبة إلى الحداثيين الآخرين، أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم، فقد كان لدى العوام في فترة ما قبل الحداثة ولاء محلي وديني صرف. وعلى أحسن تقدير، من الممكن أن نصف بعض مجتمعاتهم بأنها مجتمعات «قومية بدائية». إلا أنه - كما يحاول هوبزبوم أن يوضح - لم يكن يوجد رابط حتمي بين تلك المجتمعات المحلية أو اللغوية أو الدينية وبين الأمم الإقليمية الحديثة. ليس بإمكاننا التفكير في احتمالية وجود صلة في العصور السابقة بأي هوية قومية حديثة، باستثناء تلك الحالات القليلة التي كان بها علاقة مستمرة على نحو ما بدولة أو كنيسة في العصور الوسطى. لكن في العموم، لم يكن من الممكن انتقال كتلة السكان وشعورهم بالولاء لمجتمعات قومية أوسع نطاقا إلا مع نشأة الدولة الحديثة والتحضر والنمو الاقتصادي.
5
في حقيقة الأمر، إذا أردنا البحث عن الأسباب المباشرة لتوقيت نشوء الأمم، فإن بحثنا يجب ألا يتجاوز النخبة المثقفة القومية. إن القوميين هم من يخلقون الأمم، وليس العكس، كما يقول جيلنر، مثلما كان التنوير - وفقا لما ذكره إيلي كيدوري - هو ما شكل الثقافة العلمانية للأمم وأسفر عن النخبة المثقفة المقلدة والمتفاعلة في أنحاء أوروبا أولا ثم حول العالم. وهذا يمثل نقطة التحول في تاريخ القومية. ونظرا لأن التنوير خلق خارج البلاد التي نشأ فيها جيلا من الشباب المنعزل والمحبط - «رجالا مهمشين» - شعروا بأن الرفض الأرستقراطي أو الاستعماري حرمهم فرصهم في وظيفة ومكانة قيمتين متوافقتين مع تعليمهم العلماني؛ ومن ثم أدت حالة السخط الناجمة عن ذلك إلى أن يبحثوا في القومية عن حل سياسي يمتد لآلاف السنين. وكانت النتيجة مناشدات من موجات متعاقبة من المفكرين القوميين ل «جماعاتهم» التي يشاركهم أفرادها نفس الثقافة من أجل تكوين الأمة السياسية التي يكون للمفكرين في ظلها دور قيادي مضمون. لم تتمكن تلك المناشدات من البدء في إثارة العوام إلا بعد الثورة الفرنسية، بداية بالرومانسيين في ألمانيا، وهو ما سيرجع مجددا تاريخ تكون الأمم إلى القرن التاسع عشر.
6
يتضمن تحليل بينيدكت أندرسون لدور «رأسمالية الطباعة» في نشأة الأمم والقومية إشارة لرؤية مشابهة عن تاريخ تكون الأمم وطريقة تكونها. يرى أندرسون أن الاتحاد بين الطباعة والرأسمالية في إنتاج الكتب ربما بدأ في أواخر القرن الخامس عشر. إلا أن دخول أعداد كبيرة من الناس إلى معترك السياسة، وتمكنهم من البدء في «تخيل» الأمة باعتبارها تضامنا له حدود وسيادة ويضم طبقات مختلفة، لم يكن إلا في القرن الثامن عشر، مع الإنتاج الشامل للصحف (مطبوعات اليوم الواحد). وساعدهم في ذلك حدوث ثورة في تصوراتنا عن الزمن؛ إذ تحول من إدراك سابق مسيحاني كوني للزمن قبل ظهور الحداثة، فأصبحنا الآن نرى أن الزمن يتحرك حركة خطية، من خلال «زمن فارغ متجانس» يقاس بالساعة والتقويم.
7 (2) فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة
بطبيعة الحال، فإن هذه الحداثة الواثقة لا يشترك فيها العالم أجمع؛ فمثلما عارض الحداثيون عقيدة ما قبل الحرب السابقة التي مالت إلى اعتبار الأمم، إن لم تكن القومية، خالدة ومتكررة في كل حقبة تاريخية وفي كل قارة، فقد شن تيار صاعد من مؤرخي فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، لا سيما في بريطانيا، هجوما مضادا قويا على افتراضات الحداثيين.
وقد طرح الراحل أدريان هستنجز حجتهم العامة بمنتهى الإقناع؛ فقد أوضح أننا يمكن أن نجد الأمم نابعة عن عرقيات شفهية موجودة منتشرة، لكنها متغيرة، نتجت بدورها عن تقديم أعمال أدبية مكتوبة باللغة العامية؛ ذلك أن الأدب يثبت اللهجة العامية، ويحدد الجمهور القارئ أو الأمة القارئة لها. في الحقيقة، يزعم هستنجز أن الأمم والقوميات كانت سائدة في العالم المسيحي. وكان ذلك نتيجة لسمتين من سمات المسيحية؛ تمثلت السمة الأولى في أن المسيحية، على النقيض من الأديان الأخرى، سمحت باستخدام اللغات والترجمات العامية. بينما تمثلت السمة الثانية في أن المسيحية تبنت العهد القديم بسرده لنموذج أمة وحدوي في إسرائيل القديمة؛ نموذج مزج الأرض بالشعب باللغة بالدين.
8
بالنسبة إلى هستنجز، وكذلك بالنسبة إلى باتريك ورمالد، وجون جيلينجهام، وحتى سوزان رينولدز، توجد أدلة كافية، لا سيما في حالة إنجلترا، لتقويض الزعم القائل بأن الأمم وكذلك القومية ناتجتان عن «الحداثة». وعلى الرغم من أنهم قد يختلفون في التاريخ المحدد الذي نشأت فيه الأمة الإنجليزية، فإنهم جميعهم يتفقون على أن تحديد أواخر القرن الثامن عشر أو التاسع عشر كتاريخ لظهور الأمة يعد تاريخا متأخرا جدا؛ ذلك أن إحساسا قويا بالهوية القومية وجد قبل ذلك بفترة طويلة في إنجلترا، وربما أيضا في اسكتلندا وأيرلندا وربما ويلز، وفي الحالة الإنجليزية، كان ذلك الإحساس بالقومية واضح المعالم في إنجلترا في أواخر العهد النورماني والعصور الوسطى بداية من القرنين الثالث عشر والرابع عشر على أقل تقدير وما بعدهما، إن لم يكن واضح المعالم مع أواخر الفترة الأنجلوساكسونية بالفعل. بالنسبة إلى مؤيدي فكرة ظهور الأمة في العصور الوسطى، فإن المصادر واضحة إلى حد بعيد؛ فمصطلح «أمة» كان مستخدما على نطاق واسع في العصور الوسطى، ليس فقط في المجالس الكنسية ولفيف الطلاب في الجامعات، بل أيضا في الوثائق القانونية والكنسية، والمراسيم الملكية وقصص الرحلات، وأيضا في المراسلات العامة. وحقا، كانت كل هذه الأعمال نتاج قلة نخبوية؛ إذ لم يترك السواد الأعظم من الناس، الفلاحون الأميون والمعزولون، أي سجلات مكتوبة. ورغم ذلك، كم عدد السجلات التي تركها الفلاحون في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي يمثل ذروة التكون السريع للأمم، وفقا لمعظم الحداثيين؟
9
هذا يعيدنا إلى الزعم الأساسي لووكر كونور الذي يقول إن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية»، وإنه نظرا لأن جماعات الفلاحين في حقب ما قبل الحداثة كانت أمية و«صامتة»، فلا مجال للحديث عن وجود أمم في الفترات التي سبقت دخول الفلاحين المعترك السياسي للأمة، وذلك لم يحدث في حالة الأمم الحالية إلا مع نهاية القرن التاسع عشر؛ يقر كونور باحتمالية وجود أمم في فترات سابقة من التاريخ نظرا لوجود أدلة كافية على ذلك. ثمة العديد من الردود على حجة كونور. بداية، إن غياب الدليل ليس كدليل الغياب، وحجة عدم وجود الوثائق تكون في الغالب سلاحا ذا حدين. بالنسبة إلى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن هذا الصمت يمكن أن يفسر إما على أنه قبول، أو تسليم، من جانب الفلاحين بروابطهم العرقية أو الوطنية، أو على أنه افتقار تام للشعور بالانتماء الوطني. علاوة على ذلك، فإننا إذا زعمنا، مثلما فعل كونور، أن «تصورات النخب عن الأمة في أغلب الأحيان لا تبلغ العوام»، فإن هذا الزعم يتجاوز ما لدينا من أدلة، ويوحي بأن معرفتنا بمعتقدات العوام في فترة ما قبل الحداثة تفوق معرفة النخب المعاصرة لها. في هذا الزمن السحيق، لا يمكننا ببساطة أن نجزم بما إذا كان عوام الفلاحين في العصور الوسطى أو ما قبلها يشاركون النخب في تصوراتهم. ومثل هذه الحجج العامة لا تسمح لنا باستنتاج أن السواد الأعظم من الفلاحين لم يستطيعوا امتلاك، أو لم يمتلكوا، هذا النوع من المشاعر العرقية أو حتى الوطنية في أزمنة بعينها.
10
كخيار بديل، فإنه من الممكن التشكيك في علاقة شعور عوام الفلاحين بتأريخ نشأة الأمة؛ إذ يمكن على النحو نفسه أن نزعم أنه نظرا لغياب الفلاحين من التاريخ والسياسة في معظم الحقب، فإن مسألة ما إذا كان الفلاحون قد حملوا مشاعر أو أفكارا تجاه الأمة، وماهية تلك المشاعر أو الأفكار، غير ذات أهمية إلى حد بعيد؛ فالثقافات والسياسات تكونها الأقليات التي تكون في العادة نخبة من نوع ما أو آخر. كل ما يهم هو ضرورة أن يشعر عدد كبير من الناس خارج نطاق الطبقة الحاكمة بأنهم ينتمون إلى أمة معينة، كي يقال إن تلك الأمة موجودة. من ناحية أخرى، يمكننا أيضا الإشارة إلى حقيقة أننا نعرف بالفعل بعض الأمور عن المعتقدات الأعم ل «بعض» الفلاحين في أوقات متعددة، مثل ميلهم إلى النهوض دفاعا عن الدين، مثلما حدث في فونديه عام 1793، أو إعجابهم بذكريات فيلهلم تل في حرب الفلاحين السويسريين عام 1653؛ ومن ثم، إذا لم يكن الفلاحون «صامتين» دائما، فإنه يجب أن نحذر من أن نرفض مسبقا «اعتمادا على استنتاج مفترض» احتمال أن بعضهم ربما شعر بنوع من الارتباط ب «جماعة عرقية» أو أمة محلية جامعة كما كانت الحال على نحو واضح في القبائل الإسرائيلية القديمة في أزمان مختلفة، أو بين الأعداد المتزايدة لسكان الوادي السويسريين ، على الرغم من احتفاظهم بالولاء لكانتوناتهم.
11
مرة أخرى، من الممكن معارضة فكرة أن الأمم والقومية «ظواهر جماهيرية» من خلال تذكر أن معظم القوميات، أيا كانت طريقة تعبيرها عن دعواها، كانت على نحو واضح شئونا خاصة بأقليات حتى وقت كبير من القرن العشرين. على سبيل المثال، يمكن أن نحصي عدد القوميين عند متاريس ثورات ربيع الأمم التي اندلعت عام 1848 بالمئات على أفضل تقدير، كما أن جل أعمال العنف السياسي المرتكبة في جزر البلقان - على سبيل المثال - في أوائل القرن العشرين ارتكبتها كوادر قليلة مخلصة من القوميين المتحمسين. أما فيما يخص الأمم نفسها، فعلى الرغم من أنه وفقا لنظرية الأمم، كل عضو مواطن أو ينبغي أن يكون مواطنا، فإن هذا الشرط في كثير من الحالات لم يكن مستوفى إلا في بعض أماكن دون غيرها، وفي العقود الأخيرة. ومن الناحية العملية، نحن على استعداد للتحدث عن أمم موجودة قبل تجسدها الجماهيري بوقت طويل، وما نشير إليه غالبا هو دخول «الطبقات الوسطى» الأكثر ثراء إلى المعترك السياسي، وهذا أمر يمكن أن يعود إلى القرن السابع عشر في أجزاء من أوروبا الغربية. وهذا اتجاه آخر للحجج سأعود إليه.
12
إن مسألة «المشاركة الجماهيرية» ليست إلا إحدى مسائل عديدة تفصل الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة. ومن المسائل الأخرى مسألة الاستمرارية المؤسسية. وحتى الحداثيون أمثال إريك هوبزبوم، كما رأينا، على استعداد لإضفاء قيمة على فرضية أنه في حالات قليلة - تتمثل في روسيا وصربيا وإنجلترا وفرنسا حسبما يذكر هوبزبوم - كان يوجد أساس للدولة القومية الحديثة في فترة ما قبل الحداثة؛ لأنها استطاعت احتضان الاستمرارية المؤسسية للدولة أو الكنيسة أو كلتيهما منذ العصور الوسطى، وعلى نحو أكثر تحديدا فإن هوبزبوم مستعد، نتيجة لذلك، للتحدث عن إمكانية وجود شعور بالوطنية تجاه أسرة تيودور المالكة في إنجلترا. بالنسبة إلى جون بروييه أيضا، فإن استمرارية المؤسسات تلك من الممكن أن تمثل أساسا ما قبل حداثي للأمم الحداثية، لكن هذا أمر استثنائي. وفي العموم، يؤكد بروييه، أن الهوية خارج الوسائط المؤسسية (التي يزعم أن معظمها حديث) «مشرذمة ومتقطعة ومراوغة بمقتضى الحال.» وفيما يخص الهوية العرقية في فترة ما قبل الحداثة، فإن «دورها ضئيل فيما يتعلق بالتجسد المؤسسي إذا تجاوزنا المستوى المحلي.»
13
في الحقيقة، حسبما يميل مؤرخو العصور الوسطى إلى الإشارة، كان يوجد قدر كبير من الاستمرارية المؤسسية في حقب ما قبل الحداثة، وبعضها كان مرتبطا بالعرق والدين. على سبيل المثال، لفتت سوزان رينولدز الانتباه إلى العديد من «الممالك» البربرية التي خلفت الإمبراطورية الكارولينجية في أوروبا الغربية، ووصفتها بأنها مجتمعات يجمعها القانون والتقاليد والنسب، ومرتبطة بالبيت الحاكم وسلالته؛ مشيرة إلى الأنجلوساكسونيين، والفرنجة، والقوط الغربيين، والنورمانديين، والساكسونيين. أصبحت أساطير النسب، التي تشير عادة إلى إينياس الطروادي أو إلى نوح، مهمة كمسوغات تكسب الشرعية لمزاعم الانتساب إلى سلالة الزعماء البربريين وعائلاتهم. إلا أنه على النقيض من فترة ما بعد الإمبراطورية الرومانية السابقة، التي شهدت عمليات سياسية وعرقية أكثر تغيرا، فإن القرن العاشر وما بعده شهد عملية تأصل سياسي وعرقي، وبدايات تلك الانقسامات العرقية السياسية التي أسفرت لاحقا عن الدول القومية القائمة على العرق في أوروبا الغربية. وعلى الرغم من أن سوزان رينولدز تفضل استخدام مصطلح «ممالك» بدلا من «أمم» معتبرة أن من المحتمل جدا إساءة التفسير الغائي للمصطلح الأخير ودمج أفكار العصور الوسطى بالتصورات الحديثة المألوفة إلى حد بعيد عن الأمة، فإنه واضح أنها وغيرها من مؤرخي العصور الوسطى يشيرون إلى أشكال من الاستمرارية العرقية السياسية، التي قد تمثل أو لا تمثل أساسا للدول القومية اللاحقة. يشبه ذلك - إلى حد ما - الحال مع تحليل جوسيب إيوبيرا للنطاقات الجغرافية والإدارية لبريطانيا، وبلاد الغال، وجيرمانيا، وإيطاليا، وهسبانيا في العصور الوسطى. ذلك أنه على الرغم من تأكيد إيوبيرا على الطبيعة المؤقتة - بل الوهمية - لما قد يبدو أنه استمراريات قومية في تلك النطاقات، فإنه لا يألو جهدا أيضا ليوضح أن القوميات الحديثة «جذورها متأصلة في ماضي العصور الوسطى، حتى إذا وجد احتمال أن تكون روابطها بذلك الماضي معقدة وملتوية على الأغلب.»
14
توجد نقطة إضافية: إن مصطلح «مؤسسة» قد لا يشير فقط إلى الأشكال الاقتصادية والسياسية والقانونية المألوفة لنا في العالم الحديث، بل أيضا إلى الأشكال الثقافية التي حللها جون أرمسترونج في كتابه الرائد عن العرقية في الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ويتمثل جانب من تلك الأشكال في أساليب الحياة، والارتباط ب «الوطن»، و«الأساطير المحركة» الإمبراطورية، والأنماط واللغة والتعليم الخاصة بالحضر، والمؤسسة الدينية والطقوس الدينية، والتقاليد الفنية. وهذا يعني أن تصور المؤسسات لدى الحداثيين أمثال جون بروييه وإريك هوبزبوم مقيد جدا، ويحتاج إلى أن يشمل أي مجموعة من الأدوار المتبادلة القائمة على توقعات عرفية وثقافية نمطية.
15
الأمر الثالث الذي يفرق الحداثيين عن أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة يتعلق بدور الدين. بالنسبة إلى كثير من الحداثيين، فإن الدين فئة متبقية في العالم الحديث، ومرتبطة بطريقة عكسية بالأمم والقومية. حتى بينيدكت أندرسون، الذي بدأ بالتوضيح غير المباشر لأهمية الأمة باعتبارها طائفة تقوم على فضيلة كامنة قادرة على أن تظل خالدة ولا يطويها النسيان، يدير ظهره للدين كمتغير تفسيري. ومع تطوير حجته، يصبح من الواضح أن الدين لا يمكن أن يلعب دورا في أمر يمثل في نهاية المطاف تفسيرا ثقافيا للقومية قائما على أساس مادي.
16
الآن، على الرغم من أن الرؤية الحداثية الضيقة لدور الدين قد تكشف عن تفسير معين للثورتين الفرنسية والأمريكية، وكذلك تأثير أطروحة العلمنة التي سادت عقود ما بعد الحرب، فإنه لا يمكن أن يمثل دليلا على مكان الدين في حقب ما قبل الحداثة ذات التكوين العرقي والقومي، أو على الإحياء الحديث ل «القوميات الدينية» خارج الغرب وداخله. في كلتا الحالتين، لعب الدين و«المقدسات» دورا حيويا، ومن المستحيل فهم معاني الأمم والقومية دون فهم الروابط بين الموضوعات الدينية المتكررة والطقوس الدينية وبين الأساطير والذكريات والرموز العرقية والقومية اللاحقة. ومن الواضح أنه لا يكفي أن نقول إن الأمم والقوميات نشأت من رحم الأنظمة الثقافية الدينية العظيمة في عالم العصور الوسطى، ومناهضة لها. يجب أن ندرك تعقيد العلاقات المستمرة بين الأديان وأشكال المقدسات من ناحية، والرموز والذكريات والتقاليد القومية من ناحية أخرى، والطرق التي من خلالها ما زالت الأمم المعاصرة ممزوجة بالمعاني المقدسة. وهذا موضوع آخر سأعود لتناوله في الفصول القادمة. (3) البدائية
على غرار الحداثيين، يسعى أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة إلى بناء حججهم وأطروحاتهم على أساس الدليل التاريخي، ويحذرون التفسيرات التي تقدم مستويات شرح أخرى أبسط كثيرا. حتى الروايات الأكثر تعميما من بين رواياتهم، مثل اعتقاد هستنجز أنه يوجد أساس مسيحي للأمم والقومية، تظل على مستويات التفسير من منظوري التاريخ وعلم الاجتماع. رغم ذلك، يرى آخرون أن هذا التكتم المنهجي لا يمكن أن يتوافق مع الانتشار الواسع للموضوعات التي تثيرها العرقية والقومية وقوتها الصرفة، ولا سيما تلك الموضوعات التي يثيرها السؤال الذي يتجنبه الحداثيون، المتمثل في السبب الذي يجعل كثيرا من الأشخاص، ولو على نحو نسبي، على استعداد للتضحية بأنفسهم حتى يومنا الحاضر من أجل الأمة، مثلما كانوا على استعداد للتضحية بأنفسهم من أجل دينهم.
يكمن الجواب عن هذا السؤال في مفهوم «البدائية». كان إدوارد شيلز هو من قدم هذا المفهوم من الأساس، وقد حدد أنواعا مختلفة من الروابط - الشخصية والمقدسة والمدنية والبدائية، ثم تولى فكرة الروابط البدائية كليفورد جيرتس، الذي سعى لتفسير سبب المشاكل التي تؤرق الدول الجديدة في أفريقيا وآسيا من ناحية الصراع بين رغباتهم في نظام فعال عقلاني يقوم على «الروابط المدنية» وبين انشقاقاتهم المستمرة وارتباطاتهم «البدائية» ب «مسلمات» اجتماعية وثقافية معينة - متعلقة بالقرابة والعرق والدين والعادات واللغة والأرض؛ مما أسفر عن انقسام الكيانات السياسية الجديدة انقساما تاما. كان جيرتس نفسه حريصا على التأكيد على أن الأفراد هم من نسبوا إلى مثل هذه الروابط البدائية صفات ملزمة ومسيطرة وأقوى وأجل كثيرا من أن يمكن وصفها. إلا أن هذا لم يمنع بعض النقاد من انتقاد «البدائية» (وهو مصطلح لم يستخدمه جيرتس مطلقا) باعتبارها تمويها غير اجتماعي للتفاعلات بين البشر.
17
رد ستيفين جروسبي مدافعا عن شيلز وجيرتس، وكان جروسبي حاول أن يبني منهجا ل «الروابط البدائية» يقوم على أساس معتقدات البشر وإدراكهم للخواص المعززة للحياة التي تختص بها سمات ثابتة معينة تميز حالتهم. يرى جروسبي أن اثنتين من تلك السمات ضروريتان، وهما: القرابة والأرض، وربما تكون الأرض ضرورية أكثر من القرابة، نظرا للاعتقاد الشائع المتعلق بصفات الأرض ومنتجاتها التي تدعم الحياة وتحافظ عليها. بالنسبة إلى جروسبي، فإن المجموعات العرقية والقوميات موجودة «بسبب وجود تقاليد عقائدية وفعلية متعلقة بالأشياء البدائية مثل السمات البيولوجية والموقع الإقليمي بصفة خاصة»؛ ومن ثم، فإن «الأسرة، والموقع، و«قوم» المرء وعشيرته يصنع كل منها الحياة وينقلها ويحفظها.» لهذا السبب، يخلع البشر صفة القداسة على الأشياء البدائية، ولهذا السبب ضحوا في الماضي وما زالوا يضحون بحياتهم من أجل الأسرة والأمة. ويسعى جروسبي إلى توضيح أن مثل هذه الخواص لا تزال جوهرية إلى وقتنا الحاضر؛ ومن ثم يمكننا أن نتحدث عن عنصر البدائية المستمر حتى في المجتمعات الحديثة المعقدة، وهذا العنصر من الحماقة أن نغفل عنه، ومن الضلال السعي إلى تفكيكه.
18
حقيقي أن «البدائية» «في حد ذاتها» لا يمكن أن تخبرنا إلا بالقليل عن أصول الأمم وشكلها الثقافي (على الرغم من أنها تشرح عمليات التكون العرقي والتفكك العرقي). وندرك ذلك عندما نتأمل عمل «بيير فان دن بيرج» الأكثر راديكالية من بين من شرحوا وجهة النظر تلك. على الرغم من أنه حاول مؤخرا الإجابة عن سؤال أصل «الأمم»، فإنه يصوغ نظريته الأساسية المتعلقة بدوافع التناسل الجينية على المستوى البيولوجي، وتضم النظرية كل مجموعات القرابة الممتدة. علاوة على ذلك، نظرا لأن هذه المقاربة متعلقة بالأفراد، فإنها تؤدي إلى صرف الانتباه عن الأسئلة التاريخية الأسمى حول تكوين الأمم. ومع ذلك، يخصص فان دن بيرج كذلك جزءا للثقافة، في صورة علامات مثل الملبس واللون والكلام، وهذه العلامات تميز بين الأجناس والجماعات العرقية، وتقدم أدلة على القرابة الجينية، وتصاحبها أساطير سلف السلالة التي يزعم أنها تعكس خطوط نسب فعلية. على الرغم من ذلك، فإنه يعبر عن نظريته الأساسية من ناحية سمات بيولوجية مثل زواج الأقارب، ومحاباة الأقارب، و«الأهلية الشاملة»، والإجابات عن الأسئلة المتعلقة بأصول «الأمم» وأنماطها هي عامة بالضرورة ومأخوذة من عوامل خارجية إضافية مثل ظهور الدولة.
19
يتمثل الإسهام الفريد الذي قدمه أتباع الفلسفة البدائية في تركيز انتباهنا على الحماس والشغف الذي تثيره في أغلب الأحيان العرقية والقومية؛ هذان الأمران اللذان يفشل الحداثيون في مواجهتهما حتى عند إدانتهم لهما. من ناحية أخرى، تترك البدائية أسئلة أخرى مثل تلك المتعلقة بوقت نشوء الأمم وطابعها دون جواب، بالإضافة إلى أن تركيزها الضيق الأفق وإصرارها العام على أن العرقية والأمة توجد «ببساطة» في الطبيعة البشرية؛ يحولان دون إجراء تحليل تاريخي يهتم على نحو أكبر بأسباب وتاريخ تكون الأمم وشكلها.
20
يمثل العمل التاريخي لستيفين جروسبي استثناء لهذا التعميم. إن أبحاثه الأكاديمية المتعلقة بوجود «الجنسية» في العالم القديم، لا سيما في إسرائيل القديمة، التي سوف أتناولها بمزيد من التفصيل لاحقا، تكشف كيف يمكن للاهتمام بالروابط البدائية أن يكون مصدر إلهام، وتوضيحا لتحليل تاريخ مفصل لأمثلة واقعية، متعلقة في هذه الحالة بالجماعات العرقية والجنسيات في الشرق الأدنى القديم. في رأي جروسبي، فإن «الجنسية» (كما يفضل أن يطلق عليها) واحدة من فئات تحليلية عديدة، بالإضافة إلى الإمبراطورية، والدولة المدينة، والاتحاد القبلي. وعلينا أن نفرق جيدا بينها وبين تلك الفئات الأخرى، من الناحية العامة ومن ناحية السياق الواقعي الغامض - في الغالب - للشرق الأدنى القديم. في هذا الصدد، يوضح جروسبي نقطة جوهرية يمكن أن تمثل دليلا وتحذيرا - من تأكيدات الحداثيين العقائدية وناقديهم - بقدر ما تذكرنا بالصعوبات الكامنة المتعلقة بربط تصنيفاتنا وتعريفاتنا بالأدلة المأخوذة من الهويات الثقافية الجمعية في سجلاتنا التاريخية، والتي غالبا ما تكون أدلة ضئيلة؛ وذلك لأن من بين أهدافه الأساسية في أبحاثه في التاريخ وعلم الاجتماع توضيح الحقيقة المتمثلة في أنه حتى في العالم المعاصر تكون الحدود التي تفصل بين تصنيفات الدراسات التي تجرى على الجماعات التاريخية المتنوعة قابلة للاختراق. ويعبر عن هذا قائلا: «نادرا ما تتلاءم الجماعة بدقة مع فئة تحليلية معينة. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على جماعات العصور القديمة، بل على الدولة القومية الحديثة أيضا.»
21
خاتمة
يعيدنا هذا مرة أخرى إلى موضوع التعريف الذي لا مفر منه؛ إذ يبدو أنه عند محاولة تقديم إجابة لسؤال: «متى تنشأ الأمة؟» ذلك السؤال الذي يبدو بريئا، فتح ووكر كونور الباب لإجراء مزيد من الأبحاث المتعلقة بعدد هائل من المسائل، وهي مسائل متعلقة بموارد النخب، ومشاركة العوام، والاستمرارية المؤسسية، والدين، والمقدسات، والبدائية، والأقاليم. لكن لعل المسألة الأصعب من بين هذه المسائل هي تلك المتعلقة بالتصنيفات والتعريفات نفسها التي نوظفها، وعلاقتها غير المؤكدة بالجماعات التي نسعى إلى دراستها. وهذا يعني أننا لا يمكننا التهرب من المسألة المألوفة المتمثلة في تحديد مفهوم الأمة. إن سؤال «متى تنشأ الأمة؟» في حد ذاته يتطلب محاولة سابقة لحل السؤال المعقد والمألوف الخاص بعلم الاجتماع المتمثل في «ما الأمة؟» عندها فقط يمكننا أن نلتفت إلى الموضوع المحوري المتعلق بالظروف التي نشأت الأمم في ظلها، وندرس التقاليد الثقافية التي شكلت ظهورها.
الفصل الأول
مفهوم الأمة وأشكالها المتنوعة
قبل الشروع في دراسة موضوعية لعلم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية، يجب أن يكون لدينا أولا فكرة واضحة عن الموضوعات التي ندرسها. ثانيا: ينبغي علينا دراسة العمليات الاجتماعية والموارد الثقافية لتكون الأمم واستمراريتها. ثالثا: تتطلب مسألة أمم ما قبل الحداثة نظرة تاريخية عميقة ودراسة ثقافية في علم أنساب الأمم تعود إلى الشرق الأدنى القديم والعالم الكلاسيكي، إذا كنا سنقيم التقاليد التي تكونت من خلالها أنواع مختلفة من الهويات القومية في أوائل العصر الحديث. تلك إذن مهام كل فصل من الفصول الثلاثة القادمة.
يرى التصور الحداثي للأمة أنها الشكل السياسي الأساسي للمجتمع البشري الحديث. بالنسبة إلى معظم الحداثيين، فإن الأمة تتصف بما يلي: (1)
إقليم واضح المعالم، ذو مركز ثابت وحدود مرسومة بوضوح ومراقبة. (2)
نظام قانوني موحد، ومؤسسات قانونية مشتركة داخل إقليم معين، تخلق مجتمعا قانونيا وسياسيا. (3)
مشاركة من قبل كل الأعضاء أو «المواطنين» في الحياة الاجتماعية وسياسات الأمة. (4)
ثقافة عامة جماهيرية تنشر من خلال نظام تعليمي جماعي موحد عام. (5)
حكم ذاتي جماعي راسخ في دولة إقليمية ذات سيادة لأمة معينة. (6)
عضوية الأمة في نظام «دولي» لمجتمع الأمم. (7)
إقرار شرعية الأمة ، إن لم يكن خلقها، من خلال أيديولوجية القومية.
هذا، بطبيعة الحال، نوع خالص أو مثالي لتصور الأمة الذي تتشابه معه أمثلة بعينها، ويمثل معيارا للأمة في حالات محددة. وعلى هذا النحو، أصبح تقريبا وعلى نحو مسلم به «المعيار» الحاسم الذي يمثل أي تصور آخر غيره انحرافا عنه.
1 (1) مشاكل التصور الحداثي
إلا أن الاستقصاء بمزيد من الكثب يكشف أن التصور الحداثي للأمة ذو خصوصية تاريخية. وعلى هذا النحو، فإنه يتعلق فقط بشكل واحد من الأشكال التاريخية للمفهوم، وهو «الأمة الحديثة». وهذا يعني أنه شكل مختلف معين من المفهوم العام للأمة، له سماته الاستثنائية، التي قد يشترك في بعضها فقط أنواع أخرى أو أشكال مختلفة من المفهوم العام.
هل يمكن أن نكون أكثر تحديدا فيما يخص أصل النوع المثالي ل «الأمة الحديثة»؟ إن إلقاء نظرة على سماته البارزة - الإقليمية، والوحدة القانونية، والمشاركة، والثقافة الجماهيرية والتعليم الجماعي، والسيادة، وغيرها - يضع هذا التصور مباشرة فيما يطلق عليه التقليد «الإقليمي المدني» لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر. لم يصبح تصور الأمة الذي تميز بالثقافة المدنية العقلانية لعصر التنوير - لا سيما المرحلة الأخيرة منه المتعلقة بالاختيار ما بين الأسلوب «الأسبرطي» وأسلوب «الكلاسيكية الحديثة» المرتبطة بالفلاسفة روسو وديدرو وديفيد - شائعا إلا في عصر الثورات والحروب النابليونية. وكما وثق هانز كون منذ سنوات عديدة، فإن هذا التصور للأمة ازدهر أساسا في تلك الأجزاء من العالم التي تولت فيها الطبقة البرجوازية القوية مهمة الإطاحة بالحكم الملكي المتوارث والامتياز الأرستقراطي من أجل «الأمة». ليس هذا هو نوع الأمة المتخيلة، ولا حتى المكونة، في أجزاء أخرى كثيرة من العالم، كانت فيها تلك الظروف الاجتماعية أقل اكتمالا أو غائبة تماما.
2
الآن، إذا كان مفهوم «الأمة الحديثة» وسماته الاستثنائية مستمدا من ظروف القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الغرب، فإن النموذج المثالي الحداثي متحيز حتما؛ لأنه يشير إلى نوع فرعي محدد من المفهوم العمومي للأمة، وهو نوع «الأمة الحديثة»، وإلى نوع واحد فقط من القومية ، وهو نوع القومية الإقليمية المدنية. وهذا يعني أن نسخة معينة من مفهوم عام تمثل النطاق الكامل من الأفكار التي يشملها ذلك المفهوم؛ نسخة تحمل كل سمات الثقافة الخاصة بزمان ومكان معينين. وهذا يعني أيضا أن التأكيد على حداثة الأمة ليس إلا إطنابا، وهو إطناب يستبعد أي تعريف منافس للأمة يخرج عن إطار الحداثة والغرب. لقد أصبح التصور الغربي للأمة «الحديثة» مقياسا لإدراكنا مفهوم الأمة «في حد ذاتها»؛ مما أسفر عن جعل كل التصورات الأخرى غير مشروعة.
بعيدا عن الأسباب المنهجية، فإن ثمة عددا من الأسباب التي تستوجب رفض مثل هذا الشرط التعسفي. في المقام الأول، مصطلح أمة باللاتينية «ناشيو» مشتق في نهاية الأمر من فعل «ناشي» الذي يعني «يولد»، ولمعنى هذا المصطلح تاريخ طويل، إن لم يكن معقدا، يعود إلى قدماء الإغريق والرومان. وكما رأينا، له استخدامه الذي لم يكن مقتصرا على طلاب في جامعات العصور الوسطى يوصفون بناء على موقعهم الجغرافي، أو على أساقفة مجتمعين في المجالس الكنسية ولدوا في أجزاء مختلفة من العالم المسيحي. إنه مستمد من ترجمة الفولجاتا اللاتينية للعهد القديم والعهد الجديد، ومن كتابات آباء الكنيسة الذين جعلوا اليهود والمسيحيين في مواجهة مع الأمم الأخرى الذين يطلق عليهم في مجملهم «تا إثني» وتعني الأمميين. استخدمت الإغريقية القديمة نفسها مصطلح «إثنوس» لكل أنواع الجماعات المشتركة في صفات متشابهة (وليس البشر فقط)، لكن المؤلفين أمثال هيرودوت استخدموا أحيانا المصطلح الشبيه «جينوس». وفي هذا الصدد، لم نكن مختلفين عن اليهود القدماء، الذين استخدموا في العموم مصطلح «آم» للإشارة إلى أنفسهم - آم إسرائيل - واستخدموا مصطلح «جوي» للإشارة إلى الشعوب الأخرى، لكن هذا النمط لم يكن متسقا إلى حد بعيد. كان الرومان أكثر اتساقا؛ إذ خصوا أنفسهم بتسمية «بوبيولوس رومانوس» - وتعني الشعب الروماني - وخصصوا المصطلح الأقل أهمية «ناشيو» - ويعني أمة - للإشارة إلى غيرهم، لا سيما القبائل البربرية البعيدة. إلا أنه مع الوقت أصبحت كلمة «ناشيو» تشير إلى كل الشعوب، بما فيهم قوم المرء وعشيرته. لا يمكننا اعتبار استخدامات ما قبل الحداثة لكلمة «ناشيو»/أمة استخدامات خاصة بوصف الأجناس البشرية على نحو صرف؛ فهي على النقيض من المفهوم السياسي للاستخدام الحديث؛ لأن هذا لا يمثل على نحو كاف مجموعة حالات العالم القديم وعالم العصور الوسطى التي جمعت بين كلا الاستخدامين، بداية من إسرائيل القديمة. على الرغم من أن معاني المصطلحات تمر غالبا بتغيير كبير مع تعاقب الأزمنة، فإننا ما زلنا عاجزين عن صرف النظر بسهولة عن التاريخ الطويل للاستخدامين السابقين للمصطلح قبل ظهور الحداثة.
3
تتعلق مشكلة أخرى بالتصور الحداثي ل «أمة العوام». لقد تناولنا ذلك جزئيا فيما يتعلق بفرضية ووكر كونور التي تقول إن مشاركة العوام في حياة الأمة هي معيار وجودها؛ ومن ثم، في ظل الحكم الديمقراطي، فإنه توجد حاجة إلى منح حق التصويت لأغلبية السكان كشرط لوصفها بالأمة. إلا أن الأمر يتجاوز هذا الموضوع بعينه. يعتبر الحداثيون أمثال كارل دويتش، وإرنست جيلنر، ومايكل مان «أمة العوام» الشكل الأصلي فقط للأمة؛ ونتيجة لذلك يتعاملون مع الأمة على أنها ظاهرة حديثة تماما. وبطبيعة الحال، فإن واضعي النظريات مؤهلون على نحو تام لوصف ظاهرة معينة - «أمة العوام» في هذه الحالة - بأنها «الحقيقة» السياسية الوحيدة، واعتبار كل نسخة أخرى ثانوية وغير حقيقية، إن لم تكن مضلة. إلا أنه إذا استطاع مؤرخو العصور الوسطى إظهار الأساس التاريخي والأهمية التاريخية للنسخ الأخرى، وهذه بالضبط نقطة محل بحث من قبل أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة، فإن موقف الحداثيين يصبح مرة أخرى متعسفا ومقيدا على نحو غير ضروري. وهذا ينطبق أيضا على الزعم الأضعف القائل إن أمة العوام الحديثة هي النسخة «الأكثر تطورا» للأمة، وأن كل النسخ الأخرى ناقصة إلى حد ما، هل هذا يعني أننا لا يمكننا التفكير في أنواع أخرى من الأمم استبعد منها العوام؟ على أي حال، حتى وقت طويل في الحقبة المعاصرة قليل من الأمم المعروفة يمكن وصفه بأنه «أمم عوام»؛ لأن أعضاء كثيرين من سكانها، لا سيما الطبقة العاملة والنساء والأقليات العرقية، ظلوا فعليا مستبعدين من ممارسة الحقوق المدنية والسياسية؛ لذلك، يجب على الأقل أن نكون مستعدين لقبول احتمالية وجود أنواع أخرى من «الأمم» بعيدا عن «أمم العوام».
4
ثمة مشكلة أخرى تنبع من التأكيد الحداثي الشائع القائل إن الأمم ناتجة عن القوميات (بمساعدة الدولة أو دون مساعدتها)، ونظرا لأن «القومية»، باعتبارها حركة أيديولوجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فالأمم لا بد أن تكون حديثة أيضا. إلا أننا حتى لو قبلنا أن القومية، باعتبارها أيديولوجية منهجية، لم تظهر قبل القرن الثامن عشر، فإن افتراض أن القوميين فقط هم من يكونون الأمم هو افتراض مشكوك فيه، وهذا صحيح حتى لو عرفنا حركة القومية «الأيديولوجية»، بالإضافة إلى الأيديولوجيات الأخرى بمصطلحات «حداثية» نسبيا، وأعتقد أننا يجب أن نفعل ذلك فقط من أجل تجنب الخلط بينها وبين مفاهيم أكثر عمومية مثل مفهوم «الحس الوطني» أو مفهوم «الوعي الوطني».
الآن، عند قول «القومية» فإنني أقصد «حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلال الذاتي والوحدة والهوية والحفاظ عليها نيابة عن سكان يعتقد بعض أفراد منهم أنهم يكونون أمة فعلية أو محتملة.» وبالمثل، أعتقد أننا نستطيع تحديد «عقيدة أساسية» للقومية؛ أي مجموعة مبادئ عامة يتمسك بها القوميون، على النحو الآتي: (1)
العالم مقسم إلى أمم، لكل منها تاريخها، ومصيرها، وشخصيتها. (2)
الأمة هي المصدر الوحيد للسلطة السياسية. (3)
من أجل الحرية لا بد أن ينتمي كل فرد إلى الأمة ويمنحها ولاء أساسيا. (4)
يجب أن تمتلك الأمم أقصى قدر من الاستقلال الذاتي والتعبير عن الذات. (5)
العالم العادل والسلمي يجب أن يكون قائما على تعددية من الأمم الحرة.
على هذا النحو، لم يتبن الكتاب والمفكرون في أوروبا الغربية وأوروبا الوسطى من روسو وهيردر إلى فيشته وماتسيني أيديولوجيات «القومية» إلا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ ومن ثم، فإن القومية مذهب حديث، والعلامة الأيديولوجية المميزة لتلك الحداثة تكمن في الافتراضات الحديثة نسبيا المتعلقة بالاستقلال السياسي والأصالة التي يقوم عليها هذا المذهب، وطريقة تضافرها مع الأنثروبولوجيا السياسية.
5
إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر أن بعض عناصر ذلك المذهب تعود إلى أبعد من ذلك بكثير. على سبيل المثال، كانت أفكار الأمة والمجاملات الدولية حاضرة بوضوح في مجمع كونستانس عام 1415، ويمكننا العثور على الكثير من الإشارات إلى الأمم وعلاقاتها في قرون سابقة، تعود إلى العصر القديم، حتى لو كان تفسيرها يمثل مشاكل خطيرة. هذا يعني أن بعض التصورات عن الأمة تسبق بعدة قرون ظهور القومية وتفسيراتها الخاصة للأمة؛ ونتيجة لذلك فإن مفهوم الأمة لا يمكن أن يكون مشتقا ببساطة من أيديولوجية «القومية». إن قصر مفهوم الأمة وممارسته على عصر القومية، واعتبارهما من نتائج هذه الأيديولوجية الحديثة، هو مرة أخرى تعسف وتقييد زائد عن الحد.
6
إلا أن أخطر عيوب النوع المثالي الحداثي ل «الأمة الحديثة» قد يكون التعصب العرقي المتأصل. وقد أدرك كثير من أصحاب النظرية هذا الأمر بطبيعة الحال. ورغم ذلك، فقد استمروا في التعامل مع النوع الإقليمي المدني من الأمة الحديثة وقوميتها على أنها المعيار، واعتبروا الأنواع الأخرى انحرافات. وكان هذا هو أساس تقسيم القوميات إلى «غربية» و«غير غربية» المذكور سابقا الذي قدمه هانز كون ولاقى احتفاء. القوميات غير الغربية، على النقيض من نظائرها العقلانية، المستنيرة، الليبرالية، تميل إلى أن تكون عضوية، وصاخبة، وسلطوية، وصوفية غالبا، وتلك مظاهر تقليدية لنخبة مثقفة ضعيفة ومعزولة. وكان من بين المنظرين الذين اتبعوا تقسيم كوهن جون كل من بلاميناتس، وهيو سيتون واتسون، ومايكل إيجناتياف، وكثير غيرهم ممن يرون أن الفرق الشائع بين القوميات «المدنية» والقوميات «العرقية» يتضمن هذا التقليد المعياري.
7
الآن، على الرغم من أن هؤلاء المنظرين قد يعترفون بأن القوميات «العرقية» تتشارك مع القوميات «المدنية» في بعض سمات مثل الارتباطات الجماعية ب «الوطن»، بالإضافة إلى مثل الاستقلال الذاتي والمواطنة بالنسبة إلى «الشعب»، فإنهم يسلطون الضوء أيضا على اختلافات كبيرة جدا. في النسخة «العرقية» من القومية، تعتبر الأمة ممتلكة لما يلي: (1)
روابط النسب: على نحو أكثر تحديدا، هي روابط مفترضة بسلالة عرقية تعود عبر الأجيال إلى سلف مشترك واحد أو أكثر؛ ومن ثم وجود عضوية في الأمة من ناحية الأصل المفترض. (2)
ثقافة محلية: ثقافة ليست عامة ومميزة فحسب، بل أيضا أصيلة في الأرض والشعب من ناحية اللغة والتقاليد والدين والفنون. (3)
تاريخ للسكان الأصليين: إيمان بفضائل التاريخ الأصلي وتفسيره الخاص لتاريخ الأمة ومكانتها في العالم. (4)
الحشد الشعبي: إيمان بأصالة «الشعب» وطاقته وقيمه، والحاجة إلى إثارة الشعب وتحفيزه لخلق ثقافة وطنية وكيان سياسي وطني حقا.
هذا يدل على أن الأمة، من منظور القوميين العرقيين، موجودة بالفعل عند ظهور كل من الحداثة والقومية في شكل جماعات عرقية قائمة من قبل متاحة وجاهزة لدفعها إلى عالم الأمم السياسية، إن جاز التعبير؛ لذلك، في ظل نظرة أتباع فلسفة الحكمة الخالدة الحديثة على سبيل المثال، فإن الأمة العربية، المنحدرة من قبائل تتحدث العربية في شبه الجزيرة العربية، استمرت عبر التاريخ، على الأقل منذ وقت النبي، وتظهر السمات التقليدية للأمة «العرقية» المتمثلة في روابط الأصل النسبي المفترض، وثقافة محلية أصلية تقليدية (أبرزها الثقافة العربية القرآنية)، وتاريخ عرقي عربي أصيل، ومثال «العرب» المسلمين الذين يحتذى بهم بوصفهم مصدر الحكمة والفضيلة والذين يجب تعبئتهم فحسب من أجل تحقيق الاستقلال السياسي. في هذه الحالة والحالات المشابهة، نشهد فشل الحداثة في تضمين هذا التصور العرقي للأمة المختلف كثيرا، وهذا الفشل بدوره نابع من رفضها النظري لأي ربط ضروري بين العرقية والأمة.
8 (2) الفئة والوصف
من المشاكل الرئيسية للتصور الحداثي فشله في إدراك أن مصطلح «الأمة» يستخدم بطريقتين مختلفتين تماما؛ فهو، من ناحية، يدل على فئة تحليلية تميز بين الأمة وغيرها من فئات الهوية الثقافية الجمعية الأخرى المشابهة، ومن ناحية أخرى، يستخدم باعتباره مصطلحا وصفيا يعدد سمات نوع تاريخي من المجتمع البشري. ويزيد من صعوبة هذه المشكلة حقيقة أن النوع التاريخي من المجتمع البشري الذي يدل عليه مصطلح «الأمة» إما ثقافي أو سياسي أو كلاهما، وهذا يعني أنه يصف نوعا من المجتمعات البشرية يعتقد أنه يملك هوية ثقافية جمعية أو هوية سياسية جمعية، أو كلتيهما.
9
بالطبع لا يوجد شيء غير صحيح في استخدام مصطلحات مثل «الأمة» لوصف سمات أنواع معينة من المجتمع التاريخي. بل تنشأ المشكلة عندما يقيد الوصف على نحو تعسفي نطاق الأمثلة التي يمكن إدراجها تحت النوع المثالي للأمة الذي يعتبر فئة تحليلية. وبطبيعة الحال، فإن تحديد إلى أي مدى تبلغ خطورة هذا العيب هو مسألة خاضعة للتقدير الشخصي. إلا أنني أعتقد أن معظم الحداثيين، من منطلق موقفهم النظري، قد بالغوا في التوجه نحو التقييد التعسفي وغير الضروري للمصطلح. فلو أنهم اكتفوا بوصف مجموعة فرعية من الفئة العامة للأمة، أي «الأمة الحديثة»، لما وجدت مشكلة. إلا أنهم يواصلون التأكيد على أن هذه المجموعة الفرعية تمثل الكل، وهنا يصبح المصطلح التاريخي الوصفي متداخلا مع فئة تحليلية عامة. وهذا لا يعني تبني منهج فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة الذي قد يصعب علينا التمييز بين النوع القومي وغيره من أنواع الهوية الثقافية أو السياسية الجمعية الأخرى، أو تحديد أمثلة المجتمعات والهويات التي تندرج تحت وصف «قومي». وهذه هي بالضبط نوعيات الفروق التي قد يمكننا تمييزها من خلال محاولة إبقاء «الأمة» باعتبارها فئة تحليلية منفصلة عن استخدامها كمصطلح وصفي.
10
نظرا للتبعات المعقدة لمفهوم الأمة، فإن فصل الفئة التحليلية عن الوصف التاريخي للأمة ليس بالمهمة السهلة؛ فالاستخدام الوصفي للمصطلح سيكون ضروريا كي نعدد سمات الأنواع الفرعية المختلفة للأمة باعتبارها فئة عامة. إلا أننا قبل الشروع في هذا الوصف التاريخي نحتاج إلى فهم واضح للأمة باعتبارها فئة تحليلية عامة مختلفة عن الفئات الأخرى ذات الصلة.
ومن ثم، فالخطوة الأولى هي تحديد مفهوم الأمة في إطار نموذجي مثالي؛ ومن ثم إدراك الطبيعة الثابتة للفئة التحليلية بصفتها نموذجا مثاليا يتجاوز الحدود التاريخية. في هذا الصدد، يمثل مصطلح «أمة» فئة تحليلية تقوم على عمليات اجتماعية عامة «يمكن» من الناحية النظرية أن تتمثل في أي فترة من فترات التاريخ. من خلال التمييز بين الأمة باعتبارها فئة تحليلية وفئات الهوية الجمعية الأخرى، يمكن أن نتجنب وصف كل أنواع المجتمعات والهويات بأنها «أمم». وفي الوقت نفسه، يتيح هذا الإجراء فرصة لتخليص فئة الأمة هذه من القيود غير الضرورية، وتتيح إمكانية العثور على أمثلة للأمة قبل العصر الحديث وخارج نطاق الغرب، إذا أشارت الأدلة إلى ذلك؛ ومن ثم، فإن مفهوم الأمة، مثل مفهوم الجماعة الدينية والانتماء العرقي، يجب أن يعامل في المقام الأول كفئة تحليلية عامة، من الممكن تطبيقها من الناحية النظرية على كل القارات وكل الفترات التاريخية. من ناحية أخرى، فإن مضمون «الأمة»، كنوع تاريخي من المجتمعات البشرية، ممثل في سمات محددة لأنواعها الفرعية، سوف يختلف باختلاف السياق التاريخي. فمع كل حقبة يمكننا أن نتوقع اختلافات مهمة في سمات الأمم، لكنها سوف تتفق رغم ذلك مع النوع الأساسي للفئة. ونظرا لأن النموذج المثالي للأمة يمثل في الوقت نفسه فئة تحليلية قائمة على عمليات اجتماعية عامة، وأيضا نوعا تاريخيا من المجتمعات البشرية يتميز إما بهوية ثقافية جمعية أو هوية سياسية جمعية أو كلتيهما معا، فمن المحتم أن يكون هذا النموذج المثالي من الأمة معقدا وإشكاليا؛ ولهذا السبب يكون بناؤه مهمة صعبة محاطة بالشكوك، ويتضمن بالضرورة عنصرا اشتراطيا.
11
من هذا المنطلق، أقدم التعريف النموذجي المثالي التالي ل «الأمة»؛ إنها «مجتمع بشري له تسمية وتعريف ذاتي، يبني أفراده أساطير وذكريات ورموزا وقيما وتقاليد مشتركة، ويقطنون موطنا تاريخيا يتماهون معه، ويخلقون ثقافة عامة مميزة وينشرونها، ويلتزمون بأعراف وقوانين عامة مشتركة.» وعلى نحو مشابه، من الممكن أن نعرف «الهوية القومية» بأنها «إعادة إنتاج وإعادة تفسير مستمرتان لنمط القيم، والرموز، والذكريات، والأساطير، والتقاليد التي تكون التراث المميز للأمم، وتماهي الأفراد مع ذلك النمط وذلك التراث.»
12
ثمة ثلاثة افتراضات هي التي أدت إلى اختيار سمات النموذج المثالي؛ الافتراض الأول هو: محورية العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية في تكوين الأمم واستمراريتها، ومنحها شخصيتها المميزة والمرنة. الافتراض الثاني هو: أن كثيرا من سمات النموذج المثالي مشتق من رموز، وتقاليد، وأساطير عرقية، وعرقية دينية سابقة، وأن الذكريات المشتركة بين السكان لا بد أن تكون متشابهة أو مترابطة. وكلا الافتراضين معا يجيبان عن سؤال: «ما الأمة؟» أي ما الشخصية الفريدة للأمة التاريخية؟ أما الافتراض الثالث، فهو أن تلك العمليات الاجتماعية والمصادر الرمزية، رغم خضوعها للتغيير الدوري، فإن صداها يمكن أن يتردد بين الجماعة السكانية على مدار فترات طويلة من الزمن. وهذا يعني أن تحليلنا لتكون الأمم واستمرارها يتطلب، كما بين جون أرمسترونج جيدا، دراسة تدقيقية للعمليات الاجتماعية والرمزية عبر الحقب التاريخية المتعاقبة على «المدى الطويل».
13
إن الإصرار على تحليل العناصر الاجتماعية والثقافية على المدى الطويل يعني، في المقام الأول، معاملة الأمم على نحو منفصل عن «القومية»، وأن تكوين الأمم ينبغي أن يدرس بمعزل عن نشأة الحركة الأيديولوجية المتمثلة في القومية. ثانيا: من خلال الجمع بين الماضي (التاريخ)، والحاضر، والمستقبل (المصير)، يصبح الطريق مفتوحا أمام تحليل طويل المدى لظاهرتي العرقية والقومية عبر حقب مختلفة. وهذا بدوره قد يشير إلى طرق مختلفة يمكن من خلالها ربط السمات الاجتماعية والثقافية ل «العرقيات» (الجماعات العرقية) والأمم.
توجد ثلاث طرق أساسية يمكن من خلالها تحقيق هذه الروابط. أوضح هذه الطرق، وهي الطريقة التي ينتهجها معظم مؤرخي الأمم والدول، هي من خلال «استمرارية» الشكل، إن لم يكن المضمون. في هذا الصدد، نتحدث عادة عن الروابط بين مجتمعات العصور الوسطى (نادرا ما تكون مجتمعات العصور القديمة) وبين «الأمم الحديثة». وكما سنرى، حتى مؤرخو مجتمعات العصور الوسطى والقديمة يميلون إلى قياس مستوى «الأمة» بمقياس خصائص «الدولة الحديثة»؛ وذلك فقط من أجل إنكار وجود الأمم في فترة تلك المجتمعات. يتضمن هذا نوعا آخر من «القومية الاسترجاعية»، وفيها يعتبر الماضي مرآة للحاضر كما يقول بروس روتليدج؛ ومن ثم، فالطريقة العادية لزعم استمرارية أمم معينة هو تتبع أنساب الشكل الحديث للأمة وجذوره حتى العصور الوسطى، بالطريقة التي نصح بها أدريان هستنجز وأتباع فلسفة الحكمة الخالدة الجديدة لأوروبا الغربية. وكبديل آخر، يمكن للمرء أن يزعم أن بعض هذه الأمم الحديثة اعتمدت على السمات والمصادر الاجتماعية والرمزية ل «عرقيات» سابقة يزعمون أن صلة قرابة تربطهم بها، ويشعرون أنهم أسلافهم؛ ذلك الزعم الذي زعمه أنصار السلافية وغيرهم في أواخر عهد روسيا القيصرية عندما أعربوا عن وجود صلة قرابة قوية تجمعهم بدوقية موسكو القديمة (قبل عصر بطرس الأكبر)، وجماعة إحيائيي الغال الذين عثروا على مصادر الأمة الأيرلندية الحديثة ممثلة في ثقافة الرهبنة المسيحية في أيرلندا في العصور الوسطى المبكرة. في مثل هذه الحالات، يشكل فهم الماضي العرقي تصورات الحاضر اللاحقة بقدر ما يختار الحاضر من سمات ذلك الماضي، ومهمة المحلل هي محاولة إجراء نوع من التقييم للروابط التاريخية الموثقة، وكذلك الانقطاعات.
14
يتطرق النوع الثاني من الارتباط على «المدى الطويل» لفكرة «تكرر» الأشكال العرقية والقومية، بالإضافة إلى عناصرها الثقافية الاجتماعية الأساسية، على كل من المستوى الخاص والمستوى العام. ومن هذا المنظور، فإن كل الأمم وكذلك «العرقيات»، بالإضافة إلى الأنواع الأخرى من الهويات الجمعية الثقافية أو السياسية، هي ظواهر متكررة الحدوث؛ بمعنى أنها نماذج من المجتمع الثقافي والتنظيم السياسي الذي يمكن أن يوجد في كل فترة وفي كل قارة، والمعرضة لمد وجزر لا يتوقفان، فتظهر وتزدهر، ثم تتدهور وتختفي مرة أخرى، لتظهر مرة أخرى في بعض الحالات (بمساعدة القوميين أو دون مساعدتهم). مرة أخرى، يجب أن نلتفت إلى صفحات جون أرمسترونج من مجلده الهائل وعرضه الشامل للهويات العرقية والعناصر المكونة لها في العالم المسيحي والعالم الإسلامي في العصور الوسطى؛ لكي نفهم كلا من استمرارية وتكرر الهويات العرقية والقومية على «المدى الطويل».
15
أخيرا، يمكن تحقيق الروابط بين الماضي والحاضر من خلال «اكتشاف» التاريخ العرقي و«الاستحواذ» عليه. وهذا موضوع مألوف في الأدبيات التي تناولت القومية، يوجد عادة في الفصول التي تتحدث عن «الصحوة القومية» أو «الإحياء». إن المفكرين، بصفتهم كهنة الأمة الجدد وكتبتها، يوضحون فئة المجتمع القومي؛ ولهذا السبب يختارون السمات الرمزية والاجتماعية من الثقافات العرقية السابقة التي من المفترض أنها «مرتبطة» بمجتمعاتهم وسكانهم المحددين. ويحدث هذا غالبا من خلال اختيار لهجات أو تقاليد أو تراث شعبي أو موسيقى أو شعر من العناصر المحلية البارزة الخاصة لتمثل الأمة كلها، كما حدث في أجزاء من أوروبا الشرقية. المعيار هنا هو مذهب «الأصالة»، فمن أجل إعادة بناء المجتمع كأمة أصيلة صرف، يصبح من الضروري اكتشاف واستخدام السمات الثقافية التي يبدو أنها أصيلة وأصلية تماما، وغير متأثرة بالتراكمات الأجنبية أو التأثير الأجنبي، والتي تمثل المجتمع «في أفضل صوره». الأمر المثير هو أن مثل هذه المذاهب لها مثيلاتها في فترة ما قبل الحداثة. سعت معظم حركات ما قبل الحداثة إلى خلق مجتمعات تحاكي رؤى من ثقافات عرقية دينية سابقة، مثل: رغبة آشور بانيبال الشديدة في إعادة خلق حضارة بابلية عظمى في أواخر عهد الإمبراطورية الآشورية، أو استحضار كسرى الثاني للأسطورة والطقوس والتقاليد الإيرانية الأصلية في أواخر عهد الدولة الساسانية في بلاد فارس. إلا أننا وجدنا أيضا في أواخر عهد الجمهورية الرومانية أكثر من مجرد رغبة نابعة من الحنين إلى الماضي لاسترجاع الطرق الأصلية والعقيدة البسيطة الخاصة بالأسلاف والأجيال السابقة، إلى أشخاص من أمثال كاتو الأصغر وسكيبيو الأفريقي، من أجل اكتشاف ماض عرقي مبجل وفضيل والاستحواذ عليه.
16 (3) الأمة باعتبارها موردا ثقافيا
سألتفت الآن للاستخدام الرئيسي الثاني لمفهوم «الأمة»، كمصطلح وصفي لشكل من أشكال المجتمعات البشرية التاريخية. تتمثل السمة البارزة للأمة بوصفها شكلا من المجتمعات يتسم بالهوية الثقافية أو السياسية أو كلتيهما معا في دورها كنموذج لتنظيم اجتماعي ثقافي. إذا كان يتعين اعتبار الأمة فئة تحليلية على المستوى المفاهيمي، فمن الممكن اعتبارها أيضا على المستوى التاريخي المجرد موردا اجتماعيا وثقافيا، أو من الأفضل اعتبارها مجموعة مصادر ونموذجا يمكن استخدامهما بطرق مختلفة وفي ظروف متنوعة؛ فكما كانت إمبراطورية هان في الصين والإمبراطورية الأكدية في بلاد الرافدين نموذجين ومصدرين ثقافيين لمحاولات لاحقة لبناء إمبراطوريات في تلك المناطق وغيرها، فإن مملكتي إسرائيل ويهوذا، والدول المدن في أثينا القديمة وأسبرطة والجمهورية الرومانية مثلت جميعا نماذج وأدلة يهتدى بها لمجتمعات لاحقة. وهذا ليس من أجل الحكم مسبقا على سؤال ما إذا كانت تلك المجتمعات نفسها من الممكن وصفها بأنها مجتمعات «قومية»، أو إلى أي مدى يمكن وصفها بذلك، فقط من أجل القول بأن كثيرا من الأمم اللاحقة نظر إلى تلك الأمثلة كنماذج للأمة وأخذ منها مصادر معينة: مثلا ومعتقدات وانتماءات، واعتبرها أيضا نماذج للتنظيم الاجتماعي والثقافي.
لعل أفضل مثال على ما يجول في خاطري هو القبول الأوروبي لروايات الكتاب المقدس عن إسرائيل القديمة، وهذه نقطة أوضحها هستنجز لكنه لم يستفض فيها على نحو كاف. إن المسيحية لم تأخذ فحسب نموذج الكيان السياسي في العهد القديم - مملكة إسرائيل القديمة كما زعم - بل إن حكام العصور الوسطى ونخب الإمبراطوريات، والممالك، والإمارات في أوروبا من إنجلترا وفرنسا إلى بوهيميا ودوقية موسكو، وأيضا الكنائس والجامعات؛ أخذوا واستخدموا الأفكار والمعتقدات والارتباطات الخاصة بمجتمع بني إسرائيل القديم الذي «أصبحوا» يدركون أنه مجتمع «قومي». وقبل الإصلاح البروتستانتي بوقت طويل، أصبحت إسرائيل القديمة تمثل النموذج والدليل نحو خلق جماعاتهم المختارة وأقاليمهم التاريخية، ونشر ثقافاتهم المميزة.
17
كيف يمكن - من الناحية العملية - إثبات أن المجتمعات السابقة تمثل مصادر ونماذج للمجتمعات اللاحقة؟ توضح حالة إسرائيل القديمة أهمية النصوص المقدسة، وتوضح أيضا أهمية القوانين والطقوس والمراسم والصلوات الموصوفة في تلك النصوص. من أنواع المصادر الثقافية الأخرى التقاليد والأعراف، والرموز مثل الكلمات والألقاب، واللغات وأنظمة الكتابة، والأعمال الفنية مثل المسلات والمعابد، والرايات والشارات، والأيقونات والتماثيل، والموضوعات والأساليب الفنية الأكثر عمومية، مثل تلك التي تخص الحضارتين الإغريقية والرومانية، اللتين شهدتا إحياء وتجديدا في حقب لاحقة. على الرغم من أن هذه المصادر العامة يمكن أن تستخدم في مجموعة متنوعة من المجتمعات وليس الأمم، فإن الفكرة الأساسية هي أنها كانت موجودة بالفعل، وبعضها كان مرتبطا بمجتمعات بدت، من بعد، مشابهة لأمم أوروبا اللاحقة الطموحة واستطاعت أن تكون نماذج يقتدى بها لهذه الأمم. ربما لم تكن الرسائل المرتبطة بتلك النصوص والطقوس والرموز والأعمال الفنية هي الرسائل الأصلية لمن ابتدعوها أو لمستخدميها الأصليين، وربما كان تذكر هذه الموارد انتقائيا إلى حد بعيد. ورغم ذلك، فإن صداها ظل يتردد بين نخب الأجيال المتعاقبة كموروثات ثقافية وعناصر اجتماعية قادرة على أن تمثل مصادر مقدسة للهوية الجمعية للأمم.
18 (4) الأمة باعتبارها «مجتمعا ماديا»
ما قلته حتى الآن هو ضرورة التمييز بين «الأمة» باعتبارها فئة عامة وبين المظاهر التاريخية للأمة باعتبارها مجتمعا بشريا يتخذ أشكالا مختلفة، ويكشف عن سمات متعددة في حقب مختلفة بالإضافة إلى السمات الأساسية للنموذج المثالي. في هذا الاستخدام الثاني لمصطلح الأمة، باعتبارها نوعا من أنواع المجتمعات البشرية يتميز بهوية ثقافية أو سياسية أو كلتيهما، يمكن أن نعتبرها مجموعة من المصادر الاجتماعية والثقافية التي يمكن أن يوظفها أفرادها، فتمكنهم - بدرجات متفاوتة - من التعبير عن اهتماماتهم واحتياجاتهم وأهدافهم؛ وهذا يعني أننا يمكننا أيضا أن نصف الأمة بأنها «مجتمع» يتخيله أفراده ويريدونه ويحسونه.
مثل هذه اللغة تثير الشكوك حتما في الجوهرية والتشيؤ، حتى عندما ندرك أنها تمثل اختصارا لجمل عن أعداد كبيرة لأفراد وسياقاتهم المعيارية. يقال إن الأمم لا تمثل مجتمعات كبيرة متجانسة مستمرة ذات سمات ثابتة واحتياجات أساسية، بل مجرد فئات عملية تفرضها دول حريصة على تصنيف أعداد كبيرة من سكانها والإشارة لهم بطرق مناسبة، مثل ما حاولت سياسات الجنسيات السوفييتية السابقة فعله وحققته إلى حد ما. في الحقيقة، وفقا لوجهة النظر التي قدمها روجرز بروبيكر، فإننا يجب ألا نحلل الأمم على الإطلاق في حقيقة الأمر، بل نحلل القوميات، ونعامل «الأمم» على أنها ممارسات مؤسسية، وفئات، وأحداث محتملة الوقوع.
19
إلا أن هذا يجعلنا نغفل عن أمر مهم أثناء تغاضينا عن أمر غير مهم؛ فبعيدا عن محاباة الدولة (بوصفها في حد ذاتها فكرة في وجدان شعبها)، فإن هذا إغفال تام عن تصورات ومشاعر والتزامات أعداد كبيرة من الناس تجاه «أممهم»؛ مما يصعب مثلا شرح السبب وراء استعداد كثير من الأشخاص لتقديم تضحيات كبيرة (بما فيها التضحية بحياتهم نفسها) من أجل أممهم، إلا لو كان ذلك بسبب الإكراه الجماعي. لكي نحاول استبيان السبب في أن الأمم والهويات القومية تبدو مميزة وملزمة وراسخة في قلوب وعقول كثير من أفرادها، لسنا مضطرين لتبني تصورات ومشاعر أعضاء الأمم كفئات لتحليلنا، فضلا عن استخدامها بطبيعة الحال، ولسنا مضطرين لافتراض أن الأمم متجانسة، وبالتأكيد لسنا مضطرين لافتراض أن لها «جوهرا» أو «مقومات أساسية» أو «طبيعة ثابتة». بيد أننا يجب أن ندرك أن أفراد الأمم المتماثلين هم من يتخيلون، ويريدون، ويشعرون بالمجتمع، على الرغم من أنهم يفعلون ذلك في الغالب داخل حدود اجتماعية وثقافية معينة. وبحسب ما وثق مايكل بيليج، نظرا لأن المؤسسات والتقاليد والطقوس والخطابات القومية تستمر عبر الأجيال، فإن كثيرا من الناس يميلون إلى قبول الضوابط والتصورات الأساسية لمجتمعاتهم المأخوذة عن أسلافهم.
20
ليس المقصود الإيحاء بأن الأمم التاريخية لم تمر بكثير من الصراعات والتغييرات، أو أن «مصائرها» لم تكن مركز تنافس النخب وتسابق العامة؛ فمثل كل المجتمعات والهويات، تخضع الأمم والهويات القومية بصورة دورية إلى إعادة تفسير لمعانيها وإلى تغييرات في الهياكل والحدود الاجتماعية، وهذا بدوره يغير محتويات ثقافاتها. ويجب ألا نتخيل أن الهويات القومية لا تقف في تحد مستمر مع أنواع أخرى من الهويات الجمعية؛ كهوية الأسرة، والمنطقة، والدين، والطبقة، والنوع، بالإضافة إلى الانتماءات فوق القومية والحضارات الدينية. بيد أن هذين التحذيرين لا يلهيان عن التأثير التاريخي للأمم باعتبارها مجتمعات «نعيشها ونحسها». مما لا شك فيه أن القومية على المستوى «الفردي» ليست إلا مجرد واحدة من عدد من الهويات، لكنها الهوية التي يمكن أن تكون الفاصلة والحاسمة في الغالب. قد يمتلك الأفراد «هويات متعددة» وينتقلون من دور لآخر ومن هوية لأخرى، حسبما يتطلب الموقف، إلا أن الهويات «القومية» يمكن أيضا أن تكون «متغلغلة» فتتضمن، وتشمل، وتصبغ كل الأدوار والهويات الأخرى، ولا سيما في أوقات الأزمات. علاوة على ذلك، لا يبدو أن أي نوع آخر من الهويات - باستثناء الدين - أو المجتمعات يثير قدرا أكبر من الشغف والالتزام، بما في ذلك التضحية الجماعية بالأرواح، أكثر من مجتمع الأمة.
21
على المستوى «الجمعي»، فإن دور الأمة وتأثيرها لأكثر إثارة للدهشة. في هذا الصدد، يمكن أن نتحدث عن الصمود على المدى الطويل في وجه التغيرات في كل من «العرقيات» والأمم، وهذا أمر لا يمكن أن ينبع ببساطة من اختيارات أفراد هذه الأمم والعرقيات وميولهم؛ وذلك أننا مثلما لا نستطيع قراءة شخصية أفراد الأمة من ثقافتها السياسية، فإننا كذلك لا نستطيع استنتاج الثقافة السياسية للأمة من الناتج الإجمالي لاختيارات أفرادها أو طباعهم؛ لأن الثقافات السياسية ل «العرقيات» والأمم لها أعرافها وتقاليدها، ورموزها وقوانين التواصل الخاصة بها. وهذا يساعد في تفسير حقيقة أن المجتمعات العرقية والأمم يمكن أن تصمد عبر فترات طويلة، على الرغم من هجرة أعداد كبيرة من أفرادها، أو تعرضهم للإبادة الثقافية، أو الإبادة الجماعية، ولماذا يمكن أن تستمر الثقافات حتى في غياب معظم ممارسيها. فبعد وقت طويل من تدمير قرطاجة في نهاية الأمر عام 146 قبل الميلاد وبيع سكانها في سوق العبيد، استمرت الثقافة البونيقية في شمال أفريقيا، حتى القرن الخامس الميلادي.
22 (5) مجتمع سياسي؟
يمكننا الآن العودة إلى نقطة البداية المتمثلة في التصور السياسي للأمة الذي طرحه كثير من الحداثيين، ونسأل: هل يمكن اعتبار الأمم مهمة فقط لكونها تعتبر أول وأهم أشكال المجتمع السياسي والهوية السياسية، أم هل يجب أن نعتبرها أنواعا أساسية من المجتمعات والهويات الثقافية؟
بالنسبة إلى معظم الحداثيين، كما رأينا، فإن الأمة فئة سياسية من الطراز الرفيع، ليس فقط من ناحية المعنى العام لمجتمع السلطة، بل من الناحية الأكثر تحديدا المتمثلة في المجتمع الذاتي الحكم المؤسس في دولة إقليمية ذات سيادة. وفي هذا الصدد، فإنهم يستمدون الإلهام من اعتقاد ماكس فيبر في أولوية الإجراء السياسي والمؤسسات السياسية في تشكيل العرقية والأمة. بالنسبة إلى فيبر:
الأمة مجتمع وجداني يمكن أن يظهر نفسه على نحو ملائم في صورة دولة خاصة به؛ ومن ثم، فإن الأمة مجتمع يميل عادة إلى إنتاج دولة خاصة به.
23
على النحو نفسه، يرى الحداثيون أمثال جون بروييه ومايكل مان أن «القومية» حركة سياسية في الأساس ويعتبرون بعديها الاجتماعي والثقافي أمرين ثانويين. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأمم بالنسبة إلى الحداثيين هي ثمار الدول والقوميات؛ ومن ثم فإنها ظواهر سياسية بطبيعتها، وتكتسب أهميتها بحسب درجة استغلالها لصالح الدول. وفيما يخص صفاتها الثقافية، فإنها في جوهرها تسبق وجود السياسة، وذات أهمية خاصة في وصف الأعراق البشرية.
24
إذا، فإنه لحقيقي أن الأمم، شأنها شأن الأنواع الأخرى من الهويات الثقافية الجمعية، عبارة عن مجتمعات من القوة والطاقة، ويمكنها جذب ولاء واستقطاب طاقات أعداد كبيرة من الرجال والنساء. ويمكن أيضا رؤية الأمم باعتبارها مجموعات صراع، وحدتها الحرب ضد الجموع الأخرى، لا سيما الأمم والدول القومية الأخرى. إلا أن هذا لا يعني أن كل الأمم تسعى إلى تكوين دول خاصة بها، أو أن الدولة ذات السيادة هي محل تركيز وهدف كل مساعي الأمة. لا تنطبق هذه الحالة، على سبيل المثال، على الشعب الفلمنكي والشعب البريتوني، والاسكتلنديين والشعب الكتالوني، والويلزيين والباسكيين، على الرغم من الظهور (المتفاوت) لأحزاب وحركات فيما بينهم تسعى إلى إقامة دولة مستقلة لهذه الأمم؛ ففي كل من هذه الحالات، يكون التطلع المحموم للحصول على الاستقلال الداخلي أو «الحكم الداخلي» مصحوبا بالتزام بالبقاء جزءا من دولة متعددة القوميات أوسع نطاقا ما دامت تلك الشعوب مستقرة في كنفها على مدار التاريخ؛ وذلك إما لأسباب اقتصادية أو لأسباب سياسية. في الواقع، إن تطلع تلك الشعوب إلى الاستقلال الداخلي أمر ذرائعي إلى حد ما؛ فهو يمثل وسيلة لتحقيق أهداف أخرى اجتماعية واقتصادية وأخلاقية وثقافية محل قيمة في حد ذاتها، بل تفوق قيمتها قيمة السيادة السياسية. ووفقا لما حرره جون هتشينسون، فإن هذا ينطبق بصفة خاصة على القوميين الثقافيين المصرين على إحياء مجتمعاتهم القومية بعد قرون من الخمول والتدهور.
25
مرة أخرى، صحيح أن بعض الأمم نشأت في بوتقة الدولة، أو بالتوازي مع تكونها. وهذه هي الحال بصفة خاصة في أوروبا الغربية في أوائل العصر الحديث؛ حيث في كل من إنجلترا وفرنسا، وإلى حد أقل إسبانيا، يمكن أن نتتبع ظهور مجتمعات قومية جنبا إلى جنب مع نشأة قوى المركزية والبيروقراطية للدولة. مجددا، يمكننا أن نرى كيف ساعد سياق جغرافي تاريخي بعينه في تحديد وتشكيل التصور الحداثي للأمة، مستبعدا السياقات والتصورات التاريخية الأخرى.
26
إلا أننا على القدر نفسه، ينبغي ألا نبالغ في التعميم استنادا إلى هذا السياق وتصور الأمة المرتبط به؛ ففي السياقات التاريخية الأخرى - سياقات ما قبل الحداثة أو السياقات غير الغربية - تكون محتويات المجتمع التاريخي للأمة، ومن ثم تصوراتنا عنها، مختلفة تماما. في هذه السياقات، كانت العناصر الاجتماعية والثقافية والدينية ذات تأثير وأهمية أكبر في الغالب من الأبعاد والتصورات السياسية المفضلة في الغرب. وإذا تعاملنا معها على أنها أقل أهمية نوعا ما، فإن هذا يكشف مرة أخرى عن التعصب العرقي الذي كان سمة مميزة للتصور الحداثي للأمة، والذي ثبت أنه يحول دون تكوين فهم أوسع نطاقا للأمم والهويات القومية.
لهذه الأسباب يجب اعتبار الأمم التاريخية المنتمية إلى أنواع مختلفة من الفئة العامة للأمة أنماطا من المجتمعات البشرية التي تتصف بهوية جمعية ثقافية أو سياسية أو كلتيهما. بصياغة أخرى، إذا كان من الممكن اعتبار بعض الأمم في الأساس أشكالا من المجتمع السياسي، تتطلع إلى أن تصبح دولا ذات سيادة أو منضمة إلى تلك الدول بالفعل، فإن أفضل توصيف للأمم الأخرى هو أنها أشكال من المجتمعات الثقافية والإقليمية التي لا تتمتع بمثل هذه الشراكة السياسية أو الطموح السياسي، المتعلقين على وجه التحديد بمطالب إقامة دولة ذات سيادة. إن دافعها إلى الحصول على الحكم الذاتي يركز على أهداف اجتماعية واقتصادية وثقافية ويتطلع إلى السيطرة على إقليم معين، دون اللجوء إلى الاستقلال والسيادة المطلقين. يجب أن نحذر من اعتبار تلك «الأمم التي ليس لها دول» وقومياتها أقل شأنا من تلك التي لها دولها الخاصة أو تتطلع إلى ذلك؛ حيث إن تلك الأولى تكون في الغالب بوتقة تسييس العرقية في المستقبل.
27
الفصل الثاني
الجذور العرقية والدينية
ينطوي البحث في أصول الأمم وأنواعها على مبحثين من نوعين مختلفين. يتعلق المبحث الأول بعلم الاجتماع. وفي هذا الصدد، يتطلب منا الأمر أن نعرف الظروف التي نشأت الأمم في ظلها، وكيف تتكون الأمم. وهذا يتطلب إجراء تحقيق حول العمليات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأساسية المطلوبة لنشأة الأمم. ويتعلق المبحث الثاني بالتاريخ، ويتمثل في تتبع «الأصل» الاجتماعي والثقافي للأنواع المختلفة للأمم، وذلك من خلال الاستفسار عن وقت وكيفية نشأة الأنواع التاريخية من المجتمعات البشرية التي نطلق عليها أمما، وماهية أنواعها المحددة، وماهية العوامل التي شكلت طابعها المميز.
في هذا الفصل، سوف أستعرض فئة الأمة من حيث العمليات الاجتماعية والرمزية المتعلقة بتكوين الأمم، ولا سيما جذورها العرقية والسياسية ومصادرها الثقافية. وفي الفصول القادمة، سأتناول بعض الموضوعات التي تنشأ أثناء محاولة اكتشاف الأسس الثقافية والتقاليد و«الأصول» الخاصة بالأنواع المختلفة من الأمة، وفقا لانعكاسها في السجل التاريخي. (1) العمليات الاجتماعية لتكون الأمة
يجب أن يبدأ أي بحث من منظور علم الاجتماع لأصول وأشكال الأمم بأخذ أمرين في الاعتبار، وهما: الأنواع المختلفة من المجتمع البشري، والهوية الثقافية أو السياسية الجمعية التي تشكل الأمة من كلتيهما فئة واحدة، والعمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية التي يقوم عليها تكوين أنواع مختلفة من الأمم.
في الفصل السابق، ذكرت الاتحادات القبلية، والجماعات الدينية، والجماعات العرقية كأشكال للهويات «الثقافية» الجمعية، وذكرت الدول المدن، والممالك، والإمبراطوريات باعتبارها أشكالا للهويات «السياسية» الجمعية. والآن، في حين لعبت الدول المدن والممالك أدوارا مهمة في تكوين الأمم، لا سيما في ظهور أيديولوجيات القومية وطابعها لاحقا، فإننا في المقام الأول، يجب أن نبحث عن أصول كثير من الأمم وأسباب استمرارية هويتها القومية في الجماعات العرقية والجماعات العرقية الدينية. حتى تلك الأمم القائمة في الأصل على أساس الهويات السياسية الجمعية احتاجت إلى نوع من الأساس الثقافي يتمثل في أسطورة، وذكرى، ورمز، وتراث من أجل خلق وحدة أعمق بين شعوبها التي غالبا ما تكون متنوعة، وتكتشف هذه الأمور في الغالب في المصادر الثقافية ل «العرقيات» أو الجماعات العرقية؛ ولذلك، سوف أبدأ بالعلاقة بين الجماعات العرقية والأمم، وبعدها سأفحص دور بعض العمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية والمصادر الثقافية للهوية القومية.
بالنسبة إلى معظم الحداثيين، لا تؤدي الروابط والهويات العرقية إلا دورا ضئيلا، أو لا تؤدي دورا على الإطلاق، فيما يتعلق بنظرية الأمم والقومية. وهذا يعكس إلى حد ما رغبتهم في عدم الخلط بين موضوع معقد بالفعل وأمور أخرى غير يقينية، لدرجة استخدام مصطلحات مثل «عرقي» و«عرقية» بطرق مختلفة للغاية. فلا يمكن اعتبار العرقية، كما هي الحال مع الأمة، من المسلمات الاجتماعية والثقافية أو من «ثوابت التاريخ». فالجماعات العرقية، رغم كل شيء، تتكون عبر عمليات التكون العرقي، مثل توحيد فئات وشبكات عرقية أصغر، وتأثيرات الغزو والاستعمار على الفئات الثقافية الموجودة من قبل، وأنشطة الطبقات المتعلمة، لا سيما الإرساليات والمثقفين، في إمداد الفئات العرقية ب «قوانينها ورموزها» المشتركة. بالإضافة إلى ذلك، لعبت عوامل خارجية دورا كبيرا في بلورة المجتمعات والشبكات العرقية التي تلت ذلك. وربما كان أبرز هذه العوامل تأثير الحروب المطولة بين الدول، تلك الحروب التي لا تزيد الحدود بين الدول ومجتمعاتها وضوحا فحسب، بل أيضا تنقل أعضاء من طبقات عرقية مختلفة وتجمعهم معا، وتمد الأفراد بالأساطير البطولية والذكريات القوية. ومن العوامل الأخرى التي تساعد في تشكيل الجماعات العرقية أثر الدين المنظم، وبصفة خاصة أنشطة رجال الدين المتمثلة في حفظ السجلات، وممارسة الطقوس، ووضع مجموعة من النصوص المقدسة ونشرها، بالإضافة إلى المنافسة بين مختلف أنواع النخب - السياسية والدينية والاقتصادية والتعليمية، وغيرها - على أهمية التقاليد الرمزية والموارد الثقافية وامتلاكها، وأيضا على الموارد التنظيمية والمادية بطبيعة الحال.
1
إلا أنه على الرغم من أهمية هذه الاعتبارات في حد ذاتها، فإن أيا منها لا يلغي الضرورة الملحة لدراسة العلاقة المحورية بين الجماعات العرقية والأمم؛ لأنه من دون محاولة فهم طبيعة الروابط العرقية وعلاقتها بالأمم، فإن فهمنا للأمم والقومية سيظل محصورا في إشكاليات الحداثة التي عددتها في الفصل السابق، وأبرزها التقييد التعسفي والتعصب العرقي غير المأخوذ في الحسبان من الأساس.
أعتقد أن باستطاعتنا تقليل بعض الالتباس الذي يكتنف مفهوم العرقية من خلال التمييز بين استخدامين حاليين؛ أحدهما ضيق النطاق، والآخر واسع النطاق. يركز الاستخدام الضيق النطاق على الأصل، الفعلي أو المفترض، ويترجم مصطلح «عرقي» بمعنى «قائم على الأصل». وعلى الرغم من أن الاستخدام الواسع النطاق ينطوي على «أسطورة» تتعلق بالسلف المشترك (الأصل المفترض في مقابل الأصل الفعلي، الروابط المحسوسة بدلا من الروابط البيولوجية)، فإنه يركز على عناصر ثقافية أخرى مشتركة: اللغة والدين والتقاليد وما شابه ذلك. وسأتبنى هنا استخداما واسع النطاق، استخداما تفهم فيه كلمة «عرقي» بمعنى أكثر اتصالا ب «العرقية الثقافية».
2
المفهوم الأساسي لفهم أصول الأمة هو ذلك المفهوم المتعلق بالجماعة العرقية أو بمصطلح «العرقية». بالتأكيد لا تنتمي كل الهويات العرقية إلى هذا النوع. على النقيض من ذلك، فإن النوع الأكثر تعددا يمكن أن نطلق عليه على الأرجح مصطلح «الفئات العرقية». وهي تصورات، غالبا ما يشكلها أفراد من خارج الجماعة؛ حيث يصنفون جماعة سكانية معينة من حيث السمات الثقافية المشتركة، التي تتمثل عادة في اللغة أو العادات أو الممارسات الدينية. وعادة ما يكون هؤلاء مجموعات سكانية متقلبة ومتغيرة لها ثقافة شفهية. ويتشارك أفراد هذه الفئات عناصر معينة من ثقافة مشتركة، وربما يتشاركون أرضا معينة، لكن من الممكن ألا يتشاركوا اسما جمعيا، أو تجمعهم أسطورة أصل مشترك، أو تجمعهم ذكريات مشتركة، وقد لا يحمل بعضهم لبعض سوى قليل من الإحساس بالتضامن، وقد لا يحمل بعضهم لبعض مثل هذا الإحساس على الإطلاق. من ناحية أخرى، فالتصنيفات الأكثر وضوحا التي يمكن أن نسميها «انتماءات عرقية» أو «شبكات عرقية» - تبنيا لعمل هاندلمان وإريكسون - أيا كان تقسيمها من الناحية الاجتماعية، تظهر أنماطا من الأنشطة والعلاقات المشتركة، وعادة ما يكون لها أيضا اسم جمعي، وأسطورة سلف مشترك، وقدر من التضامن، على الأقل بين النخب. أخيرا، توجد جماعات عرقية أو «عرقيات» تمتلك كل خصائص العرقيات، فأفرادها، علاوة على كل هذه الخصائص، توحدهم الذكريات والتقاليد المشتركة، التي غالبا ما تكون مكتوبة، وقد يظهرون قدرا كبيرا من التضامن، على الأقل بين النخب. مثل هذه «العرقيات» يمكن وصفها، وفقا للنموذج المثالي، بأنها «جماعات سكانية بشرية مسماة وتملك إدراكا محددا عن نفسها، وتتشارك أساطير عن الأصول المشتركة، وذكريات تاريخية مشتركة، وعناصر ثقافة مشتركة، وقدرا من التضامن العرقي.» وبمجرد تكونها، فإنها تصبح مرنة ومستمرة، حتى إن لم تكن مستقرة ومتجانسة كما يميل قادتها إلى تصويرها؛ لأن عضوية هذا المجتمع أيضا تراتبية ويتفاوت الأفراد في الاطلاع على الموارد النادرة المادية وكذلك الرمزية.
3
كيف ترتبط فئات «العرقية» والأمة؟ إن مقارنة السمات الرئيسية للنموذج المثالي لكل منهما تكشف قدرا من التداخل بينهما، لكنها تكشف أيضا اختلافات كبيرة جدا؛ أولا: فيما يخص السمات المشتركة، ففي كل من «العرقيات» والأمم نجد قدرا هائلا من تعريف الذات، وهذا يشمل وجود اسم جمعي، والأهم من ذلك وجود رصيد مشترك أو إرث من الذكريات المشتركة والأساطير والرموز والتقاليد التي تشمل أساطير الأصل والانتخاب العرقي، وذكريات الهجرة والعصور البطولية، ومثلا وتقاليد المصير والتضحية. أما الاختلافات فهي أكثر وضوحا. إن أفراد «العرقيات» يكون لديهم في العادة صلة، رمزية في بعض الأحيان، تربطهم بأرض معينة ربما يكونون متعلقين بها و/أو يعتقدون أنهم نشئوا منها، لكن في حالات أخرى ربما يكون كثيرون من أفرادها مشتتين في الخارج. وعلى النقيض من ذلك، فإن معظم أفراد الأمم يحتلون ويقيمون في «أوطان» تاريخية تضم مراكز معترفا بها وحدودا مرسمة بوضوح: أراضي يزعمون أنها «ملك» لهم بحق كونها منشأهم الأصلي أو بموجب التاريخ أو كليهما؛ ومن ثم يشعرون بارتباط عميق ب «مناظرها الشاعرية». ثانيا: في حين يتشارك أفراد «العرقيات» عنصرا أو أكثر من العناصر الثقافية، فإن أفراد الأمة توحدهم ثقافة عامة مميزة، تتمثل في طقوس عامة وشفرات رمزية تنتشر عبر أرجاء الإقليم من مركز واحد أو أكثر إلى أفراد المجتمع، وهذه عملية عادة ما ترعاها نخب دينية أو قضائية أو عسكرية أو تعليمية متخصصة، ويمكن أن نجدها في الأمم التي لا دول لها بقدر ما نجدها في الأمم التي لها دولها الخاصة. ثالثا: بينما يمكن أن نجد في الغالب بعض العادات المشتركة بين أفراد «العرقيات»، فإن أفراد الأمم يوحدهم كل من العادات المشتركة والقوانين العامة، المنتشرة عبر أبناء الوطن وتتزايد درجات احترام أفراد المجتمع لها، وهذه عملية عادة ما تدعمها، بل تسنها، نخب دينية وسياسية من خلال إطار عمل مؤسسي وحيد للعرف والقانون.
4
تدل تلك التشابهات والاختلافات على أننا من ناحية يمكننا اعتبار الأمة تطورا محددا من انتماء عرقي، ويمكننا اعتبار أمم معينة تطورات ل «عرقيات» خضعت للأقلمة والتسييس. وهذا لا يشير إلى أننا نستطيع دائما أن ننسب أمما تاريخية معينة إلى عرقية أو أكثر من «العرقيات»، ولا حتى إلى «عرقياتها» السابقة، كما كان القوميون سيدفعوننا إلى الاعتقاد. على الرغم من ذلك، وكما سنرى، فإن تطور السمات الرئيسية ل «العرقيات» مثل امتلاك تصور محدد للذات - بما في ذلك التسمية الجمعية، وأسطورة السلف المشترك، وبناء الذكريات التاريخية ونشرها - إلى جانب إدراك عناصر الثقافة المشتركة (اللغة، والأعراف، والدين، وما إلى ذلك)، كلاهما ضروري لتكوين الأمم. إلا أن هذا مجرد جزء من الأمر؛ فمفهوم الأمة موجه، إن جاز القول، في اتجاهين: اتجاه تعريف الذات الثقافي العرقي من ناحية، واتجاه التضامن الإقليمي والقانوني والسياسي من ناحية أخرى. هنا تكشف الهويات السياسية الجمعية عن تأثيرها (ولطالما مارست ذلك التأثير عبر التاريخ)، لا سيما من خلال مثال الدول المدن ومثال المملكة (العرقية). تمثل الروابط القوية والعلاقات المباشرة التي غالبا ما تقوم في الدول المدن نماذج مصغرة للولاء والتضامن السياسي الشديدين اللذين ينشدهما قادة الأمم، لا سيما القوميين في عصرنا الحديث؛ حيث تعتبر مدن أثينا وأسبرطة وروما أمثلة تلهم سلسلة طويلة من المفكرين الوطنيين منذ عصر النهضة وحتى الثورة الفرنسية وما بعد ذلك. في واقع الأمر، كان يبدو في بعض الأحيان كما لو أن بعض الدول المدن الكبرى مثل أثينا والبندقية قد كونت أمما أولية. وعلى القدر نفسه من الأهمية كان النموذج التاريخي لمملكة العقد القائمة على «عرقية» مهيمنة، كما هي الحال في فرنسا وإنجلترا في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. ونتيجة للنزعة الإقليمية وإطار العمل السياسي لبعض الأمم، فإنها قد تتمكن من التفوق على أساسها الثقافي العرقي. أما مدى حدوث ذلك عمليا، فسوف يعتمد على مجموعة من العوامل. عند اتباع هذا التوجه، فمن المحتمل أن تصبح الأمة نموذجا للمجتمع القانوني السياسي، من النوع الذي كتب عنه الحداثيون في نموذجهم المثالي للأمة المدنية الإقليمية، وفي دولة تضم عددا من الجماعات العرقية، قد تصبح الثقافة العامة للأمة بعيدة على نحو متزايد عن «العرقية» المسيطرة، رغم أن هذا نادرا ما يكون دون شقاق أو ضغط شديدين.
5 (2) العمليات المؤدية لتكون الأمة
تشير هذه الاعتبارات إلى أن الأمم باعتبارها مجتمعات تاريخية متقلبة وخاضعة للتغيير المستمر. في الفصل السابق، قدمت صورة ثابتة بعض الشيء عن الأمة باعتبارها فئة تحليلية وباعتبارها نموذجا مثاليا. أما هنا، فأود أن أصحح ذلك من خلال التأكيد على الطابع «العملياتي» للأمم. وهذا يعني أن الأمم باعتبارها أشكالا تاريخية للمجتمع البشري تكون غالبا في حالة تغير، حتى عندما تستمر الأسماء والرموز والحدود؛ ذلك أنها نتاج عمليات اجتماعية ورمزية معينة.
ماذا يسعنا أن نقول عن العمليات الأساسية التي ينتج عنها تكون الأمم؟ رغم أن هذه العمليات يمكن أن تظهر في أي فترة من التاريخ، فإنه لا يوجد أمر محدد بشأنها. وبوصفها عمليات «اجتماعية»، فإن عملها يكون في الغالب على فترات متقطعة، ويمكن أن يرد إلى الحالة الأصلية، وتعتمد هذه العمليات - كعادتها - على الفعل البشري والتفسير الشخصي. رغم ذلك، فإن حدوث هذه العمليات واندماجها، ومن ثم تكون الأمم، رغم عدم اقتصارهما على حقب تاريخية محددة، فإنهما على الأرجح لا يحدثان إلا في ظل ظروف تاريخية معينة. تشمل تلك العمليات المكونة للأمم ما يلي: تعريف الذات، وتنمية العناصر الرمزية، والأقلمة، ونشأة ثقافة عامة مميزة، وتوحيد القوانين والأعراف. (2-1) تعريف الذات
في حين أن تعريف آخرين للجماعة قد يميز فئتها العرقية، فإن الجماعات العرقية والأمم تحتاج إلى تعريف ذاتي واضح ل «ذواتها». وهذا يتضمن اتخاذ جماعة سكانية بعينها اسما جمعيا يعرف به المجتمع نفسه ويعرفه به الآخرون، وتماهي الأفراد مع هذا المجتمع المسمى ورموزه. ومن الممكن أن يبدأ ذلك بطريقة عكسية، كما يزعم ووكر كونر؛ بحيث تتمثل العملية في معرفة أفراد المجتمع بمن وما لا يمثلونه، مقارنة بالآخرين من هنا وهناك، الذين يميز المجتمع نفسه عنهم. رغم ذلك، لا يمكن للمرء التحدث عن عملية تعريف ذاتي للمجتمع وتحديده لهويته الخاصة الجمعية إلا عندما يبدأ الأفراد في معرفة من «يكونون» إجمالا، ويشعرون أنهم يكونون مجتمعا مميزا له اسم محدد، وسيؤدي ذلك إلى تقديم واحدة من السمات الأساسية للنموذج المثالي للأمة.
يمكننا أن نميز هذه العملية في كل من الفترات السابقة والمعاصرة. على سبيل المثال، في حين أطلق على الفينيقيين هذا الاسم من قبل آخرين مثل الإغريق الذين تاجروا معهم، ميز الإغريق أنفسهم عن الفرس وغيرهم من الشعوب التي تعاملوا معها بأن أطلقوا على أنفسهم اسم «الهيلينيين ». وعلى نحو مشابه، ميز الإنجليز في العصور الوسطى أنفسهم منذ وقت مبكر عن جيرانهم الاسكتلنديين، والويلزيين، والأيرلنديين، وأطلقوا عليهم أسماءهم (وهؤلاء أيضا أطلقوا على الإنجليز اسمهم)؛ في حين أنه في عصرنا الحديث يجب ألا تتخذ كل أمة لنفسها اسما مميزا فحسب، إن لم يكن لها اسم بالفعل، بل يجب على أفراد تلك الأمم أن يميزوا أنفسهم عن جماعات المهاجرين التي تملك تعريفا ذاتيا لذواتها، كما فعل الإيطاليون مع الألبان، وكما فعل الألمان مع المهاجرين الأتراك. في كل حالة من هذه الحالات، يعد الاسم الجمعي الذي يعرف به المجتمع نفسه عنصرا ضروريا في هذه العملية.
6
إذا كانت الأسماء الجمعية ضرورية لعملية تعريف الجماعات العرقية والأمم لذواتها، فإن عدم وجود اسم علم مسجل قد يشير إلى غياب روح العرقية المشتركة، فضلا عن غياب حس الأمة. يبدو أن ذلك كان الوضع بين الفرنسيين والألمان حتى القرنين الثاني عشر والثالث عشر عندما أصبحت أسماء تعريفية مثل «فرنسا» و«الفرنسيين» و«الألمان» أكثر انتشارا بين السكان غرب وشرق نهر الراين.
7
إن الأسماء ضرورية أيضا لممارسة السلطة؛ ولذلك، شعر الجنرالات والأباطرة الرومان، أمثال قيصر وتراجان، أنه من الضروري تمييز تجمعات الرؤساء وأتباعهم التي غالبا ما تكون متغيرة بأسماء عرقية ساعدتهم في تحديد الحلفاء والأعداء، والسيطرة لاحقا على «القبائل البربرية» التي أخضعوها. وما من أحد يعلم إلى أي مدى تقبلت تلك المجموعات المذكورة عملية التسمية الخارجية تلك. حدثت عملية مشابهة في ظل الحكم الاستعماري الحديث، عندما سعت القوى الأوروبية إلى تحديد السكان الذين استولت على أراضيهم، ووصف التجار والمسئولون والمبشرون الجماعات السكانية المختلفة التي التقوها بتصنيفات عرقية أوروبية، وأحيانا ما كانت تلك الجماعات السكانية تقبل التصنيفات والأسماء التي خلعها عليها المجتمع العرقي الحاكم في المستعمرة، كما حدث مع المجموعة العرقية باجاندا في أوغندا خلال حكم البريطانيين لها.
8 (2-2) تنمية العناصر الرمزية
إن خلق الذكريات والرموز والأساطير والقيم والتقاليد وتنميتها يحدد التراث الثقافي المميز لكل جماعة عرقية وكل أمة. فيما يتعلق ب «العرقيات»، تمثل «أسطورة» النسب ضرورة، إلا أن الأساطير والذكريات والرموز والتقاليد الأخرى من الممكن أن تتراكم عبر الزمن وتميز التراث الثقافي للعرقيات عن تراث جيرانها، لا سيما عند وجود نصوص مقدسة مميزة متوارثة عبر الأجيال. ورغم أن امتلاك هذا التراث الثقافي وتنميته «شرط لازم» لأي أمة في نظر القوميين، فمثل هذا التراث الثقافي موجود بالمثل لدى الجماعات العرقية والجماعات العرقية السياسية المختلفة، بداية من مصر القديمة وحتى روسيا في أوائل العصور الوسطى. تقدم روما القديمة وحلفها اللاتيني مثالا جيدا على ذلك. فعلى الرغم من الأصول العرقية المختلطة في روما القديمة تحت حكم الملوك، نشأ نوع من الانتماء العرقي الروماني اللاتيني المشترك عبر الحروب مع السامنيت والإغريق والإتروسكان. وربما كانت اللحظة الفاصلة هي تجربة منطقة ماجنا جراسيا في القرن الثالث قبل الميلاد، والأزمة الكبيرة المتمثلة في الحرب البونية الثانية، عندما سحق القرطاجيون بقيادة حنبعل جيوشا رومانية متلاحقة في إيطاليا. كانت تلك الفترة هي التي شهدت ظهور أدب لاتيني أصلي في مسرحيات بلاوتوس وترنتيوس، ونثر نافيوس وإنيوس، بالإضافة إلى الأسطورة التي ميزت الفضيلة الرومانية المتشددة المجسدة في الصورة العابسة لكاتو الرقيب. ونتيجة لذلك، كان للرومان أسطورة نسب مزدوجة - من رومولوس وريموس وأنثى الذئب، ومن إنياس الطروادي ولاتيوم - وعدد من الرموز والتقاليد والذكريات التي تدل على صحة جدلية ووكر كونر التي تقول إن الإيمان بوجود علاقة بين الأسلاف هي العنصر المميز للانتماء العرقي، حتى لو كانت سلاسل النسب خيالية، كما هي الحال في الغالب.
9
حتى في يومنا الحاضر، قد يستمر إحساس أواصر الارتباط بين الأسلاف، حيث يظهر مثلا أن موجات المهاجرين المغتربين ثقافيا «تهدد» الجماعة العرقية السائدة في الأمة وطريقة حياتها التقليدية. إذا كان الأمر كذلك، فلربما لا تكون أسطورة النسب أسطورة مندثرة، حتى لو كانت أقل أهمية في تعريف المجتمع، وتمثل عنصرا واحدا فحسب ضمن مجموعات عديدة من التقاليد والأساطير والذكريات التي تميز الأمة.
10 (2-3) الأقلمة
يمكن ملاحظة عملية أقلمة المجتمعات عبر التاريخ، ولا تقتصر هذه العملية على «العرقيات» أو الأمم. ومع ذلك، أصبح الارتباط بأماكن محددة ورسم حدود مكانية لتمييز «الوطن» عن «خارجه» عمليات مميزة للانتماء العرقي، وللأمة بصفة خاصة. لقد ثبت أن هاتين العمليتين ضروريتان لتكوين «المنظور العرقي» وظهور الأمم عند حدوثهما في صورة «أقلمة» للذكريات؛ أي ربط الذكريات بمناطق معينة وبمجتمع بعينه. ويمكن للمرء أن يرى ذلك جليا في العمليات التي ترتبط عبرها ذكريات مجتمع بعينه وتاريخه بأماكن معينة، وهذه العمليات هي «تطبيع المجتمع» و«تأريخ الطبيعة».
11
في أولى هاتين العمليتين، تصبح «العرقيات» أجزاء لا تتجزأ من بيئاتها التاريخية، حيث تعتبر أنها «امتدادات طبيعية» من الأراضي التي تقطنها، وتصبح آثارها «ثوابت» في مشهدها العام، لتذكر بالعصور القديمة شبه البدائية للمجتمع، كما هي الحال مع أهرامات المصريين القدماء أو المكسيك. في العملية الثانية، تصبح الطبيعة نفسها مؤرخة؛ فتصبح أرض المجتمع وموطنه جزءا لا يتجزأ من تاريخه وثقافته، وتصبح المكان الذي عاش ومات فيه القديسون والأبطال والحكماء، وحلبة الأزمات ونقاط التحول التاريخية، والنصب التذكاري للأعمال البطولية للأجداد. هذه هي العمليات التي يمكن ملاحظتها قبل ظهور الحداثة بوقت طويل. نجد أمثلة ذلك في السجلات التي تحدثت عن جمال الريف المحيط بروما مدونة في شعر هوراس وفيرجيل، وفي تصور حديقة فرنسا التي تزايد انتشارها بين الكتاب الفرنسيين في أواخر العصور الوسطى، وفي تشكيل وجه هولندا من خلال صراعات سكانها مع بحر الشمال، وفي قصائد المدح السويسرية في أوائل العصر الحديث لمناظر جبال الألب في سويسرا.
12
ابتداء من القرن الثامن عشر، أصبحت أقلمة الذكريات وتنمية الانتماءات الجمعية للمشاهد الطبيعية القومية تجري بنحو أكثر تعمدا وعلى نطاق أوسع انتشارا. وكان ذلك يعزو بدرجة كبيرة إلى طائفة تبجيل الطبيعة المنبثقة عن النزعة الرومانسية، ومن التعبير اللائق عن العواطف في وجودها، كما هي الحال مع الانبهار المتزايد بجمال الألب. لقد حول الرومانسيون الأرض إلى مناظر طبيعية شاعرية، وجعلوها مكونا أساسيا لتصور الأمة نفسه. في اعتقاد القوميين، لا وجود للأمة إن لم تكن جماعة لها أرض؛ حيث تمثل الأرض والمناظر الطبيعية كلا من القاعدة «الموضوعية» والقاعدة «الذاتية» - الأساس - لمجتمع قومي حقيقي. وكان ذلك يعني أن الأمة لا بد أن تكون موحدة ومجتمعة داخل حدود «طبيعية» معروفة، حتى لو ظلت تلك الحدود «غير مستوية» من الناحية العملية؛ فمن الممكن عندها أن تأخذ الأمة مكانها باعتبارها عضوا شرعيا في «مجتمع دولي» من الأمم. ومن الممكن أيضا أن يشعر أفرادها أنهم «نشئوا من ترابها» - حتى لو كان معظم أفرادها فعليا (أو أسلافهم) قد هاجروا إلى هذا التراب من مكان بعيد. إن حقيقة أن كثيرين جدا من القوميين استطاعوا، على الرغم من «ابتكاراتهم» التي لا ريب فيها، البناء على انتماءات وذكريات سابقة؛ قد سهلت مهمتهم إلى هذا الحد البعيد.
13 (2-4) نشأة ثقافة عامة مميزة
ما أقصده بمصطلح «ثقافة عامة» هو خلق نظام طقوس ورموز ومراسم عامة من ناحية، وتكون قواعد وأدبيات عامة مختلفة من ناحية أخرى.
في حين أنه فيما يخص «العرقيات» يكفي أن يكون أفرادها متمايزين عن الأغيار من خلال تحدث لغة مشتركة والالتزام بتقاليد مختلفة، وعبادة آلهة خاصة بهم، فإن مثل هذه السمات الثقافية المشتركة - فيما يخص الأمم - يجب أن تكون ملكية عامة مشتركة، وتمثل معيارا محددا للتميز الثقافي. ولا بد أن تصبح جزءا من ثقافة عامة قومية مميزة. علاوة على ذلك، فإن أي اختلافات في اللهجة أو في العبادة لا بد أن تكون تابعة لتلك الثقافة العامة المؤدلجة، وإلا فلا بد من استئصالها.
بالطبع، لا تميز الشعائر أو القواعد العامة في حد ذاتها «العرقيات» أو الأمم عن الهويات الثقافية الجمعية الأخرى؛ فقد كان أداء الشعائر العامة سمة لكثير من المجتمعات منذ بلاد بابل القديمة ومصر القديمة وحتى فرنسا والبندقية ودوقية موسكو في العصور الوسطى. وبالمثل، يمكن العثور على تكوين لهجات وأدبيات عامة مميزة في أنواع كثيرة من المجتمعات في الحقب القديمة وحقب العصور الوسطى، من أثينا القديمة وصولا إلى بروفنس وفلورنسا في العصور الوسطى. أما ما يعنيه ذلك فيما يخص تكوين الأمم، فهو أن تلك «المواد» الثقافية كانت حاضرة لقرون كثيرة في مجتمعات مختلفة، لكنها في ظل ظروف معينة وحالات معينة فقط «جمعت» وتضافرت مع عمليات أخرى لخلق هذا النوع «القومي» تماما من المجتمعات البشرية.
في هذا الصدد، تمثل الشعائر العامة، والمراسم، والرموز أهمية كبرى لظهور الأمم مقارنة بأهمية اللهجات والأدبيات العامية؛ فالأدبيات المكتوبة بالعامية، ظهرت بوجه عام في أوائل العصر الحديث، على الرغم من مزاعم أدريان هستنجز بظهور كل من اللهجات والأدبيات العامية في أوائل العصور الوسطى في إنجلترا وجيرانها. في العموم، ظل الأدب مأثرة نخبة من الحاشية أو من الكهنوت، على الأقل حتى «رسخت» الدولة في أوائل العصر الحديث اللغة وقراءتها، ونشرت رأسمالية الطباعة منتجاتها لدوائر أوسع نطاقا. وعلى النقيض، انتشرت الشعائر العامة، والمراسم، والرموز على نطاق واسع منذ وقت أسبق كثيرا، بل إنها ترى جوهرية لغرس حس الانتماء إلى مجتمع سياسي وثقافي أوسع نطاقا لدى قطاعات كبيرة من السكان، سواء أكان جماعة عرقية أو كنيسة أو دولة مدينة أو مملكة، ولتأكيد نشاط المجتمع وشرعيته. ومن هنا انبثقت الأهمية التي كانت تحظى بها المراسم الدينية التي كانت تقام في المعابد مثل مهرجانات العام الجديد في بلاد الرافدين، وموكب عموم أثينا في أثينا، وشعائر اختيار عذارى فيستال في روما، والمراسم المختلفة التي ربطت الملكية بالكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، مثل مراسم التتويج، وطقوس دخول المدن، والجنازات. مرة أخرى، كانت هذه المظاهر نماذج لطقوس «قومية» لاحقة، مثل: رفع العلم، وغناء الأناشيد، والاحتفال بالعطلات القومية.
14
كما سنرى، فإن الثقافات العامة المميزة تلعب دورا محوريا في نشأة أنواع تاريخية مختلفة من الأمم؛ إذ تساعد على تكوين عناصر أساسية في تشكيلها على فترات متعاقبة. لقد تمكنت التراثات الثقافية الأساسية خلال العصور القديمة، من خلال طقوس ومراسم ورموز وقواعد الثقافات العامة إلى حد بعيد، من تكوين التقاليد المميزة للمجتمع القومي والهوية القومية اللذين سأفرد لهما في الفصل الرابع. (2-5) توحيد القوانين والأعراف
إن الأنظمة القانونية العامة والأعراف المشتركة في حد ذاتها لا تميز «العرقيات» والأمم عن الأنواع الأخرى من الهويات الجمعية الثقافية أو السياسية. قبل التاريخ الحديث بوقت طويل، كانت التشريعات القانونية تنتمي بصفة عامة إلى الدول المدن والإمبراطوريات، بداية من التشريعات القانونية الخاصة بكل من أوروكاجينا وحمورابي في سومر وبابل، حتى التشريعات القانونية الرومانية والبيزنطية العظيمة. على الناحية الأخرى، كانت تلك الأنظمة القانونية والعادات المشتركة وليدة مجتمعات دينية كبرى والنصوص المقدسة لتلك المجتمعات كالشريعة الإسلامية والقانون الكنسي.
رغم ذلك، كانت عمليات نشر الأعراف وتوحيد القوانين والتشريع عناصر محورية في تكوين كل من «العرقيات» والأمم. فيما يتعلق بمعظم «العرقيات»، فإنه بمجرد اكتساب أفرادها لغة عامية مكتوبة، وامتلاك مجموعات عديدة من الأعراف والطقوس والتقاليد والقوانين، راحت تلك الأعراف والطقوس والتقاليد والقوانين تتحكم بدرجات متزايدة في علاقاتهم فيما بينهم وعلاقاتهم بالأغيار. وأصبحت الروابط بين التشريع القانوني الموحد وبين الأمة أكثر قربا. بل من الممكن تمييز الأمم، جزئيا، على أنها مجتمعات قائمة على القانون والعرف، يتمتع أفرادها بحس الصالح العام، ويؤدون مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة. وهذا يعني أنه حتى لو كانت عضوية المجتمع القومي محدودة؛ إذ عادة ما كانت تقتصر على الذكور البالغين أو رؤساء العائلات في الحقب التي سبقت العصر الحديث، فإن علاقات هؤلاء بعضهم ببعض وبالأغيار كانت محكومة على نحو متزايد بالأسس القانونية المشتركة والقواعد العمومية للقوانين العامة، والأعراف المشتركة، والوصفات الرمزية التي تميزهم عن غيرهم. في الحقيقة، قد يحدد القانون والعرف والطقس الحدود الرمزية للأمم بوضوح أكبر مقارنة بالعادات والتقاليد المرسلة إلى حد بعيد التي تميز «العرقيات». لكن لا يمكن وضع خط فاصل صارم بينهما. وهذا موضح جليا من خلال المحورية التي منحها اليهود للقانون الموسوي في تعريف اليهودية في فترة الهيكل الثاني.
15
برؤية أكثر عمومية، يمكن القول إن العملية التي بموجبها باتت الجماعات العرقية محكومة بدرجات متزايدة بتشريعات قانونية موحدة ومؤسسات قانونية موحدة تعد محورية لتكوين الأمم؛ لأنها توفر «سقفا» للوحدة وتخلق إحساسا بالتضامن الاجتماعي من خلال الأعراف المشتركة وإدراك الحقوق والواجبات المشتركة لأفراد المجتمع. حقيقي أن هذه العملية، في الأغلب، كانت تحدث تحت رعاية الدولة، بصرف النظر عن بساطتها، التي عادة ما كانت تتمثل في مملكة أو إمارة عرقية. رغم ذلك، فإننا نجد أيضا تشريعات قانونية ومؤسسات قانونية معقدة مطبقة ، إن لم تكن مسنونة، في غياب الدولة، على سبيل المثال، من خلال مؤسسات دينية عامة نشأت في مجتمع مشتت، كما كان شائعا بين كل من الأرمن واليهود طوال حقبة العصور الوسطى. توضح هذه الحالات الحاجة إلى الفصل بين عملية سن القوانين والأعراف المشتركة وبين البعد السياسي البحت، وبخاصة الدولة الحديثة، التي اعتاد الحداثيون غالبا ربطها به.
16 (3) الموارد الثقافية للهوية القومية
حتى الآن تناولت بعضا من العمليات الاجتماعية والرمزية التي ينطوي عليها «تكوين» الأمم. لكن كيف تحافظ المجتمعات القومية على نفسها، ولماذا تكون معمرة في الغالب؟ يتضمن هذا الأمر التفكر في طبيعة وقوة الإحساس بالهوية القومية لدى جماعة سكانية معينة ومصادر «استمرار» الأمم من خلال فحص بعض الموارد الثقافية الأساسية للأمة.
بالنسبة إلى أعضاء أي مجتمع، تكون هذه الموارد الثقافية ملموسة ومتاحة إلى حد أبعد كثيرا من العمليات العامة التي ينطوي عليها تكوين الأمم التي أوضحتها؛ فهذه الموارد تكون أكثر تحديدا، ومن ثم أكثر قابلية للاستخدام، وتستخدم، بصفة خاصة، لبلوغ غايات سياسية. وهذه المصادر من الممكن أيضا أن يختارها الأفراد والجماعات المصرون على التدخل الفعال في حياة الأمة، على سبيل المثال، يستغلها القادة الذين يسعون إلى إحياء ثروات الأمة، أو الكهنة والمفكرون الذين يصنعون رموزا جديدة وتراثا قصصيا جديدا للأمة.
17
لكن، الاعتبار الأهم على الأرجح هو أن بعضا من هذه الموارد الثقافية للهوية القومية على الأقل يمكن أن يصبح «أسسا مقدسة» للأمة؛ فيتخذ مكانة مميزة، ويبجل، ويعامل كما لو كان قانونا مقدسا، من خلال عملية إضفاء القداسة على العناصر الاجتماعية والرمزية الأساسية؛ عملية كثيرا ما تشتق بدورها من عمليات منح القداسة التي ميزت التقاليد الدينية القديمة، إن لم تكن مصممة على غرارها عمدا؛ إذ إنه في حقب ما قبل العصر الحديث، وما قبل القومية، نادرا ما كان الانتماء العرقي ينفصل عن الدين. نتيجة لذلك، فإن الموارد الثقافية التي من الممكن أن يكون القادة والجماعات العرقية أو القومية خلال حقب ما قبل العصر الحديث قد استخدموها، وسعوا وراءها بحماس، وقدسوها تأتي مصحوبة بهالة دينية واضحة تشبع التصورات العلمانية الأخرى للأمة بصفة «مقدسة» واضحة. حتى في عصر «القومية» الحديث، نادرا ما تغيب تلك الصفة المقدسة، وهنا فقط تحل الأصالة محل العقيدة الدينية، وتمثل عقيدة الأصالة الأساس الجديد ل «دين سياسي يدين به الشعب»، بشعاراته وأناشيده، وأعياده ومراسمه، كما كان مشهودا إبان الثورة الفرنسية.
18
لهذا السبب، قد تعتبر الموارد الثقافية التي تحافظ على الإحساس بالهوية القومية لدى أي جماعة سكانية أيضا «أسسا مقدسة» للأمة، بمعنى أنها «تدعم» الأبعاد الأربعة الأساسية للأمة، وهي: الجماعة، والأرض، والتاريخ، والمصير. دعوني أتناول هذه الأمور تباعا بإيجاز. (3-1) أساطير الأصول وأسطورة الاختيار الإلهي للشعوب
تمثل أساطير الأصول وأساطير الاختيار العرقي موردين من الموارد الثقافية الأساسية يمكن وصفهما بأنهما يدعمان البعد المجتمعي في حس الهوية القومية لدى الجماعة السكانية، وكلاهما يبرز أهمية هذا البعد المجتمعي. (1) «أساطير الأصول»: تناولت بالفعل أهمية هذه الأساطير. يغطي المصطلح نفسه نطاقا عريضا، يتراوح بين الوصف التفصيلي للكونيات وأساطير الخلق وصولا إلى أساطير التأسيس وأساطير السلف المشترك. على سبيل المثال، في مصر القديمة وفي اليابان قديما كانت أساطير خلق الآلهة مرتبطة بحكايات عن أصول شعب معين، وأسر معينة، ومملكة معينة؛ حكايات تضع الشعب وحكامه في مركز الكون، وتكون غالبا خاضعة لشرح دوري من قبل الكهنة والمفكرين. من ناحية أخرى، يمكن أن تكون أسطورة الخلق منفصلة من حيث التأريخ الزمني عن أصل الشعب، كما هي الحال في قصيدة «أصول الآلهة» للشاعر هسيود، وكما يشهد أول أحد عشر إصحاحا من سفر التكوين.
19
على الجانب الآخر، ترتبط أساطير التأسيس عادة بالمدن والدول المدن؛ فعلى سبيل المثال، نذكر أسطورة التنافس بين أثينا وبوسيدون على رعاية مدينة أثينا لمؤسسها إيريخثيوس، وموضوع المنحوتات على إحدى قوصرات البارثينون. أما الأسطورة الأكثر شيوعا، فتمثلها أسطورة أنثى الذئب التي أرضعت رومولوس وريموس مؤسسي روما؛ أو أسطورة نقل جثمان القديس مرقس - الذي يرمز له بأسد يطلق عليه «أسد القديس مرقس» - إلى مدينة البندقية. إلا أن أساطير التأسيس يمكن أن توجد أيضا في الممالك العرقية، ومن أشكالها الأكثر شيوعا تحول المملكة إلى دين عالمي، كما حدث في عهد الملك تريداته الثالث ملك الأرمن، وكلوفيس في بلاد الغال الفرنكية، وفلاديمير الأول في روس الكييفية. ومن الأشكال الأخرى إبرام معاهدة مع ممثلي سكان مجاورين وأصحاب ثقافة مشتركة، مثل المعاهدة أو قسم الوحدة الذي أنشأ «الاتحاد السويسري القديم» عام 1291، وإحياء المجتمع الاسكتلندي في إعلان أربروث عام 1320، وبالطبع قسم ملعب التنس عام 1789.
20
لكن، لعل النوع المألوف إلى أقصى درجة هو أسطورة السلف المشترك، بما تتضمنه من سلاسل نسب زاخرة وحس العرقية المشتركة. لطالما كانت أساطير السلف المشترك النوع الأكثر شيوعا بين أساطير أصول الشعوب في حقب ما قبل العصر الحديث، واستجداؤها بصلات القرابة يساعد في تفسير استمرارية كثير من «العرقيات». إلا أنه كما أوضح ووكر كونر، التاريخ «المحسوس» لا التاريخ الفعلي هو الضروري للشعور بالهوية الجمعية؛ ومن ثم فما يهم هو الإيمان بالأصل المشترك مهما كان هذا الإيمان مناقضا للحقيقة. تلك الأساطير قدمت أيضا النموذج الأكثر إثمارا بالنسبة إلى القوميين اللاحقين، بقدر ما تمثل أساسا لتصوير القوميين الشائع للأمة بأنها أسرة ممتدة كثيرا، «عائلة كبيرة مكونة من عائلات»؛ وهو وصف ذاتي يساعد بلا شك في توحيد الشعوب المقصودة وتحريكها من أجل تحقيق أهداف جماعية. ومن هنا جاء الإعجاب بالتصور العرقي للأمة، وارتباط الانتماء العرقي لاحقا ب «النقاء» و«الأصالة».
21 (2) «أساطير الاختيار الإلهي للشعوب»: من بين كثير من العناصر الرمزية التي تشكل جزءا من تراث المجتمع، لا توجد أسطورة أكثر قوة ومرونة من أسطورة الاختيار العرقي؛ فالاعتقاد في «اختيار» الإله شعبا أو جماعة بعينها لمهمة معينة أو هدف محدد له تاريخ طويل؛ إذ يمكن أن يعود هذا التاريخ إلى بلاد الرافدين القديمة ومصر الفرعونية، إلا أن «المثال التقليدي» لذلك هو التوراة، التي جاء بها موسى من جبل سيناء إلى بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر. في التوراة نقرأ عهدا مشروطا مفاده أنه إذا أطاع بنو إسرائيل وصايا الرب وطبقوا شريعته، فسوف يباركهم الرب، وسيمتلكون أرض كنعان الموعودة، هم وذريتهم. وإذا لم يفعلوا، فسوف يعاقبون وينفون. إن هدفهم هو أن يصبحوا أمة مقدسة، ومملكة من الكهنة؛ ومن ثم يصبحون بركة لكل الأمم. القداسة هنا تعني الانفصال عن عالم الأمم (الوثنية) المدنس، كي يستطيع بنو إسرائيل تطبيق قواعد أخلاقية وشعائرية دون تشتيت الرغبة الأنانية وإغراءاتها.
22
ظهرت أساطير الانتخاب الإلهي القائم على العهود بالتحديد في مجتمعات متعددة، بداية من الأرمن الجريجوريين في القرنين الرابع والخامس، والإثيوبيين «السليمانيين» في القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، وصولا إلى الاسكتلنديين والهولنديين الكالفينيين في القرن السادس عشر، والاسكتلنديين الأولستر والمستوطنين البيوريتانيين في نيو إنجلاند في القرن السابع عشر، وحتى الأفريكان البروتستانت بعد الرحلة الكبرى، بينما اتخذت مظهرا أكثر علمانية لدى الصهاينة في فلسطين خلال أوائل القرن العشرين. في هذه الحالات، كان السعي وراء الفضيلة الأخلاقية وترسيخ القداسة والروحانية، غالبا من خلال الانفصال وتطهير مجتمعاتهم، مدعوما بإيمان قوي بالعهد الجمعي وبالعناية الإلهية.
23
يوجد نوع آخر من أساطير الاختيار الإلهي، أكثر شيوعا وأقل تطلبا، يرى المجتمع مكلفا بمهمة مقدسة أو واجب مقدس، لكن دون وجود التزام مرتبط به سوى استمرار التمسك بالدين أو التقليد المحدد. توجد أنواع مختلفة من المهام مثل: الدفاع عن الأرض المقدسة، ورد الكفار إلى حظيرة الدين، وحماية الدين الحقيقي، أي العقيدة، ونشر «الحقيقة» والأخلاق، وأن يكونوا «نورا للأمم». هذا النوع من أساطير الاختيار التبشيرية كان بارزا بصفة خاصة في ممالك «حصن المسيحية» و«الجماعات العرقية»، على سبيل المثال، بين ملوك ونبلاء المجر وبولندا وكتالونيا، على حدود العالم المسيحي الكاثوليكي. إلا أننا نجده أيضا في ممالك عرقية كانت أقل عرضة للمخاطر - في إنجلترا، وفي فرنسا، وفي دوقية موسكو الروسية بعد تحررها من سيطرة التتار - ونجده في شكل أكثر علمانية في الدول القومية الحديثة نظيرة تلك الدول، إلى جانب سعيها إلى إدراك النجاح الاقتصادي، والقوة العسكرية، والشهرة الثقافية نسبيا. ولا يقتصر النوع التبشيري من أسطورة الانتخاب العرقي على التراثين اليهودي والمسيحي، فيمكن العثور على عناصر حس الاختيار الإلهي والإيمان بالتكليف بمهمة جماعية في الدولة الصفوية في القرن السادس عشر ، وفي مصر الحديثة مع حركتها الفرعونية، وفي اليابان من حركة «كوكوجاكو» في القرن الثامن عشر وحتى الحركة الرومانسية في القرن العشرين.
24 (3-2) الأوطان والمناظر الطبيعية الشاعرية
كما رأينا تتمثل إحدى العمليات الأساسية التي يقوم عليها تكون الأمم في عملية «الأقلمة»، ويقصد بها إقامة غالبية الجماعة في الوطن، وتكوين ذكريات جمعية ومشاعر الانتماء لأراض تاريخية تقع داخل حدود معترف بها. في هذه العملية، ينبثق «التوزع العرقي» من خلال تضامن «الجماعة العرقية» ومحيطها الطبيعي. وكما شرحت، فإن هذا يتحقق من خلال تطبيع التاريخ العرقي، وفيه يرى التاريخ كجزء من الطبيعة، ومن خلال تأريخ البيئة الطبيعية، بجعلها تبدو متأصلة في تاريخ الجماعة العرقية وتطورها. نتيجة لهذه العملية التبادلية، تبدو الجماعات العرقية، كما لو كانت «مغروسة» في «أوطانها» التاريخية، وبحسب وصف ستيفين جروسبي: «شعب له أرضه وأرض لها شعبها.»
25
إلا أن هذا ليس إلا بداية لعملية «أقلمة الذكريات» الطويلة الأمد، تلك العملية الضرورية لتكوين الأمم واستمراريتها، وهي بدورها ترتبط بفكرة «الأرض المقدسة» أو تقديس الوطن. من أين يأتي تقديس الأرض، ولماذا يشعر الشعب في الغالب أن مشاهدها الطبيعية ليست ملكا «لهم» فحسب، بل «مقدسة» كذلك؟ ربما الأمر الأكثر شيوعا هو أن الأرض التي «رأت» خطوات النبي والحكيم والقديس، و«سمعت» خطبهم، تصبح مقدسة؛ ومن ثم تصبح مميزة عن الأراضي المحيطة وعن الحياة اليومية. عملية التقديس هذه يمكن أن تمتد إلى نماذج وأفعال أبطال وبطلات وعباقرة عرقيين؛ فتثير لدى نسلهم مشاعر التبجيل والرغبة في أن يحذوا حذوهم. وليس الأبطال فحسب، بل من الممكن أن يعتبر الشعب كله مقدسا، ومن ثم مميزا، كما كانت الحال في إسرائيل القديمة؛ فالأرض لم تصبح فقط أرض الميعاد، بل أصبحت نفسها محل تعبد وتبجيل نظرا لقدسية شعبها. وداخل الوطن أيضا يمكن أن تحمل مواقع معينة قدرا معينا من القداسة، كما هي الحال في فكرة الوقوف على «أرض مقدسة» أو أرض معجزات مأثورة. هذه المواقع المقدسة من الممكن أن تكون أنهارا وجبالا، ومدنا ومعابد وساحات معارك، وحفريات ومتاحف، لكن أبرز حالاتها هي مقابر «أسلافنا»، ومقابر الأبطال الوطنيين الذين سقطوا قتلى؛ لأن قبورهم تحثنا على التفكر في قداسة «ماضينا» و«وطننا». بمجرد تقديس الوطن بهذه الطريقة، فإنه يصبح في حد ذاته موردا ثقافيا قويا لدعم الإحساس بالهوية القومية، وتصبح مشاعر الولاء المشتركة التي يولدها حس الهوية القومية معززة في الغالب بالحاجة إلى الدفاع عن المساحة المقدسة، من خلال التضحيات الكثيرة المقدمة في سبيل صالح الجماعة والوطن.
26 (3-3) التاريخ العرقي والعصر الذهبي
يوجد النوع الثالث من الموارد الثقافية في «التاريخ العرقي» للمجتمع. في هذا الصدد، تروي الأجيال المتعاقبة الذكريات المشتركة من الماضي العرقي لأمتها وتورثها. إنه حكايات يرويها الأفراد بعضهم لبعض؛ ولذلك، فالتاريخ العرقي أبعد ما يكون عن الاتساق والثبات؛ إذ عادة ما يوجد أكثر من رواية للتاريخ العرقي في الجيل الواحد والجماعة الواحدة، وكل من هذه الروايات السردية عرضة للتنقيح. إلا أنه على النقيض من الدراسات المهنية التي يجريها المؤرخون، يقدم التاريخ العرقي قصة تطورية تبرز بلغة سهلة الحفظ «الأحداث الرئيسية» و«نقاط التحول» في الماضي العرقي للمجتمع.
تعد «العصور الذهبية» الأكثر حضورا في الذاكرة من بين الروايات المصورة للتاريخ العرقي؛ إذ تتحدث عن عصور كانت الجماعة خلالها عظيمة ومجيدة من الناحية السياسية والعسكرية، أو كانت ثرية ومزدهرة، أو عندما كانت في أوج الإبداع الفكري والفني، أو الديني والروحاني. بعيدا عن النوع الأدبي والأسطوري الخالص من العصور الذهبية، ذلك الذي نجده في سفر التكوين أو في شعر هسيود، نرى نموذج النوع التاريخي من العصور الذهبية متجسدا في عصر أثينا الكلاسيكية، الذي كان يعتبر بالفعل عصرا ذهبيا خلال العصور القديمة. إلا أنه لم يكن أول عصر ذهبي من نوعه؛ ففي أواخر عهد الإمبراطورية الآشورية بالفعل، سعى بلاط الملك آشور بانيبال إلى محاكاة ثقافة بابل القديمة. ربما وقعت الحالة الأكثر شهرة لمثل هذا الإجراء خلال العصور القديمة في عصر الإمبراطور أغسطس، حيث نظر الكتاب ورجال الدولة إلى الفضائل والعقائد المسلم بها المزعومة في الجمهورية الرومانية القديمة في عصر كاتو وسكيبيو الأفريقي وقارنوها بترف الإمبراطورية الرومانية وفسادها . وفي عالم العصور الوسطى، ثمة حالة السلالة الملكية «السليمانية» الإثيوبية التي سعت إلى استعادة الثقافة الدينية و«السامية» القديمة لمملكة أكسوم التي كانت قائمة قبلها بألف عام؛ ومن ثم يحدثون إصلاحا جذريا في المجتمع الإثيوبي والثقافة الإثيوبية.
27
كانت العودة إلى عصر ذهبي جماعي أحد الأهداف الرئيسية لحركات الإحياء القومية. وكان ذلك يعني من الناحية العملية تجديد المجتمع في ضوء وروح العصر الذهبي الذي كان يعتبر مبجلا، إن لم يكن مقدسا. كان هذا هو المنظور الذي رأى منه القوميون اليونانيون علاقة اليونان الحديثة بتراثها الكلاسيكي البالغ القيمة، الذي يرمز له البارثينون، كما كان فهم أتباع تيار الفرعونية المصرية في أوائل القرن العشرين الذين حثوا المصريين على أن يتخلصوا من خمول دام لآلاف السنين، وأن يحاكوا مجد أسلافهم العظماء وإنجازاتهم البطولية، الممثلة على نحو واضح في مجمع معابد الكرنك الهائلة. يتجلى الطابع المقدس لذكريات العصر الذهبي ووظائفها بوضوح في هذا المثال وفي أمثلة أخرى. في عصر اتسم بالتغير السياسي والاجتماعي لبت تلك الذكريات الاحتياجات المشتركة إلى الرسوخ، والعراقة، والاستمرارية، بالإضافة إلى الأصالة والكرامة.
28 (3-4) التضحية والمصير
البعد الرابع والأخير من أبعاد الأمة هو «المصير»، ولطالما كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بمثل الكفاح والتضحية، حتى قبل عصر القومية. يمكن أن نجد مثل الكفاح والتضحية في الكتاب المقدس وفي أسفار المكابيين، بل نجدها واضحة في اليونان القديمة وفي روما القديمة، حيث كانت الشهرة والمجد الشخصيان والجمعيان، مثل شهرة ومجد الأسبرطيين في ترموبيل وبلاتيا، مدونة للأجيال القادمة في صورة شعرية. يوجد أيضا التراث القوي المتمثل في الاستشهاد الجماعي من أجل الدين والجماعة، الذي ظهر في أرمينيا في القرنين الرابع والخامس أثناء صراعاتها الكثيرة ضد إيران التوسعية ودياناتها الزرادشتية التي خضعت للإصلاح. في العصور الوسطى، يتجلى مثال الاستشهاد من أجل المجتمع بمزيد من الوضوح، فنجد موت المحاربين البطولي من أجل الدين الصحيح في الحروب الصليبية، وبالعكس نجده بين «الغزاة» العثمانيين، ونجده مصورا بشكل شديد الاختلاف في كتب رثاء الجماعات اليهودية التي تعرضت لمذابح في راينلاند وفي أماكن أخرى في هذه الفترة. ثم يجب أن نتحول إلى العصر الحديث، إبان صراع المقاطعات الهولندية مع إسبانيا، حيث نجد مزيدا من الأدلة على مثال الاستشهاد، وخصوصا في إحياء ذكرى وفاة ويليام الصامت. إلا أن مثال تحقيق المصير القومي بالتضحية الفردية أو الجماعية لم يترسخ ويتسع انتشاره إلا مع عصر القومية، فأصبح موردا ثقافيا ضروريا للهوية القومية.
29
اليوم تلعب عقيدة التضحية هذه دورا محوريا في انتشار الثقافة العامة المميزة لأفراد المجتمع. وكمثال للاحتفاء العمومي جدا بالأمة وعبادتها، أصبحت عقيدة التضحية مرتبطة عن كثب بمثال التجديد والإحياء القومي. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن الأبطال القتلى وحدهم هم من تحيى ذكراهم، بل صارت مثل هذه الاحتفالات تشمل جيوشا كاملة وكل الذين سقطوا من أجل «الوطن». في وقت مبكر من تلك الفترة، أصبح البانثيون مستودع رفات كل رجال فرنسا العظماء، في حين أن قوس النصر الذي صممه المهندس شالجرين، وبدأ بناؤه عام 1806، وكان إهداء في البداية لنابليون وجيشه الكبير، فإنه بدأ يضم بداية من ثلاثينيات القرن التاسع عشر رفات كل الذين ماتوا من أجل الوطن، بحيث أصبح من المنطقي والملائم أن يضم عام 1919 مقبرة الجندي المجهول. وفي أوائل القرن العشرين، بدأت الأنصاب التذكارية للجنود القتلى في الانتشار، ووصلت ذروتها مع المقابر الهائلة، والأضرحة، والقبور الجوفاء التي بنيت إبان الحرب العالمية الأولى. في هذا الصدد، اندمجت فكرتان متلازمتان، هما: البعث الديني والتجديد القومي في عقيدة «الميت المجيد» الذي قدم هذه التضحية الكبرى من أجل الأمة، والذي تتجدد ذكراه للأبد، مثل الأمة نفسها. وأصبحت بعض هذه الأنصاب التذكارية مواقع تقام فيها احتفالات مصممة وتؤدى فيها طقوس منظمة من أجل الجنود الوطنيين وكل الذين سقطوا قتلى، مبدلين بذلك وجه هول المذابح الجماعية من خلال مثال التضحية القومية بالذات الرافعة للمعنويات. ومن خلال مثل هذه الطقوس والمراسم، وأعلامها وأناشيدها، ظهرت الثقافات العامة المميزة للأمم الجماهيرية الحديثة فيما أطلق عليه جورج موسى «الدين المدني» للعوام، وهو دين عباداته وطقوسه مصممة على غرار أشكال سابقة من العبادة المسيحية.
30
كل من هذه الموارد الثقافية، بصرف النظر عن طريقة اختيارها واستخدامها، يصبح مع الوقت مقدسا ولا يمكن استبداله. إنها، مجازا، دعائم الأمة، التي تدعم الإحساس بالهوية القومية أثناء الفترات الحرجة. كلما زادت هذه الموارد وازداد تطورها وتوسعها، أصبح الإحساس بالهوية القومية أكثر قوة وأكثر استمرارية، وزاد احتمال التغلب على آثار التفكك الناتجة عن التشظي المحلي والكوزموبوليتانية المعولمة. ويتمثل التأثير الشامل لهذه الموارد في تدعيم الأمة كاجتماع مقدس للناس، والدفاع عن «الدين السياسي» للقومية، وإثبات صحته من خلال إمداده بالموارد الثقافية والعناصر المقدسة المتمثلة في الأساطير والذكريات والتقاليد والرموز العرقية، التي تؤدى في الطقوس والمراسم الشعبية، والمنشورة في المدارس ووسائل الإعلام. بهذه الطريقة، فإن القومية بوصفها شكلا سياسيا للدين المدني تمثل نموذجا للأمة التي تعتبر جماعة مقدسة من المواطنين؛ ذلك أن في هذه الصورة يكون الناس متوافقين «فعلا» رغم خلافاتهم وصراعاتهم الكثيرة الكامنة، ويعكس نموذج الأمة تلك الوحدة الداخلية في اللحظة المقدسة المتمثلة في الاجتماع الشعبي.
31
خاتمة
في هذا الفصل، عددت بإيجاز بعض العمليات الأساسية لتكوين الأمة، وهي: تعريف الذات، وتنمية الموارد الرمزية، والأقلمة، ونشر ثقافة عامة متميزة، وتوحيد القوانين العامة والأعراف والالتزام بها. إلا أن جل ما تفعله هذه العمليات هو توفير الظروف الضرورية ل «ظهور» الأمم؛ فهي في حد ذاتها لا تفسر طول بقاء الأمم، ولا الطرق التي من خلالها يمكن لأفراد تلك الأمم النجاة من مخاطر الوجود الاجتماعي. إن ضمان صمود الأمم و«استمراريتها» يتطلب، بالإضافة إلى تلك العمليات، إنماء موارد ثقافية معينة للهوية القومية، وهذه الموارد هي: أساطير الأصل والانتخاب العرقي، والانتماء إلى أوطان مقدسة، وذكريات العصور الذهبية، ومثل التضحية والمصير. هذه الموارد الثقافية، كما سنرى، مشتقة في الأساس من موارد ثقافية لجماعات عرقية سالفة وتقاليد دينية قديمة؛ ومن ثم، يصبح من الضروري تفسير استمرارية الأمم وشكلها من حيث التقاليد الثقافية الطويلة الأمد النابعة في الأساس من أنواع معينة من تراث العالم القديم.
الفصل الثالث
المجتمع في العصور القديمة
إن أي محاولة لفهم التقاليد التي تكونت من خلالها مختلف أنواع الأمم والهويات القومية في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث؛ لا يمكن أن تتجنب وجهة نظر تاريخية عميقة تعود إلى الشرق الأدنى القديم والعالم اليوناني الروماني القديم، ويمكن لوجهة النظر تلك وحدها أن تمدنا بإطار تاريخي مقارن لدراسة «التاريخ السلالي» الثقافي للأمم. (1) الغائية و«الأمم القديمة»
رغم ذلك، فإن مناقشة احتمالية وجود أمم فيما قبل العصر الحديث تتطلب عناية فائقة حتى نتجنب، قدر الإمكان، أي عواقب للقراءة الغائية للسجل التاريخي.
في آخر نقاش جدلي في مدينة ووريك، قال إرنست جيلنر مازحا إن الأمم مثل آدم لا تحتاج إلى رحم للخروج منه. كل ما كان يلزم لتفنيد اعتقاد القوميين القائل بوجود أمم فيما قبل العصر الحديث، بل دحض زعم أن للأمم أصولا عرقية، هو إثبات تشكل ولو أمة واحدة فقط في العصر الحديث. وقدم حالة إستونيا، كمثال على الأمة بوصفها اختراعا حداثيا صرفا. ربما كانت توجد خيارات أفضل؛ لأن الإستونيين كانوا في الأصل شعبا من المزارعين يتكلمون لغة محلية في العصور الوسطى، وبعد الإصلاح البروتستانتي، الذي تمثل في الأدب والتعليم القائمين على التعاليم البروتستانتية، تعرضوا لغزو أخوية السيف تحت قيادة الأسقف ألبرت في القرن الثالث عشر، وحكمهم بعد ذلك كبار اللوردات الألمان حتى أوائل القرن العشرين. رغم ذلك، فالفكرة المقصودة فكرة جادة؛ إذ تسعى إلى تحجيم القراءة الغائية للأمم الشائعة لدى القوميين وما يلازم ذلك من ميل كثير من الباحثين إلى «القومية الرجعية»، وهذا أمر انتقدته أيضا سوزان رينولدز وجون بروييه بقوة.
إلا أن كلا من القراءة القومية للأمم والميل إلى القومية الرجعية ليسا ضروريين للحجة القائلة بأن كثيرا من الأمم الحديثة، لكن «ليس كلها»، ينطوي أساسه التاريخي على روابط عرقية من نوع أو آخر يمكن استخدامها كمصادر قوية لتكوين الأمة واستمراريتها، وليسا ضروريين أيضا للزعم الذي يقول إننا يمكننا الحديث عن وجود «بعض» الأمم فيما قبل العصر الحديث، سواء في العصور القديمة أو في أوائل الفترة الحديثة على نحو أكثر تأكيدا وإلى حد أبعد، وإن هذا لم يحدث بمحض صدفة. يتفق كلا الزعمين إلى حد بعيد مع موقف حداثي معتدل يرى أن معظم الأمم، في الواقع التاريخي، ظهرت بعد الثورة الفرنسية، مستعينة في حالات كثيرة بروابط ثقافية موجودة سابقا، لكن في حالات قليلة مشهورة (إنجلترا، وفرنسا، واسكتلندا، وغيرها) كان الإحساس بالهوية القومية، على الأقل بين النخب، واضحا قبل ذلك التاريخ بكثير. وهذا إلى حد بعيد هو الزعم الذي أرغب في طرحه في هذا الصدد.
نحتاج أيضا إلى أن نضع في اعتبارنا أننا في التاريخ المقارن وفي العلوم الاجتماعية نتعامل مع ممكنات واحتمالات، وليس مع فرضيات شبه ثابتة؛ لذلك، يجب نبذ المواقف البالغة التعصب التي يتبناها القوميون البدائيون (ليس كلهم بالمناسبة)، والحداثيون الراديكاليون في مثل مجالاتنا التي لا تعترف باليقين إلى حد بعيد. سيفهم موقفي على أنه القول بالاحتمالية، وليس الضرورة الغائية، وهذا ما يمكننا أن نطالب به في مجالات البحث تلك؛ لذلك، لا يوجد اتهام بالقومية الرجعية عند استقصاء أهمية العوامل العرقية في تكون الأمم والقومية واستمراريتهما.
في الفصل الأول قلت إن مفهوم الأمة باعتبارها فئة تحليلية يمكن، من الناحية النظرية، أن يشمل كل الفترات وكل القارات. هل هذا يوحي بأننا من الممكن أن نكتشف أشكالا تاريخية من المجتمعات القومية في أقدم سجلاتنا، أي في الشرق الأدنى القديم وفي العالم اليوناني الروماني القديم؟
في واقع الأمر، يشير السؤال إلى اتجاهين للبحث: أحدهما في تحديد الفترة، والآخر عن دراسة الأصول الثقافية. يتعلق الاتجاه الأول بمعايير وأدلة لتحديد تاريخ «أولى الأمم». المسألة في هذا الصدد مباشرة نسبيا؛ فإما أنه لا توجد سجلات تاريخية للهوية القومية - أو المجتمع القومي في هذه الفترة - وأن مفهوم الأمة لم يكن معروفا في العصور القديمة، أو أننا يمكننا أن نجد على الأقل بعض الأدلة على وجود شكل قومي من الجماعة والهوية، إلى جانب بعض عمليات تكوين الأمة. في كلتا الحالتين نحتاج إلى الانتباه إلى عدم السماح لفهمنا الحالي لمفهوم الأمة الحديثة بتوجيه تقييمنا لذلك الدليل بأثر رجعي.
أما الاتجاه الآخر من البحث في التراثات والأصول الثقافية، فهو أكثر تعقيدا؛ إذ يتطلب دراسة الأنواع المختلفة من الهويات الجمعية السائدة في العالم القديم لمعرفة إلى أي مدى وبأي طريقة قدمت تلك الهويات تراثا ثقافيا لعب دورا جوهريا لتكوين الأمم فيما بعد. هذا هو البحث الذي أعتقد أنه سيكون أكثر فائدة، وهو الاتجاه الذي سوف أتبعه في هذا الفصل وفي الفصول التالية. رغم ذلك، ثمة شيء لا بد وأن يقال فيما يتعلق بتحديد فترة نشوء الأمم، وسأتناول أيضا المسائل التي يثيرها هذا الأمر.
1
بالنسبة إلى الحداثيين، يمثل مصطلح «الأمة القديمة» تضاربا في المصطلحات؛ فنظرا لارتباط الأمم والقومية بعمليات التحديث الأكثر عمومية، فإن أي مثال على أمم وجدت قبل ظهور الحداثة هو محض صدفة. يتسم إرنست جيلنر - الأكثر صراحة بين الحداثيين في هذا الصدد - بالوضوح القاطع؛ إذ يقول إنه يحتمل وجود كل أنواع الهويات الثقافية والسياسية الجمعية قبل نشأة الحداثة، لكن لم تكن ثمة حاجة أو مجال للأمم. وصحيح أن سجلاتنا عن العصور القديمة تتحدث، في الغالب، عن كل أنواع الهويات الجمعية باستثناء الأمة. في الواقع، من المحتمل أن تكون قوة وصمود تلك الأنواع الأخرى من الهويات الجمعية - العشيرة والقرية، والدولة المدينة، والدين والإمبراطورية - قد حالت دون تطور تلك العمليات الاجتماعية والموارد الثقافية بعينها التي تساعد في إنتاج الأنواع القومية من الجماعة وتحافظ عليها. وهذا لا يعني القول إنه لا يوجد قدر كاف من الأدلة على وجود ثقافات مشتركة ونوع من الانتماء العرقي المشترك بين الجماعات السكانية في الشرق الأدنى القديم والعالم اليوناني الروماني القديم، حتى في بعض حالات تسييس الثقافة والانتماء العرقي القريبة الشبه بالنوع القومي للهوية والجماعة.
2
في هذا الفصل، سأستعرض بإيجاز ثلاثة أنواع من الهوية الجمعية والمجتمع الجمعي في العالم القديم، ألا وهي: الإمبراطورية، والدولة المدينة، والاتحاد القبلي، وسأوضح، في كل حالة، كيف أصبحت متشابكة بالاختلافات العرقية وتنمية حس الانتماء العرقي المميز. في الفصول التالية، أتمنى أن أوضح كيف قدمت هذه الأنواع الثلاثة من الهوية والجماعة التقاليد الثقافية والدينية التي ساعدت في تكوين الأنواع التاريخية المختلفة من الأمم وتشكيلها، في أوروبا والغرب على نحو أساسي. (2) الإمبراطورية والعرقية
أبدأ هنا بأيديولوجيات الإمبراطوريات القديمة. في الدعاية الملكية في مصر القديمة، كان يوجد تركيز قوي على الجماعة العرقية المحدودة وفروق واضحة بين النخبة المصرية وكل الأجانب. يوجد بلا شك قدر كبير من الحقيقة في رؤية عالم الآثار ستيوارت تايسون سميث التي تقول إن هذا كان إلى حد بعيد موضوعات أدبية وبلاغية، جزءا ضروريا من الدعاية الفرعونية موجها إلى الداخل، إلى النخبة المصرية وإلى الشعب المصري. رغم ذلك، اعتمادا على الأدلة التي عرضها، فإن المصريين ميزوا الحد العرقي بينهم وبين شعوب مثل جيرانهم النوبيين في الفنون والعمارة، واللغة والأدب، والملبس، والمأكل، وطقوس الدفن، بالإضافة إلى مجموعة الآلهة الخاصة بكل من المصريين وتلك الشعوب. في دراسة تايسون سميث للعلاقات المصرية بالنوبة، جارتها الجنوبية، أظهر تايسون سميث إلى أي مدى بلغ وضوح الفروق بين الخزف المصري والخزف النوبي في حصن أسكوت الحدودي، وإلى أي مدى بلغت أهمية المقبرة الكبيرة المزخرفة التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد المدفون فيها المراقب سي أمون في تومبوس في النوبة العليا. هذا يشير إلى أن فروقا عرقية أساسية ظلت ثابتة على مدار قرون عديدة، رغم تكرر زواج المصريين بالنوبيين والكميات الهائلة من المجوهرات النوبية، وأدوات التجميل، وتماثيل الإناث، وأيضا التحف والمباني المصرية التي وجدت في أسكوت. أي كما أوضحت مقاربة شون جونز الثقافية لعلم الآثار العرقي، فإن التبادل المستمر عبر الحدود أسهم في تقوية الفاصل العرقي لا إضعافه، والدعاية الفرعونية عن تفوق المصريين على «رؤساء كوش (النوبة) البائسين ... الذين يحملون جزيتهم على ظهورهم» - كما يقول أحد نقوش الفرعون أمنحتب الثالث - كانت تعزز ذلك الفاصل العرقي باستمرار.
3
في حقيقة الأمر، مع حكم الدولة الوسطى، كانت عملية تمصير النوبة قد بدأت. وأصبحت هذه العملية أكثر شدة بتعيين مراقب مسئول عن كوش في المملكة الجديدة في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد. كان السبب في إعادة الغزو يعود في جزء منه إلى رغبة الفراعنة في عدم وجود مملكة مشاكسة على جبهة ثانية أثناء حملتهم على فلسطين وسوريا، بينما يعود في جزء آخر إلى الرغبة في الاستيلاء على موارد النوبة الثمينة من الذهب والعاج والأبنوس وكذلك العبيد الأسرى.
4
لا تتفرد مصر بذلك التناقض بين الممارسة العرقية عن الأيديولوجية السياسية؛ حيث يمكن إيجاد نفس هذه الازدواجية في الإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد؛ فقد كان يوجد قدر كبير من التواصل والتبادل بين الأعراق في الحياة اليومية وفي التجارة والتزاوج.
شكل 3-1: القناع الذهبي لتوت عنخ آمون، يعود إلى عام 1350 تقريبا قبل الميلاد (المتحف المصري بالقاهرة).
شكل 3-2: رجال يجلبون الجزية من أفريقيا السوداء لتقديمها للفرعون تحتمس الرابع، تعود تقريبا إلى ما بين 1425 إلى 1417 قبل الميلاد (المتحف البريطاني).
كما هو معروف جيدا، كانت «لغة التواصل الوسيطة» في أواخر عهد المملكة الآشورية هي الآرامية، وليست الآشورية، وكان ثمة تأثير قوي للعبادات والنصوص الدينية البابلية في نينوى، وكانت القصور الآشورية تعج بمشغولات فينيقيا العاجية وأثاثها. بالإضافة إلى ذلك، فإن تهجير الشعوب المدحورة وتوطينها في الإمبراطورية الآشورية في آخر عهدها جعلها مدينة كوزموبوليتانية في تركيبتها بدرجة متزايدة. وينعكس هذا الأمر في النحت الآشوري؛ حيث أظهر النحت، وفقا لقول جوليان ريد، اختلاف مظهر الشعوب التي أخضعوها وثقافاتها، و«قد كانت هناك عناية فائقة في تسجيل الملبس والخصائص الأخرى المميزة للشعوب الأجنبية.»
5
مع ذلك، على الرغم من كل الدمج والاقتراض على مستوى الدولة فإن ملوك آشور ونخبتها لم يغفلوا مطلقا عن الهدف الأسمى للإمبراطورية، ذلك الهدف الذي يقول عنه ماريو ليفيراني إنه تحت غطاء الشكل المقدس «يكون أساس الأيديولوجية بالكامل (أي أساس الإمبريالية الآشورية) هو نظرية التنوع كمبرر لعدم الاتزان والاستغلال.»
6
شكل 3-3: جيحو ملك إسرائيل يقدم الجزية لملك آشور، مسلة شلمنصر الثالث السوداء، تعود إلى عام 825 تقريبا قبل الميلاد (المتحف البريطاني).
يسرد ليفيراني أنواعا مختلفة من التنوع - التنوع في المكان والزمان والبضائع والرجال، لا سيما التناقض بين قاطني الأراضي الداخلية وقاطني الأراضي المحيطة - بين الآشوريين المتحضرين وبين البربريين غير المتحضرين. في حين كان الآشوريون يرون أنفسهم بشرا كاملين وعاديين يمكن فهم لغتهم، بدا الأجانب غرباء ويتحدثون لغات غير مفهومة؛ ومن ثم فإن مثلهم كمثل الحيوانات. وفي نسق العلاقات المألوف بين الشعوب المهيمنة والشعوب الخاضعة، يتشابه النموذج الآشوري مع كل من النماذج البابلية والسومرية والأكدية السابقة؛ ومن ثم كان الحكم السياسي والمجتمع الذي بناه الملوك الآشوريون دولة عرقية هرمية في جوهرها، دولة كونتها ونظمتها «عرقية» مهيمنة، حكمت الشعوب التي أخضعتها واستغلتها.
7
حتى في ظل الحكم الفارسي الأقل وطأة، كان عدم التوازن في الهرمية العرقية واضحا. حقا إن الفن الدعائي للإمبراطورية الأخمينية يخلو من أي شكل من أشكال إهانة الأجانب المعهودة في الفن المصري الذي يظهر الأجانب متذللين، أو النقوش الآشورية البارزة التي تصورهم راكعين أو مقبلين قدم الملك. فعلى خلاف ذلك، نرى النقوش البارزة الشهيرة المنحوتة على سلم أبادانا في بريسبوليس تصور ممثلي مجموعات عرقية مختلفة يجلبون الهدايا لملك الفرس العظيم، وليس الجزية، في موكب هادئ محترم. في رأي كارل نيلاندر، يعبر هذا عن «فكرة خالدة تتمثل في التراتبية العالمية والكونية التي يحفظها الدعم الإلهي والولاء المتبادل بين الملك والرعية.» وهذه نقطة تدعمها إلى حد ما دراسة حديثة لجوزيف فيزاهوفر:
يقدم كل شعب للملك بعضا من المنتجات التي يتميز بها، أو منتجاته الفاخرة، ويرمز ذلك إلى التضامن بين الملك والرعايا، سواء كان هذا نابعا من إحساس صادق، أو كان بموجب أمر من الملك.
8
على الناحية الأخرى، كما يشهد نقش دارا الأول الشهير الذي يعود تاريخه إلى عام 519 قبل الميلاد الموجود على الواجهة الصخرية لجبل بيستون، فقد كانت الإمبراطورية الأخمينية قائمة على هرمية عرقية واضحة. ويؤكد دارا الأول نفسه على أصوله الفارسية، ويخبرنا هيرودوت أن الإمبراطورية كان يحكمها ملك مستبد ينحدر من أرستقراطية تراتبية من مقاطعة برسيس وقبيلتها باسارجاد، و«عشيرة (أخوية) الأخمينيين، التي ينحدر منها ملوك فارس.» تبرز الطبيعة العرقية لهرمية الإمبراطورية الفارسية التراتبية حقيقة أن عوام الفرس، صغار المزارعين بصفة أساسية، كانوا معفين من الجزية (أو «فوروس»)، التي كانت معظم الشعوب الخاضعة للفرس مطالبين بدفعها، باستثناء قليل من الشعوب المحيطة.
9
شكل 3-4: السلم الشرقي، قصر أبادانا، برسبوليس، يعود إلى عام 500 تقريبا قبل الميلاد.
إذا تأملنا النقوش والمنحوتات الملكية، فسنجد أن المزج نفسه بين التسامح والبنية الهرمية التراتبية واضحا؛ إذ إننا نعلم بفرمانات مختلفة انطوت على تعاطف ملكي مع الاستقلال الديني والثقافي للشعوب الخاضعة للفرس؛ فأخذ قورش الكبير بيد بعل بابل، وفرمانات قورش الكبير ودارا الأول بإعادة اليهود المنفيين إلى أورشليم، ما هي إلا الفرمانات الأكثر شهرة. من ناحية أخرى، يمكننا أن نفسر نقش دارا الأول في شوشان الذي يتحدث عن بناء قلعة شوشان بعمالة أجنبية بتفسيرين؛ فإما أنه تفاخر بالتناغم العرقي، وإما استباحة للاستغلال العرقي. إلا أننا حتى إذا ما تبعنا التفسير الذي يحظى بتفضيل أكبر، فسنجد أن أي اهتمام ملكي بشأن التنوع العرقي والاستقلالية الثقافية كانت توازنه المسافة السياسية والاجتماعية التي كان ملك الفرس العظيم وطبقته الأرستقراطية يبقونها بينهم وبين الشعوب الخاضعة لحكمهم، وقد عززت الطبيعة المغلقة للغة الفارسية القديمة وكتابتها وللدين الفارسي القديم المدون باللغة «الأفستية» هذه المسافة. ولم تسهم الصورة الرسمية للتناغم العرقي الهرمي في حماية الإمبراطورية من كثير من الثورات العرقية، كان أبرزها في مصر وإيونية.
10
في الممارسات اليومية، كان يوجد قدر كبير من التدفق العرقي والتعاملات المتكررة عبر الحدود، كما أوضح فريدريك بارت. إلا أن هذا ناهضه الثقل الأيديولوجي والعمل السياسي. وفي هذا الصدد، نجد أن الفروق العرقية متغلغلة في نسيج الأنظمة الهرمية للإمبراطوريات، والأجانب يعاملون عادة على أنهم مختلفون، وغير مفهومين، وأقل شأنا في الغالب. وعادة ما كان هذا النموذج ينسخ نفسه في فترات مختلفة وقارات مختلفة، وفي وقت لاحق أثبت أنه مصدر خصب لتكوين الممالك القومية. (3) الدولة المدينة والهوية العرقية
بالفعل في الألفية الثالثة قبل الميلاد، في السهول الرسوبية لسومر القديمة، كانت الدولة المدينة قد تطورت تماما كبؤرة للولاء الحصري. وفي عصر فجر السلالات، تنافس على السيادة عدد من الدول المدن مثل إريدو، وأور، وأوروك، ولاجاش، ونيبور، التي كانت كل منها تحت حماية واحد أو أكثر من آلهة السومريين، ومحكومة من قبل سيدها المحلي أو من قبل مجلس «إنسي»، ذلك المجلس الذي يضم كبار القوم وكهنة المعبد، لتقع في النهاية فريسة لطموحات سرجون الأكدي الذي أسس أول إمبراطورية في بلاد الرافدين حوالي عام 2350 قبل الميلاد. بعد سقوط الإمبراطورية الأكدية، حدث ازدهار قصير الأجل للثقافة السومرية في عهد سلالة أور الثالثة في نهاية الألفية الثالثة التي شهدت محاولة لإحياء «العصر الذهبي» في عصر فجر السلالات، قبل فترة جديدة من الغزو القبلي من قبل الجوتيين، واللولوبيين، والتدنوميين، والعيلاميين، وتبعه تنافس جديد بين الدول المدن وظهور بابل في نهاية المطاف. على مدار تلك الفترة، على الرغم من وجود مركز للطائفة السومرية في نيبور، وعلى الرغم من أن الدول المدن السومرية كونت شبكة من النشاط الثقافي والاقتصادي، فإننا في ريب من تحديد مدى إمكانية التحدث عن نوع واضح من العرقية السومرية، فضلا عن الوحدة العرقية. ربما كانت الثقافة هي الأمر المشترك الوحيد بين سكان تلك الدول المدن السومرية، وكانت متمثلة في اللغة السومرية وآدابها الثرية، وما تنطوي عليه من أساطير الأصول المشتركة، ومجموعة الآلهة السومرية التي عبدتها الدول المدن اللاحقة في بلاد الرافدين من أكاد إلى بابل، بل أضافت إليها.
11
وقعت تنافسات مشابهة بين الدول المدن «الكنعانية» الممثلة في سوريا ولبنان وفلسطين في العصرين البرونزي والحديدي. مرة أخرى، كانت السمات المشتركة لغوية وثقافية، وكانت أبرزها مجموعة الآلهة المشتركة، وطقوس التعبد في «الأماكن المرتفعة»، والمدن المحصنة الهائلة، بالإضافة إلى تطور اللهجة الكنعانية والكتابة الأبجدية الكنعانية. ورغم أننا نسمع عن «أرض كنعان»، ذلك الاسم الذي كان مألوفا عند المصريين في حكم الدولة الحديثة، والسوريين مثل الملك إدريمي، وكذلك في الكتاب المقدس، فإننا لا يمكننا أن نحدد الآن «ما إذا كان «كنعان» اسم إقليم أم اسما يشير إلى شعب في المقام الأول.»
12
الأمر المؤكد هو أن الدولة المدينة كانت مركز الولاء وحلبة النشاط السياسي والتجاري، لا سيما الدول المدن التالية: أوغاريت، وبيبلوس، وصور، وصيدا، وحاصور، ومجدو، وتل الجزر. ولم ينشأ أي مركز طائفي أو سياسي كنعاني، للسيطرة على الدول المدن المتحاربة في أغلب الوقت أو لتوحيدها، والأمر نفسه ينطبق على المدن الفينيقية، لقد كان الإغريق هم من أطلقوا اسم «فينيكس» على الكنعانيين الساحليين نسبة إلى الصبغة الأرجوانية المستخدمة هناك. ولم يعترف «الفينيقيون» أنفسهم أو العهد القديم بمصطلح «فينيقيا»؛ فالعهد القديم تحدث عن «الصيدونيين» وعن «ملك صور»، وما إلى ذلك.
13
إلا أن الدول المدن بلغت في الإمبراطورية الإغريقية أكثر أشكالها تطورا. حتى بين الأسلاف المسينيين، نجد أن ثمة بعضا من الدول المدن - مثل تيرنز وآرجوس وموكناي، التي كانت تحكم الريف المحيط - وضعت المعيار السياسي. وبطبيعة الحال، كما هو الوضع في كل مكان آخر، كانت صلات القرابة ضرورية في كل من الحياة اليومية والحكم السياسي، ولا سيما من أجل الخلافة النظامية على العرش الملكي. وكذلك كانت الحال في تتبع أنساب المجموعات الفرعية الإغريقية المختلفة التي ضمت الأيونيين والدوريين والأيوليين والبيوتيين. واستمر صدى هذه الانقسامات الثقافية والسلالية في العصر الكلاسيكي، بل استغلت حتى القرن الخامس كذرائع لسياسات الأثينيين «الأيونيين» والأسبرطيين «الدوريين» في الحرب البيلوبونيسية.
14
في العصر القديم (من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن السادس قبل الميلاد) بعد الإطاحة بالحكم الأرستقراطي، كونت «المدينة المستقلة» الإغريقية أخلاقياتها ومؤسساتها المميزة، لا سيما تحت حكم الطغاة الذين يقرنون في الغالب بنهوض «طبقة» محاربي الهوبليت أصحاب الأملاك. في هذه الفترة، كان أي حس بالهوية «الإغريقية» المشتركة ناتجا عن أساطير الأصل، والأنساب، والطقوس الصادرة عن مجموعات تزعم أنها انحدرت من نسل «هيلين» ملك ثيساليا، ذلك المكان الذي قال المؤرخ ثوسيديديس إن الإغريق الأوائل جاءوا منه. لربما عجلت حقوق المواطنة الجديدة المحصورة في الدول المدن الناشئة مع تشديدها المتزايد على الأرض والإقامة، وكذلك الأصل، في تحديد المواطنة. وعزز هذه العملية بالتأكيد الحروب الفارسية في أوائل القرن الخامس عندما أصبح شائعا التناقض النمطي بين رعايا ملك الفرس العظيم «البربريين» الأذلاء وبين الدول المدن الإغريقية «الحرة»؛ ذلك التناقض الظاهر بالفعل في مسرحية «الفرس» للروائي المسرحي إسخيلوس (472 قبل الميلاد).
15
إلا أن هيرودوت، مرة أخرى، كان من حدد وصاغ الهوية الإغريقية المشتركة، على ألسنة المبعوثين الأثينيين إلى أسبرطة عام 479 قبل الميلاد، تلك الهوية القائمة على:
تماثيل الآلهة والمعابد التي حرقت ودمرت ... والدم واللسان المشتركين بيننا نحن الإغريق، بالإضافة إلى أماكن التعبد المشتركة، والقرابين والعادات المتشابهة ...
16
شكل 3-5: مجموعة من الفرسان الشباب، الإفريز الشمالي للبارثينون، أثينا، يعود تقريبا إلى الفترة ما بين عامي 442 إلى 438 قبل الميلاد (المتحف البريطاني).
مع ذلك، وعلى الرغم من كل الأفكار التقليدية المتعلقة بالهوية الهيلينية (التي تضم كل الإغريقيين تحت مظلتها)، كان ولاء الإغريقيين الأول للدولة المدينة التي ينتمي كل منهم إليها. وعلى أي حال، لم يكن عدد المدن التي آلت إلى الفرس عام 480 قبل الميلاد قليلا، وقد كان التنافس التجاري والسياسي الشديد بين تلك الدول المدن، لا سيما التنافس بين أثينا وكورنثوس وأسبرطة، هو ما زج بالعالم الإغريقي إلى الحرب البيلوبونيسية (431-404 قبل الميلاد) الطويلة المريرة التقسيمية. وفي القرن التالي، لم تتمكن فكرة الهيلينية الجمعية لصاحبها الفيلسوف إيسقراط، ولا حملة الملك أجيسيلوس ملك أسبرطة على الفرس، من توحيد الدول المدن الإغريقية، واستلزم الأمر انتصار فيليب المقدوني في معركة خيرونيا لفرض الوحدة، ولو مؤقتا على الأقل. وعلى الرغم من معتقداتهم وممارساتهم الثقافية والدينية الكثيرة - في اللغة والأدب، والفن والعمارة، والمهرجانات والألعاب، بالإضافة إلى مجموعة الآلهة الأولمبية - فإن محاولات توحيد الهيلينيين سياسيا تحطمت على صخرة الولاء والوطنية الحصريين للدولة المدينة التي ينتمي إليها الفرد.
17
بالنسبة إلى كثير من الإغريق، كانت الدولة المدينة تمثل عالما منفصلا، وفي حالة أثينا، ربما مثلت في واقع الأمر صفة أكبر من مجرد صفة «الدولة المدينة». من حيث المساحة، وحجم السكان، والعدد الكبير ل «المتوطنين» - المقيمين الذين يتمتعون بحقوق اجتماعية مهمة، لكنها ليست حقوقا سياسية - شكلت أثينا ما أطلق عليه أرسطو «جماعة عرقية». ووفقا لإدوين كوهين، فإن الأثينيين في القرن الخامس اكتسبوا أيضا أسطورة تقول إنهم من سلالة السكان الأصليين المتحدرين من الملك إيريخثيوس. هل يسمح لنا هذا بأن نشير إلى أثينا وريفها المحيط بها المعروف باسم أتيكا بوصف «أمة» قديمة يعادل حجمها حجم أيسلندا؟ فعلى أي حال، كان لدى أعضائها إحساس واضح بالذاتية الجمعية «في مواجهة» الدول المدن الأخرى، وكانت لديهم أسطورة أصول مشتركة (تكونت لاحقا)، بالإضافة إلى انتماء قوي إلى الأرض، وثقافة عامة، وقوانين وأعراف موحدة. ورغم ذلك، إلى أي مدى كانت تلك الثقافة العامة مميزة وإلى أي مدى كانت مجموعة أساطيرها وذكرياتها ورموزها فريدة؟ ففي النهاية، كثير من هذه الأمور كان مشتركا مع بقية الإغريق، لا سيما مع الدول المدن المنتمية إلى نفس مجموعتهم العرقية الفرعية الأيونية. بالتأكيد، حاول بيركليس في خطاب التأبين الشهير الذي ألقاه، كما نقله ثوسيديديس، أن يغرس في نفوس مواطنيه الإحساس بالتفوق الثقافي لأثينا وبقيادتها السياسية لليونان، بالإضافة إلى مثال التضحية النبيلة بالحياة نفسها فداء لمدينتهم في الحرب البيلوبونيسية، إلا أن الحرب التي قتل فيها هؤلاء الأثينيون كانت حربا بين الهيلينيين، ولم تكن حربا يقاتلون فيها الفرس، والقيادة التي طمح إليها الأثينيون الذين خاطبهم بيركليس كانت على حساب حلفائهم في الحلف الديلي إلى حد بعيد. علاوة على ذلك، لم يقل بيركليس إن على مواطنيه أن «يحبوا» اليونان أو الهيلينيين، بل قال عليهم أن يحبوا دولة أثينا وحدها.
18
إلا أنه سواء اتفقنا مع اعتقاد إدوين كوهين وأفييل روشولد بأن أثينا يمكن أن تعتبر أمة ودولة قومية، فإن «الدولة المدينة» الإغريقية تركت تراثا ثقافيا مهما للعصور والدول اللاحقة. ويرجع السبب وراء ذلك من ناحية إلى طريقة استخدام الإسكندر المقدوني وخلفائه للدولة المدينة كنموذج لنشر الثقافة الهيلينية في الشرق الأدنى، ويرجع من ناحية أخرى إلى أن الولاء الشديد ل «الدولة المدينة» قد تشكل من شبكات هيلينية ثقافية ودينية مشتركة أوسع نطاقا؛ ونتيجة لذلك، أصبح مثال التضامن السياسي والحرية السياسية في «الدولة المدينة» جزءا من التراث الأدبي والفني الأوسع نطاقا لليونان القديمة؛ ذلك التراث الذي نقله الباحثون العرب والبيزنطيون إلى أوروبا الغربية في العصور الوسطى وفي أوائل العصر الحديث؛ مما قدم نموذجا للمجتمع الجمهوري القائم على شكل صارم من الوطنية والمساواة بين المواطنين. ومع العودة إلى العصور الكلاسيكية القديمة والإحياء الإغريقي، أصبح هذا النموذج مصدر إلهام لمثل الحكم الذاتي والوحدة اللذين سيجعلهما القوميون الحداثيون مبدأين أساسيين للدين العلماني الجديد للشعب؛ ومن ثم، فإن الدولة المدينة، بعيدا عن كونها النقيض التام للجماعات القومية والعرقية أو معيقة لها، أصبحت في واقع الأمر تمثل إحدى دعائم الأمة وقوالبها الأوسع انتشارا؛ حيث تمدها ببعض سماتها الخالدة وأشكالها التاريخية الأهم. (4) الهوية العرقية والاتحاد القبلي
للوهلة الأولى، قد يبدو النوع الثالث من الهويات الجمعية الثقافية والسياسية، ممثلا في الاتحاد القبلي، أكثر ارتباطا بالأشكال العرقية والقومية من المجتمع المدني. في واقع الأمر، يرى البعض أن «القبيلة» و«الجماعة العرقية» مصطلحان مرتبطان ارتباطا وثيقا، بل من الممكن استعمال أحدهما محل الآخر. إلا أننا إذا التزمنا بالمعنى الذي يرى أن القبيلة ليست مجرد جماعة ثقافية بل إنها التعبير السياسي عن تقسيم الأنساب، فإننا نستطيع أن نرى أن القبائل والاتحادات القبلية تستطيع أيضا أن تضعف أي حس بهوية عرقية أكبر نطاقا وتقوضه، فضلا عن إعاقة نشأة الأمم، كما تشير العداوات القبلية المتكررة.
من الأمثلة القديمة على مثل هذه الاتحادات القبلية «العمورو» أو «العموريون» الذين ظهروا لأول مرة في شمال سوريا في الوثائق الأكدية والسومرية في أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد. كانوا عمالا مهاجرين في مدينة سومر ومدينة أكاد، وكانوا معروفين باسم المارتو في اللغة السومرية، وبدا أن ترحالهم يشكل تهديدا للحياة الحضرية. وقد وصف هؤلاء القوم شبه الرحل على النحو الآتي:
المارتو الذي لا يعرف المنازل، الذي لا يعرف المدن، ذلك الرجل الهمجي الذي يعيش في الجبال ... المارتو، شعب من الغزاة، ذوو غرائز حيوانية، مثلهم كمثل الذئاب.
19
وفي وقت لاحق، اخترق العمورو الجدار الدفاعي الذي بني بالقرب من بابل لصدهم عن المدينة، وتولى أفراد من العموريين السلطة في المدن السومرية، وأخذ حمورابي ملك بابل لقب «لوجال عمورو» أي ملك عمورو. إلا أنه في هذه الفترة كانت القبائل «الأمورية» مثبتة كلا بصفتها الفردية على النحو الآتي: الهانيون، والسوتيون، وقبيلة أمنانو، وقبيلة رابو، وهكذا. ومن الواضح أنه نظرا لتفرقهم في القرى، وعملهم كفلاحين، وكرعاة شبه رحل، فقد فشلوا في التجمع في اتحاد يضم كل القبائل العمورية، وبعيدا عن مملكة أمورو في وسط سوريا في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، فقد أصبح اسمهم مجرد ذكرى أو مصطلحا جغرافيا في سجلات التاريخ الآشوري.
فيما يتعلق بمثال الاتحاد الآرامي الذي تشكل لاحقا، فإنا نقف على أرض أكثر صلابة. في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، سجل عديد من الممالك الآرامية، كان أبرزها آرام صوبا، وآرام دمشق، وأرفاد في سوريا، وآرام النهرين، وبيت عديني، وبيت زماني في شمال بلاد الرافدين، وبيت داكوري، وبيت أموكاني في جنوب بابل بالقرب من الخليج الفارسي. ولو كانت تلك الممالك قد شكلت تهديدا للمملكة الآشورية في القرن الحادي عشر والقرن العاشر قبل الميلاد، ولمملكة إسرائيل في القرن التاسع قبل الميلاد، فمن المحتمل أن الانتشار الجغرافي الواسع لتلك الممالك وتنظيمها غير المتجانس قد حال دون تحقيق وحدة ثقافية مستقرة، فضلا عن تحقيق وحدة سياسية. حتى الهجمات الآشورية المتعاقبة على الممالك الآرامية في سوريا من القرن التاسع وحتى القرن السابع فشلت في استنفار مشاعر الآرامية الجمعية، على الرغم من أنها وحدت قطاعات من الآراميين تحت قيادة الدولة المدينة المسيطرة في تلك الفترة؛ دمشق في القرن التاسع وأرفاد في القرن التاسع قبل الميلاد.
20
هذا لا يعني القول إن الآراميين لم يتشاركوا ممارسات ثقافية مشتركة؛ فمع ذلك كله، كانت توجد لغة آرامية وكتابة آرامية. وكانت هناك أيضا الأهمية المتزايدة لعبادة إله العواصف الآرامي، هدد، في سوريا على الأقل. وبعد ذلك، كانت توجد التحالفات المتكررة للممالك الآرامية ضد المملكة الآشورية. ولهذه الأسباب، كما قال ستيفين جروسبي، كان من الممكن أن يكون الآراميون في سوريا جنسية ناشئة؛ وهذا استنتاج معقول من نقوش لوح قرية سفيرة البازلتي الذي يعود إلى حوالي عام 750 قبل الميلاد، والتي تسجل معاهدة بين اثنين من الملوك الآراميين، متع أيل (ملك أرفاد) وبرجاية - ملك كتك (مملكة غير معروفة) - والتي تتحدث عن «كل آرام»، وهو ما قد يشمل «آرام العليا» و«آرام السفلى».
21
من ناحية أخرى، قيل إن اللغة الآرامية المشتركة، ونظام كتابتها، أصبحت منتشرة على نطاق واسع حتى إنها كانت تمثل «لغة التواصل الوسيطة» في الشرق الأدنى في الألفية الأولى، وسبب ذلك يعود جزئيا إلى عمليات تهجير الآراميين الواسعة النطاق على يد ملوك آشور، وكان الحكام الآشوريون يستخدمونها في مخاطبة رعاياهم؛ لذلك، بدلا من المساعدة في تمييز «عرقية» آرامية، قال البعض إن اختلاط الشعوب قسريا واعتيادهم على اللغة المشتركة كانا من العوامل الرئيسية لظهور الدولة القومية «الآشورية». وكيفما كانت الحال، لم تتمكن اللغة الآرامية المشتركة ولا صدارة عبادة الإله هدد من تكوين وحدة أوسع نطاقا ولا إزاحة آلهة المدن الآرامية المحلية عن عرشها، أو منع النزاعات المتكررة على الحدود بين الممالك الآرامية المختلفة.
22
ربما توجد أدلة أقوى على اعتبار قبائل الأدوميين شبه الرحل وحدة ثقافية، إن لم تكن سياسية. يوضح جروسبي أنه في رواية الكتاب المقدس، يظهر الأدوميون كمملكة موحدة تعيق مرور بني إسرائيل المشردين بعد خروجهم من مصر. ويشير سفر العدد إلى شعب يسمى «أدوم» (الأدوميين) وإلى أرض «كل أدوم»، لها حدود تسيج جبل سعير (سفر العدد 20: 16، 23). ونعلم أيضا أنهم في القرن التاسع قبل الميلاد انخرطوا في تحالفات سياسية وصراعات مع حماة، وصور، وصيدا، وكذلك مع مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا. مرة أخرى، يبدو أنه كان يوجد رب أعلى هو قوش، أو ربما مجموعة من الآلهة ضمت إلهة اسمها أدوم، لكنه من غير المعلوم إلى أي مدى كانت عبادة قوش مهمة لهوية الشخص الأدومي. بالنسبة إلى مؤلفي الكتاب المقدس، فإن أدوم والأدوميين كانوا قريبين من مملكة يهوذا، من ناحية الأرض والأنساب القبلية، وتوجد تلميحات على أن عبادة يهوه نشأت في أراضي الأدوميين، على الرغم من أنهم تحولوا قسريا بعد ذلك بكثير إلى اليهودية على يد السلالة الحشمونية الملكية. إلا أنه من غير الواضح إلى أي مدى كونوا مجتمعا عرقيا منفصلا (عرقية) يمتلك أسطورة أصل مشترك وذكريات وثقافة مشتركتين.
23 (5) حالة «إسرائيل القديمة»
لا تتوافر لدينا أدلة كافية تجعلنا نقدر إلى أي مدى يمكننا التحدث على نحو مشروع عن جماعة وهوية قوميتين وعرقيتين إلا عندما نتناول الاتحاد القبلي الإسرائيلي. ربما تكون هذه الأدلة كافية، لكنها ليست قاطعة، كما تشهد كل الآراء المتصارعة الكثيرة التي تتناول كل جوانب «إسرائيل القديمة». من ناحية أخرى، فإن الأهمية الطويلة الأمد لتجارب مملكة إسرائيل القديمة ومملكة يهوذا القديمة في تكوين الأمم لاحقا تتمتع بأهمية لا تدع مكانا للمغالاة.
وجد اسم «إسرائيل» لأول مرة على اللوحة التذكارية للفرعون مرنبتاح (حوالي عام 1210 قبل الميلاد) التي تسجل الأماكن والمجموعات العرقية التي يزعم أنه غزاها أو دمرها في كنعان. إلا أنه ليس واضحا ما إذا كانت إسرائيل المذكورة في هذا الصدد وصفا إقليميا أم وصفا عرقيا أم كليهما. تظهر إسرائيل بعد ذلك على اللوحة التذكارية للملك ميشع ملك مؤاب (حوالي عام 830 قبل الميلاد) وفي سجلات التاريخ الآشورية على أنها مملكة الشمال المذكورة في الكتاب المقدس، بالإضافة إلى مملكة يهوذا الجنوبية. في سفر يشوع وسفر القضاة، نقرأ سلسلة من الصراعات بين الأسباط الإسرائيلية والعديد من «القبائل» والدول المدن الكنعانية، والفلسطينيين، والأدوميين، والعمونيين، والمؤابيين. قد يشير ذلك إلى قدر من الوحدة السياسية، بل ربما إلى حلف يشبه ذلك الحلف الذي طرحه مارتن نوث ذات مرة. إلا أن سفر القضاة يبرز أيضا الانشقاقات بين الأسباط الإسرائيلية المختلفة، أولئك الموجودين في الجنوب، وأولئك الموجودين في الشرق قبالة الأردن، في المنطقة الجبلية الوسطى، وبقية الأسباط الشمالية المنفصلة، ولم يبد أن العبادة الرئيسية للإله يهوه قد حققت تأثيرا سياسيا كبيرا.
24
مسألة أصول إسرائيل وإيمانها الفريد بيهوه - وهذه مسألة لا يزال الباحثون ينقسمون حولها - مرتبطة بأصول وطبيعة العهد الذي يميز أسباط بني إسرائيل عن غيرهم، العهد الذي كان له عميق الأثر على تكوين الأمم لاحقا. حتى إذا كانت «إسرائيل» تشير في الأصل إلى جماعة مختلطة الأعراق تضم البدو الآراميين من الشرق والفلاحين الكنعانيين الذين هربوا إلى المنطقة الجبلية في أعقاب سقوط الحكم المصري بعد عام 1300 قبل الميلاد، فإن محورية قبيلة أفرايم الواقعة في منطقة الجبل، تلك القبيلة التي ينتمي إليها يشوع خادم موسى، واندماج عبادة يهوه بعبادة «إيل» الإله الأعلى عند الكنعانيين تدريجيا؛ مثلت بداية عملية طويلة لبناء وحدة أيديولوجية، إن لم تكن وحدة سياسية دائمة. بالإضافة إلى ذلك، في حين يتعامل بعض الباحثين أمثال يوستا آلستروم مع رواية سفر الخروج وروايات أسفار موسى على أنها ثانوية، يجد غيرهم مثل إيرفينج زايتلين توافقا كبيرا بين سرد الكتاب المقدس في أسفار موسى الخمسة والعادات والأعراف في الشرق الأدنى في تلك الفترة. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، تظل الحقيقة متمثلة في أنه بحلول عصر شاول الملك (حوالي عام 1000 قبل الميلاد)، حققت أسباط بني إسرائيل التي تقطن المنطقة الجبلية، مع سبط بنيامين وسبط يهوذا، قدرا كبيرا من الوحدة السياسية، جعلت أحد الباحثين على الأقل يزعم أن عددا من أسباط بني إسرائيل أقروا فعليا بعلاقتهم الوثيقة، بل ب «اتحاد قومي متلاحم قائم على الدين»، لكن دون تعريف معنى مصطلح «قومي» تعريفا واضحا في تلك الفترة، أو في غيرها.
25
إن جدل الباحثين حول مملكة إسرائيل الموحدة يثير القدر نفسه من الشقاق؛ إذ يرفض بعض الباحثين هذه الفكرة باعتبارها دعاية حدثت بعد النفي البابلي، بينما بعض آخر من الباحثين على استعداد لقبول نسخة مختصرة من الرواية الواردة في سفر الملوك الأول. مرة أخرى، فالأمر المهم هو أسطورة المملكة المجيدة التالية، مملكة داود الشجاع وسليمان الحكيم، وهما المؤلفان المفترضان لكثير من المزامير والحكم. أصبحت مملكة إسرائيل الموحدة تمثل «عصرا ذهبيا»، إلا أن الانقسام المرير للمملكة الموحدة الذي حدث لاحقا إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا جعل ذكراها مدعاة للحسرة. ورغم ذلك، فمنذ البداية كانت النظرة إلى الملكية في إسرائيل نظرة متناقضة - فقد كانت ترى على أنها مقدسة، بل مسيحانية، لكن في الوقت ذاته، كان يرى أن الشبهات والفساد ضاربان في جذورها، كما أجزل الأنبياء في توضيح ذلك - مثل هذا التناقض سيتكرر في الحضارة الغربية ويلازمها.
26
على الرغم من الانقسامات اللاحقة، فباختيار أورشليم عاصمة وبناء الهيكل هناك، وفر داود ومملكة إسرائيل الموحدة أساسا لنشأة الانتماءات الإقليمية وثقافة عامة مميزة ترتكز على عبادة يهوه. وفيما شهدت مملكة إسرائيل الشمالية صراعا مستمرا بين عبادة الإله بعل الفينيقية السائدة وبين عبادة يهوه، كما هو مدون في مجموعة قصص إلياس، فإن مملكة يهوذا الجنوبية الأصغر مساحة، رغم ما واجهته هي أيضا من متاعب مع العبادات الدخيلة، تمكنت من اتباع سياسة وحدة دينية أكثر اتساقا تقوم على تقديس الهيكل ومثال العهد. وحتى في هذه المملكة، لم تتمكن عملية الإصلاحات الدينية الكاملة من البدء إلا بعد دمار المملكة الشمالية على يد الإمبراطورية الآشورية عام 722 قبل الميلاد وهروب الكثير من لاجئي الشمال حاملين معتقداتهم الدينية إلى مملكة يهوذا. ومنذ عهد حزقيا في أواخر القرن الثامن وحتى عهد الملك يوشيا في أواخر القرن السابع، بدا أن مملكة يهوذا وشعبها قد أصبحوا أكثر وعيا بأنفسهم كمجتمع عرقي يعبد إلها واحدا دون إنكار إمكانية وجود آلهة أخرى، مع وجود إحساس أكثر وضوحا بالأصول والذكريات التاريخية المشتركة. ساعد على هذا التطور أربعة عوامل، هي: تأثير ملوك لينين سهلي الانقياد مثل حزقيا، وتأثير النشاط التنبئي لإشعياء وميخا وصولا إلى إرميا وحزقيال، واكتشاف سفر الشريعة في الهيكل عام 621 قبل الميلاد، والتحرير المحتمل لسفر التثنية والأسفار التاريخية. وفي المقام الأول، كان ذلك نتيجة لظهور الثقافة النصية التي انتشرت من البلاط الملكي والهيكل في العاصمة، بعد التوسيع السريع لأورشليم في أعقاب تدمير المملكة الآشورية لمدينة السامرة عام 722 قبل الميلاد وغزو سنحاريب لمملكة يهوذا عام 701 قبل الميلاد. وساعدت رغبة البلاط الملكي في استعراض القوة والشرعية من خلال تأسيس مكتبة، كتلك الموجودة في مصر وفي آشور - وما ارتبط بذلك من زيادة في معرفة القراءة والكتابة - في تدوين وتشكيل الذكريات والأساطير والتقاليد لكل من لاجئي الشمال وقبائل الجنوب في صورة تاريخ عرقي متماسك يتمحور حول العصر الذهبي لداود.
27
يعتبر كثير من الباحثين أن إصلاحات الملك يوشيا (639-605 قبل الميلاد) كانت ضرورية لتكوين الكتاب المقدس ونشأة الوعي اليهودي العرقي. على الرغم من انقسام الأثريين حول «التوافق» بين كثير من الملاحظات الجغرافية والعرقية في أسفار موسى الخمسة وتوسع مملكة يوشيا في أعقاب الانسحاب الآشوري بعد عام 628 قبل الميلاد، فالخلاف ضئيل حول أهمية حملة يوشيا الدينية ضد العبادات الأجنبية والأماكن المرتفعة («أشيرة» و«باموت»)، واكتشاف شريعة التثنية في الهيكل، والقراءة العامة لتلك الشريعة التي نظمها الملك على هذا النحو:
وصعد الملك إلى بيت الرب وجميع رجال يهوذا وكل سكان أورشليم معه، والكهنة والأنبياء وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقرأ في آذانهم كل كلام سفر الشريعة الذي وجد في بيت الرب. (سفر الملوك الثاني 23: 2)
يرى ستيفين جروسبي أن هذه الأحداث تشهد على نمو إحساس بالمجتمع القومي والهوية القومية: يوجد مشاركة من عوام الناس، ونشر للثقافة العامة، والتزام بالقوانين العامة والعادات المشتركة، وارتباط متزايد بأرض مشتركة «من دان إلى بئر سبع»، التي سعى يوشيا إلى استردادها.
28
وحتى إذا قبلنا زعم جروسبي القائل بأن فكرة القومية يمكن إدراكها في هذه الفترة، فإننا نحتاج إلى توخي الحذر؛ فأولا: كان هذا الأمر على الأرجح متعلقا بالنخبة، وكان مقتصرا على أورشليم وضواحيها المتاخمة. ويكشف استمرار عبادة الأوثان في الريف حدود أي إحساس بالمجتمع القومي القائم على تعاليم دينية مشتركة. ثانيا: كان ظهور فكرة القومية لفترة قصيرة للغاية؛ فبعد موت يوشيا في إحدى المعارك عام 609 قبل الميلاد، وتهجير نخب مملكة يهوذا إلى بابل على يد نبوخذ نصر عام 597 قبل الميلاد، وأخيرا سقوط القدس عام 586 قبل الميلاد، يكاد يكون من المؤكد أن سكان الريف المتبقين استمروا في عباداتهم الوثنية السابقة. مرة أخرى، كان إحياء الإحساس بالهوية العرقية اليهودية والتوحيد الديني مقتصرا على النخب، الذين جمعوا كتابات ما قبل النفي البابلي وعدلوها في بابل، وعاد بعضهم وأعادوا بناء الهيكل في أورشليم بعد عدة سنوات من قرار التسامح الديني الذي أصدره قورش عام 538 قبل الميلاد. ومع ذلك، فإن مقاطعة يهوذا الفارسية الصغيرة والمهجورة لم تزدهر مجددا إلا من خلال تدخل نحميا كمبعوث للملك ومن خلال إصلاحات عزرا الكاتب، لا سيما حظره للزواج من السكان المجاورين. ولم يساعد في تحديد العضوية في المجتمع إلا القراءة العامة للتوراة على يد عزرا وتبجيله شريعة موسى، كما يقول بيتر أكرويد :
توجد قيود مفروضة على الزواج، ويوجد تأكيد على النقاء، وعلى تحديد المجتمع من حيث قبوله للإله؛ فالزيجات الأجنبية، ومن ثم الدين الأجنبي، يمثلان تهديدا لحياة المجتمع.
29
هل يمكننا الحديث عن مجتمع قومي «متجدد»، لكنه صغير ومحفوف بالمخاطر، على الرغم من هذا الدليل الذي يشير إلى مجتمع عرقي مزدهر محدد من الناحية الدينية والشعائرية، مجتمع استمر يجمع وينظم أساطير الأصل والتاريخ العرقي المقدس ويسن الشعائر باللغة العبرية المقدسة؟ للأسف، لا توجد أدلة كثيرة تشير إلى الفترة الفارسية وبداية الفترة الهلينستية، باستثناء استنباطات من أواخر عهد الفريسيين إلى أوائل عهد رجال الكنيس العظيم. ولا يمكننا البدء في إدراك سمات المجتمع القومي - رغم كونه مجتمعا مقسما وخاضعا لضغوط متصارعة - إلا مع الانقسام بين اليهود الهلينستيين والحسيديين في أورشليم في عهد السلوقيين في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وثورة المكابيين اللاحقة عام 167 قبل الميلاد على الظاهر أنطيوخوس الرابع إثر محاولاته الضالة للنيل من الاتساق الديني والثقافي من خلال ترسيخ عبادة زيوس في الهيكل. ونظرا لأن اليهود كانوا يدورون في فلك التوحيد، والتوراة، والهيكل، وبدءوا يعرفون معنى الانتماء إلى اليهودية في ضوء الجانب الديني والجانب الطقسي، فقد أصبح اليهود يعتبرون على نحو متزايد أمة منفصلة لها ما يميزها من ثقافة عامة وقانون ولغة وأرض، على الرغم من أنهم تشاركوا في جوانب كثيرة من ثقافتهم المادية مع العالم الهلينستي من حولهم.
30 (6) هل من أمم في العصور القديمة؟
من واقع تلك الدراسة البالغة الإيجاز لحالات مختارة من الهويات الجمعية الثقافية والسياسية والمجتمعات في العالم القديم، يمكننا الآن أن نتساءل إلى أي مدى كان الإحساس بالانتماء العرقي المشترك سائدا، وهل كان من المنطقي الحديث عن «الأمم» في العصور القديمة. في هذا الصدد، لا يسعني سوى طرح بعض الاستنتاجات المؤقتة:
أولا: يبدو أن أكثر أشكال الهويات الثقافية والسياسية الجمعية شيوعا وانتشارا - فوق مستوى العشيرة والقرية - كانت الدولة المدينة والاتحاد القبلي. حتى الهويات الإمبراطورية نشأت في أحد هذين النوعين من المجتمعات (الدول المدن في بلاد الرافدين والتجمعات القبلية في حالة الميديين والفرس) وظلت تعتمد على هذين الأساسين. وتمثل مصر استثناء جزئيا من هذا التعميم، على الرغم من أن مدنا مثل منف وطيبة لاحقا كانت أساسا لقيام أسر متعاقبة.
ثانيا: ما لم يتبن المرء تعريفا لمفهوم «القبيلة» يجعلها مساوية لمفهوم المجتمع العرقي أو «الجماعة العرقية»، فسنجد أن الروابط العرقية نادرا ما كانت أساسا لمجتمع كامل وحصري في العالم القديم. بل نجد أنها تتضافر عادة مع كل أنواع الهويات والمجتمعات الثقافية والسياسية. بالإضافة إلى ذلك، في أغلب الأحيان، يبدو أن الآخرين هم من كانوا ينسبون العرقية لغيرهم من الشعوب، ولم تكن تلك الشعوب تنسبها لنفسها بالضرورة، كما في حالة الدول المدن «الفينيقية» التي تعرضنا لها سابقا.
ثالثا: عندما تكون الروابط العرقية واضحة، يمكننا أن نميز ثلاثة مستويات للمجتمع؛ في المستوى الأول، الذي أطلقت عليه «الفئة العرقية» في الفصل الثاني: نجد تجمعات غير مترابطة لديها بعض ممارسات ثقافية متشابهة من منطقة معينة، فئة إقليمية وثقافية لها اسم سجله الغرباء، مثل الجوتيين واللولوبيين الذين ساعدوا في الإطاحة بسلالة أور السومرية نحو عام 2000 قبل الميلاد. وفي المستوى الثاني، الذي وصفته ب «الشبكة العرقية»: فإن تلك المجموعات التي تتمثل عادة في قبائل أو دول مدن، تكون مجالا من النشاط الثقافي يظهر قدرا من التشارك الثقافي، لكنه نادرا ما يظهر أي وحدة سياسية، وفي هذا الصدد أشرت إلى الاتحادات القبلية الآرامية والدول المدن السومرية. وليس من السهل دائما التمييز بين الشبكات العرقية والفئات العرقية، لكن على النقيض من الفئات العرقية، فإن أفراد النخبة في الشبكات العرقية يميلون إلى امتلاك أساطير الأصل المشترك والذكريات المشتركة، وربما قليل من التضامن.
أعتقد أن ما يميز «الجماعة العرقية» هو تطوير ذكريات مشتركة لتأخذ صورة «تاريخ عرقي» مركب من النوع الذي نجده في اليونان القديمة، في كتابات هيرودوت وثوسيديديس، وكذلك في إسرائيل القديمة. في حالة اليونان القديمة، على الرغم من تأثيرات القوى المناهضة للولاء للدول المدن، كانت المجتمعات الناطقة بالإغريقية والعابدة لآلهة الأوليمب تدرك صلة قرابتها وأساطير السلف المشترك الخاصة بها (على الرغم من الاختلافات الكثيرة بين تلك الأساطير)، وكانت تفتخر باختلافها عن «البربريين» من غير الإغريق، وتفوقها عليهم، وهذا أمر ميز على نحو واضح مستعمراتها عن جيرانها من شعوب البحر المتوسط. لهذا السبب، حذا موزيس فينلي حذو ماينيكه وأطلق على الإغريق مصطلح «أمة ثقافية» - وهو وفق مصطلحاتي يعني «مجموعة عرقية» تجمع بينها أساطير السلف المشترك، والذكريات التاريخية المشتركة، وثقافة مشتركة، وقدر من التضامن - بسبب عدم وجود وحدة سياسية وإقليمية. وتنطبق اعتبارات مماثلة على بني إسرائيل. ذات مرة، قضت مواجهة الهجمات الفلسطينية على انشقاق القبائل الإسرائيلية، لكن بعد أن تخلص الملك داود من هذا التهديد، عاودت الخلافات الظهور بين القبائل الشمالية والقبائل الجنوبية وانقسمت مملكة إسرائيل. ومع ذلك، لم يؤد هذا إلى تدمير الروابط الثقافية الوثيقة بين القبائل، ودون تاريخ مملكة إسرائيل جنبا إلى جنب مع تاريخ مملكة يهوذا، وضمن كلاهما في سفري الملوك الأول والثاني.
31
لكن أخيرا، هل يمكننا الحديث عن وجود «أمم» في العالم القديم؟ هل يمكن أن نلاحظ على الأقل بعضا من العمليات المحفزة لتكوين مجتمعات شبيهة بالنوع المثالي للأمة؟ إذا قبلنا التعريف الذي طرحته في الفصل الأول الذي عرف الأمة بأنها مجتمع بشري له اسم ووصف ذاتي يكون أفراده أساطير، وذكريات ورموزا، وقيما، وتقاليد مشتركة، يقيم في موطن تاريخي، وينشر ثقافة عامة، ويراعي قوانين وعادات مشتركة؛ فإنني أعتقد أننا يمكن أن نبين أن بعض هذه العمليات الأساسية كانت فاعلة، وأنه في حالات قليلة للغاية شجعت تلك العمليات تكون الأمم، على الأقل في بعض فترات من وجودها. ومن أجل هذا، يمكن تناول أربع حالات من العالم القديم؛ ثلاث إمبراطوريات ومملكة: الإمبراطورية الآشورية الجديدة، والإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية المصرية القديمة، ومملكة يهوذا، التي أصبحت لاحقا مملكة يهودية الرومانية.
في ضوء التعارض المنطقي، قد يبدو غريبا افتراض أن الإمبراطورية يمكن أيضا أن تكون أمة أو تكون امتدادا لها، أو العكس. إلا أنه يسعدنا تماما الاعتراف بأن الأمة الفرنسية في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، كانت لها «إمبراطوريتها»، أو على نحو أكثر تحديدا، القول إن الدولة الفرنسية التي حازت إمبراطورية قد أصبحت مجتمعا قوميا، أو كانت في طريقها لأن تصبح كذلك. ألا يمكن إذا أن ينطبق الأمر نفسه على العالم القديم؟
32 (6-1) الإمبراطورية الآشورية الجديدة
إن وصفنا للإمبراطورية الآشورية الجديدة بوصف الأمة يمكن أن يعني أن الآشوريين كونوا أمة بأنفسهم، أثناء حكمهم لعدد من المجتمعات الأخرى، أو أن الإمبراطورية الآشورية بأكملها، في مراحلها اللاحقة، قد أصبحت أمة واحدة أو كانت في طريقها لأن تصبح كذلك.
أوضحت من قبل الطبيعة الهرمية والاستغلالية للحكم الآشوري، لكن ماذا عن الآشوريين أنفسهم؟ لقد كانوا مجتمعا له اسم وتعريف ذاتي، وله أسطورة أصل أرستقراطية نابعة من مدينة آشور وإلهها الذي تحمل اسمه، وتشاركوا في ذكريات إنجازات ملوكهم المدونة في السجلات الملكية، وتشاركوا في اللغة، وساد في وسط النبلاء الشعور بالفخر بالمكانة والإحساس بالتفوق على العوام في طبقاتهم وعلى الشعوب الخاضعة لهم. نظرا لهذا التضامن النخبوي، يمكننا التحدث على نحو مشروع عن مجتمع عرقي آشوري.
من ناحية أخرى، من النادر وجود أدلة على وجود مشاعر خاصة تجاه الوطن الآشوري أو شعور بقدسية الأرض خارج «أرض آشور» نفسها، ولم تكن توجد عاصمة واحدة منفردة. فيما عدا بعض عبادات الآلهة الآشورية، وبعض فنون القصر الآشوري والدعاية الملكية، يبدو أنه لم يبذل جهد كبير في نشر الثقافة الآشورية العامة في أرجاء الإمبراطورية. من المحتمل أن الأسرى أو زوار مدينة النمرود أو مدينة نينوى كانوا يشعرون بالرهبة، لكننا لا نسمع إلا القليل عن نشر الثقافة الآشورية العامة إلى عوام الآشوريين، فضلا عن الشعوب الأجنبية الخاضعة للإمبراطورية. علاوة على ذلك، فكما ذكرت من قبل، كانت الثقافة الآشورية الجديدة مدينة إلى حد بعيد للنصوص الدينية المكتوبة بالمسمارية وللثقافة الأدبية الأكدية لبلاد بابل؛ تلك النصوص التي كانت تمثل المرجعية وتلك الثقافة التي مثلت العصر الذهبي اللازم إحياؤه. أما عن توحيد القوانين والعادات العامة، فبعيدا عن الجزية المعتادة، والتجنيد العسكري، وبعض المراسيم الملكية، سمح على نحو ضمني لغالبية الرعايا الذين ظلوا في أراضيهم بالاحتفاظ بعاداتهم وقوانينهم المحلية .
33
على صعيد آخر، هل يمكننا وصف الأراضي التي ضمتها الإمبراطورية الآشورية الجديدة والمجتمع الذي أنشأته بالدولة القومية، على الأقل في مراحلها الأخيرة؟ هذه فرضية قدمها مؤخرا سيمو باربولا. مع وضع النموذج الأمريكي في الاعتبار، زعم باربولا أن عمليتي التهجير المنتظم والاستيعاب الثقافي ساعدتا في تكوين مجتمع جديد أكثر تماسكا وتجانسا؛ فعن طريق إجبار شعوب الشرق الأدنى القديم على الاختلاط مع غيرهم، ومنحهم الكثير من حقوق المواطنة، واستيعابهم عن طريق لغة مشتركة تمثلت في الآرامية، وعن طريق كتابة مشتركة تمثلت في الأبجدية الآرامية، كان الآشوريون لأول مرة في التاريخ يكونون أمة قومية على نحو واع. إنها فرضية جذابة. لا شك أن تلك التوجهات ساعدت بالفعل في تعزيز مجتمع جديد أكثر عالمية وتنوعا من خلال تحطيم عزلة شعوب الشرق الأدنى القديم. ومن ناحية أخرى، فإن النظير الأمريكي مضلل. لقد كانت الولايات المتحدة، وما زالت، مجتمع مهاجرين يختار أعضاء مجموعاته العرقية المختلفة الدخول فيه ويتبنون طواعية أسلوب الحياة الأمريكي مع احتفاظهم بكثير من تقاليدهم ومعتقداتهم وعاداتهم. بالإضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة منذ البداية جمهورية شعبية قائمة على الأيديولوجية القومية المدنية لآبائها المؤسسين. ومثل هذه الأيديولوجية القومية لا يمكن العثور عليها في الإمبراطورية الآشورية؛ فالهجرة كانت قسرية إلى حد بعيد، وعلاقة الحكام الآشوريين بالشعوب الخاضعة لهم كانت استغلالية في العموم، كما رأينا. في جوهر الأمر، ظلت الإمبراطورية الآشورية حالة هرمية عرقية قائمة على القوة العسكرية والهيمنة الاقتصادية. إن الابتهاج العام شبه العالمي الذي صاحب انهيار الإمبراطورية الآشورية، والاختفاء شبه الكامل ل «العرقية» الآشورية مع انهيار الدولة، يؤكدان فشل المشروع «القومي» الآشوري، إن كان ثمة مثل هذا المشروع.
34 (6-2) فارس الأخمينية
كثير من الاعتبارات نفسها ينطبق على فارس الأخمينية. يمكننا أن نتفق عند وصف «العرقية» الفارسية؛ فهي مجتمع بشري له اسم وتعريف ذاتي، وأسطورة أصل مشترك منسوبة إلى البيت الحاكم الذي يتشارك فيه النبلاء (بتتبع سلالة الزعماء الأخمينيين المنتمية إلى قبيلة باسارجاد)، وذكريات مشتركة متعلقة بإنجازات الملك والمعارك التي انتصروا فيها (مثلما يفتخر دارا الأول على نقش ضريحه في برسبوليس)، ولغة فارسية قديمة مشتركة، واعتقاد مشترك في نعمة «أهورامزدا» على ملوك ونبلاء الفرس، في نظام كوني أبدي ومتجانس.
لكن، مرة أخرى، فإن هذا يصف هرمية عرقية متعارضة مع فكرة المجتمع القومي؛ لذا، فعلى الرغم من أن أرض بارس في جنوب غرب إيران، مقر حكم الإمبراطورية الأخمينية، كانت تتلقى الثناء بسبب وفرة إنتاجها الزراعي، فإنها لم تتمتع بأي مكانة خاصة أو مقدسة، كما لم توجد عاصمة واحدة للإمبراطورية على مدار القرنين اللذين استمرت فيهما. وكانت ثقافتها العامة أيضا محصورة إلى حد بعيد على النبلاء الفارسيين والمبعوثين الأجانب المهمين، وأيضا كان يوجد انقسام لغوي؛ حيث كانت الآرامية هي «لغة التواصل الوسيطة» المستخدمة في المحادثات العامة مع الشعوب الخاضعة للإمبراطورية. وعلى الرغم من أن الحكم الفارسي كان بالتأكيد أقل وحشية، فإن دور الشعوب الخاضعة له كان موضحا جيدا، كما رأينا، في مواكب المجموعات العرقية التي تحمل الهدايا إلى الملك العظيم على سلم أبادانا في برسبوليس، أو على النقش الملكي في شوشان الذي مدح عمالة وموارد الشعوب الخاضعة للإمبراطورية. وكلا العملين الفنيين يعطي إحساسا بالعظمة والتباعد بين الحكام والمحكومين في إمبراطورية مترامية الأطراف. الاختلاف الوحيد الذي يفرق الإمبراطورية الأخمينية عن الإمبراطوريات السابقة هو تسامحها الأكثر وضوحا مع القوانين والعادات المحلية، وهذا التسامح كان نابعا من سياسة قورش؛ ومن ثم كانت الرغبة في دمج الشعوب الخاضعة لهم في مجتمع واحد متعدد العرقيات أقل وضوحا. ومثلت المحاولات اللاحقة التي قامت بها السلالة البارثية والسلالة الساسانية للعودة إلى نموذج فارس الأخمينية تناقضا مثيرا للاهتمام مع مصير الإمبراطورية الآشورية.
35 (6-3) مصر القديمة
حالة مصر القديمة أكثر تعقيدا. إن عزلة مصر بسبب جغرافيتها ووحدتها بسبب النيل قد جعلت المجتمع المصري والهوية المصرية يتطوران على مدار ألف سنة تقريبا في ظل المملكة المصرية القديمة الموحدة. وساعد هذا في تكوين أساطير الأصل، بأساطير الخلق المتعددة المتعلقة بها، لكن انعدام التواصل النسبي مع الآخرين قبل المملكة الوسطى ربما تسبب في تأخر ظهور الشعور بتعريف الذات. لكن كما نرى في حالة العلاقات مع النوبة، ففي بداية الألفية الثانية كونت الأرستقراطية معتقدا واضحا بالتفوق المصري على الأجانب، بالإضافة إلى الكثير من الأساطير والذكريات والرموز والحنين للعصر الذهبي للأسرة الرابعة المجيدة التي اختار فيها أمنمحات الأول إطلاق المنشور الدعائي المعروف باسم «نبوءة نفرتي» لتبرير اغتصابه للعرش عام 1991 قبل الميلاد. ولعل تعلق المصريين ب «الأرض السوداء» التي أكسبها النيل خصوبتها يخبرنا المزيد عن الشخصية المصرية. في الحكاية الخيالية الشهيرة «قصة سنوحي» التي تدور في الفترة نفسها، يروي مسئول رفيع المستوى من الحاشية، هرب إلى سوريا تجنبا لاتهامه ظلما بالتورط في مؤامرة قتل أمنمحات، قصة رحلته، وإقامته الطويلة في المنفى، ورغبته في أن يدفن في مصر أرض آبائه على طقوس الدفن المصرية، وقد تحققت تلك الرغبة لاحقا. في مرحلة ما، يعرب سنوحي عن حزنه قائلا:
أنا رغم ذلك غريب لا يحبه أحد، تماما كما لا يحظى بدوي بحب أحد في الدلتا ... وهل من أمر أهم من أن تدفن جثتي في الأرض التي ولدت فيها؟
من مرحلة لاحقة، يمكن أن نقتبس أيضا رغبة الفرعون كامس في طيبة في أن «ينقذ مصر التي دنسها الآسيويون»، والإحساس الواضح لدى الحكام المصريين بالحدود التاريخية لمصر من الدلتا إلى جزيرة إلفنتين في الجنوب، ورغم ذلك فمن غير الواضح إلى أي مدى كانت تعتبر الأرض مقدسة وليست فقط مباركة.
36
إنها لحقيقة لا تنكر أن النخب المصرية القديمة خلقت ثقافة عامة مميزة ودائمة تكونت من الطقوس، والمراسم، والرموز، ومدعومة بلغة وكتابة هيروغليفية، ونظام تعليمي. لقد كانت على الأرجح أكثر الثقافات العامة إبهارا وشمولا. كانت تلك الثقافة ترتكز على أيديولوجية الملكية الإلهية التي زعمت أن الفرعون كان تجسيدا للإله حورس الذي يشبه الصقر وابنا لرع إله الشمس، وأن من واجبه، من خلال أداء الطقوس العامة والحكم الرشيد، ضمان انتصار «ماعت» (الحق والعدل) في عالم البشر. ووفقا لما يقوله باري كيمب، فإن هذه الأيديولوجية كانت:
تعزز باستمرار في التجمعات الإقليمية من خلال الطقوس وتصوير الطقوس، مثل ذلك الطقس الذي يجعل الملك مسئولا عن مراسم المعابد الإقليمية.
على الرغم من أن أبناء النبلاء والكتبة كان لهم تعليم منفصل، فإن المنتمين إلى الطبقات الدنيا كان بإمكانهم الالتحاق بالثقافة التي دعمت هذه الأيديولوجية. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع تحديد إلى أي مدى كانت تلك الثقافة منتشرة خارج نطاق النخب، فإنه من المفيد تذكر أن ذلك كان النوع الوحيد من الثقافة العامة الذي تعرض له المصريون على مدار ألفين وخمسمائة عام (باستثناء الفاصل القصير من «الهرطقة» الإخناتونية).
37
في الغالب توصف مصر القديمة بأنها مجتمع بالغ التنظيم. ربما كان هذا نتيجة لتراث طويل من السلطة المركزية التي تكونت منذ فترة مبكرة، عندما كانت مصر بعيدة إلى حد كبير عن التهديدات الخارجية؛ ومن ثم تمكنت من تكوين مجتمع أكثر تكاملا لعب فيه القانون الموحد والتشريع البيروقراطي دورا كبيرا، بسبب الحاجة إلى الاستفادة من تأثيرات الفيضان السنوي للنيل. وإلى حد ما، انتقل هذا النموذج إلى فلسطين وسوريا، عندما أقامت مصر إمبراطورية في عهد المملكة الحديثة، وفي الوقت نفسه يبدو أن الشعوب التي خضعت لمصر هناك تمكنت من الاحتفاظ ببعض عاداتها وقوانينها المحلية. وربما لأن مصر ظلت لفترة طويلة جدا مجتمعا مستقلا بذاته، دون إمبراطورية، فقد أصبحت تشبه لدرجة كبيرة النوع القومي من الهوية الجمعية والمجتمع الجمعي، حتى لو كانت تلك الهوية تتجسد على نحو بالغ الوضوح لدى النخب. في هذا الصدد، كانت العمليات الأساسية المتمثلة في التعريف الذاتي، وتأسيس الأساطير والذكريات والرموز والقيم، وأقلمة الارتباطات، ونشر ثقافة عامة مميزة، وتكوين قوانين وعادات موحدة، واضحة في أبلغ صورة. ومن ناحية أخرى، كان هناك غياب لبعض المصادر الثقافية الأساسية الأخرى؛ فقد فشل المصريون في تكوين أسطورة للاختيار الإلهي للشعب - مقارنة بالفضل الإلهي على الفرعون وسلالته - وعلى الرغم من أن النخب في الفترات التالية استحضروا «العصور الذهبية» السابقة، فإنهم فشلوا في تكوين تاريخ عرقي هادف، أو إحساس بالمصير الجمعي المصري الذي يتطلب كفاحا وتضحية من جانب أفراده. (6-4) مملكة يهوذا ومملكة يهودية
هذه الموارد الثقافية فحسب هي ما تطور ببطء في فترات معينة من التاريخ القديم لإسرائيل، أو تحريا للدقة، في فترات معينة من التاريخ القديم لمملكة يهوذا ولكومنولث يهودية لاحقا.
حاولت سابقا أن أوضح نمو المجتمع العرقي في مملكة يهوذا في أواخر القرن الثامن أو القرن السابع قبل الميلاد. حينئذ، كان المجتمع مجتمعا بشريا له اسم وتعريف ذاتي وأساطير عن الأسلاف، وذكريات تاريخية تفصيلية مشتركة، وثقافة أدبية عبرية قائمة على محورية عبادة يهوه، وتوراة موسى، والهيكل. وفي عهد ملوك الإصلاح الأقوياء أمثال حزقيا ويوشيا، والمطالبات التنبئية القوية المنادية بالتطهير، حفز هذا التراث بين النخب السياسية والدينية وعيا عرقيا قويا مرتبطا ارتباطا وثيقا بمعتقد العهد الإلهي، في وقت كانت تهدد فيه الإمبراطورية الآشورية استقلال مملكة يهوذا.
لكن هل يمكننا أن نبالغ ونرى في مملكة يهوذا القديمة مثالا أوليا لنوع من المجتمعات القومية، قد يكون بالفعل نموذجا أوليا للأمة كما يزعم أدريان هستنجز؟ من الصعب تحديد قدر الارتباط بأرض مملكة يهوذا. لقد ظلت بالتأكيد أرض الميعاد، وأوضح بعض الباحثين أن الأرض لم تصبح مقدسة إلا في تلك الفترة من خلال احتلالها من قبل شعب مختار. لدينا سجل حافل بهذا التعلق المحموم الذي تكون لاحقا في المنفى «على أنهار بابل». وفي مزامير داود وفي أقوال الأنبياء يمكننا أن نرى شيئا من الفرح والحب للأرض وتضاريسها - جبال الكرمل، وجمال وادي شارون، وتلال يهوذا، ولا سيما مدينة أورشليم المقدسة نفسها، العاصمة الوحيدة لمملكة يهوذا - وللأرض ذات الحدود؛ تلك الحدود المذكورة في التوراة.
38
كثير من الباحثين سيتفق أيضا على الطبيعة المميزة على نحو متزايد للثقافة العامة لمملكة يهوذا. ورغم ذلك، فنظرا لاستمرار عبادة الأصنام في ريف يهوذا، حتى في أيام يوشيا، فمن المحتمل أن الوعي القومي القوي - لو كان موجودا - كان مقتصرا على أورشليم والبلدات القريبة منها. هناك، كما رأينا، اشترك الناس المجتمعون في تجديد عهد سفر الشريعة الذي عثر عليه في الهيكل عام 621 قبل الميلاد، واشتركوا في إصلاحات يوشيا الدينية المصاحبة لذلك. بالتأكيد حاول الملك توسيع نطاق إصلاحاته من خلال تحطيم الأماكن المرتفعة والأصنام في الريف . في هذه الحالة، كانت الثقافة العامة المميزة هي كلا من «كلمة الرب» والشريعة، المنطبقة على الجميع. كانت المشكلة في ضمان التمسك بها على نطاق واسع، وهنا كان الموت المبكر ليوشيا في إحدى المعارك هو ما أوقف برنامجه الإصلاحي. ولم يستأنف البرنامج جزئيا إلا في المنفى البابلي، من خلال مزيد من التعديل للقوانين والتواريخ في أسفار موسى الخمسة وفي سفر التثنية، ولم يتمكن عزرا ونحميا من البدء في وضع أساس مجتمع قومي مجدد ومطهر إلا في مجتمع أورشليم وهيكله بعد النفي البابلي.
39
كل هذا يؤيد تصنيف ستيفين جروسبي لمملكة يهوذا في أواخر القرن السابع على أنها «جنسية» - وأقول «أمة» - لكنها أمة سرعان ما انمحت. ورغم ذلك، فقد أصبح نموذج تلك الأمة رائجا. فحتى دون وجود الملوك وحتى تحت الحكم الأجنبي تمكن يهود أورشليم من البدء في بناء مجتمع عرقي ديني مستقل تحت قيادة مرجعياته الدينية المرتكزة على الهيكل وثقافته العامة، ومستحضرا العصر الذهبي للعهد الموسوي. وفي اللحظة التي فتحت فيها الظروف الطريق أمام قدر من النشاط السياسي المستقل، أضيفت لمحة جديدة من النضال والتضحية من أجل التوراة والمجتمع إلى الثورة المكابية الناجحة التي قامت عام 167 قبل الميلاد، وسعى قادة أمثال سمعان المكابي إلى تعضيد مناصبهم العسكرية بمكانة الكاهن الأكبر الدينية من خلال الحصول على تصديق المجتمعين. في القرن التالي، نرى تأكيدا مجددا على نطاق أرض إسرائيل، ذروة ثقافة الهيكل، مصحوبا بزيادة الكنس، والتزام أكبر بالتوراة. وعلى الرغم من انفصال الأسينيين والصراع بين الصدوقيين والفريسيين، فلم يسفر الاحتلال الروماني إلا عن تقوية العمليات التي عززت تكوين مجتمع قومي بين اليهود في هذه الفترة، وعبر الفريسيون وحزب زيلوت عن الحس الوطني المتزايد المنتشر بين أعداد غفيرة من السكان اليهود في فلسطين الرومانية.
40
خاتمة
على الرغم من أن أي استنتاج بشأن وجود الأمم في الشرق الأدنى القديم هو استنتاج غير مؤكد وضعيف للغاية، فيبدو أنه - على الرغم من انتشار الروابط والشبكات العرقية - لا يمكن العثور على أدلة كافية تسمح لنا بالحديث عن وجود أمم في العصور القديمة إلا في مصر القديمة وفي مملكة يهوذا. في هاتين الحالتين فقط أصبحت العمليات الاجتماعية والرمزية الضرورية متطورة بالقدر الكافي لتكوين الظروف المناسبة التي من شأنها أن تجعل تلك المجتمعات قريبة الشبه بالنموذج المثالي للأمة، وفي فترات معينة فقط من تاريخها. من ناحية أخرى، في حالة الإمبراطورية الآشورية الجديدة والإمبراطورية الفارسية، لم يكن يوجد سوى بعض العمليات ذات الصلة، وكانت كافية لتحفيز ظهور «عرقيات» ذاتية التعريف، لا لتكوين ظروف نشأة الأمم. علاوة على ذلك، لم تكن المصادر الثقافية المتعلقة بأساطير الاختيار الإلهي للشعوب، والعصور الذهبية، والمصير من خلال التضحية، والمصادر التي تساعد في الحفاظ على الإحساس بالهوية القومية؛ متطورة جيدا إلا في حالة مملكة يهوذا، وهذا قد يساعدنا في تفسير سبب استمرار كونها ذات صلة وتأثير «على المدى الطويل».
من الممكن استنتاج أمرين إضافيين؛ الاستنتاج الأول هو: الأهمية الحيوية للسياسة والكيانات السياسية؛ فكل حالة من الحالات التي تناولناها نشأت من رحم أحد الأنظمة السياسية - إما إمبراطورية بيروقراطية وإما ملكية متوارثة عن الأسلاف - وكانت الأيديولوجية السياسية والعمل السياسي ضروريين لتكوين «العرقيات»، والأمم بصفة أخص. ومن جانب آخر، ففي اليونان القديمة حال دون تكوين أمة إغريقية ضعف الأيديولوجية الهيلينية الجامعة وعدم وجود إطار سياسي واحد في مواجهة الوطنية الحصرية والتضامن الحصري ل «الدول المدن»، ومن باب أدعى أن يكون ذلك ما حال أيضا دون تكوين أمة فينيقية أو أمة سومرية؛ لذلك، لا بد من إبراز أهمية الأيديولوجية السياسية والمؤسسات في تكوين الأمم.
لكن الأمر نفسه لا بد أنه ينطبق بالمثل على المعتقدات والعبادات الدينية. فعلى الرغم من أن الفرس والآشوريين كانت لديهم، بطبيعة الحال، عبادات ومثل خاصة بهم، فإنهم فشلوا إما في توحيد الشعوب الخاضعة لهم حول تلك المعتقدات والعبادات، وإما في التسامح العلني مع وجود الآلهة والعبادات المحلية. وعلى أي حال، لا يمكن أن يكون الدين هو لحمة التضامن الاجتماعي. من ناحية أخرى، في مصر ومملكة يهودية كانت التصورات والأخلاقيات والطقوس الدينية العناصر التي ربطت بين الوعي القومي والتماسك الاجتماعي. وإنه لصحيح أن عامة الشعب في مصر في الفترات الأخيرة من الحكم الأجنبي كانوا بعيدين عن دين المعبد ولغة الكهنة والنبلاء، وكانت النتيجة أنه في الفترة الرومانية أحرزت ديانات منافسة مثل المسيحية تقدما هائلا على حساب الدين المصري التقليدي الذي كان يعتمد على قوة الفرعون الإله. ومن ناحية أخرى، ففي مملكة يهودية، كان الدين الأصلي المتمثل في الرب والتوراة والهيكل - مضافا إليه معتقد العهد وما يرتبط به من أساطير الاختيار الإلهي وأرض الميعاد - من الممكن تجديده باستمرار من خلال التفسيرات الجديدة المتنوعة وتزايد احتواء الشعب، لا سيما بعد ثورة المكابيين وظهور الفريسيين. وقد كان هذا الشكل من الدين المتجدد ذاتيا - في الديانات التوحيدية الثلاث - هو ما أثر تأثيرا قويا على تكوين الأمم لاحقا.
الفصل الرابع
الأمم الهرمية
إذا كان الشرق الأدنى القديم لم يقدم للأمم إلا القليل، فإنه كان ثريا في أنواع التراث الثقافي التي خلفها للمجتمعات والحقب التالية. وانعدام العمليات والمصادر المفضية إلى تكوين الأمم لا يسمح لنا برفض التجربة الاجتماعية والثقافية للشرق الأدنى والعالم اليوناني الروماني القديم باعتبار أنها غير مثيرة للاهتمام وغير مهمة. وبعيدا عن ذلك، فقد كانت التجربة مهمة؛ لأنها قدمت مثالا ونموذجا للمجتمع العرقي الذي تكون في تلك الحقبة، ولأنها تركت أنواعا من التراث الثقافي أدى إلى تكون الأمم. كما رأينا، كانت العرقية منتشرة وكان دورها مزدوجا. من ناحية، كانت متداخلة مع أنواع أخرى من الهويات الجمعية والمجتمعات، ومن ناحية أخرى، أصبحت في حد ذاتها نوعا مهما، بل أساسيا، من الهويات والمجتمعات، تتكون في أغلب الأحيان الاتحادات «القبلية». لقد ناقشت الأسس العرقية للأمم سابقا في الكتاب؛ لذلك أريد أن أركز هنا على الجانب الثاني لتجربة العصور القديمة، والمتمثل في «أشكال التراث» في الثقافة الجمعية التي كان لها أثر كبير للغاية في تكوين الأمم في الحقب التالية وتشكيلها. (1) الأنواع الثلاثة للثقافة العامة
يمكننا البدء بالتمييز بين الأنواع الثلاثة الرئيسية للثقافة العامة الجمعية على النحو التالي: النوع الهرمي، والنوع العهدي، والنوع الجمهوري المدني.
إن «الهرمية» - في معناها العام - باعتبارها نوعا من التسلسل المقدس، يمكن أن تشير إلى معظم أنواع المجتمعات والدول، لكن بمعناها الأكثر تحديدا فإنها تشير إلى تسلسل مقدس إلى حد يصل إلى الاعتقاد في أنها تعكس وتجسد التسلسل السماوي على الأرض. يوجد نوعان فرعيان لهذا النوع من التسلسل المقدس؛ في النوع الأول يكون الحاكم نفسه إلها، ويعاونه مجموعة من الكهنة والنبلاء الذين يشاركونه بعضا من قداسته. تمثل مصر القديمة النموذج الأولي في هذا الصدد؛ إذ كان الفرعون يعتبر إلها وتجسيدا للإلهة «ماعت» التي تمثل الحق والصدق، وعلى مدار فترات طويلة أثر الكهنة، لا سيما كهنة آمون رع، تأثيرا هائلا في المجتمع المصري. في النوع الفرعي الثاني والأكثر شيوعا، كان الملك مندوب الإله على الأرض، يتلقى سلطة حكمه من الإله، ويصدر الأوامر باسمه، ومع ذلك كانت ثمة إمكانية ترسيم ذلك الملك نفسه إلها. وكان هذا النوع من التراتبية الهرمية يميز الإمبراطوريات المتعاقبة في مجتمع بلاد الرافدين من سرجون الأكدي وحتى الفرس الأخمينيين، وترمز له مسلة حمورابي الشهيرة التي تظهر ملك بابل يتلقى شريعته من شماش: إله الشمس.
1
سيكون من الخطأ تخيل أن المجتمع المحكوم بمبدأ الهرمية كان مجتمعا ثابتا. حتى في حالة مصر، كان الوضع يتأرجح ما بين حقب يشتد فيها عضد الإدارة المركزية، وفترات «وسطى» من الحكم المركزي الضعيف، متمثلا على الأغلب في الأسر المتنافسة والسلطة الممزقة الموضوعة في يد حكام الأقاليم. علاوة على ذلك، استطاعت فترات حكم الأسر القوي أن تخلق توسعا جديدا؛ فقد خالط مفهوم الهرمية شعور قوي بالعرقية المصرية، ولا سيما بين النخبة، واتخذ ذلك الشعور شكل التوسع الاقتصادي وحتى الغزوات، في النوبة وفلسطين. وكما نرى، فالأمر نفسه ينطبق على بلاد الرافدين، فالآشوريون بصفة خاصة - من خلال الجمع بين الهرمية والإحساس القوي بالهوية العرقية المشتركة - تمكنوا من توسيع أراضيهم، في حين زودت النخبة الآشورية مواردها الاقتصادية وتقدمها الثقافي بصورة أساسية من خلال الاقتراض والتطويع الثقافيين. في كلتا الحالتين، يمكننا استنتاج تزايد اعتقاد النخبة بالتفوق العرقي والسياسي، على الأقل كمبرر لغزو الأجانب واستغلالهم، على الرغم من أنه لم يكن كافيا على المدى الطويل لتأمين بقاء هذا النوع من الدولة العرقية والحضارة العرقية. ورغم ذلك، ثبت أن مبدأ الهرمية سيمثل نوعا مهما من أنواع الثقافة العامة العرقية في حقب لاحقة، وأثبت تأثيره الحيوي في تشكيل الأمم.
2
تقدم الثقافات العامة القائمة على فكرة «العهد» تصورا أكثر مساواة للنظام الاجتماعي، وتقدم شكلا أكثر حميمية للشراكة المقدسة بين أعضاء المجتمع. في هذا التصور المرتبط في الأساس بالتقاليد التوحيدية، يختار الرب جماعة لتنفيذ مشيئته من خلال فصلها عن الآخرين ومطالبة أعضائها بأداء طقوس وواجبات معينة في مقابل فضله ونعمته. وعلى الرغم من اختلاف المهام، فإنها تتضمن عموما تنظيم حياة الأفراد في إطار قانون أخلاقي وروحاني يقدس المجتمع والعالم. ويوجد هنا أيضا أكثر من شكل للثقافة العامة القائمة على فكرة «العهد». ففي الحالات التي تتضمن هيكلا هرميا، يكون متلقي العهد كنيسة أو جماعة تتصرف نيابة عن المجتمع ككل. كان هذا هو الوضع في أرمينيا في القرن الرابع والقرن الخامس، حيث نفذت الكنيسة الرسولية الأرمينية «العهد» بين المسيح وشعبه، وهي علاقة دعمتها بقوة القرابة الوثيقة بين المؤسس التبشيري القديس جريجوري الأول، وسلالة أرساسيد الحاكمة، ومحاولات خلفاء جريجوري الساعية إلى الحفاظ على الوحدة بين أثرياء أرمينيا العظماء أصحاب الأراضي. ووفقا لما دونه المؤرخون الأرمن الأوائل أمثال إيليشي وبوستوس بوزاند، فقد كانت النسخة الأرمينية من «العهد» ملتزمة التزاما شديدا بنموذج العهد القديم ونموذج المكابيين في الاختيار العرقي واستشهاد الشعب من أجل الإيمان والوطن.
3
إلا أن العهد يمكن أن يوثق مباشرة مع عشيرة بأكملها. وكانت هذا هي الحال مع العهد الذي عقد بين الرب و«شعب» بني إسرائيل عند جبل سيناء. ربما قام موسى بدور الوسيط، لكن يقال إن الشعب كله شهد وجود الرب ووافق على مشيئته وعلى التوراة:
وأخذ (موسى) كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب، فقالوا: «كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له». (سفر الخروج 24: 7)
كان الهدف من هذا العهد أن يصير بنو إسرائيل «مملكة كهنة وأمة مقدسة» (سفر الخروج 19: 6)، ولهذا السبب أبرم العهد مع شعب بني إسرائيل بأكمله، وشملت شريعته كل فرد. حتى في هذا العهد يظهر عنصر الهرمية ظهورا مبكرا؛ فبعد أن خان شعب بني إسرائيل الرب بعبادة العجل الذهبي، عين موسى هارون وذريته كبارا للكهنة، وكلف اللاويين بحراسة خيمة الاجتماع ومجموعة القواعد الخاصة بطريقة ممارسة الشعائر؛ وبذلك مهد الطريق لكهنة الهيكل.
4
تقدم إثيوبيا العصور الوسطى مثالا بالغ الوضوح عن الطرق التي من خلالها يمكن مزج مبدأ العهد مع الثقافة العامة الهرمية؛ فقد كانت الممالك والسلالات الإثيوبية الحاكمة المتعاقبة تمثل الثقافة العامة الهرمية لمملكة مسيحية تعتنق عقيدة الطبيعة الواحدة وتغلب عليها ثقافة التجرية العرقية. إلا أن قدوم سلالة «سليمانية» حاكمة جديدة تصطبغ بالهوية السامية في عام 1270 مثل نوعا من الانفصال عن هذا التقليد. فعلى الرغم من احتفاظها بمبدأ الهرمية وتقويتها له، حاكت في إطار سعيها لاكتساب الشرعية نموذج مملكة أكسوم المسيحية السابقة عنها بكثير، وتبنت في إطار بحثها عن «أسطورة ملهمة» أسطورة الخلافة السليمانية. وفقا لأسطورة السلالة، التي دونت لأول مرة في الملحمة القومية «كبرانجشت» (كتاب جلال الملوك) في القرن الرابع عشر، فإن منليك الأول، أول ملوك إثيوبيا، كان ابن ملكة سبأ والملك سليمان. بينما يذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الأول 10: 1-14) أن ملكة سبأ زارت سليمان لتسأله، وبعد أن اقتنعت بحكمته وثرائه، تعجبت وعادت إلى بلدها، فإن كتاب «كبرانجشت» يذكر أنها تنجب، منه، ولدا، وهو منليك الذي يعود بعد سنوات كثيرة إلى أورشليم رجلا راشدا، ويأخذ تابوت العهد الأصلي، وبمغادرته إلى إثيوبيا تنتقل أيضا نعمة الرب على إسرائيل إلى الشعب المختار الجديد وأرض إثيوبيا المختارة الجديدة. استخدم الملوك الأقوياء في السلالة الحاكمة الجديدة هذه الأسطورة من أجل توسيع حدود إثيوبيا وأيضا من أجل دعم مجموعة من الإصلاحات الثقافية والاجتماعية الكبرى؛ وبذلك يحدثون تطهيرا تاما للمجتمع الإثيوبي يتوافق مع العناصر اليهودية العهدية في عقيدة الطبيعة الواحدة المسيحية.
5
شكل 4-1: موسى يتلقى الألواح ويعلمها لبني إسرائيل، نسخة تورز من الكتاب المقدس، تعود إلى عام 834 بعد الميلاد (المكتبة البريطانية).
يرتبط ثالث الأشكال الرئيسية من الثقافة العامة، وهو الشكل «الجمهوري المدني»، ارتباطا وثيقا ب «الدول المدن» الإغريقية والدول المدن الرومانية التي خلفتها. للوهلة الأولى، يظهر هذا النوع تناقضا صارخا مع كل من النوع الهرمي والنوع العهدي؛ لأن فكرة المجتمع الذاتي الحكم، مهما كان حق التصويت فيه حصريا، وفكرة النظام المستقل الذي لا يخضع لمساءلة أي قوة خارجية، مثلتا مرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع السياسي الجمعي. إلا أن هذا النوع كان متناقضا من نواح كثيرة؛ فمن ناحية، كان مواطنو المجتمع مرتبطين بعقد مدني، وليس بعهد مع الرب، وكانت عقيدتهم هي الحرية في ظل قانون مدني، وليس بتزكية النفس النابعة من السعي إلى القداسة، فضلا عن الإذعان لنظام سلالي مقدس. وانبثقت من هذا العقد واجبات مدنية ومسئوليات عامة قائمة على قوانين مزعوم أنها متوارثة عن المؤسسين والمشرعين القدماء أمثال ليكرجوس، وصولون، ونوما بومبيليوس. في الديمقراطيات الكلاسيكية بصفة خاصة، حلت مبادئ الحرية المدنية والمساواة القانونية محل التراتبيات الهرمية الأرستقراطية، وحلت الإقامة والسلف العرقي محل المولد النبيل كمعايير للمواطنة واعتلاء المناصب. من ناحية أخرى، كان أيضا الشكل الجمهوري شكلا من المجتمعات المقدسة قائما على الدين المدني؛ فقد كان لكل دولة من الدول المدن آلهة حامية وأساطير أصل مقدس خاصة بها، وكانت كل منها تفتخر بطقوسها ومراسمها الخاصة، مثل مهرجان عموم أثينا في أثينا القديمة أو الألعاب البرزخية في كورينث. وكما رأينا، كانت المعابد، والتماثيل، وعبادة آلهة المدن، محورية في التعريف الذاتي للإغريق والرومان، وكذلك لحضارة العالم اليوناني الروماني الذي اكتنفهما، وكانت أقسامهم العمومية تتخذ صياغة دينية، وتشهد عليها آلهة المدينة.
6 (2) روما ويهوذا
على الرغم من أن النموذج الجمهوري المدني مثل انفصالا جذريا عن النوع الهرمي السائد من الثقافة العامة، فإنه نادرا ما كان يخلو من عناصر الهرمية. ويؤكد تاريخ روما هذا الأمر على نحو مثير وبالغ الدهشة. بدأت روما كمدينة صغيرة في الحلف اللاتيني يحكمها ملوك متعاقبون، وسرعان ما بدأت تدور في الفلك الإتروسكاني وتبنت الكثير من سمات الثقافة الإتروسكانية. إلا أنه في عام 510 قبل الميلاد، طرد آخر ملوكها؛ ومن ثم حكم المدينة شيوخ وقناصل من طبقة الباتريكيان، في ظل منافسة مضطربة من جانب الأطربونات المدافعين عن طبقة العوام المسماة «بليبس». بالنسبة إلى المؤرخين المتأخرين أمثال سالوست وليفيوس وتاكيتوس، فإن تلك الفترة كانت تقريبا فترة أسطورية ضمت «الأبطال الجمهوريين» أمثال بروتس القنصل، وسنسيناتوس، وموسيوس إسكافولا، وكيوريوس دنتاتوس، الذين تتناقض فضائلهم وشجاعتهم وأمانتهم واقتصادهم وبساطتهم تناقضا صارخا مع بزخ وفساد أواخر عهد الجمهورية وأوائل عهد الإمبراطورية. وعلى مدار القرنين التاليين، حققت روما تفوقا عسكريا في وسط وجنوب إيطاليا، وقد أكد هذا الموقف مقاومتها الناجحة في أوائل القرن الثالث لغزو بيروس الإبيري وهزيمتها التالية للقرطاجيين في الحرب البونية الأولى (265-241 قبل الميلاد). وفي الوقت نفسه واجهت ثقافة ماجنا جراسيا الأكثر تعقيدا في الجنوب، وقد ساعدت تلك المواجهة في تكوين الإحساس بالهوية الجمعية وأسطورة السلف الطروادي لروما. وتبع ذلك الحروب الملحمية ضد حنبعل، وانتصار روما على قرطاجة عام 202 قبل الميلاد، وتوسعها باتجاه الشرق في القرن التالي لتصبح قوة بارزة في البحر المتوسط، قبل أن تسقط فريسة لطموحات الجنرالات المتنافسين وجيوشهم.
7
على مدار هذين القرنين، مزقت المدينة - على فترات منتظمة - صراعات بين طبقة الباتريكيان الحاكمة وطبقة البليبس التي تمثل العامة، وتوترات بين المبدأين المتنافسين المتمثلين في مبدأ الهرمية القائمة على المولد والثروة المكونة من الأراضي، ومبدأ المشاركة الشعبية والحرية المدنية في ظل القوانين العامة، وقد أدت تلك التوترات إلى ظهور انتفاضات شعبية خطيرة في عهد اثنين من الأطربونات، هما الأخوان جراكوس. ورغم ذلك، فقد كانت الأجيال في العصور اللاحقة تنظر بعين تحن إلى المبادئ المدنية والجمهورية، وقللت من أهمية الصراعات الفئوية والطبقية، ذلك الشعور الذي عززه التحول المضطرب نحو بداية الإمارة. وردا على ذلك إلى حد ما، كان أغسطس حريصا على الاحتفاظ بالمؤسسات والطقوس ورموز الثقافة العامة الجمهورية، في حين استأثر شعراؤه بشعار «الحرية» والوطنية الرومانية والإيطالية، على النقيض من «الترف» و«العبودية» في الشرق ممثلين في حكم أنطونيو وكليوباترا. رغم ذلك، ظهرت بالفعل في أعمال فيرجيل فكرة «مهمة» روما الإمبراطورية التي تمثلت في أن مصير روما هو الإطاحة بكل أبي والإبقاء على كل مذعن. وفي الوقت نفسه، التف نوع جديد من الهرمية الإمبراطورية المبادئ الجمهورية للمدينة، وسرعان ما محاها، واحتفظ في الوقت نفسه بأشكال من بقاياها. على الرغم من أن الإمبراطور كان ببساطة «أول النظراء»، فإن سيطرته وسيطرة أسرته داخل الدولة عكست سيادة روما على شعوب إمبراطوريتها. على الرغم من أنه في فترات الأزمات التي واجهت السلالات الحاكمة، كان الحرس البريتوري الإمبراطوري والجيوش المتنافسة يوزعون السلطة، فقد ظلت الإمبراطورية موحدة لفترات طويلة بثقافة عامة هرمية ترتكز على رموز وطقوس عبادة الإمبراطور وتأليهه.
8
اتبعت كيانات جمعية مختلفة كلا النموذجين الرومانيين، الجمهوري والإمبراطوري، في فترات مختلفة من التاريخ الأوروبي، ونظرا لمكانة روما الراسخة، فقد كان للنموذجين نتائج مهمة في تشكيل الأمم. بوجه عام، ساد النموذج الإمبراطوري خلال العصور الوسطى، بينما شهد عصر النهضة إحياء مميزا للشكل الجمهوري المدني من الثقافة العامة. إلا أن هذه مجرد مقاربة. في إيطاليا العصور الوسطى، وكذلك في المجتمعات الأوروبية الشمالية منذ القرن الثاني عشر، كان يوجد استحضار واع للمبادئ الجمهورية والمؤسسات المدنية، بما فيها منصب القنصل، في إطار نظام إقطاعي هرمي صرف وداخل حدود عالم مسيحي تسيره سلالات حاكمة. من ناحية أخرى، خلال بداية فترة الحداثة عندما شهدت المدن وسكانها زيادة هائلة في الثروة والقوة ظهر أن مبدأ الحكم المطلق يجسد نوعا من الهرمية أكثر حماسة إلى حد بعيد، دعمته فكرة الحق الإلهي للملوك. وأسهم كلا النوعين من الثقافة العامة في تشكيل الأشكال المختلفة من المجتمع القومي في فترات مختلفة.
9
لم تكن روما المصدر الوحيد للثقافات العامة الذي ساعد في تشكيل المجتمعات القومية، ولا المصدر الوحيد الذي خلف تراثا مزدوجا؛ فقد نشأت بضعة مثل من تراث الكتاب المقدس. بعد سقوط مملكة يهوذا، أعادت إصلاحات ما بعد النفي البابلي التي قام بها عزرا ونحميا ترسيخ النوع السائد من الثقافة العامة لإسرائيل القديمة القائم على العهد الموسوي، وظل قائما على مدار القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد من خلال رجال الكنيس العظيم والفريسيين. عام 167 قبل الميلاد عندما وضع اليهود متبعو الثقافة الهلينستية ومراسيم أنطيوخس أبيفانيوس العهد والهيكل في خطر داهم، لم يستعد حزب المكابيين عبادة الهيكل فحسب، بل حافظوا على قوانين العهد وضمنوا قدرا من الاستقلال لدولتهم اليهودية تحت حكم الملوك الحشمونيين. في هذه الفترة، كان اليهود متحدين في العموم حول نظام عقائدي يرتكز على الرب الواحد الحق، وتوراته، وهيكله. إلا أنهم احتفظوا أيضا بالتقليد المسيحاني المتمثل في ملوك سلالة داود كمخلصين ممسوحين للشعب، ولم يقبلوا بالملوك الحشمونيين إلا قبولا جزئيا؛ ومن هنا كانت جهود سمعان المكابي الساعية إلى الحصول على منصب كبير الكهنة من خلال الثناء الشعبي عام 140 قبل الميلاد.
10
شكل 4-2: المسيح والإمبراطور قسطنطين التاسع، والإمبراطورة زوي، لوحة زوي، فسيفساء، (1028-1034)، (1042-1055) بعد الميلاد (الجدار الشرقي، المعرض الجنوبي، آيا صوفيا، القسطنطينية).
عندما حجم الاستقلال اليهودي في أواخر القرن الأول، في البداية على يد هيرودس الأول وأسرته، ثم على يد الوكلاء الرومان المتعاقبين، لينتهي أخيرا بعد سقوط أورشليم عام 70 بعد الميلاد، حفظ الحاخامات الذين خلفوا الفريسيين المثال العهدي والتوراة في أكاديمياتهم في يبنا والجليل. إلا أن تقاليد المسيحانية وملوك سلالة داود، التي روج لها حزب زيلوت بين الآخرين، أصبحت بحكم الضرورة أكثر خفية ورمزية، لا سيما بعد فشل ثورة بار كاخبا في يهودا في الفترة ما بين 132-135 بعد الميلاد. في الوقت نفسه، أصبحت عناصر من مثال العهد والتقليد المسيحاني المتمثل في ملوك سلالة داود شائعة في المسيحية القديمة جنبا إلى جنب مع الكتاب المقدس العبري الذي اعتبرته الكنيسة القديمة «العهد القديم» وأعادت تفسيره وفقا لمعتقداتها الدينية. وبصفة خاصة، أخذت الكنيسة دور الشعب المختار ورأت نفسها «إسرائيل الحقيقية»؛ لأن الرب الآن سحب نعمته من الشعب اليهودي؛ لأنهم رفضوا الزعم المسيحاني الذي جاء به المسيح. إلا أنه بسبب عدم وجود نموذج سياسي واضح للمجتمع في العهد الجديد عادت الكنيسة، فضلا عن الأمراء المسيحيين فيما بعد، إلى معتقد الملوك المقدسين الممسوحين، لا سيما بعدما اعتنق قسطنطين وخلفاؤه المسيحية، وعدلوا فيها، لتكون الدين السائد في الإمبراطورية الرومانية؛ لذلك، أمكن من خلال المسيحية في الأساس استخدام تقاليد الكتاب المقدس في تكوين الثقافات العامة والمجتمعات في العصور الوسطى.
11
كما رأينا، لم يظل النموذج العهدي منفردا؛ فإمكانية دمجه مع التقاليد الهرمية واضحة تماما، لكن هل من الممكن أيضا مزجه بالشكل الجمهوري من الثقافة العامة؟ من الناحية النظرية، بدا أن ثمة هوة لا يمكن رأبها بين العهد الإلهي الذي وجد في يهوذا القديمة وبين عقد المواطنة المدني الذي يميز النموذج الجمهوري. أما من الناحية العملية، فقد تمكنت مجتمعات مختلفة من تكوين ثقافات عامة قائمة على أكثر من مبدأ. وبالفعل في إسرائيل القديمة ويهوذا القديمة ظهرت فكرة العهد المزدوج، بين الرب وشعبه، وبين الملك والشعب، واستخدمت مرة أخرى بعد حوالي ألفي سنة في أوروبا في بداية الحداثة. يمكن أن تشمل هذه الفكرة العقود بين المواطنين والحكام على سبيل المثال في كثير من المجتمعات المستقلة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بالمثل، كان لأداء القسم بين الكانتونات داخل «الاتحاد السويسري القديم» بعد مقدس، وكما سنرى، حتى الجمهوريات الحديثة لم تتخل بالكامل عن عناصر العهد المقدسة.
12
إلا أنه حتى لو لم تكن الأشكال الثلاثة الرئيسية للثقافة العامة متعارضة، فإن معظم الحالات التاريخية التي صادفناها كانت نوعا «مختلطا»، والتمييز التحليلي يظل مفيدا في التصنيف المبدئي للأشكال الثقافية للأمم؛ ذلك أنه يطلعنا على الخصائص السائدة في كل حالة. لذلك، وعلى الرغم من هذه المحاذير، فإنه من الممكن ومن المفيد الحديث عن «الأمم الهرمية»، و«الأمم العهدية» و«الأمم الجمهورية المدنية»، وتحديد انتشارها في فترات معينة، حتى لو كانت الأمثلة التي توضح النوع الخالص للأمة قليلة، وحتى لو كان نوع الثقافة العامة المذكور لا يمكن حصره في فترة تاريخية معينة. في هذا الفصل، سأركز على الشكل الهرمي من الثقافة العامة، وسوف أتساءل إلى أي مدى يمكننا البدء في الحديث عن «الأمم الهرمية» في العصور الوسطى، مقارنة بالحقبة الحديثة. وفي الفصول اللاحقة، سأتناول نشأة الأمم الهرمية والأمم الجمهورية وشخصيتها في الفترات اللاحقة، ودور القومية في تطوير كل منهما . (3) الهرمية والأمة في الشرق الأدنى وروسيا
في الشرق الأدنى، شهدت أواخر العصور القديمة صراعا مطولا على السلطة بين القوى الهلينستية والإمبراطورية البارثية، وبين الإمبراطورية الرومانية وإيران الساسانية فيما بعد. وجميعها إمبراطوريات أرستقراطية كلاسيكية قائمة على مبادئ هرمية واضحة، وعلى هذا النحو تبدو بعيدة عن أي مفهوم للأمة، سواء كان مفهوما عرقيا ثقافيا أو عرقيا سياسيا. إلا أننا حتى في هذا الصدد يمكننا ملاحظة تطور بعض العمليات المؤدية إلى تكون الأمة، لكن في نطاق محدود للغاية، وفي فترات معينة فحسب.
في نقش في حاجي آباد، كما في ذلك النقش الموجود على النحت البارز الصخري في نقش رجب، يبين سابور الأول الملك الساساني العظيم، الذي عاش في القرن الثالث، الهرمية على نحو واضح في أوج إمبراطوريته، فيقول:
هذا هو مدى السهم الذي أطلقناه، نحن الإله سابور عابد مازدا، ملك ملوك إيران وغير إيران، سليل الآلهة، ابن الإله أردشير عابد مازدا، ملك ملوك إيران، سليل الآلهة، وحفيد الإله بابك الملك. وعندما أطلقنا هذا السهم، كنا نرمي أمام الملوك (أصحاب الأراضي؛ «سرداران»)، والأمراء (فاسبوران)، وكبار النبلاء (فوزوران)، والنبلاء (آزادان).
بعيدا عن مبدأ الهرمية الواضح المتمثل في الطبقات الأربع المتمثلة في الكهنة والمحاربين والكتبة والعوام، ميز سابور حكمه عن حكم والده وسلفه أردشير من ناحية امتداد إمبراطوريته؛ فبينما كان حكم أردشير مقصورا على إيران، شملت إمبراطورية سابور بلدانا غير إيرانية، أي أقاليم أخرى. ويوضح فيزهوفر أن هذه هي المرة الأولى التي يرتبط فيها اللقب المعتاد للحاكم الإيراني «ملك الملوك» بإيران:
اخترع الساسانيون فكرة إيرانشهر (إمبراطورية الآريين) كمفهوم سياسي يرمي - ضمن مجموعة من الأهداف الأخرى - إلى ترسيخ شرعيتهم كورثة للإمبراطورية الإيرانية الكبيرة القديمة التي كانت ل «أسلافهم» (الأخمينيين)، وكخلفاء للملوك الأسطوريين القدماء، وكأتباع للعقيدة الزرادشتية التي كان لها جذورها في إيران. أما الهدف الآخر، فكان تكوين «هوية» جديدة لأنفسهم وللشعوب الخاضعة لهم باستخدام مفهوم إيرانشهر كموطن سياسي وثقافي لكل الذين يعيشون هناك، ومن خلال ربط ذلك المفهوم بماض سحيق للغاية.
13
إيران ليست مفهوما عرقيا، بل اسم ذو أبعاد إقليمية وسياسية، لكن حتى في هذه الحالة فإنه ليس واضحا إلى أي مدى عكس ذلك قدرا من انتساب الذكريات والروابط العاطفية إلى إقليم محدد. في الوقت نفسه، ترجح رغبة الساسانيين في ربط حكمهم بالملوك الأسطوريين وبالأخمينيين وجود تصور لديهم عن أرض تاريخية موجودة ضمن مجموعة الأقاليم والشعوب التي غزوها. ويعد هذا أيضا نوعا من تعريف الذات الجمعي، وإن كان من جانب النخبة فحسب، ويعتبر أيضا محاولة لترسيخ الأساطير والرموز والذكريات المتعلقة بالماضي البطولي. كان بناء الأساطير والرموز والذكريات سائدا بصفة خاصة في أواخر عهد الملوك الساسانيين؛ لذلك دعم كسرى الأول (531-579) إحياء المأثورات، وكذلك كتب بروتوكول السلوك الأرستقراطي وقواعده، بالإضافة إلى توطيد البيروقراطية على حساب النبلاء العظام. يعتقد ريتشارد فراي أنه من المحتمل إلى حد بعيد أن تكون «قصائد وأساطير إيران القديمة قد جمعت معا» في أيام كسرى الأول وأن الملحمة القومية التي كتبها الفردوسي «كانت هيئتها آنذاك مشابهة إلى حد بعيد لهيئتها الحالية.» رغم ذلك، ف «الماضي الذي أحيته الملحمة، والتقاليد، والعادات ... كان ماضيا بطوليا لعائلات كبيرة ونبيلة ولممارسات إقطاعية، ولم يكن ماضيا يعكس دولة بيروقراطية مركزية كالتي أراد كسرى تأسيسها.» ومن ثم، في ذلك الوقت، أجريت تعديلات على مجموعات الأساطير القديمة على اختلافها - وكان كثير منها يعود أصله إلى شرق إيران - لتتوافق مع المثل المعاصرة كي تصبح أساسا ل «شاهنامه» (كتاب الملوك) الذي ألفه الفردوسي لاحقا.
14
وكذلك في عهد الملوك اللاحقين تزايد توحيد القوانين بالتوافق مع إقرار مركزية الدولة. إلا أن هذا الأمر، على حسب ما يمكننا أن نرى، امتد بالقدر نفسه ليشمل كل أقاليم الإمبراطورية وشعوبها، كما هي الحال مع الثقافة الدينية العامة المتمثلة في معابد النار الخاصة بالزرادشتية الأرثوذكسية بعد إصلاحات «كرتير» رئيس «الموابذة» في أواخر القرن الثالث. يبدو أن كرتير كان تبشيريا، لدرجة أنه حاول تأسيس معابد النار والزرادشتية الأرثوذكسية بين المجوس المتأثرين بالحضارة الهلينستية وبين الوثنيين خارج إيران. ورغم ذلك، يقول جوزيف فيزرهوفر إنه في عهد كرتير:
كانت إيران الساسانية متأثرة بالديانة الزرادشتية إلى درجة أكبر من أي وقت مضى في تاريخ الدولة. ويشهد على هذه الحقيقة التأثير الديني على الثقافة القانونية، والأدب، والرمزية الصورية، وكذلك تقاليد الدفن في هذه الفترة (تعريض الجسم للهواء ودفن العظام). كانت السلطات الدينية موجودة في أماكن كثيرة، من القرية ومركز العبادة المحلي وحتى البلاط الملكي، لمراقبة «الخدمة الإلهية»، وتنفيذ الطقوس والحفاظ على التقاليد الدينية.
يوضح هذا أن إيران احتلت مكانة مميزة في دين الدولة وفي الثقافة العامة الدينية للإمبراطورية، وأنه داخل إيران حظيت منطقة فارس الجنوبية الغربية بالتميز، ولو بقدر محدود، بفضل مواقعها المقدسة و«أسلاف» الساسانيين، والذكريات التي حافظ عليها رجال الديانة الزرادشتية. وعلى نحو واضح تماما، لا يمكننا التحدث عن وجود أمة أو هوية قومية في ظل حكم الساسانيين. ورغم ذلك، فمن ناحية الثقافة العامة وترسيخ الأساطير والرموز والذكريات والتقاليد الإيرانية تكون خلال هذه الفترة أساس عرقي سياسي لتطورات قومية لاحقة إلى حد بعيد في الهوية الإيرانية الجمعية في ظل القيادة الثقافية الفارسية.
15
هل يمكن قول الأمر نفسه، «مع إجراء ما يلزم من تعديلات»، عن الإمبراطورية البيزنطية؟ من الناحية الظاهرية، فإن أوضح مثال على مبدأ الهرمية كان أبعد مما يمكن تخيله عن مفهوم المجتمع القومي وممارسته، وكما يقول سيريل مانجو: «لم تكن توجد مطلقا «أمة» بيزنطية.» كان يعرف سكان بيزنطة باسم «الرومان»، وشعروا أنهم ينتمون إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية، لكنهم عرفوا أنفسهم في الأساس من الناحية الإقليمية أو العرقية، بل عرفوا أنفسهم أكثر كمسيحيين. لقد كانت الإمبراطورية التي مثلوا جزءا منها كيانا أرثوذكسيا تكمل فيه الدولة والكنيسة كل منهما الأخرى في تناغم مثالي تحت قيادة «الإمبراطور المقدس»، خليفة الرب على الأرض؛ مما يعكس نظاما عالميا مقدرا إلهيا. ولما كانت الإمبراطورية تضم قدرا هائلا من المجتمعات العرقية والدينية في أراض مترامية الأطراف ومتنوعة ثقافيا، فقد كانت موحدة من خلال الولاء للإمبراطور ومن خلال الدين الرسمي الذي تدعمه الدولة. بالإضافة إلى ذلك، على غرار إيران الساسانية، كان رجال الدين الرسمي للدولة غير راغبين في التسامح مع الأقليات الدينية المتنوعة الموجودة داخل حدود الإمبراطورية، هذا في حالة عدم اضطهادهم لهم.
16
رغم ذلك، فإن التطورات التي حدثت في القرون اللاحقة، في أعقاب هزيمة بيزنطة من قبل الأتراك السلاجقة في معركة ملاذكرد عام 1071، ونهب الصليبيين القسطنطينية عام 1204؛ جلبت لبيزنطة - التي كانت تقلصت كثيرا بعد استعادتها عام 1261 - شعورا متزايدا بالهوية السياسية العرقية اليونانية وبكونها مجتمعا سياسيا يونانيا. يرى ألكسندر فاسيلييف أن الازدهار الأخير لبيزنطة أدى إلى «ظهور مشاعر الوطنية بين الشعب اليوناني، تصاحبها العودة إلى أمجاد اليونان القديمة.» يتحدث جون أرمسترونج عن «قومية مبكرة» في هذه الفترة، قائمة على الإحساس بالاختيار الإلهي والحماية الإلهية في وقت الصعوبات والمحن. ونظرا لأن الكنيسة والشعب أصبحا «إسرائيل الحقيقية»، فقد تمتعا بنعمة الرب الخاصة، وعزز هذا الشعور العداء الشديد من جانب رجال الدين والعوام المتحدثين باليونانية تجاه كل من اللاتينيين المهرطقين والأتراك الكفار. في الواقع، كانت الثقافة اليونانية واللغة اليونانية قد انتعشتا من جديد بالفعل في البلاط الملكي وفي إطار البيروقراطية في القرن التاسع، في وقت استعيدت فيه اليونان نفسها من السلاف والألبان، وأصبحت ذات أهمية أكبر للهوية الأرثوذكسية البيزنطية وللمجتمع الأرثوذكسي البيزنطي بسبب غزو البلغار والسلاف والأتراك لبلاد الشرق الأدنى والمقاطعات الغربية. بطبيعة الحال، كانت الأرثوذكسية في حد ذاتها شاملة في نطاقها ومهمتها. إلا أنه نظرا لازدهار الكنائس العرقية في أراضي البلقان التي كانت منتمية إلى الإمبراطورية في السابق، ونظرا لأن العهد الجديد اليوناني عززته الليتورجية اليونانية الأرثوذكسية، أصبحت اللغة اليونانية والثقافة اليونانية الوسيلتين الضروريتين، وقدمتا هوية راحت تزداد أهمية يوما بعد الآخر لبقية المسيحيين الأرثوذكس في الإمبراطورية البيزنطية التي تقلصت تقلصا شديدا. في الوقت نفسه، كانت بيزنطة مدينة أكثر منها أرضا تاريخية، وكانت ثقافة عامة عالمية أكثر من كونها مجموعة رموز وأساطير وذكريات سياسية عرقية كونت أساس هذا المجتمع الثقافي. ولم تتخذ الهوية الثقافية والدينية للسكان الناطقين باليونانية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية السابقة في البلقان (وفي الشتات) شكلا جديدا على نحو تدريجي لتمثل أساسا لمجتمع يوناني سياسي عرقي إلا بعد سقوط القسطنطينية وقضاء قرون تحت الحكم التركي وتقوية نظام الملل في الإمبراطورية العثمانية لها.
17 (4) الاستثناء الروسي
تعود سلالة روسيا الموسكوفية، التي تعتبر فرعا من بيزنطة وخليفتها الروحية، إلى روس الكييفية؛ تلك الدولة الإقطاعية التي تأسست في القرن التاسع على يد خليط من كبار لوردات ريوريكيد الإسكندنافيين والفلاحين السلاف، والتي استلهمت من بيزنطة مبدأ الهرمية المسيطر وتعريفها الأيديولوجي لذاتها. وفقا للسجل التاريخي الروسي الأساسي («قصة السنين الغابرة»، المؤلف عام 1115 تقريبا)، فإن اعتناق فلاديمير الأول المسيحية الأرثوذكسية عام 988 كان سببه الإعجاب الروسي بجمال الليتورجية والطقوس الأرثوذكسية، على الرغم من أن الأمور الجغرافية السياسية والتجارة كانت على الأرجح أكثر حسما. ورغم ذلك، دعمت الرمزية الأرثوذكسية قوة كبار دوقة كييف، وساعد الطقس الأرثوذكسي تدريجيا في توحيد المجتمع الروسي، في حين أن عقيدة المعاناة والفداء المسيحية سريعا ما اندمجت مع الاعتقاد القوي بالاختيار العرقي. يرى مؤلف السجل التاريخي الروسي الأساسي وهو يكتب عن معاناتهم في عام 1093 أن الرب اختار الشعب الروسي، لكن الشعب الروسي أخطأ؛ ولذلك خضع للتطهير من خلال الهزيمة والأسر:
لقد أطلق علينا غضبه أكثر من أي وقت مضى؛ لأننا على ما نحظى به من تفضيل عن غيرنا، فقد ارتكبنا خطيئات تفوق ما ارتكبه غيرنا، ولأننا على الرغم من كوننا أكثر استنارة من البقية، نظرا لمعرفتنا بإرادة الرب، فقد ازدريناها وازدرينا كل ما هو جميل؛ فحق علينا عقاب لم ينزل بالآخرين.
هذه العقيدة الأرثوذكسية المتمثلة في معاناة الجماعة العرقية وخلاصها امتدت إلى الريف على يد حركة الرهبنة التي قادها تبشيريون مثل القديس سرجيوس والقديس إسطفانوس في القرن الرابع عشر، اللذين مثل مسعى حياة القديسين بالنسبة إليهما مثالا روسيا خالصا، وغطاء للاتحاد الناشئ بين الكنيسة الأرثوذكسية وسلطة السلالة الحاكمة المتمركزة حاليا في دوقية موسكو الكبرى؛ ذلك لأن سقوط القسطنطينية في القرن التالي شجع على تكوين اتحاد أكثر وثاقة بين الدولة والكنيسة، بالإضافة إلى تعزيز فكرة أن روسيا هي المعقل الأخير للإيمان الحقيقي؛ لذلك، في اللحظة التي اكتسبت فيها الكنيسة الروسية مكانة الكنيسة القومية المستقلة، أصبح المجتمع الديني مطابقا للمجتمع السياسي، وراحت الدولة تتحول بمعدل مطرد إلى دولة أوتوقراطية وهرمية، وتبنى حكامها على نحو واع ألقابا بيزنطية مثل «أوتوقراط» و«قيصر»، بالإضافة إلى تبني مراسم ورموز البلاط البيزنطي، مثل النسر البيزنطي المزدوج الرأس.
18
في ظل هذه الظروف، لم يكن متوقعا إلا ضرورة أن يسفر المعتقد الديني عن معتقد سياسي. وفي المجلس الكنسي - الذي عقد عام 1504 - أكد الأباتي جوزيف أحد رهبان دير فولوكولامسك مبدأ أوتوقراطية وسيادة القيصر الذي يتسلم صولجانه من الرب. إلا أن مفهوم روسيا الأرثوذكسية بصفتها «روما الثالثة» صيغ في تعبير كلاسيكي في خطاب يعود لعام 1506 بعثه الأباتي فيلوثياس أحد رهبان دير بسكوف إلى الحاكم فاسيلي الثالث؛ ذلك الخطاب الذي أعلن أن روما الأولى سقطت بسبب هرطقتها، وأن روما الثانية سقطت بسبب الترك الكفار، وخلص إلى التالي:
سقطت روماتان، لكن الثالثة ما زالت ثابتة المكانة؛ ولن توجد روما رابعة. لن يحصل أحد آخر على مملكتك المسيحية.
واتخذ مبدأ الهرمية أبلغ صوره في الطقس البيزنطي المعقد المتمثل في تتويج القيصر إيفان الرابع عام 1547، وكان الأساس الأرثوذكسي الخالص لهذا المبدأ واضحا في الحرب الصليبية التالية التي أعلنت على قازان التترية عام 1552. وتوج ذلك بالمجالس الكنسية مثل مجلس ستوجلاف عام 1551، الذي فرض مزيدا من الانضباط في الكنيسة، وبتأليف كتب على يد المطران مكاريوس ركزت على موضوع روما الثالثة وموضوع القيصر كحاكم للأرثوذكس؛ تلك المفاهيم التي انتشرت بين قطاعات كبيرة من الناس من خلال الطقوس الدينية اليومية والمراسم الملكية.
19
ولم يصبح تعبير «روسيا المقدسة»، الذي ينطبق على الأرض والناس، منتشرا كرمز لتقوى وورع شعب يعاني إلا في أواخر القرن أثناء وقت الأزمات (1598-1613)، لا سيما أثناء تعرض السويديين والبولنديين للغزو. إلا أن هذه الأسطورة العرقية ل «الشعب الروسي» لم تنفض عن نفسها أبدا مفهوما أكثر قوة، ألا وهو مفهوم القيصر المعصوم، أبو الشعب؛ ومن ثم لم تتخلص من أسطورة اختيار السلالة الحاكمة. وفي الانشقاق العظيم الذي حدث لاحقا في ستينيات القرن السابع عشر، بدا أن الأسطورة العرقية الروسية تصف على نحو أفضل مستوطنات المؤمنين القدامى، في حين راحت أسطورة اختيار السلالة الحاكمة تزداد انفصالا عنها، وارتباطا بالإمبراطورية الروسية الناشئة، لا سيما بعد بطرس الأكبر وخلفائه.
20
من هذه المناقشة المختصرة، يتكون لدينا انطباع واضح يتمثل في أن إمبراطوريات أواخر العصر القديم والعصور الوسطى كانت بعيدة عن فكرة الأمة وممارساتها، وأن عددا قليلا من العمليات الضرورية لتكون الأمم كان موجودا خلال تاريخها الطويل؛ ولهذا السبب أيضا لا يمكننا توقع وجود أي إحساس بالهوية القومية بين سكان تلك الإمبراطوريات. وكان ذلك ينطبق على بيزنطة وإيران الساسانية بصفة خاصة. بالتأكيد، كان لدى النخب في كل إمبراطورية من تلك الإمبراطوريات إحساس بالهوية الجمعية في مقابل الآخر، بالإضافة إلى أساطير الأصل المشترك، لكن تلك الهوية كانت إما دينية خالصة - سواء أرثوذكسية أو زرادشتية - وإما سياسية متمثلة في دولة تكتلية بدلا من أمة موحدة. كلتا الإمبراطوريتين بنت كذلك مجموعة معقدة من الأساطير، والذكريات، والتقاليد، والرموز، وفي حالة بيزنطة نمت الإمبراطورية البيزنطية إحساسا قويا بالاختيار الإلهي، لكنه اختيار إلهي مرتبط بإيمان ديني، وحاكم مقدس، وليس مرتبطا بشعب أو أرض. ولعل ما هو أكثر أهمية أنه لا يوجد إلا أدلة قليلة على انتماء الذكريات والروابط إلى أقاليم محددة. وجد بين النخبة الساسانية إحساس غامض بتفوق إيران، ووجد ذلك الإحساس أيضا داخل إيران الفارسية، لكن الإمبراطورية كانت في واقع الأمر تحالفا مكونا من أمراء المقاطعات وطبقات النبلاء، وكانت حالات الولاء الإقليمية المشهودة تلك ذات طابع محلي. وكما رأينا، فقد كان الأمر نفسه ينطبق على الإمبراطورية البيزنطية. من ناحية أخرى، فقد كانت مدينة القسطنطينية هي ما ولد إحساسا بالانتماء الإقليمي.
إلا أن هذه ليست القصة كاملة؛ فكما رأينا، كانت توجد محاولات لنشر ثقافة عامة دينية في كل من إيرانشهر وبيزنطة، وكان رجال الدين في كلتا الحالتين نشطين في معارضة الأديان الأخرى وقمع الهرطقات. ونظرا لارتباط الدين بالعرقية في أغلب الأحيان، فقد أدى هذا إلى تمييز «الانتماء العرقي» السائد على حساب الأقليات العرقية الثقافية. علاوة على ذلك، كانت المراسم العامة للإمبراطورية وطقوس العبادة فيها مرتبطة بالدين السائد، ويحددها رجال الدين، ورغم ذلك، نجد مجددا أننا في حالة الإمبراطورية البيزنطية نتعامل مع دين للناس كافة. في هاتين الإمبراطوريتين، اتبع نشر القوانين والعادات تقاليد الشرق الأدنى القديم، لكن الإمبراطورية البيزنطية اعتمدت أيضا على تراث روما، لا سيما تحت حكم جستنيان.
لكن الحالة الروسية مختلفة بعض الشيء؛ فلم يقتصر الأمر على وجود تعريف ذاتي واضح للمجتمع منذ وقت مبكر، بالإضافة إلى تنمية الكثير من الأساطير والقصص المتوارثة والتقاليد والذكريات الروسية، بل وجد أيضا ارتباط قوي بالوطن الروسي. بطبيعة الحال، كانت المستوطنات الناطقة بالروسية موزعة على نطاق كبير يمتد إلى الشمال الغربي نحو نوفجورود، وإلى الشمال الشرقي نحو فلاديمير، وسوزدال، وتفير، وموسكو. افتقرت عملية الأقلمة البطيئة غير المتعادلة إلى الحدود الواضحة ل «أمة العهد» التي ستصبح النموذج القومي الغربي. إلا أنها على الصعيد الشعوري قدمت أساسا وافرا لترسيخ النطاقات العرقية، وفي نهاية المطاف، ولا سيما في العصر الحديث، تقديم هوية قومية مرتبطة ب «الطبيعة» الروسية ومناظرها بصفة خاصة.
21
علاوة على ذلك، فكما رأينا، شهدت فترة روسيا الموسكوفية تكون ثقافة عامة أرثوذكسية أصبحت بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية ثقافة دينية روسية حصرية لمملكة الإيمان «الحقيقي» الوحيدة المتبقية. من ناحية أخرى، ليس من المؤكد إن حدث توحيد للقوانين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ومدى ذلك التوحيد، نظرا لامتداد الإمبراطورية، وعادات مجتمعاتها العرقية المختلفة، والأملاك الكبيرة للطبقة الأرستقراطية. ولم تؤسس بيروقراطية مركزية متمتعة بالقوى الكافية لنشر قوانين موحدة عبر هذه المساحة الشاسعة إلا بعد إصلاحات بطرس الأكبر، على الرغم من أن الإحساس بالمجتمع الروسي كان في ذلك الوقت قد أضعفه نوعا ما دمج الشعوب المجاورة في إمبراطورية روسية أكثر اتساعا. ورغم ذلك، فإنه بداية من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر، من الممكن أن نتبين معالم أمة هرمية ترتكز على القيصر، والكنيسة، والمجتمع الأرثوذكسي، وتجمع بين ارتباط واضح بالأرض وثقافة عامة أرثوذكسية مع أعتاب فجر العصر الحديث.
22 (5) هل شهد الغرب أمم ما قبل الحداثة خلال العصور الوسطى؟
إن بحثنا عن مقومات الأمة في أعقاب انقسام المملكة الرومانية الغربية يعد هباء ولا جدوى منه، بحسب الافتراضات الواردة في السجلات التاريخية لقوميي القرن التاسع عشر التي تنسب أصول الأمم الأوروبية إلى كلوفيس الأول أو أرمنيوس أو هينجيست. بالفعل، تسجل مصادرنا تلاحقا سريعا لفئات عرقية نشطة، إلا أنه، باستثناء أمثلة قليلة، يبدو مفهوم تلك الفئات للتعريف الذاتي متغيرا على نحو محير، فضلا عن أن أساطير الأصل لتلك المجموعات غالبا ما تكون سريعة الزوال. يقول باتريك جيري إن هذه الأساطير والرموز هي في الغالب من اختلاق أمراء الحروب ورؤساء القبائل الساعين إلى إضفاء الشرعية على مناصبهم من خلال النسب النبيل، في حين أن تلك التحالفات الهشة التي يتزعمونها كانت تبلغ علم الرومان عن طريق مخبريهم تحت أسماء قبلية، فما كان من الرومان إلا أن منحوا تلك الفئات العرقية والجماعات الإقليمية المتغيرة المقسمة - في الغالب - قدرا أكبر من الموضوعية والرسوخ يفوق ما تستحقه، وذلك بما يتوافق مع النماذج والتوقعات العرقية الخاصة بهم. ومرة أخرى، باستثناء بعض الأمثلة الشهيرة، لا نجد قدرا كبيرا من مظاهر ارتباط الذكريات ومشاعر الانتماء الجمعية بمنطقة أو إقليم بعينه، أو تنمية الإحساس بالوطن. أما بالنسبة إلى العمليات الأخرى الأساسية لتكوين الأمة، التي تتمثل في نشر ثقافة عامة وتوحيد الممارسات القانونية، فيبدو أنها كانت إلى حد بعيد من اختصاص خلفاء روما من الأباطرة في الإمبراطورية الكارولنجية والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وكذلك من اختصاص القوة البابوية الصاعدة.
23
كانت الاستثناءات من هذه الصورة العامة في النصف الثاني من الألفية الأولى في أوروبا موضوع جدال محتدم؛ فقد أوضحت سوزان رينولدز أن بعض ممالك العصور الوسطى الأكثر استقرارا التي ظهرت في القرنين التاسع والعاشر، أبرزها مملكة الأنجلوسكسونيين، ومملكة الفرنجة، ومملكة النورمان، «مرتبطة بجماعة» (عشيرة، أمة، شعب)، ومفترض أن تلك الجماعة مجتمع طبيعي قديم له تقاليد وعادات وقانون وأصل مشترك. ومن خلال وصفها ب «الممالك» مقارنة بالأمم (الحديثة)، ومن خلال وصف شعورهم بالولاء بأنه «ملكي» بدلا من قومي، انتقدت رينولدز وجهة النظر القديمة التي تبناها هيو سيتون واتسون بسبب أنها وضعت رؤية غائية للتطور السياسي، وترى هذه الرؤية أن الأمة السابقة الوجود تتحرك حتما من خلال اكتساب «الوعي القومي» نحو الحالة النهائية وحدود الدولة القومية. هذا النوع من وجهات النظر يمنعنا من فهم مثل ومشاعر مجتمعات العصور الوسطى على حقيقتها فهما واضحا خاليا من الافتراضات الحداثية المسبقة التي غالبا ما تكون قومية.
24
ورغم ذلك، زعمت رينولدز مؤخرا أن «مفهوم الأمة الذي يمثل أساس كل أشكال القومية كان منتشرا قبل القرن الثامن عشر بفترة كبيرة.» رغم أن ذلك كان يبدو بديهيا ولم يكن يتطلب أيديولوجية أو حركة كتلك التي رأيناها في العصر الحديث. وجمع هذا المفهوم بين فكرة المجتمع الطبيعي الذي يملك نسبا مشتركا، وعرفا، وثقافة، وبين فكرة المجتمع السياسي الذي يتمتع بحقوق سياسية، حتى إن لم يكن ذلك المجتمع مستقلا. بالإضافة إلى ذلك، عندما يستمر الاسم الجمعي، مثل ذلك الذي يربط بين الفرنجة وفرنسا، فعادة ما تستمر أيضا أساطير الأصل، وفي هذه الحالة المذكورة، تتمثل أسطورة الأصل في أن الفرنجة أو الفرنسيين ينحدرون من نسل الطرواديين رغم التغير الكبير الذي طرأ على السكان وعلى الحدود. ترى سوزان رينولدز أن الأمم والقومية مفهومان ينتميان إلى عالم النظرية السياسية، أو على الأحرى ينتميان إلى الأفكار الشائعة التي يرى المشتركون في تبنيها أنها بديهية؛ ولذلك فإنها نادرا ما تظهر بوضوح في السجل التاريخي. إلا أن الحداثيين أمثال جون بروييه يرون أن هذا ليس كافيا لدعم حجة وجود أمم خلال ما قبل العصر الحديث، فضلا عن وجود قومية. ربما كانت مثل هذه الأفكار رائجة في أوروبا العصور الوسطى، وربما كانت سياسية وإثنوغرافية، لكننا نحتاج إلى أدلة مباشرة أخرى قبل أن يمكننا التأكد من أن الشعوب في العصور الوسطى شعرت بانتمائها إلى أمة، وكلمة «شعب» هنا يقصد بها معظم أفراد سكان كيان سياسي بعينه.
25 (6) هل إنجلترا أول أمة؟
من نواح عديدة تمثل إنجلترا نموذجا للأمم السابقة للحداثة. كان أدريان هستنجز قد أوضح بالفعل أن إنجلترا كانت تتصدر قائمة أمم ما قبل العصر الحديث (سبقتها أرمينيا وإسرائيل القديمة لكنهما حالتان منفردتان)، مشيرا إلى أن نصوص القرن الرابع عشر تكشف عن مفهوم للأمة يتشابه كثيرا والمفاهيم المعاصرة، وأنه نظرا لازدهار الأدب الإنجليزي واستخدام اللغة الإنجليزية في البلاط الملكي وفي الإدارة اللذين تزامنا مع ارتفاع روح «القومية» في حرب المائة عام، يكون لدينا مبرر لاعتبار الإنجليز أمة في العصور الوسطى. إلا أن هستنجز اعتبر أيضا إنجلترا في أواخر عهد الأنجلوسكسونيين منذ القرن العاشر «دولة قومية» كاملة التكوين. وفي هذا الصدد، اتبع وجهة النظر المتطرفة للمؤرخين، أمثال جيمس كامبل وباتريك وورمالد، الذين زعموا أنه على الرغم من أن بيدا لم يطرح سوى رؤية الأمة الإنجليزية المسيحية (على الرغم من ولائه الشديد لمملكة نورثمبريا)، فإن الملك ألفريد - من خلال حكومته وقوانينه وإنجازاته الأدبية والتعليمية - هو من أسبغ على أفكار بيدا معنى نظاميا، وبدأ عملية دمج ممالك وشعوب عديدة في أمة واحدة. ورغم ذلك، لم يتمكن خلفاؤه، لا سيما أثيلستان وإدجار، من ترسيخ فكرة وواقع الأمة الإنجليزية وتوحيد جماعاتها وكياناتها السياسية المختلفة في مملكة واحدة إلا في القرن العاشر والقرن الحادي عشر.
26
على النقيض من وجهة النظر تلك، تحدث كريشان كومار عن غياب أي نوع حقيقي من المشاعر القومية لدى الإنجليز في هذه الفترة، حتى لو أصبحت إنجلترا الأنجلوسكسونية:
واحدة من أكثر الدول تكاملا ومركزية في أوروبا، إن لم تكن أكثرها تكاملا ومركزية على الإطلاق، وهذا إنجاز عادة ما يعزى في الأساس إلى الملك ألفريد العظيم. وورث ويليام الفاتح دولة جيدة التنظيم، تدار بنظام إدارة موحد، وهيكل قوانين ملكية بالغ التطور، وعملة مركزية، ونظام ضرائب فعال.
إلا أن هذا، كما يقول كومار، يعد مختلفا كثيرا عن «الأمة» المتكاملة، أو النوع المتطور من «الهوية القومية». إن محاولة إحياء مملكة مرسيا في القرن العاشر، وعالمية الكنيسة الرومانية، والعلاقات مع إسكندنافيا، وتحزب نبلاء الإنجليز؛ يعارض أي نوع حقيقي من الهوية القومية بين الطبقات العليا في هذه الفترة. إن كل أمر من هذه الأمور إذا تعاملنا معه على حدة فقد لا يبدو خطيرا للغاية؛ فعلى أي حال، في وقتنا المعاصر توجد أكثر من أمة مقبولة، لدى كنيستها علاقات تتجاوز حدودها، ويرتبط أفرادها بعلاقات مع مناطق أو «عرقيات» أو دول أخرى، وتعاني من الحزبية، وغيرها. ورغم ذلك، فإن تضافر هذه المعوقات يبدو أنه يضعف من حجة وجود أمة إنجليزية في هذه الفترة، حتى إذا كنا في حاجة إلى التشكيك في اعتراض كومار الحداثي الأساسي (والعبثي) المتمثل في أن إنجلترا في عهد الأنجلوسكسونيين فشلت في إظهار «أي شكل لعلاقة بين النخب والعوام، أي الأشخاص العاديين في المجتمع؛ فالأمة التي تتكون من النخب وتعبر فقط عن وعي النخبة ليست أمة بالمعنى المقبول للكلمة في الوقت الحاضر.»
27
من ناحية أخرى، سواء أقبلنا وجهة النظر المتطرفة القائلة بوجود «دولة» أنجلوسكسونية تحت حكم «ملك الإنجليز» قبل عام 1066 أم لم نقبلها، فمن الممكن تقديم حجة أخرى منفصلة تتحدث عن تكون نوع من العرقية الأنجلوسكسونية المشتركة؛ ففي القرن العاشر كانت النصوص أمثال ملاحم «الخروج»، و«معركة مالدون»، و«وقائع الأنجلوسكسونيين»، و«التاريخ الكنسي للشعب الإنجليزي» الذي كتبه بيدا قبل ذلك؛ تشير بقوة إلى أن النخب الأنجلوسكسونية بالإضافة إلى سيطرتها على مجتمع إنجليزي له اسم وتعريف ذاتي وأسطورة أصل مشترك، فقد كانت لها أيضا مجموعتها الخاصة من الأساطير والذكريات والرموز والتقاليد المشتركة، أبرزها أسطورة قدرية للاختيار العرقي من قبل الرب، مصوغة على غرار نموذج الشعب الذي يجمع العهد بين أفراده في العهد القديم. علاوة على ذلك، وفرت اللغة الأنجلوسكسونية وسيلة فعالة للتواصل مع الطبقات الأخرى، بالإضافة إلى أنها أدت إلى ظهور أدب ثري ومتنوع. كذلك ساعدت اللغة المشتركة في نشر القوانين والمؤسسات الملكية في معظم أنحاء المملكة، حتى إذا لم يكن لدينا «دليل مستقل» مباشر، حسب قول بروييه، على أن الأشخاص الذين كانوا يستخدمون محاكم المقاطعات، على سبيل المثال، كانوا يرون أنها مؤسسات «إنجليزية» وأصبحوا مرتبطين من خلال هذه المؤسسات بالأمة «الإنجليزية». ورغم ذلك، فالتمتع بقدر كبير من الترابط والوحدة على الصعيد الإقليمي هو ما كان يفتقر إليه، هذا إذا استثنينا بعض فترات قصيرة. وعلى الرغم من تحدث بعض المصادر عن ارتباطات الجزر البريطانية بأرض الإنجليز «إنجلا لوند»، فإنه ليس من الواضح إلى أي مدى ينطبق ذلك على إنجلترا أو بريطانيا ككل (في الوقت الراهن تقريبا)، وهذا أمر ما زال يعرقل التحليل حتى يومنا الحاضر. وفيما يتعلق بالثقافة العامة المشتركة والمميزة، فلا يمكننا الجزم بمدى انتشارها في هذه الفترة، حتى عن طريق الكنيسة، على الرغم من تحقق «التبعية المتبادلة بين الملك وأمة سياسية واسعة النطاق بالتأكيد» في الحكم المحلي (المقاطعات ومجالس المقاطعات) ومن خلاله، حسبما أوضح وورمالد.
28
تشير حجة وورمالد إلى أن المملكة الأنجلوسكسونية، مثل بقية الممالك الأخرى في أوروبا الشمالية، كانت غير هرمية في جوهرها، واعتمدت في الأساس على التجمعات المحلية لتحقيق ترابطها. على النقيض من ذلك، بدا أن النورمان قد اقتبسوا لحكمهم طابعا هرميا مميزا، من ناحية كل من الروابط الإقطاعية الخاصة بالأراضي الزراعية، وكذلك إضافة طبقة من الفرسان المتحدثين بالفرنسية على النظام الاجتماعي الإنجليزي السابق. علاوة على ذلك، فقد كانت اهتماماتهم أوروبية على نحو قاطع؛ فقد قضى معظم الملوك النورمان الذين حكموا إنجلترا قدرا كبيرا من الوقت خارج البلاد يدافعون عن ممتلكاتهم في الأنحاء الأخرى فيما يعرف بفرنسا حاليا أو يوسعون تلك الممتلكات، في حين كان رؤساء الأساقفة من أوروبا القارية في أغلب الأحيان. وكانت ثقافة النخبة في تلك الفترة ثقافة قارية أيضا؛ في عمارتها، ولغتها، وأدبها، وكانت إما فرنسية وإما مشتقة من الثقافة الفرنسية. من الناحية الأخرى، بحلول أواخر القرن الثاني عشر، وصف الحكام النورمان أنفسهم بملوك إنجلترا، وتزوج فرسانهم من الإنجليز واندمجوا معهم لدرجة كبيرة. في ذلك الوقت أيضا، كان النورمان يميزون أنفسهم بوضوح عن كل من الويلزيين والأيرلنديين؛ إذ كانوا يعتبرون ثقافاتهم وعاداتهم «منحطة». بالإضافة إلى ذلك، ساعد مؤرخو القرن الثاني عشر أمثال ويليام المالمسبوري، وجون ورشستر، وأورديريك فيتاليس، وهنري الهنتينجتوني، في إحياء التاريخ الأنجلوسكسوني وروح الماضي الإنجليزي، فقط لإضفاء الشرعية على حكم النورمان، وبدا أيضا أنهم سعوا إلى تحقيق تصالح بين الإنجليز والنورمان. علاوة على ذلك، من خلال تبني وجهة نظر جيفري المونموثي التي طرحها في كتاب «تاريخ ملوك بريطانيا»، طالب الملوك الإنجليز، لا سيما إدوارد الأول، بحق الإنجليز في حكم بريطانيا بأكملها على غرار حكم آرثر؛ ذلك «الإمبراطور» البريطاني الأسطوري الذي سبق حكمه عهد السكسونيين.
29
وهذا يشير إلى أن ثمة عملية إحياء كانت تجري على قدم وساق لهوية «عرقية» إنجليزية (أنجلونورمانية) ذات تعريف ذاتي جديد، وأساطير أصل جديدة، وتاريخ مشترك مرتبط بأرض معينة، ومختلفة على نحو واضح عن الويلزيين والأيرلنديين. من جانب آخر، فإن الهوية «القومية» كانت بدأت في الظهور لتوها في هذه الفترة. ولم يوجد إلا قدر قليل من الثقافة العامة المميزة واللغة المميزة (إذ ظلت اللاتينية اللغة الرسمية، بينما كانت الفرنسية اللغة المتحدث بها في البلاط الملكي)، وكان يوجد فقط قدر من الترابط الإقليمي (ظل الشمال، بصفة خاصة، منفصلا بوجه عام). أما التطور الذي حدث في هذه الفترة، فكان وجود دولة إنجليزية قوية نسبيا، ذات موارد مالية مركزية، وقانون إنجليزي واحد مكتوب تنظمه المحكمة ونظام من المحاكم الدورية التي تقام فيها محاكمات أمام المحلفين، ويعمل بها قضاة محترفون. وكما يعلق ريس دافيس فإنه: «بحلول القرن الثالث عشر، كان القانون الإنجليزي يعتبر إحدى العلامات المميزة للهوية الإنجليزية وجزءا لا يتجزأ من الثقافة السياسية الإنجليزية.»
30
بدأت الأمور في التغير في أواخر القرن الرابع عشر، حين شهدنا عناصر ثقافة عامة مميزة، مثل ظهور الملكية المقدسة، ورمزيتها السياسية في عهد الملك ريتشارد الثاني والملك هنري الخامس، وتأسيس مجلسي البرلمان، وتزايد استخدام اللغة الإنجليزية بين موظفي السجلات، وبدايات الأدب الإنجليزي (باللغة الإنجليزية الوسطى) في شعر جاور، ولانجلاند، وتشوسر، والترجمات العامية للكتاب المقدس في عهد ويكليف. بلا شك أدى قرار تشوسر بالكتابة بالإنجليزية في الأساس إلى عزله عن القراء الأوروبيين، لكنه أيضا قربه أكثر من الوعي الإنجليزي الخالص؛ مما يشير إلى أنه «رأى أن قراءه «هم» الإنجليز، وكانت هذه الرؤية مهمة من عدة نواح.»
31
كان لهذه التطورات جذورها في القرن السابق، في الأخبار التي رواها المؤرخ ويندوفر مثل ذلك الخبر الذي رواه عام 1233 مناهضا فيه البواتفيين، ومناديا فيه بمنح الأولوية للشعب الإنجليزي الأصلي وليس للأجانب، أو في قصائد مثل قصيدة «أغنية لويس» التي تحتفي بحرية الإنجليز أثناء احتفالها بانتصار البارونات في حرب البارونات الثانية عام 1264. وعلى الرغم من أن سلسلة الحروب ضد ويلز واسكتلندا وفرنسا التي بلغت ذروتها في حرب المائة عام كان دافعها الأساسي مصالح الأسر الحاكمة، فإنها هي ما كان يثير مشاعر الولاء القومي لشخص الملك كرمز للأمة بدرجة متزايدة، وبخاصة الولاء للملك هنري الخامس. والسبب في ذلك أننا حتى إذا صرفنا النظر عن الوصف المثالي والمستوحى من الكتاب المقدس الذي قدمه شكسبير للملك هنري الخامس، فسوف يظل لدينا ملك يسعى إلى ترويج اللغة الإنجليزية، والتغلب على الانقسامات الكبيرة بين الأرستقراطية الإنجليزية التي تسبب فيها اغتصاب والده للعرش، بالإضافة إلى دمج المجموعات العرقية والطبقات المختلفة لتحارب تحت لوائه. بطبيعة الحال، من الممكن أن نرى في أفعاله مجرد استخدام للشعور القومي من أجل أهداف تخدم الأسرة الحاكمة وتكوين الإمبراطورية، حسبما يرجح كريشان كومار، لكن هذا يفترض وجود قدر من «الشعور القومي» في المقام الأول. علاوة على ذلك، يزعم العديد من مؤرخي العصور الوسطى أنه لا يمكن العثور على حس الهوية القومية إلا في هذين القرنين، على الأقل بين النخب، لكن ربما وجد أيضا ذلك الحس بين العوام المزارعين.
32
تشير كل هذه الأمور إلى أن الإحساس بالهوية القومية في أواخر عهد إنجلترا العصور الوسطى كان يتنامى لدى كثير من أفراد الطبقة العليا ولدى بعض أفراد الطبقة المتوسطة. وعلى الرغم من أنهم ظلوا يشعرون بقوة الهويات الجمعية الأخرى وصور الولاء الأخرى، المحلية والكاثوليكية معا، فقد كان نموذج الأمة الإنجليزية العرقية السياسية ومصيرها داخل حدودها تقريبا قد بدأ في السيطرة عليهم سيطرة كبيرة؛ نظرا لأن الممتلكات الملكية في فرنسا في ذلك الوقت كانت متنازعا عليها وضائعة. وساعد في ظهور هذا التوجه وجود ثقافة عامة مميزة ترتكز على الملك، ووجود نظام قانوني أكثر مركزية. من جانب آخر، باستثناء بعض مصادر العصور الذهبية المقدسة، مثل التضحية وما شابه ذلك، كانت الهوية الإنجليزية مفتقدة الصفة «الدينية»؛ ومن ثم الصفة الملزمة والقائمة بذاتها، التي نربطها بالأمة؛ فتضحية الصليبيين نيابة عن العالم المسيحي استغرقت بعض الوقت كي تنتقل إلى «الوطن». وما عاود الظهور هو الاعتقاد بالاختيار العرقي للشعب الإنجليزي؛ لذلك، في عام 1377، ألقى المستشار آدم هوفتون، خطابا في افتتاح البرلمان أثنى فيه على انتصارات الملك إدوارد الثالث، وعلى ازدهار المملكة، التي «أظهرت أن إنجلترا تتمتع بتفضيل الرب، وأن الإنجليز هم شعب إسرائيل الجديد، وأن مملكتهم هي «ميراث الرب».» ولم يكن ذلك تعبيرا فرديا عن فكرة اختيار الشعب لمهمة تبشيرية؛ فقد صاحب آمال الحرب الصليبية الأنجلو فرنسية قدر كبير من «الوطنية الإقليمية» الإنجليزية، خصوصا خلال احتفالات الانتصار التي أعقبت معركة أجينكورت.
33 (7) فرنسا: المملكة الأكثر مسيحية
لخص الوصف الشهير «مملكة فرنسا المقدسة» الذي أطلقته جان دارك تراثا طويلا من الملكية الهرمية في فرنسا قائما على إحساس واضح بالمجتمع الفرنسي العرقي السياسي. نبعت قداسة المملكة الفرنسية من الأسلاف الأتقياء لملوكها ومن طائفة القديس لويس، ومن تقوى وورع شعبها، وعدد قديسيها ومقامهم الرفيع، لا سيما القديس دينيس، بالإضافة إلى كمية البقايا الأثرية، والشهداء والجثامين المقدسة الموجودة بها، وكنائسها وكاتدرائياتها، والكهنة والجامعات، وفوق ذلك كله نقاء إيمان شعبها، وعدم هرطقتهم ودعمهم المستمر للكنيسة. ولا عجب أن الملوك الفرنسيين منذ عهد فيليب الرابع، حوالي عام 1300، وصفوا أنفسهم بلقب «الملوك الأكثر مسيحية»، ورأوا أن شعبهم هو الجزء الأكثر حظوة من «إسرائيل الحقيقية»، أي الكنيسة الكاثوليكية، التي حلت محل الشعب المختار الأصلي. ونظرا لمعارضة الملك فيليب الرابع لبابا الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت، بونيفاس الثامن، فقد اعتبر فيليب نفسه «درع الإيمان وحامي الكنيسة».
34
قامت مزاعم الملوك الفرنسيين على أساس نسب يكافئ نسب الملوك الإنجليز ويساويه في القدم والنبل. انطلاقا من توحيد كلوفيس الأول لمقاطعة الغال الرومانية وتحوله إلى المسيحية الكاثوليكية عام 496، في معارضة القوطيين الغربيين الأريوسيين، تتحدث مزاعمهم عن سمو:
أمة الفرنجة المجيدة، المختارة من قبل الرب، الباسلة في الحروب، الوفية في السلم ، العميقة في الحكمة، الكبيرة في الجسم، الطاهرة في النقاء، العظيمة بلا نظير، الجسورة والسريعة والشرسة، المتحولة حديثا إلى الإيمان الكاثوليكي، والخالية من الهرطقة.
هذا ما ورد في تمهيد القرن الثامن لنصوص القانون السالي القديم. وبعد فترة ليست بطويلة، مسح الأساقفة بيبان، ابن تشارل مارتيل، بالزيت المقدس، بمباركة البابا، وأعلن أن مملكة الفرنجة هي مملكة داود الجديدة وأن شعبها يشابه شعب إسرائيل القديم في الترتيب الإلهي، وقد أكد البابا هذه المكانة في حفل تتويج شارلمان كإمبراطور عام 800.
35
تجدد الاعتقاد بأولوية المملكة الفرنسية بالقداسة في أوائل القرن الثاني عشر في عهد لويس السادس، عندما تأسست جماعة تبجيل القديس دينيس، القديس الحامي للمملكة. وكان القديس يمدح في القصيدة الملحمية «أغاني البطولة»، وكانت «رايته البرتقالية» ترفع في المعركة. إلا أن نصوص هذه الفترة المبكرة استخدمت مصطلح «الأكثر مسيحية» للإشارة إلى الشعب الفرنسي بدلا من المملكة الفرنسية أو الأرض الفرنسية، وأطلقت بقدر أقل على الملوك نظرا لأنه قبل لويس السادس لم يذهب أي ملك فرنسي إلى الحروب الصليبية. وبدأ هذا الأمر يتغير في أوائل القرن الثالث عشر عندما استعاد فيليب أغسطس نورماندي، وأصبح «الفرنجة» يقودون الحملات الصليبية، وأصبحت مملكة عائلة كابيه معروفة باسم «المملكة الفرنسية»، وأصبحت جملة «الدفاع عن المملكة» شائعة الاستخدام على نحو متزايد، حيث استحضرها الملك فيليب أغسطس والملك فيليب الرابع لتبرير حروبهما.
36
رغم ذلك، منذ منتصف القرن الثالث عشر، عززت جماعة لويس التاسع المقدس ورجال الدين في كنيسة القديس دينيس وكنيسة فلوري الاعتقاد بالحماية الإلهية للمملكة الفرنسية والمكانة الرفيعة لملكها وشعبها. في عام 1239 وفي عام 1245، كان المقر البابوي يخاطب لويس التاسع باسم «الأمير الأكثر مسيحية، حاكم الشعب الأكثر تقوى»، في حين بدأ الفرنسيون المتعلمون يرون أنفسهم «أمة مباركة»، مخلصين للكنيسة والبابوية. وكانت تلك أيضا الحقبة التي ترجم فيها «التاريخ الفرنسي الكبير» إلى الفرنسية نقلا عن النصوص اللاتينية القديمة التي مدحت حماس ونقاء الكاثوليكية الفرنسية وتقوى ملوكها. وكتب جوزيف ستراير عن هذه الفترة، فقال إن الكابيتيين «اضطروا إلى اختراع فرنسا التي زعموا أنهم يحكمونها. كان عليهم أن يجعلوا الرجال فخورين بالبلد وموالين كذلك للملك، وكان عليهم توسيع فكرة فرنسا لتتوافق مع توسيع نطاق نفوذهم.» ويستطرد ستراير قائلا إنه من أجل هذه الغاية اندمجت فكرتان، ألا وهما: فكرة الملك المقدس والبلد المقدس، وساعد اندماجهما في التعجيل بظهور دولة فرنسية مركزية نحو عام 1300.
37
وترى كوليت بون أيضا أن الأرض والشعب والملك كانوا يعتبرون على القدر نفسه من القداسة بداية من عهد فيليب الرابع الملقب بفيليب الوسيم. عام 1302، وصف الراهب جيوم دو ساكفيل الفرنسيين بأنهم شعب الرب الذي اختاره الرب كما اختار إسرائيل، أرض العهد الجديد، أرض الميعاد، الأرض المقدسة: «اختار الرب مملكة فرنسا على كل الشعوب الأخرى.» وأكدت أيضا دعاية نوجاغيه على أن الرب اختار فرنسا مملكة خاصة به: «اختار الرب مملكة فرنسا وباركها على كل الممالك الأخرى في العالم.» وعبر عن هذه الفكرة أيضا المرسوم البابوي في ذلك الوقت، المعروف باسم «ملك المجد»، الذي نص على ما يأتي:
كون ملك المجد ممالك مختلفة داخل نطاق هذا العالم وكون حكومات للشعوب المتنوعة وفقا لاختلافات اللغة والعرق. وبين تلك الممالك، وعلى غرار شعب إسرائيل ... (فإن) مملكة فرنسا، كشعب خاص اختاره الرب لتنفيذ أوامر السماء، تتميز بأمارات معينة من الشرف والنعمة.
38
فيما بعد، عبر جورج شاستيلان عن هذا الشعور تعبيرا موسويا، فقال: «يشرق الرب بوجهه عليكم، وتستقر يد الرب على الشعب الذي اختاره.» كان هذا مشهودا بعلامات نعمة خاصة: القارورة المقدسة لمسح الملوك، والزنبق، و«الراية». ويلزم ذكر تعليق بون المتعلق بفكرة أن مفهوم الأمة الهرمية لا يربط النخب بعامة الشعب:
تكونت فكرة الأمة في المملكة منذ فترة مبكرة في تاريخها؛ ومن ثم استلهمت أكثر من الأمم الأخرى لتستمد قيمتها من إيمانها والتزامها بالإرادة الإلهية. واستخدم مصطلح «الأكثر مسيحية» دون تمييز للإشارة إلى الملك الفرنسي وللإشارة إلى الشعب والأرض.
39
في القرنين التاليين توسع مفهوم فرنسا بعدة نواح؛ في البداية، كان المفهوم سياسيا، يتمثل في «مملكة فرنسا» التي يحكمها الملك فيليب أغسطس، وفي منتصف القرن الثالث عشر، توسع المفهوم ليشمل كل المملكة، «أرض محددة، أرض عاش فيها عرق الفرنجة منذ زمن سحيق.» وبعد ذلك، أصبحت مشخصة، فهي: «المرأة الفرنسية» اللطيفة، الجميلة، الحرة (من الضرائب)، الباسلة، الموالية، المخلصة، المتعلمة، الأكثر مسيحية. ويرى آلان كارتييه، عندما كتب حوالي عام 1420، أن شخص فرنسا مثل مجموعة من الصفات الطبيعية والثقافية كان لكل شخص واجب تجاهها يماثل واجب الطفل تجاه أمه. وبحلول عام 1484، استطاع مستشار فرنسا استخدام موضوع فرنسا كحديقة، وأكد على أن «جمال البلد، وخصوبة تربته، وسلامة هوائه تتفوق على كل البلدان الأخرى حول العالم.» وصاحب ذلك مطالبات حماسية للدفاع عنها. وفي تسعينيات القرن الخامس عشر، نقرأ في «عقيدة النبلاء» أنه: «يجب أن يكرس كل شخص نفسه للدفاع عن أرضه؛ فالشرف والمجد الحقيقيان يتوجان أولئك الذين يموتون من أجل بلدانهم. لا يوجد شيء بالغ الصعوبة لدرجة تحول دون إنقاذ مكان ميلاد المرء.» ولكيلا يخطئ المرء ويظن أن هذه دعوة للدفاع عن المنطقة الأهلية للشخص فقط، تقتبس بون صلاة قالها اللورد جون دو بويي في ذلك العصر، نصها كالتالي:
صلوا من أجلي أيها الشعب الطيب، صلوا لأجل اللورد بويي الذي قتل في الحرب العظيمة، مقاتلا من أجل فرنسا ومن أجلكم. (وتضيف كوليت بون: «الذي مات من أجل فرنسا.»)
40
لم يكن مفهوم فرنسا شائعا ومنتشرا على نطاق واسع بين الطبقات المتعلمة فحسب، بل ارتبط بالمملكة، والأرض، والشعب؛ ومن ثم جسد المبدأ الهرمي المتمثل في نظام اجتماعي موحد في أرض معينة. إلا أن الهرمية لم تتضمن (ولا تتضمن) عزل النخب عن غالبية السكان؛ فعلى الرغم من الاختلافات الإقليمية في المملكة الفرنسية، والثقافة المختلفة جدا في الجنوب، فقد انتشرت المعرفة بمفهوم أوسع لفرنسا وانتشر التعلق بهذا المفهوم تدريجيا، وإن كان على نحو متقطع وغير متساو، من باريس وإيل دو فرانس إلى المناطق الأخرى من خلال العمليات المختلفة لتكون الأمة المتمثلة في تعريف الهوية الفرنسية المختلفة من خلال معارضة القوى الخارجية، لا سيما الدولة الإنجليزية، وتداول أساطير الأصول (الطروادية)، والذكريات، ورموز المملكة الفرنسية، وتزايد أقلمة الذكريات والارتباطات ب «فرنسا»، ونشر القوانين والعادات من المركز إلى المناطق الأخرى، وخلق ثقافة عامة ملكية ومسيحية ونشرها، بما في ذلك مراسم تتويج الملوك، ودخول الملوك للمدن، والقوى الشفائية للملك، ودور المجالس القضائية.
41
وكان ما ساعد في تقوية الهوية القومية الفرنسية بحلول أوائل القرن السادس عشر هو تكوين بعض المصادر الثقافية المقدسة. وكان أهم تلك المصادر بلا شك أسطورة قوية للانتخاب العرقي، ركزت على الملك، لكنها امتدت أيضا لتشمل الأرض وشعب المملكة. وعلى الأرجح لا يمكننا أبدا أن نعرف على نحو مؤكد إلى أي مدى انتشر ذلك الاعتقاد بين الأشخاص العاديين، لا سيما أولئك المقيمين في الريف. إلا أنه في القرن الخامس عشر، ربما شجع القتال المطول ضد الأعداء الإنجليز والبرجنديين كثيرا من أهل البلدات، وربما بعض الفلاحين، على التعاطف مع دعوة جان دارك للدفاع عن مملكة فرنسا المقدسة. (8) اسكتلندا
نجد تركيبات مشابهة من الهرمية، والارتباط الإقليمي، والمشاركة الأوسع نطاقا في مكان آخر. تمثل مملكة اسكتلندا أثناء حروب الاستقلال وبعدها مثالا توضيحيا لذلك. والدليل الأهم في ذلك الصدد هو إعلان أربروث (1320). إلا أن هذه الوثيقة ليست سوى وثيقة ضمن سلسلة من الحركات الدبلوماسية الهادفة إلى مجابهة مزاعم سيادة الملك الإنجليزي إدوارد الأول على اسكتلندا. وجابه تأكيد إدوارد الأول على حقوقه المفترضة التعليمات التي أرسلت إلى المندوبين الاسكتلنديين في البلاط البابوي للبابا بونيفاس الثامن في مدينة أناني عام 1301، وكذلك وثائق لاحقة مثل إعلان رجال الدين عام 1309، والاعتراض الأيرلندي عام 1317، وانتهت بإعلان أربروث. يقول إدوارد كوين إنه لم يكن من الممكن أن يعجز مستقبلو هذه التوسلات عن فهم أنها «صادرة عن شيء أكبر من أفواه الرعايا الإنجليز المنشقين أو المتمردين الإقطاعيين المحبطين من حاكمهم الجبار. لقد كان ما يعبر عنه هو صوت أمة.»
42
يوجد في كل وثيقة من هذه الوثائق إشارة إلى «مجتمع المملكة»، وفي بعض الأحيان إلى «موافقة كل الشعب»؛ لذلك، فإن إعلان رجال الدين عام 1309 يتحدث عن كل الشعب الذي يعاني من العبودية والعذاب والذبح، تماما مثل الاعتراض الأيرلندي عام 1317 (الذي يتحدث بمصطلحات أكثر تطرفا) وكذلك إعلان أربروث. هل يمثل هذا ما هو أكثر من مجرد مصطلحات تقليدية معتادة في هذه الفترة؟ يبدو أن الحروب المطولة ضد الملك إدوارد قد أبرزت طبقة من الملاك الأحرار تحت الطبقة المكونة من التسعة والثلاثين إيرل وبارون الذين وقعوا بأختامهم على الإعلان. وظهر أيضا في هذه الفترة البرلمان الاسكتلندي، لكنه لم يحصل مطلقا على المحورية والأهمية اللتين حصل عليهما نظيره الإنجليزي. وفي هذه الحالة، فإن التوسلات المتكررة الموجهة إلى «العرق» الاسكتلندي و«الأمة الاسكتلندية» تمثل توسعا للأمة السياسية داخل النظام الاجتماعي الأرستقراطي التقليدي.
43
ورغم ذلك يبقى السؤال: هل يمكننا استنتاج وجود نوع من الهوية القومية الاسكتلندية في هذه الفترة اعتمادا على تلك الوثائق الثقافية المطروحة على نحو مقنع، يتجاوز حدود نخبة البارونات الصغيرة؟ في حقيقة الأمر، لا نعرف سوى القليل عن شعور الجنود العاديين، ولا يتوافر لدينا إلا الحقيقة التي يذكرنا بها بروس ويبستر المتمثلة في أنهم: «قاتلوا، مثل قادتهم، في ظروف كان من الأسهل والأكثر أمنا ألا يقاتلوا فيها.»
44
علاوة على ذلك، تستخدم كل الوثائق السالفة الذكر المصطلحات المتعلقة بالطغيان، وتزعم أن الشعب انتخب أميرا، مثل يهوذا المكابي، يعتبر أداة للرب للتخلص من الطغيان وتحرير الشعب من العبودية. توضح وثيقة تعليمات عام 1301 هذه الفكرة بتشبيه الملك إدوارد بأنطيوخوس الرابع الذي أشعل الثورة المكابية بتدنيسه للهيكل. كثير من هذا الكلام المتعلق بالحرية والطغيان كان بطبيعة الحال منتشرا لدى غيرهم في أوروبا، ونابعا إلى حد ما من كتابات تشابه كتاب «بوليكراتيكوس» لصاحبه جون سولزبري الذي كتبه في القرن الثاني عشر، لكنها جاءت في الأساس من العهد القديم وكتاب أبوكريفا. في حالة اسكتلندا، ولا سيما في إعلان أربروث، كان يوجد أيضا تأثر بالكلاسيكية؛ حيث نجد فقرات معروفة تتحدث عن الموت في سبيل الحرية تستحضر على نحو حرفي تقريبا «المؤامرة الكاتلينية» للمؤرخ سالوست (63 قبل الميلاد).
45
من ثم، فإن الادعاء مع كومار أن أحداث ووثائق تلك الفترة «تحمل طابع الحرب الأهلية أكثر من طابع الحرب القومية في المنطقة الحدودية» بين مؤيدي الملك جون باليول ومؤيدي الملك روبرت بروس، وأن «ما ينطبق على المنطقة الحدودية كان منطبقا على الدولتين في المجمل»؛ يجعلنا نغفل عن فكرة أن الحروب ضد الملوك الإنجليز، إدوارد الأول وإدوارد الثاني وإدوارد الثالث، ساعدت أيضا في تكوين الهوية السياسية الاسكتلندية. في حقيقة الأمر، هذه ليست هوية قومية بالمعنى المفهوم لدى الرومانسيين الألمان أو المفكرين مناصري النزعة السلافية، على الرغم من إثراء التراث السلتي في ذلك الوقت. ولم تكن تلك الهوية القومية شاملة الشعب كله، على الرغم من اشتراك فئات أخرى بالإضافة إلى الطبقة الأرستقراطية. وصحيح أيضا أن ثقافة ولغة معظم الأراضي المنخفضة في اسكتلندا تأثرت على نحو هائل بالطابع الإنجليزي، وأن التأثيرات الثقافية عبر الحدود كانت متغلغلة؛ ففي النهاية، حارب معظم النبلاء الاسكتلنديين ضد الإنجليز (بعضهم حاربوا على نحو متقطع نسبيا) وتصاعدت المقاومة، ونشرت الجيوش، وتكونت أساطير وذكريات عن المعارك والحرية وتوارثتها الأجيال. وهذا هو جوهر الأمر؛ ففي أغلب الأحيان، يكون ما حققته الأجيال اللاحقة من الحروب (وإعلان الاستقلال بعد ذلك بكثير) هو المهم.
46
في الحقيقة، لقد كان القرن الخامس عشر تقريبا هو الفترة التي شهدت تكون نوع من الهوية القومية الاسكتلندية. وبالفعل في سبعينيات القرن الرابع عشر، كانت ملحمة جون باربر، التي حملت اسم «الملك بروس»، قد أرست تاريخا مناهضا للإنجليز يتناول حروب الاستقلال، واحتفت بالحرية كهدف ومعنى للهوية الاسكتلندية. وأكمل ذلك التاريخ النثري الذي قدمه جون فوردن بعد ذلك بفترة قصيرة، وقد صاغ هذا العمل أسطورة سكوتا، التي تتناول قصة الهجرة من مصر الفرعونية إلى إسبانيا ومن ثم إلى اسكتلندا، وكذلك تاريخ سلسلة الملوك الاسكتلنديين غير المنقطعة. وتبع ذلك كتاب «الوقائع التاريخية الأصلية لاسكتلندا» للكاتب أندرو وينتون في عشرينيات القرن الخامس عشر، وهو سرد تاريخي شعري طويل يتناول تاريخ العالم وتاريخ اسكتلندا، وأعقبه في أربعينيات القرن الخامس عشر السرد الأكثر رواجا بين الأعمال السردية القديمة التي تناولت التاريخ الاسكتلندي، وهو كتاب «وقائع الاسكتلنديين» للكاتب والتر باور، وعمد هذا العمل إلى إبراز أهمية التاريخ للهوية الاسكتلندية وأهمية وجود ملك قوي لدعم تلك الهوية. وأصبح ازدهار الأعمال السردية التاريخية الشعرية والنثرية أساسا لمظاهر التأكيد على الهوية الاسكتلندية التي حدثت لاحقا، فضلا عن أن تلك الأعمال غذت عداوة الشعب تجاه الإنجليز، وبلغت تلك العداوة ذروتها في كارثة معركة فلودن عام 1513 التي أسفرت عن موت جيمس الرابع. ورغم ذلك، شهد القرن الخامس عشر تكون هوية اسكتلندية مميزة قائمة على أسطورة الأصل والتاريخ الاسكتلندي.
47 (9) هل هي أمم هرمية؟
هل تقدم تلك الحالات الثلاث أدلة داعمة كافية على ظهور أمم في فترة ما قبل الحداثة في دول القرنين الرابع عشر والخامس عشر؟ هل تسمح لنا بالحديث عن أمم «هرمية»؟
بطبيعة الحال، وفقا للمعايير التي وضعها الحداثيون، فإن هذه الحالات لا يكاد ينطبق عليها معيار الأمم «الحديثة»؛ فأعضاؤها ليسوا مواطنين، ومعظمهم لا يشاركون في الحياة السياسية. بل ليس واضحا أنهم يشعرون بالانتماء إلى أمة معينة، ورغم ذلك فليس واضحا أيضا أنهم لا يشعرون بالانتماء. نحن ببساطة لا نعلم. (ولكننا أيضا لا نعلم عدد الأفراد الذين يشعرون بالانتماء إلى «أممهم» في كثير من الأمم الحديثة). بالإضافة إلى ذلك، فهي ليست أمما «قومية» بالمعنى الأيديولوجي. على صعيد آخر، فإن ممالك إنجلترا، وفرنسا، واسكتلندا في العصور الوسطى تتفق جيدا مع بعض معايير الحداثة الأخرى؛ فقد كانت مجتمعات ذات طابع إقليمي، وكانت مجتمعات قانونية سياسية، وكانت مجتمعات مستقلة وذات سيادة كاملة حقا. وكانت تلك المجتمعات أيضا مشاركة في نظام «دولي»؛ نظام حقيقي من التحالفات والعداوات اتخذ شكلا محددا في أواخر العصور الوسطى.
والأهم من ذلك أنها كانت متقدمة جدا من ناحية العمليات الاجتماعية والرمزية المتعلقة بتكون الأمم؛ فقد كان لدى نخبها إحساس واضح بالهوية الجمعية، والتعريف الذاتي الجمعي المحدد في مقابل الآخرين. وامتلكوا أيضا أساطير مألوفة شائعة للغاية عن الأصل والسلف، بالإضافة إلى مجموعة من الأساطير والرموز والذكريات والتقاليد الأخرى التي عززوها والتي ميزتهم عن جيرانهم. وبداية من القرن الثالث عشر فصاعدا (وأبكر من ذلك الوقت في حالة المملكة الإنجليزية)، أصبحت هذه المجتمعات الملكية ذات طابع إقليمي على نحو متزايد. وعلى الرغم من أن الارتباطات المحلية والمناطقية ظلت قوية، فقد كانت تلك الممالك تمتلك مركزا سياسيا، وفضاء سياسيا كبيرا ومحددا وإن كان متغيرا في بعض الأوقات، وإحساسا بالملكية الإقليمية، بالإضافة إلى ذكريات وارتباطات متزايدة بأرض المملكة، من جانب النخبة على أقل تقدير. وشهدت تلك الفترة أيضا تزايدا سريعا في المركزية وتوحيد القواعد القانونية والمؤسسات القانونية، بالإضافة إلى محاولات متكررة لتطبيق مجموعة قوانين واحدة لمراعاة القانون والتقاليد في كل أنحاء مقاطعات ومناطق المملكة، وقد تفاوت النجاح في تحقيق ذلك. وأخيرا، في كل الممالك الثلاث كان يوجد تكون واضح لثقافة عامة مميزة. وشمل ذلك الرمزية السياسية للملكية المقدسة، وطقوس المجالس البرلمانية، والطبقات الاجتماعية، والجمعيات، وظهور القواعد اللغوية العامية في الشئون القانونية والسياسية، وظهور الأدب العامي، والارتباط الوثيق بين الطقوس العامة والرمزية وبين المعتقد المسيحي والطقوس المسيحية.
قد يبدو أنه من باب التسرع بناء حجتنا على وجود أمم هرمية في فترة ما قبل الحداثة اعتمادا على ثلاثة أمثلة فحسب - على الرغم من أنه كانت توجد في أوروبا، كما سنرى، حالات أخرى أقل تقدما - لكن من ناحية معايير تكوين الأمم التي أوضحتها في البداية، فإن هذه المجتمعات الملكية الثلاثة تمثل أسسا كافية لاعتبارها أمما في فترة ما قبل الحداثة في القرن الخامس عشر، ما دمنا ميزنا بوضوح بينها وبين الأمثلة التاريخية اللاحقة التي تمثل فئة الأمة. إننا نواجه في هذا الصدد نوعا من الأمم يختلف من نواح عديدة عن الأمم الديمقراطية الغربية، نوعا من الأمم يتسم بالتراتبية الهرمية بدلا من المساواة، يتسم بالتقليد بدلا من التحديث. ولكن الكثير من الأمم الحديثة غير ديمقراطي أيضا، ويتمسك عدد ليس بالقليل من تلك الأمم بتقاليد تعود لأزمان سحيقة.
ما إن نقبل أن «الأمة» و«الحداثة» لا تربطهما إلا علاقة مشروطة، فسوف نستطيع عندها أن نرى أنه من الممكن أن توجد أمم مختلفة جذريا عن المفهوم الغربي التقليدي، وسندرك أيضا أن المفهوم الغربي الحديث للأمة في حاجة لمراجعة هائلة. ارتبط هذا المفهوم بفكرة طرحها وتابعها بعض القوميين (لكن ليس كلهم)، وتقول هذه الفكرة إن الأمة متجانسة ثقافيا أو يجب أن تكون كذلك، وإن الفروق الداخلية التاريخية يجب محوها. ومن الواضح أن مثل هذه التقسيمات الفرعية المناطقية والثقافية كانت، ولا تزال، سمة طبيعية من سمات الأمم الهرمية. في الحقيقة، لقد استمرت إلى يومنا هذا في أغلب الأحيان. وعلى الرغم من المركزية الشديدة للثورة الفرنسية، فإنها فشلت في محو المناطق التاريخية في فرنسا، ومن ناحية أخرى فقد استمر الفرق بين الأراضي المنخفضة والأراضي المرتفعة في اسكتلندا حتى يومنا الحاضر، بالإضافة إلى الولايات والكانتونات في ألمانيا وسويسرا. لقد أصبحنا أيضا أكثر تعودا بكثير على اعتقاد أن الأمة هي مجتمع شامل يئوي ثقافات ومجتمعات عرقية مختلفة، ويربط بينها أيضا من خلال الرمزية المشتركة وشبكة من المؤسسات. في هذا الصدد، ربما تكون الأمم الهرمية، على أقل تقدير، أول ما أشار إلى وجود نوع من المجتمعات القومية أقل ترابطا وينتمي إلى «ما بعد الحداثة».
الفصل الخامس
الأمم العهدية
بالنسبة إلى الحداثيين، فإن الأمم والقومية ظهرتا في أواخر القرن الثامن عشر وليس قبل ذلك على أقصى تقدير. وحتى إذا لم يقبلوا رأي إيلي كادوري الذي يقول إن أيديولوجية القومية بدأت مع الرومانسيين الألمان، لا سيما فيشته في كتابه «خطابات إلى الأمة الألمانية» (1807-1808)، فإن كثيرا منهم سيرجع نشأة القومية إلى الثورة الفرنسية، وأعقاب الثورة الأمريكية، والتقسيم الأخير لبولندا. ورغم ذلك، عندما يتعلق الأمر بنشأة الأمم وظهورها، فإن الحداثيين يبدون قدرا أكبر من الغموض. إذا كانت القومية والدولة هما سبب تكون الأمم كما يقول جيلنر وهوبزبوم، فلا بد من إرجاع تاريخ نشأتها إلى القرن التاسع عشر على نحو قاطع، بل ربما لفترة لاحقة. أما إذا كان يعتقد أن الأمم تتكون على مدار فترة زمنية أطول، فمن الأفضل النظر إليها باعتبارها نتاجا لظروف أوروبا الغربية في القرن الثامن عشر؛ تلك الظروف التي تشمل المنافسة التجارية والعسكرية بين دول أوروبا وتكون الاتحادات البرجوازية وجماهير القراء في معارضة متزايدة للدولة الاستبدادية البيروقراطية.
1
يثير موضوع «الهوية القومية» أسئلة جديدة. وفي هذا الصدد، ينقسم الحداثيون؛ فيميل بعضهم إلى اعتبار كل ما سبق القرن الثامن عشر، بما في ذلك أي أدلة على وجود شعور قومي، غير ذي عواقب على تكوين القومية والأمم في فترة لاحقة، والسبب في ذلك أن الأمم في الأساس نتاج للثورة العلمية والثورة التكنولوجية المرتبطتين بأوائل عصر التصنيع. أما البعض الآخر، فإنهم على الرغم من قبول هذا الموقف العام، يقرون بوجود الأفكار والمشاعر القومية في الفترات السابقة للحداثة، لكنهم يعتبرونها وصفية ومفتقرة كثيرا إلى النشاط السياسي المميز للقوميات اللاحقة. ولا يظهرون استعدادا لقبول وجود قدر أكبر من المشاعر القومية المستمرة والمنتشرة في فترة ما قبل الحداثة إلا في حالة واحدة أو حالتين، أبرزهما هي إنجلترا في بداية عصر الحداثة. في حاشية سفلية لكتاب «الأمم والقومية»، يقر إرنست جيلنر ب «الظهور المبكر للشعور القومي في إنجلترا» قبل قرنين من ظهور التصنيع، وفي رأيه أن هذا ربما يكون نتيجة لظهور الفردية وروح الحراك الاجتماعي. وبالمثل، فإن إريك هوبزبوم في كتابه «الأمم والقومية منذ عام 1780» بعد إخبارنا أن روابط «الأمم الأولى» المتمثلة في الأرض واللغة والدين ليست مرتبطة «بالضرورة» بظهور الدولة القومية الإقليمية الحديثة، يقر بأن الانتساب إلى دولة تاريخية، كما هي الحال في روسيا وصربيا، قد يؤثر مباشرة «على وعي الناس العاديين لتكوين قومية بدائية، بل ربما لتكوين شيء قريب من الوطنية الحديثة، كما في حالة إنجلترا في عهد أسرة تيودور.»
2
في هذا الفصل، سوف أوضح أنه في بعض أجزاء من أوروبا في أوائل عصر الحداثة نشهد ظهور الإحساس بالهوية القومية لدى النخبة (وليس فقط في الدول الهرمية)، وكذلك ظهور شعور قومي أوسع نطاقا لدى «الطبقة الوسطى» في حالات قليلة. ثانيا: أود أن أقدم فكرة أكثر تحديدا تتمثل في أن هذه الفترة قد شهدت ظهور شكل من القومية الأيديولوجية ساعد بدوره في ترسيخ كل من هوية ومجتمع الأمة. (1) الهويات القومية في أوائل عصر الحداثة
رأينا بالفعل بعض الأدلة على وجود إحساس محدود بالهوية القومية بين النخب قائم على كل من الأساسيات العرقية الدينية والسياسية، لا سيما في دول أوروبا الغربية. وعادة ما يستشهد بالنموذج الألماني كمثال أولي على عدم وجود أي إحساس بالهوية القومية، بل عن استحالة وجود تلك الهوية حتى القرن التاسع عشر. ولا يبدو أن السكان الذين لديهم عدد هائل من اللغات المحلية، بالإضافة إلى اللهجات والمؤسسة الإمبراطورية التي اضمحلت قوتها سريعا بعد موت فريدريك الثاني، يتمتعون بالحس المجتمعي المطلوب كي يشعر المجتمع أنه أمة. رغم ذلك، حتى في هذه الأجواء غير المبشرة، أوضح لين سكيلس أنه كان ثمة إحساس بين الطبقات المتعلمة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر بالهوية الألمانية بين متحدثي اللغة الألمانية مرتبط بإمبراطورية ذات جذور ألمانية على وجه الخصوص. حتى قدماء الإيطاليين أشاروا إلى أتباع الأباطرة السكسونيين والساليين بالتوتونيين والتيوتونيين، ومع نزاع التنصيب ومبدأ نقل قيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى الألمان بإذعان من البابا، وهو المبدأ الذي صاغه البابا إينوسنت الثالث في مرسوم «فينرابيلم» أي «إلى أخي المبجل» (1202)، أصبح مقبولا على نحو كبير وجود إحساس بالهوية الألمانية المرتبطة بالإمبراطورية الألمانية المسيطرة وعزز تلك الهوية الأدب الغنائي الألماني المعروف باسم «مينيسانج». ودعم هذا الارتباط أسطورة الأصل الطروادي لكل من الفرنجة والشعب الألماني ككل لاحقا. ووفقا لسكيلس، فإن الطابع العرقي للإمبراطورية يمكن العثور عليه في الوثائق المأخوذة من خزانة الوثائق الإمبراطورية، بل أيضا في «الوقائع والحوليات المكتوبة بالعامية واللاتينية، وفي الأغاني السياسية والنثر السياسي اللذين كان القرنان الثالث عشر والرابع عشر يزخران بهما.» ورغم ذلك، فإننا نجد في الأطروحات والمنشورات والكتيبات السياسية في تلك الفترة تعبيرا كاملا عن العرقية الألمانية المشتركة، حتى مع تدهور السلطة الألمانية المركزية، وكان كتاب تلك الوثائق ينتمون عادة إلى الأقاليم والطبقة الوسطى. وفي ظل هذه الثقافة السياسية، ظهر الإحساس بالهوية الألمانية والهوية السياسية، حتى في غياب سلطة موحدة حقيقية. وبحلول القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لا سيما بعد استعادة مخطوطة كتاب «جرمانيا» لكاتبه تاكيتوس، استطاع أتباع النزعة الإنسانوية أمثال كونراد سيلتس وأولريش فون هوتن ولورنس فريس أن يمدحوا أصالة ونقاء اللغة الألمانية وتفوق الثقافة الألمانية، وربطوا كلا الأمرين بالماضي الإمبراطوري الألماني المجيد.
3
في أوروبا الشرقية أيضا توجد أدلة على المشاعر القومية المتقدة، على الأقل بين الطبقات الحضرية المثقفة. في بوهيميا، أدت الحرب المناهضة للهوسيين إلى إظهار المشاعر القومية لشعب التشيك. وفي أوائل القرن الخامس عشر، أصبح ربط بوهيميا بالأرض المقدسة وربط التشيكيين بالأمة المقدسة مكونا جوهريا في الحماس الإصلاحي الذي تبناه الهوسيون، وهو الارتباط الذي عبر عنه المعلم جيروم الذي يعمل أستاذا في جامعة براغ عام 1409 بالألفاظ التالية: «أمة بوهيميا المقدسة»، «الأمة المقدسة»، «المجتمع المقدس». وبلغ هذا الأمر ذروته في دعوة التشيكيين عام 1420 «للاحتشاد من أجل الدفاع عن مملكة بوهيميا «الأكثر مسيحية»، مدعومين من قبل ظهيرهم القديس فينسيسلاوس.»
4
وعلى نحو مماثل، بعد أن وحدت بولندا في القرن الخامس عشر تاجها مع تاج ليتوانيا، وبعد هزيمة الفرسان التيوتونيين، أصبح لدى البلاط الملكي والمثقفين تأييد متزايد لفكرة المجتمع القومي البولندي الحصري، المناهض لكل من التجار الألمان واليهود. وعلى الرغم من حماية اليهود من قبل الملوك، فقد صدرت على نحو متزايد قوانين إقصائية ضد اليهود، سببها رجال الدين وكذلك الإحساس بأن الكاثوليكية لديها مهمة تتمثل في أن تكون حصنا ضد التتار والأرثوذكسية الموسكوفية. لكن في القرون التالية، مع هجمات الكنائس البروتستانتية، وعلى الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية البولندية ظلت تلعب دورا محوريا في المملكة، فإن الكاثوليكية أصبحت في حقيقة الأمر الدين الذي يدين به ما يقل عن نصف سكان بولندا وليتوانيا تقريبا.
5
في بعض الأحيان، تذكر إسبانيا كمثال على الدولة والهوية القومية المبكرتين. إلا أنه خلال قرون حروب الاسترداد الممتدة، من الصعب العثور على مشاعر قومية إسبانية ثابتة، مقارنة بالمشاعر القومية القشتالية أو البرتغالية أو النافارية أو الأراجونية، على الرغم من أن بعض المؤرخين الإسبانيين المتأخرين قد أسبغوا على تلك القرون التي اتسمت بالولاء المشوش والثقافات (المسيحية واليهودية والإسلامية) المختلطة إطارا من الهوية الكاثوليكية الخاصة بشبه الجزيرة الإيبيرية، كما أذاع ملوك مملكة ليون في بعض الأوقات. ونظرا للاختلاف الشديد في الهياكل التنظيمية لهذه الممالك الأربع، فإنه من غير المفاجئ أن لحظات العمل الموحد النادرة، كما في الحملة التي أدت إلى الانتصار في معركة لاس نافاس دي تولوسا (معركة العقاب) عام 1212 على دولة الموحدين؛ قد فشلت في تعزيز هوية سياسية هسبانية أوسع نطاقا.
6
من ناحية أخرى، فإنه بحلول القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر كان الشعور بالاختيار الإلهي المشروط لقشتالة الذي كان بمنزلة كفارة عن خطايا القوط الغربيين وعقابهم على يد المسلمين الغزاة قد تزايد ارتباطه بفكرة «الجغرافيا المقدسة» التي رأت أن «أرضهم هدية خاصة من الرب». كذلك في مملكة أراجون، ركز ملوك تراستامارا على نبوءات مسيحانية بخصوص «داود الجديد» الذي سيخرج من إسبانيا ويعيد بناء «قلعة جبل صهيون» ويعيد غزو أورشليم، وقد انتهت هذه النبوءات المسيحانية بالنبوءات الكثيرة المتعلقة بحكم الملك فرناندو الثاني. ومن الصعب تقييم إلى أي مدى كان هذا التوجه مسئولا عن توليد إحساس عرقي وإقصائي بالهوية الإسبانية على نحو متزايد استهدف اليهود المتحولين حديثا إلى الكاثوليكية (الكونفرسوس) وأدى في نهاية المطاف إلى طرد اليهود والموريين على يد الملكية الإسبانية الموحدة. أما ما يبدو مؤكدا، فهو أنه بعيدا عن النخبة الصغيرة للغاية، فإن الهوية الإسبانية التي كانت منطوية في الحكم الإمبراطوري للملكية الإسبانية كانت عاجزة عن أن تتكون وتتحدى المشاعر الوطنية القائمة المتعلقة بالممالك والمجتمعات العرقية التقليدية في إسبانيا.
7
تمثل إيطاليا مثالا مبهرا بصفة خاصة على ظهور إحساس بالهوية القومية لدى النخب، ومرة أخرى كان هذا الإحساس عاجزا عن تحدي الهويات المحلية التقليدية الراسخة بقوة المتعلقة بالممالك والدوقيات والدول المدن في إيطاليا، فضلا عن احتوائها. يرى البعض أمثال جيمس سترجيوس أن الولاء لهذه الجهات والمشاعر الكثيرة المرتبطة بها لم يتركا مجالا للشعور بالهوية القومية الإيطالية، وفي واقع الأمر كانت مصطلحات مثل «الأمة» و«الوطن» تكاد تشير حصريا إلى الدول المدن والمجتمعات المحلية التي طالما كانت شبه الجزيرة الإيطالية منقسمة إليها. وبالنسبة إلى المفكرين أمثال ميكيافيلي، فإن مصطلح «الأمة»، بصفة خاصة، يشير إلى محل الميلاد أو منطقة جغرافية، على الرغم من أن هذا الوصف شمل أيضا «الأمم» الألمانية والإيطالية والفرنسية والإسبانية. وخلال القرن السادس عشر، تراجع أيضا استخدام كلمة «وطن» ذات المفهوم الأكثر بطولية، التي كانت مرتبطة في السابق بمثال «الفضيلة»، وهذا لصالح الدولة، ومثال «المصلحة الوطنية» الذي لا يهتم بالمعايير الأخلاقية.
8
إلا أن هذا جزء فقط من القصة؛ فعند التطرق إلى مناقشة موضوع «الإيطالية»، يوضح جوزيب لوبيرا أنه إبان عصر النهضة كان يوجد وعي متزايد بالوحدة الثقافية والتاريخية الإيطالية، وهو وعي قائم على الوعي بالتراث الروماني. من ناحية أخرى، كان الإحساس بالانتماء إلى «إيطاليا» مقتصرا إلى حد بعيد على المفكرين الإنسانويين، وكان أقل وضوحا وقوة بالمقارنة بولاء المرء للدولة المدينة التي ينتمي إليها، سواء أكانت ميلانو أو فلورنسا أو روما أو نابولي أو فينيسيا. وبالمثل، بينما يوافق أندرس توفتجارد على أن مصطلحات مثل «أمة» كانت تستخدم كمرادفات لكلمة «ناس» وكلمة «شعب» وتتعلق بالأصول السلالية والجغرافية، فإنه يذكرنا أن المفكرين الإنسانويين الإيطاليين أمثال أريوستو وبيترو بيمبو تحدثوا كثيرا عن «الإيطاليين» وعن «إيطاليا». وعلى الرغم من أنه يتفق على أننا لا يمكننا - بطبيعة الحال - التحدث عن أمة إيطالية قائمة، فإن مثل هذه التعبيرات يخبرنا بوضوح أن فكرة إيطاليا والإيطاليين لم تكن ببساطة من الاختراعات الحديثة.
9
لذلك، في أطروحة «عن البلاغة في العامية» (دي فولجاري إيلوكونشيا)، تلك الأطروحة التي ظلت مفقودة لفترة، والتي يعود تاريخها إلى عامي 1304-1305 وتتحدث عن اللغة الإيطالية، يكشف دانتي:
مفهوما واضحا لأرض اسمها إيطاليا يتشارك سكانها في نوع من الثقافة. يشترك هؤلاء السكان، الذين يطلق عليهم دانتي «لاتينيين» أو «إيطاليين»، في ثقافة مشتركة، وتراث مشترك، ولغة مشتركة؛ ومن ثم فهم مختلفون عن الشعوب الأخرى أمثال الفرنسيين والهسبانيين. يوضح دانتي أن إيطاليا موحدة ثقافيا ويجب أن تسعى إلى أن تكون موحدة سياسيا. ورغم ذلك، فإن هذا المجتمع «الإيطالي» هو فقط أحد المجتمعات التي تخيلها دانتي الذي أحب دولة مدينة فلورنسا لكنه طالب بشدة في «مملكته» بإعادة تكوين الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
10
في هذا الصدد، نرى كلا من ميوعة الهويات السياسية في العصور الوسطى والوجود المتخيل للهوية القومية. في الحقيقة، كان مفهوم الشخصية الإيطالية القومية، الذي يعد واحدا من شخصيات قومية كثيرة على هذه الشاكلة، قائما على اللغة والأصول المشتركة، وكذلك على القمع والاحتلال الحالي لإيطاليا من قبل القوى الأجنبية، رائجا لدى كثير من مفكري النهضة الإيطاليين في مناقشاتهم حول طبيعة اللغة الأدبية الإيطالية وجاذبيتها، مثلما كان رائجا عند معظم الأجانب. وهذا يعني أنه في بداية عصر الحداثة دار حوار استمر طويلا حول الهوية القومية الإيطالية التي نظرا لافتقارها إلى إطار سياسي موحد لم تتمكن إلا بعد وقت طويل من تقديم مقومات ثقافية للحركة السياسية الساعية إلى توحيد إيطاليا في فترة توحيد إيطاليا.
11
في فرنسا خلال القرن السادس عشر، كان ذلك الإطار السياسي موجودا بالفعل منذ عدة قرون؛ فمنذ القرن الثالث عشر، كانت فرنسا المكونة من إمارات تتوحد تدريجيا تحت التاج وتحت حكم ملكها «الأكثر مسيحية»، على الرغم من احتفاظ العديد من المناطق بعاداتها وقوانينها وثقافاتها، لا سيما في بريتاني وفي الجنوب. في القرن التالي، بدأ بعض المفكرين والمحامين في الفصل بين المملكة والأمة وبين شخصية الملك، وبحلول القرن الخامس عشر بدءوا يتصورون «فرنسا» كشخص؛ ففي العمل الأدبي الذي قدمه آلان شارتيه بعنوان «الحوار الرباعي المهين» نرى فرنسا سيدة من الأسرة المالكة، وأما حزينة توبخ أبناءها الثلاثة (الولايات المتنازعة)، بينما بالنسبة إلى جيرسون، كما رأينا في الفصل الأخير، فإن فرنسا تشبه حديقة منعزلة وخصبة وجميلة. في أواخر القرن الخامس عشر، تحت تأثير الإنسانونية الإيطالية، تزايد امتزاج فكرة «الأمة» الفرنسية بالمفهوم الكلاسيكي المتمثل في «الوطن»، وأعطيت كلتا الفكرتين محتوى ثقافيا وأدبيا وسياسيا أيضا. وبالفعل في سبعينيات القرن الرابع عشر، كان الإنسانويون أمثال جون دو إيدان، عند عودة البابوية من أفينيون إلى روما، قد عارضوا تأكيد بترارك على أنه خارج إيطاليا ليس ضروريا البحث عن الشعراء والخطباء. وبعد ذلك بقرن، أنتج روبرت جوجيان، متأثرا بحب بلده، مجموعة من الشخصيات الأدبية الفرنسية تعود إلى الغاليين الرومان والقديس جريجوريوس التوري. ورغم ذلك، فقد ظلت اللاتينية لهؤلاء الكتاب هي اللغة الأعلى المستخدمة في الأعمال الجادة. ولم يبدأ اعتبار اللغة الفرنسية الأدبية مكافئة لنظيرتها الإيطالية، ومن ثم ظهور الحاجة إلى الكتابة بالفرنسية (الأدبية)، إلا مع ظهور عمل «تناغم لغتين» عام 1511 للكاتب جون لومير المولود في بيلجي. وفي هذا النص، تصور فرنسا كأمة تضم أمما فرعية (بريتاني، وبورجونيا، إلخ)، تشبه كثيرا إيطاليا وأممها الفرعية، لكن في الحالة الفرنسية دعمت الوحدة السياسية الإحياء المرغوب للغة الفرنسية وثقافتها.
12
يعكس جواكيم دو بيليه في مقال «الدفاع عن اللغة الفرنسية وإبراز بيانها اللغوي» الذي كتبه عام 1549 موقفا سياسيا مشابها. في ذلك الوقت، كانت فكرة «نقل التعليم» التي سادت في القرون الوسطى، والمقصود بها نقل التعلم من أثينا إلى روما، وإلى باريس فيما بعد، مرتبطة بالقوة السياسية والعسكرية المتنامية، وفي مقال دو بيليه كانت فرنسا بصدد أن تشهد ازدهارا في القوة الثقافية متزامنا مع قوتها السياسية، وتزامنت فكرة «حب الوطن» مع فكرة «حب لغة الوطن». وفي الحروب الدينية اللاحقة، عندما اشتدت المشاعر المعادية للإيطاليين، لا سيما من الجانب البروتستانتي، أصبح المصطلح الفرنسي «وطن» منتشرا، واستخدم بدلا من المصطلح القديم «بلد»، أو استخدم إلى جانبه، ليشمل كل سكان مملكة فرنسا. وعلى الرغم من أن دو بيليه رأى أن مقال «الدفاع عن اللغة الفرنسية وإبراز بيانها اللغوي» مشروع ثقافي للنخبة مصمم من أجل أن يروق للملك الجديد هنري الثاني، فإن حججه الموضحة للتكافؤ الثقافي مع إيطاليا ومدحه المتحمس للفرنسيين وأخلاقهم وعاداتهم العليا دعم تأكيد النخبة للهوية القومية والارتباط ب «الوطن» الفرنسي، ذلك التأكيد النخبوي المدعوم من الدولة.
13
لا يمكن أن تمثل حروب الوردتين في إنجلترا في القرن الخامس عشر، وخسارة الأملاك في فرنسا، لحظة مواتية لإظهار المشاعر القومية الإنجليزية، فضلا عن التأكيد على الهوية القومية الإنجليزية. إلا أن الصراع والانقسام يمكنهما أيضا دعم المشاعر القومية، وتبقى حقيقة أنه على الرغم من عقود التشوش والمجازر التي تسببت فيها عائلة يورك وعائلة لانكستر المتحاربتان، فقد تماسكت المملكة الإنجليزية وخرجت أكثر مركزية وقوة تحت حكم أسرة تيودور. رغم ذلك ، فإن الانسحاب الطويل من أوروبا القارية ساعد في واقع الأمر في تعزيز الإحساس بالهوية الإنجليزية الصرفة التي أصبحت واضحة بالفعل في الأفكار النمطية المتعلقة بالأمم الأجنبية التي تصارعت معها المملكة الإنجليزية. وبطبيعة الحال، فإننا نتناول شكلا هرميا من الهوية القومية، كما هي الحال في أجزاء كبيرة من أوروبا، وشكلا مقتصرا على نخبة صغيرة. ورغم ذلك، فإنه يشمل الطبقة السياسية التي يمثل لها نطاق إنجلترا، كما يقول الملك هنري الثالث: «إمبراطورية» مستقلة عن سيطرة الإمبراطورية البابوية أو سيطرة الإمبراطورية «الرومانية المقدسة». وكما يوضح لوبيرا فإنه: «يوجد دليل على التماهي القوي بين الملك والأمة، لكن هذا هو المتوقع من هذه الفترة.» ويقتبس مستحسنا رأي هانز كون الذي يقول إن اعتلاء أسرة تيودور للعرش «وضع أسس التجانس القومي الذي كان شرطا ضروريا لتكون القومية لاحقا» في القرن السابع عشر.
14 «التجانس» مصطلح قوي إلى حد بعيد، وحتى كلمة «وحدة» لا تبدو مناسبة في مثل هذه الفترة العاصفة. ورغم ذلك، فمن الصعب التفكير في أي فترة في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين - عصر القومية الحديثة - يمكن أن يقال إن الوحدة، فضلا عن التجانس، كانت السمة المميزة لمعظم الأمم خلالها. وما نجده في إنجلترا في أوائل عصر الحداثة هو دليل على شعور متزايد بالهوية القومية بين أقلية صغيرة من السكان، لكنها انتشرت تدريجيا خارج النخبة الحاكمة لتصل إلى البلدات. وارتكز هذا الشعور بالهوية القومية، أكثر من ذي قبل، على الملكية القوية، لا سيما بعد انشقاق الملك هنري الثامن عن روما واضطلاعه بمنصب الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا. لهذا السبب، يوضح كريشان كومار - في نقد أطروحة ليا جرينفيلد التي تقول إن إنجلترا في عهد أسرة تيودور «اخترعت» «القومية» - أن ما نجده في هذه الفترة في فرنسا وفي إنجلترا وفي كل مكان آخر هو «وطنية ترتكز على التاج» وليس «قومية». ويعارض كومار لسبب وجيه وجهة نظر جرينفيلد التي تقول إن إنجلترا إبان القرن السادس عشر قد شهدت ظهور قومية شعبية، بل حتى ديمقراطية قائمة على الثورة الاجتماعية للحراك الاجتماعي الجديد. إلا أن كومار برفضه لفكرة القومية الإنجليزية المبكرة يرفض أيضا الاعتراف باحتمالية وجود شعور متزايد ب «الهوية القومية» الإنجليزية في هذه الفترة، وهذا أمر اعترف به جزئيا في تحليله لإنجلترا في أواخر العصور الوسطى. وطوال الوقت، يتأرجح كومار ما بين الإحساس ب «الهوية القومية» و«القومية»، ولا يعرف أيا من المصطلحين تعريفا رسميا. ولا يوجد بالتأكيد أي دليل على وجود حركة أيديولوجية للقومية في إنجلترا خلال القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر. إلا أن هذا لا يتضمن غياب الإحساس ب «الهوية القومية» الإنجليزية أو «الشعور القومي» الإنجليزي، وإن كان شعورا مقتصرا على أقلية. وكما رأينا، فإن نخب المجتمع الهرمي يمكن أن تكون مشبعة بإحساس بالهوية القومية، بل حتى بالشعور القومي، وأعتقد أن هذا ما تشير إليه مظاهر الإنجليزية الكثيرة، والقوية غالبا، إبان هذه الفترة. والسبب في ذلك أنها على الرغم من تركيزها على التاج، فإنها تضمنت غالبا تعبيرا عاما عن «حب الوطن» والأمة، في مقابل الأمم الأخرى.
15 (2) تفكك العالم المسيحي
ما الذي يمكن أن نستخلصه من هذا الاستعراض المختصر لوجود أو غياب «الهويات القومية» في أوروبا في أواخر العصور الوسطى؟ هل يمكن دعم صحة أطروحة ماركو السابقة التي تقول بوجود موجة من القوميات الأوروبية في القرن السادس عشر؟ لا يمكننا العثور إلا على القليل من الأدلة المؤيدة لوجود حركة أيديولوجية داعمة للحكم الذاتي والوحدة والهوية لسكان مقدر لهم أن يكونوا أمة. بل ما لدينا هو مظاهر نخبوية للمشاعر القومية، وإحساس بالهوية القومية بين بعض المفكرين الإنسانويين، والمحامين، والبيروقراطيين، ومشاعر وتوجهات يمكن إثراؤها أو استغلالها أحيانا من قبل الحكام عندما يكون ذلك في مصلحتهم.
16
من السهل رفض تلك المظاهر الأولية للهوية القومية. إلا أن تلك المظاهر، كما رأينا في حالة إيطاليا وحالة فرنسا، قدمت مفاهيم للأمة ونقاشا عن الأمة تمكن القوميون المتأخرون من استخدامها لتوثيق الأمور التي يطمحون فيها ولتحريك مواطنيهم؛ لكنها كانت مهمة أيضا في حد ذاتها. تشهد أفكار ومشاعر المجتمع القومي، عبر أجزاء عديدة في أوروبا ، على الأهمية المتزايدة للأرض المحررة من النفوذ المحلي والمبينة الحدود في الوقت نفسه، وبسط النفوذ السيادي داخلها، في مواجهة المزاعم الإمبراطورية أو البابوية. كانت تلك العملية جارية منذ القرن الثالث عشر على أقل تقدير، لا سيما في فرنسا، وعجلت بها خسارة سلطة الإمبراطور الروماني المقدس بعد وفاة فريدريك الثاني عام 1250 والأسر البابوي والانقسام البابوي الغربي في القرن الرابع عشر. وقت انعقاد مجمع كونستانس (1414-1418)، تدخلت الممالك والأقاليم المتنافسة في مداولات الكنيسة. ومنذ منتصف القرن الرابع عشر، قسمت الكنيسة لأغراض إدارية إلى أربع مناطق جغرافية، هي: إيطاليا وجرمانيا وهسبانيا وفرنسا. وعندما تغيب الوفد الإسباني مؤقتا عن مجمع كونستانس، أصبح مسموحا للإنجليز بتكوين «أمة»، كما كانوا في السابق في مجمع بيزا. إلا أنه عندما وصل وفد أراجون وطالب بمكانة الأمة أسفر ذلك عن جدالات حادة حول معنى مصطلح «أمة». وأوضح الوفد الفرنسي أن الإنجليز يجب، مرة أخرى، أن يعودوا ليصبحوا جزءا من الأمة الجرمانية. إلا أنهم قدموا أيضا فكرة الأمم الرئيسية والأمم أو الممالك الفرعية، المماثلة لحجم إنجلترا، في وقت كانت فيه حرب المائة عام في ذروتها. وكما هو متوقع، رد الوفد الإنجليزي قائلا إن الأمة الإنجليزية تمتلك من القوة والسلطة قدر ما تمتلك أمة الغال المشهورة:
سواء أفهمتم الأمة كشعب تميزه عن الآخرين رابطة الدم وعادة الوحدة، أو خصائص اللغة التي تعد العلامة الأكثر تأكيدا وإيجابية على صفة الأمة وفقا للقانون الإلهي والبشري، فضلا عن كونها جوهرها ...
إن ما يكشفه هذا الجدال وغيره من الجدالات المتعددة في المجالس الكنسية ليس ظهور القومية اللغوية الرومانسية في العصور الوسطى قبل هيردر، بل أن وحدة العالم المسيحي القديمة أصبحت ضعيفة، وأن المبدأ الجديد المتمثل في الممالك الإقليمية، المعترف بشرعيتها كنوع من أنواع «الأمم»، بدأ يحظى بالقبول. وبطبيعة الحال، كان تعريف الأمة لا يزال مائعا؛ فمن الممكن أن يتضمن مملكة ذات لغة واحدة (فرنسا)، أو مملكة ذات مجموعات لغوية متعددة (إنجلترا أو بريطانيا)، أو مجرد مقاطعة (فلورنسا أو جاسكونيا). وفي الواقع، أوضح الوفد الإنجليزي أن أمتهم ينطبق عليها وصف الأمة أكثر من انطباقه على الأمة الفرنسية؛ لأن فرنسا تتحدث في الأساس لغة واحدة فقط، في حين أن:
الأمة الإنجليزية أو الأمة البريطانية المشهورة تتضمن داخلها وتحت لوائها خمس لغات أو خمس أمم، وكل لغة من تلك اللغات غير مفهومة من قبل البقية ...
17
إلا أن هذا الأمر كان أكثر من مجرد خلاف عرقي جغرافي بسيط؛ فكما أوضحت المناورة في المجالس، كان أيضا مبدأ سياسيا ووسيلة لكسب النفوذ نيابة عن الممالك. ولم تكن الممالك نفسها هي الجديدة، بل كان الجديد هو تفتت العالم المسيحي، وازدواجية سلطته، الروحانية والدنيوية، المتعلقة بنطاق الكنيسة والإمبراطورية؛ مما أسفر عن تزايد القوة التي آلت إلى الأجزاء والإمارات والممالك والدول المدن المكونة للعالم المسيحي.
18
ومع خسارة النفوذ الكنسي المقيد، أصبح التنافس بين الدول الأوروبية أكثر شدة واتساعا، لا سيما عندما فتحت الرحلات البحرية الاستكشافية آفاقا جديدة شاسعة للاستغلال والغزو الأوروبي. وداخل أوروبا، لم يتزايد الصراع بين إنجلترا وفرنسا فحسب، بل بين الدنمارك والسويد وإسبانيا وهولندا، ولاحقا بولندا وروسيا، وكانت إيطاليا المقسمة وألمانيا ساحتي قتال لتدخل القوى الكبرى. وتطلبت هذه الحرب الممتدة قدرا أكبر من تركيز الموارد من قبل الدول التي يحكمها الأمراء، بالإضافة إلى المزيد من الجيوش المحترفة والتكنولوجيا الحديثة، وهذا تطلب بدوره مزيدا من التمويل الطويل الأجل، من قبل التجار المصرفيين الجدد بالأساس، أمثال عائلة ميديتشي وعائلة فوجر. وعلى الصعيد السياسي، تطلب ذلك أيضا أن يمارس الملوك قدرا أكبر من السيطرة على أراضيهم، ومن ثم تقوية الدولة المتوارثة في المقام الأول، وهذا هو ما حدث في إنجلترا في عهد الملك هنري الثامن وفي روسيا في عهد إيفان الرابع. بل يستطرد أنتوني ماكس أكثر فيوضح أن الملوك اضطروا إلى دعم حكمهم ليس فقط من خلال أفكار الملكية المقدسة والحق الإلهي للملوك، بل أيضا من خلال حشد الرعايا نيابة عن الدولة، وذلك لكي يحتفظوا بالسلطة في مواجهة المعارضة العنيدة غالبا من قبل النبلاء ورجال الدين الأقوياء. وهذا بدوره كان يعني اتباع سياسات تحقق التجانس بين سكان المملكة، ونظرا لأن الدين كان المحور الأساسي للوحدة والشقاق في مجتمع أوائل عصر الحداثة، فقد سعى الملوك إلى استبعاد كل أولئك الذين لا يدينون بالدين السائد ودين الأغلبية في الدولة، على أمل أن يجعلوا مجتمعاتهم أكثر تماسكا من خلال مبدأ «القومية» الاستبعادية؛ ومن ثم، كان طرد اليهود والمسلمين من إسبانيا والبرتغال في بداية القرن السادس عشر، والحروب الدينية في فرنسا، وطرد البروتستانت في نهاية المطاف بعد إبطال مرسوم نانت عام 1685، والعداوة المستمرة تجاه الكاثوليك واضطهادهم على فترات متقطعة في إنجلترا في الفترة من أواخر القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر.
19
تبدو هذه الأطروحة جذابة من الوهلة الأولى؛ إذ يبدو أنها مرتبطة بالمظاهر المتعددة التي تبين إحساس النخبة بالهوية القومية التي رأينا ظهورها في أجزاء مختلفة من أوروبا في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر الحداثة، وتبين احتياجات واستراتيجيات النخب الحاكمة في هذه الفترة التي تميزت بالاضطراب الديني والانقسام السياسي. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تبرز تزايد أقلمة الارتباطات والقوة من خلال ربطها بمناطق معينة ومجتمع بعينه، وكذلك النتائج المختلفة في الدول الثلاث - إسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا - التي يحللها أنتوني ماركس. بالتأكيد، فإن بعض العمليات على الأقل المسئولة عن تكون الأمم، التي تتضمن تكوين ثقافات عامة مميزة، وبناء أساطير مختلفة للأصل المشترك وللاختيار الإلهي للشعوب، كانت متقدمة كثيرا في هذا العصر. ورغم ذلك، فإن زعم ماركس القائل إن كل هذه الأمور أسفرت عن «قومية استبعادية» لأول مرة، قبل الثورة الفرنسية بقرنين، يبدو أقل مصداقية؛ فمن ناحية لم يكن استبعاد الأقليات، سواء المنشقون المسيحيون أو اليهود، بجديد؛ فقد كان الاضطهاد والطرد شائعين في أوروبا في العصور الوسطى منذ الحروب الصليبية. كذلك فإن إثارة حماس الأغلبية الدينية لها تاريخ طويل، وكانت تلبي مجموعة من الاحتياجات السياسية، لدى الملك والكنيسة والنبلاء والتجار الحضريين والفلاحين. ومن ناحية أخرى، فإن الحالات التي يقارنها ماركس مختلفة كثيرا في سياقاتها ونتائجها. لا يبدو أن إسبانيا، على وجه الخصوص، قد حققت «التجانس» القومي، ولا قدرا كبيرا من الوحدة بعد طرد اليهود والمسلمين، ولا يبدو أن عمليات الطرد نفسها أثارت قدرا أكبر من الهوية القومية والترابط القومي في شبه جزيرة لطالما كانت مقسمة بين الممالك التاريخية والمجتمعات العرقية. وربما يرتبط ذلك أيضا بنجاح البيت الحاكم في تكوين إمبراطورية على نحو سريع «قبل» أن يتمكن الإحساس الواسع الانتشار بالهوية القومية من أن يصبح راسخا بين النخب.
20
إلا أنه ثمة اعتراض أكثر جدية على أطروحة ماركس. يعرف ماركس القومية بأنها: «شعور جمعي أو هوية جمعية تجمع وتربط الأفراد الذين يتشاركون في إحساس بتضامن سياسي واسع النطاق يهدف إلى خلق دول أو إكسابها الشرعية أو تحديها»، مضيفا أن هذا في الغالب يكون «مدركا أو مبررا بإحساس بالشراكة التاريخية التي تحقق التماسك بين السكان داخل الأرض وتميز المنتمين إليها عن غير المنتمين.» وهذا التعريف المدني والسياسي في جوهره يربط الهويات والمشاعر الشعبية بالدولة، وليس الأمة؛ لأن القومية بالنسبة إلى أنتوني ماركس - وبالنسبة إلى كثير من الحداثيين - لا تكون مهمة إلا بقدر ارتباطها بدولة ما، سواء أكانت تدعم تلك الدولة أم تعارضها. ومن ناحية أخرى، فبينما يشير مفهوم الدولة إلى مجموعة «مؤسسات» مستقلة تمارس احتكارا لسلطة القهر وانتزاع الموارد على نحو شرعي في أرض معينة، فإن مفهوم الأمة يشير إلى فئة من الهوية الثقافية الجمعية وعلى نموذج تاريخي ل «مجتمع» (متخيل، لكن يشعر به أفراده ويرغبون فيه). ونتيجة لذلك، فإن القومية تتعلق بأمر فعال وشمولي وهادف ومتنوع بثراء كبير مقارنة بما يصفه ماركس. وهذا يشير إلى أننا نحتاج إلى البحث عن عوامل أيديولوجية إضافية، علاوة على منافسة الدول أو استراتيجيات النخب أو تنافس الدول على الأسواق الخارجية، لتفسير الرؤية الفعالة والقوة المحركة للقومية.
21 (3) الإصلاح والعهد
أين يمكننا أن نبحث عن هذه العوامل الأيديولوجية؟ بالنسبة إلى بعض المنظرين، فإن تلك العوامل توجد ضمن تقاليد الإيمان المسيحي. أوضح إيلي كادوري أن القوة الهدامة الثورية للقومية يمكن أن ترجع إلى تراثها الألفي في العصور الوسطى، إلى حركات اللاناموسية المتعلقة بالنبوءة الرؤيوية المسيحية، بداية من يواكيم الفيوري وحتى حركة تجديد العماد. وفي هذا الصدد، تتمثل المشكلة في أن الحركات الألفية تميل إلى الاختفاء من هذا العالم، وتكون قصيرة الأجل على نحو يحول دون تكوين أيديولوجية وثقافة للقومية الدنيوية. وعلى صعيد آخر، يبحث أدريان هستنجز عن أصول القومية في قبول المسيحية للعامية، لا سيما في ترجمات الكتاب المقدس، بالإضافة إلى ميل المسيحية إلى تبني النموذج السياسي للأمة الأحادية من العهد القديم، الذي قبلته، رغم كل شيء، وعدلته وفقا لأغراضها. رغم ذلك، فعلى مدار معظم القرون الوسطى وما بعدها، كانت الطقوس المسيحية تقام باستخدام اللغات العالمية، اللاتينية واليونانية، مع وجود استثناءات كما في حالة الأرمن والجورجيين، ولم تبدأ ترجمات الكتاب المقدس في الظهور في الغرب إلا في أواخر العصور الوسطى.
22
إلا أن استشهاد هستنجز بالنموذج السياسي المذكور في العهد القديم، رغم عدم تطويره له، يصب في صميم الموضوع إلى حد بعيد. إن روح الأناجيل عالمية، على أي حال، والكنيسة المسيحية تتجاوز الحدود الإقليمية؛ فعلى مدار جزء كبير من تاريخها استفادت من مفكرين وليتورجيات ولغات من جنسيات مختلفة. وعلى النقيض من ذلك، تقوم الأمم والقومية على مبادئ التنوع الثقافي والفردية والأرض المقدسة، وتتطلبان مصادر ونماذج مختلفة لا سيما في المراحل المبكرة من القومية. وهذا يعني أننا نحتاج إلى أن ننصرف عن المسيحية ذات التوجه العالمي ونعود إلى أصلها اليهودي على وجه التحديد في الكتاب المقدس العبري.
هنا بدأ الإصلاح مرحلة جديدة في عمليات تكوين الأمم، وفي ظهور حركة القومية الأيديولوجية في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن الإصلاح بدأ كحركة رؤيوية أوروبية مناهضة للبابوية، وكانت رسالتها الأساسية متعلقة بالتبرير بالإيمان من خلال النعمة لا من خلال أعمال الفرد، فإن التطور اللاحق للإصلاح، لا سيما تحت تأثير كالفين وزفينجلي وكنائسهما المصلحة، شهد انشغالا أكبر بالعالم وسعيا للاختيار الإلهي من خلال علامات الانتماء إلى الجماعة، والانضباط الأخلاقي الجمعي، والأعمال العامة.
23
قدم الإصلاح اللاحق سياقا للعودة إلى العهد القديم، وتحديدا إلى روايات وقوانين أسفار موسى الخمسة، من جانب أعضاء كثيرين في الكنائس المصلحة غير اللوثرية، أبرزهم أتباع زفينجلي وكالفين، وقدم كذلك سياقا لإعادة تقييم مكانتها في الشريعة المسيحية. ويقارن سيمون شاما طابع «القداسة الكلية» للعهد الجديد مع الطبيعة «الدنيوية» للعهد القديم، في نظر الكنائس المصلحة، ويوضح التالي:
كانت نتيجة ذلك كله إنقاذ العهد القديم من مكانته في الثيولوجيا الكاثوليكية كمقدمة ضرورية، و«مرحلة ثانية» في غائية الخطيئة الأصلية والفداء النهائي، واستعادة نوع من التماثل المكمل إلى العلاقة بين الكتابين. في النظرة الكاثوليكية إلى العالم، طمست طبيعة العهد القديم الرمزية الإسقاطية بالتفرقة بين المسيحيين واليهود الذين قتلوا الرب في البداية، إن جاز التعبير. وفي العقلية الكالفينية، فإن الوقائع المسيحانية النهائية «لا يمكن» فهمها إلا من خلال تاريخ اليهود الذين من خلالهم نفذ الرب مشيئته.
24
ماذا كانت هذه الطبيعة الرمزية الإسقاطية التي راقت جدا لأعضاء الكنائس المصلحة؟ لم يكن أبطال العهد القديم محل تجاهل كما كان يبدو؛ فقد كانت توجد إشارات كثيرة إلى إبراهيم وموسى ويشوع وداود وسليمان والأنبياء، سواء في الأدب أو النصوص السياسية، أو فن العصور الوسطى، وهي إشارات تجدها في الكثير من النوافذ ذات الزجاج الملون والمنحوتات التي تصور أبطال الكتاب المقدس في الكنائس والكاتدرائيات والأبرشيات. إلا أن هذه الطبيعة الإسقاطية كانت من نواح عديدة جزءا من التقليد الهرمي، وعندما سعت إلى تقديس الملكية أصبحت على نحو متزايد عنصرا أساسيا في رمزية الأمم الملكية و«الوطنية التي مركزها التاج». وقد سعى عدد كبير من الملوك الإنجليز بدءا من ألفريد وحتى هنري الثامن وإليزابيث إلى أن يتخذوا من ملوك يهوذا القديمة نموذجا لهم؛ ربما كانوا مدركين أيضا لاعتمادهم على سخط الرب، كما يعبر عنه النبي هوشع:
أنا أعطيتك ملكا بغضبي وأخذته بسخطي. (هوشع 13: 11)
لم تكن الملكية المقدسة مكونا مهما في تراث العهد القديم في الكنائس المصلحة، على الرغم من أنهم من وقت لآخر كانوا يطلبون حماية وقيادة الأمراء البروتستانت أمثال ويليام أمير أورانج. وما جذبهم حقا إلى الكتاب المقدس العبري كان سرد الخروج والوحي عند جبل سيناء، بالإضافة إلى الرحلة إلى أرض الميعاد ونبوءات الخلاص التي حققها. وهذا يعني أنهم كانوا منجذبين للتوراة اليهودية والأنبياء اليهود، وإلى سفر المزامير، وكلها أمور تشهد على الاختيار الإلهي لشعب إسرائيل القديم، ومعاناتهم في التيه، ووعد الخلاص في أرضهم.
25
من الضروري الآن في التوراة - كما هو موضح في أسفار موسى الخمسة - الاعتقاد بوجود عهد خاص بين الرب وشعبه، بما يتضمنه ذلك من الاختيار الإلهي لليهود، وذلك العهد يتمثل في اختيار الرب لليهود وتخليصهم من العبودية في مصر من خلال معجزاته وذراعه الممدودة. أما ما كان محل اهتمام خاص من المصلحين البروتستانتيين فكان النوع الشرطي للعهد، ذلك العهد الذي يعد فيه الرب موسى على جبل سيناء بأنه في حالة التزام بني إسرائيل بشرائعه وفرائضه فإنهم سوف يزدهرون في أرض إسرائيل، أما إذا نبذوا شريعته واتبعوا أصنام جيرانهم، فسوف يعاقبون ويطردون من أرض الميعاد. وفي هذا الصدد، كان غرض الرب، كما رأينا في الفصول السابقة، هو تكوين «مملكة كهنة وأمة مقدسة» (سفر الخروج 19: 6)، ووسيلة تحقيق ذلك كانت الفصل بين بني إسرائيل وجيرانهم عبدة الأوثان، ومنعهم من أي تواصل معهم كي لا يغووهم للاشتراك في ممارساتهم «الشنيعة»، من أجل أن يجعلهم يسيرون في طريق البر والرحمة.
26
أصبح هذا النوع من العهد المشروط يلقى استحسانا خاصا لدى الكنائس المصلحة؛ لأنه بدا محاكيا لنصيبهم. فمع التحرك السريع لكل من البابا والإمبراطور لإدانة وحظر الهرطقات البروتستانتية وحرق «المهرطقين» البروتستانت في النهاية، اضطر المصلحون مرارا وتكرارا إلى الهروب والعثور على ملاذ في المدن المستقلة أمثال جنيف وزيورخ وإمدن وأمستردام. كانت محنتهم تحاكي على نحو واضح رحلات ومحن الشعب المختار الأصلي. ولم يكن ذلك مجرد تشبيه مجازي أو مطمئن؛ فقد ظهرت فكرة العهد على نحو بارز في تفكير زفينجلي وخليفته هاينريش بولينر، في حين ظل أمل «الاختيار الإلهي»، رغم كل شيء، مسألة محورية لكل المصلحين. ونشأت هذه الفكرة من اعتقادهم أنه نظرا للطبيعة الفاسدة للإنسان - وهذا تراث فكر القديس أوغسطينوس وقراءته لرسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية - فإنه من خلال الإيمان بالمسيح فقط وليس أعمال الإنسان يمكن الأمل - من خلال نعمة الرب - في منع القرار الفظيع المتمثل في الهلاك الأبدي. يرى كالفين أن العناية الإلهية أصبحت حقا أكثر أهمية. والسبب في ذلك يرجع إلى أنه على الرغم من قرار التعيين السابق المزدوج الذي بموجبه يحدد مصير البشر مسبقا منذ الميلاد أو قبل ذلك، فالاحتمال قائم دائما في اختيار المرء ليحصل على الخلاص عن طريق نعمة الرب، ويصبح واحدا من المختارين.
27
بطبيعة الحال، فإن «الاختيار» في العقيدة الكالفينية لا يحمل المعنى نفسه الموجود في مفهوم «الاختيار» المذكور في الكتاب المقدس. إلا أنه مع مرور الوقت، ساهمت الضغوط الخارجية، بالإضافة إلى المخاوف الداخلية، في جعله أكثر قربا من المثال المذكور في الكتاب المقدس؛ فمن ناحية، رأى المصلحون البروتستانت، لا سيما كالفين، في الكتب المقدسة - العهد القديم والعهد الجديد - كلمة الله الكاملة. وهذا يعني أنه فقط من خلال القراءة الدقيقة لكلمة الله، كما أوحاها في الكتاب المقدس، يمكن للمسيحي الحقيقي فهم العالم والحفاظ على إيمانه، وتضمن هذا على نحو واضح التاريخ المقدس لمعاملات الرب مع شعبه المختار. انجذب كالفين نفسه إلى تشبيه إسرائيل القديمة بأنها أمة مختلطة صاحبة عهد، أي أنها أمة تضم أولئك الذين استمعوا لكلمة الرب وأولئك الذين رفضوها. ومن خلال التوبة عن خطاياهم وعيش حياة الإيمان والتقوى في مجتمع يطيع شريعة الرب الموضحة في أسفار موسى الخمسة، يمكن لأعضاء الكنائس المصلحة أن يأملوا في أن يجدوا علامات نعمة الرب وحتى الاختيار الإلهي. بالإضافة إلى ذلك، فأولئك الذين ظنوا أنفسهم من المختارين سوف يرغبون، كنوع من الامتنان والحب للرب، في أداء أفعال فاضلة؛ لذلك، فإن حياة العهد يمكن أن تمنع الناس من اللاناموسية التي أحاطت بقرار التعيين السابق، وتجيب عن سؤال محير يتمثل في السبب في ضرورة أن نكون أتقياء من الأساس. من ناحية أخرى، فإن ما كان في الأصل إصلاحا موجها لإيمان الأفراد أصبح أيضا على نحو متزايد مهمة لتكوين مجتمعات مصلحة - كنائس، واجتماعات سرية، ومدن، بل حتى أمم - وهذا كما قلت نتيجة لحملات الاضطهاد والمحاكمات التي طالما واجهها المصلحون وكنائسهم، والتي بدت مشابهة كثيرا لمعاناة ومحن اليهود القدماء المدونة في أسفار موسى الخمسة. ومن هنا كان الاهتمام المتزايد بالاختيار الجمعي وبمكانة الأمة المختارة، حتى لو كان ذلك الاختيار مجرد «اختيار عام» كما سماه كالفين، وحتى داخل تلك الأمة، والأتقياء وحدهم قد يحققون «قدرا ثانيا من الاختيار أكثر محدودية». ورغم ذلك، في هذا الصدد أيضا، كانت توجد سابقة واضحة في الكتاب المقدس. ألم يندد أنبياء إسرائيل القديمة ويهوذا القديمة بخطايا الشعب وتحدثوا عن فداء وإعادة بقية من الشعب هم فقط الذين سينجون من غضب الرب إذ يعتقد أنهم من الأبرار؟ استخلص المصلحون من هذا أنه على الرغم من أن كل الشعب قد يدخلون أرض الميعاد، فإن أولئك فقط الذين التزموا بشريعة الرب على نحو صارم وخضعوا لقانون عام للانضباط الأخلاقي يمكنهم أن يأملوا في علامات الاختيار الأكثر «محدودية».
28 (4) العهد والإصلاح في اسكتلندا وإنجلترا
أصبحت هذه هي حال الكثير من المصلحين الكالفينيين في أواخر القرن السادس عشر وفي القرن السابع عشر. على سبيل المثال، تأسس أول عهد في اسكتلندا في أواخر عام 1557، إلا أن الإصلاح لم يتمكن من القيام بثورة ضد حكومة الملكة الكاثوليكية الغائبة ماري ستيوارت، وتبني اعتراف الإيمان الكالفيني وكتاب مبادئ الإصلاح الكنسي حتى عامي 1559 و1560. يقول نوكس في كتابه «تاريخ الإصلاح في اسكتلندا» الذي كتبه في ستينيات القرن السادس عشر إن الكنيسة الاسكتلندية كانت «أنقى وأفضل كنيسة بروتستانتية مصلحة.» ومن ناحية أخرى، تحسر على فشل البروتستانت في إنجلترا واسكتلندا في التوحد تحت قيادة أمير تقي مثل الملك داود، مستخدما تشبيه انحدار مملكة إسرائيل القديمة وانقسامها إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا.
29
رغم ذلك، فإن عقيدة العهد لم تحصل على ما تستحق إلا بحلول ثمانينيات وتسعينيات القرن السادس عشر من خلال الكتابات السياسية لروبرت بروس وجون ديفيدسون. وقد قدم روبرت رولوك عميد جامعة إدنبرة نسخة من العهد أكثر عقائدية وكالفينية من خلال كتابه «عهد الأعمال». وفي هذين العقدين أيضا تجدد العهد القومي عدة مرات، وفي القرن التالي أصبح سمة أساسية في الحياة السياسية الاسكتلندية؛ لذلك، جرى تجديد العهد القومي عام 1638، ردا على محاولات الملك تشارلز الأول لإحداث توافق في الممارسة الدينية في اسكتلندا وإنجلترا، بقسم عام للغاية لمواجهة دفاع الملك «دفاعا وحفاظا على ما جاء ذكره آنفا عن قوانين المملكة وحرياتها ودينها الحقيقي.» وفي الوقت نفسه، كان لزاما على كل من أقسم اليمين أن يتصرف «بما يليق بالمسيحيين الذين جددوا عهدهم مع الرب.»
30
لعل أشهر التجديدات الكثيرة التي أجريت للعهد كانت اتفاقية التحالف والعهد الوثيقين التي كانت جزءا من معاهدة عقدت مع البرلمان الإنجليزي عام 1643 أثناء الحرب الأهلية، للحفاظ على الدين المصلح «وفقا لكلمة الرب والأمثلة الخاصة بأفضل الكنائس المصلحة.» وكان السبيل لتحقيق ذلك من خلال القضاء على ممارسات البابوية والأسقفية، والحفاظ على السلام بين اسكتلندا وإنجلترا، وإقرار الطرفين بعيوبهما والإعراب عن رغبتهما في إصلاح حياتهما. في أواخر القرن السابع عشر، أصبح الملك ملتزما بعهد قومي مزدوج بين الرب والشعب وبين الملك والشعب، كما هو مبين في العهد القديم.
31
كانت عملية الإصلاح أكثر تعقيدا في الجنوب؛ فالأمر الذي بدأ بخلاف متعلق بزواج الملك هنري الثامن، سليل أسرة تيودور الحاكمة في إنجلترا، تفاقم في منتصف ثلاثينيات القرن السادس عشر ليصل إلى انفصال المملكة الإنجليزية انفصالا تاما عن روما، وتنصيب الملك هنري الثامن لنفسه حاكما أعلى لكنيسة إنجلترا. ورغم ذلك، لم يكن الملك هنري الثامن بيوريتانيا؛ فهو على أي حال قد كتب كتابا يدافع فيه عن الإيمان (الكاثوليكي). كان دين هنري تأكيدا للسيادة الملكية، السياسية والاقتصادية، من خلال إثراء التاج عن طريق حل الأديرة. وفي الواقع، شهدت سنوات هنري الأخيرة محاولة من جانبه لاختيار طريق محافظ إلى حد بعيد في مواجهة الشعور البروتستانتي المتزايد، وإن كان خفيا في أغلب الأحيان.
في عهد ابنه إدوارد السادس، ذلك الملك الصبي الذي تلقى تعليما بروتستانتيا وشبهه الكثيرون بالملك يوشيا ملك يهوذا، تمكن المصلحون أمثال كرانمر من القضاء على الكثير من الطقوس الكاثوليكية وأحلوا محلها كتابهم المعروف باسم كتاب الصلاة المشتركة المصلح المكتوب بالعامية عام 1552، على الرغم من أن ذلك لم يخل من معارضة شعبية في أجزاء من إنجلترا. وبهذه الطريقة، أصبحت إنجلترا لبعض الوقت جزءا من الحركة البروتستانتية الأوروبية، وملاذا للاجئين البروتستانت. والعودة إلى الكاثوليكية في عهد ماري وحملات اضطهاد الأقلية البروتستانتية في ذلك الوقت كانت أساس الشعور بأن إنجلترا مملكة بروتستانتية محاصرة، وتلخص ذلك الأمر في صلاة مكتوبة في منشور مجهول المؤلف يعود لعام 1554:
يا إلهي، دافع عن شعبك المختار - شعب إنجلترا - من أيدي أعدائك الكاثوليك وقوتهم.
إلا أن يأس الذين نفتهم الملكة ماري وازنه اعتقاد ديني راسخ يقضي بأن إنجلترا لها هوية ورسالة فريدة حتى إن جون إلمر، الذي أصبح أسقف لندن فيما بعد، تمكن من إدخال تعبير هامشي عام 1559 يقول إن: «الرب إنجليزي.»
32
بالطبع، كانت تلك هي السنة التي عقدت فيها تسوية إليزابيث الدينية التي شهدت عودة المنفيين. وكان من بين هؤلاء المنفيين جون فوكس الذي نشر عام 1563 الطبعة الأولى من كتابه البالغ التأثير «الأعمال والآثار»، المعروف عموما ب «كتاب الشهداء»، ذلك الكتاب التي كانت شعبيته في إنجلترا تحتل المرتبة الثانية بعد الكتاب المقدس. وعلى النقيض من تفسير قديم رأى أن هذا الكتاب عمل تقليدي للقومية الدينية الإنجليزية تصور فوكس فيه إنجلترا على أنها «الأمة المختارة»، فإن المؤرخين المحدثين أشاروا إلى الطبيعة العالمية لسجله الرؤيوي للشهداء البروتستانت، وهذا يليق بعمل من أعمال حركة الإصلاح البروتستانتي الأوروبية. وفي الوقت نفسه، أفرد فوكس مساحة كبيرة للحديث عن معاناة الشهداء البروتستانت الإنجليز على خلفية الصراع البروتستانتي ضد البابوية التي تمثل «ضد المسيح». ويرى الكثيرون في إنجلترا أن هذه هي أبرز سمات عمله، وكما يقول ديرميد ماكولوك فقد: «أصبح الكتاب الهائل الذي ألفه فوكس ووسعه مرارا وتكرارا إحدى ركائز الهوية البروتستانتية الإنجليزية؛ فهو تذكرة قوية بالطابع النضالي للإصلاح الإنجليزي.»
33
في الحقبة الأخيرة من عهد الملكة إليزابيث، خلقت سلسلة من المؤامرات الكاثوليكية التي استهدفت الملكة، وكان آخرها محاولة الغزو من قبل الأسطول الإسباني المعروف باسم أرمادا عام 1588؛ بيئة مواتية إلى حد بعيد للأقلية البيوريتانية التي أصبحت بدورها أكثر كالفينية في توجهها وتنظيمها. واستمر قادة تلك الأقلية في تعزيز اعتقاد أن إنجلترا أصبحت أمة «مختارة»؛ ولذلك تخبرنا أطروحة «الوعظ الإلهي» لجون فيلد عام 1583 أن «الرب منحنا نفسه»، في حين تعلن أطروحة «رد على خطاب السيد هاريسونز» لتوماس كارترايت أن «الرب على عهد مع الشعب الذي يعطيه ختوم عهده (أي أسرار عهده المقدسة)» مثلما «فعل مع جماعاتنا في إنجلترا.»
34
على الرغم من قمع القيادة البيوريتانية في تسعينيات القرن السادس عشر، فقد واصلت البيوريتانية النمو طوال عهد جيمس الأول، وشجعت على ذلك المشاعر المناهضة للإسبان والكاثوليكية، لا سيما بعد اكتشاف مؤامرة البارود. وبحلول ثلاثينيات القرن السابع عشر بدأ عدد متزايد من المثقفين يربطون بين الشعور القومي الإنجليزي والاعتقاد البروتستانتي القوي، والسبب في ذلك يعود جزئيا إلى محاولات حكومة تشارلز الأول لفرض السياسات «الأرمنيوسية» لصاحبها عالم اللاهوت جاكوب أرمينيوس، التي رأوا أنها بمنزلة حصان طروادة «مستعد لفتح البوابات أمام طغيان الكاثوليكية الرومانية والملكية الإسبانية.» وأصبح هذا الاتجاه في مزج الدين بالشعور القومي الإنجليزي شائعا في برلمان عام 1642؛ ومن ثم أصبحت «الحرب الأهلية مهدا للهوية القومية» كما قال أنتوني فليتشر.
35
ما نوع الأمة التي سعى إليها البيوريتانيون الأتقياء؟ كانت أمتهم أمة كومنولث؛ فبعد عام 1649 رفضوا أي مفهوم للهرمية. إلا أنها كانت جمهورية أشبه إلى العهد القديم منها إلى النماذج الكلاسيكية، وكانت قائمة على قوة جيش تقي مناضل ومنتصر، يسير إلى المعركة مرددا المزامير. كان الكتاب المقدس الذي حملته جيوش كرومويل يتكون من مجموعة من تلك المزامير المقتبسة التي تتناول في معظمها الحرب وروح الجندية، وكما هو متوقع فإن الغالبية العظمى من المقتطفات مأخوذة من العهد القديم، لا سيما من سفر التثنية وسفر المزامير وسفر أخبار الأيام الأول وسفر أخبار الأيام الثاني. خاض جيش النموذج الجديد بقيادة كرومويل معارك الرب في سبيل قضية مزدوجة تتمثل في إنجلترا الرب ورب إنجلترا، من أجل تحقيق سيادة وسيطرة الكومنولث الإنجليزي البيوريتاني. وقد حث كرومويل البرلمان عام 1653 قائلا: «حقا، الرب يطالبكم مثلما طالب يهوذا أن تحكموا معه، ومن أجله.» لم يفرق كرومويل بين مصالح المسيحيين ومصالح الأمة؛ فهما يمثلان «أكبر اهتمامين للرب في هذا العالم.»
36
كذلك كانت وجهة نظر جون ميلتون، على الرغم من عالميتها، مشبعة تماما بالشعور القومي والصور المجازية والمثل الواردة في العهد القديم، لا سيما تلك المتعلقة بالشعب المختار. في إحدى الفقرات المشهورة، يتناول قرب إنجلترا من الرب فيقول:
فكر في ماهية الأمة التي تنتمي إليها، والتي ينتمي إليها الحكام؛ فالأمة ليست بطيئة وخاملة، بل هي ذات روح سريعة ومبتكرة وثاقبة، هذه الأمة مختارة على غيرها ... (عندما) يقرر الرب بدء فترة جديدة وعظيمة ... فما الذي يفعله إذا سوى أنه يكشف عن نفسه ... كطريقته، لشعبه الإنجليزي أولا؟
37
بطبيعة الحال، كانت رؤية ميلتون البروتستانتية أوروبية أيضا؛ فقد رأى إنجلترا تقود الإصلاح وحركة الحرية المدنية بصفتها أمة «مختارة»، «أمة من الأنبياء والحكماء والفاضلين»، ويعود إلى واقعة في سفر الأعداد عندما وبخ موسى يشوع حين رغب في منع ألداد وميداد من التنبؤ في محلة بني إسرائيل في التيه، وصاح بلغة شبه تنبئية، فقال:
في الوقت الحالي يبدو أن الوقت قد حان ليجلس النبي العظيم موسى في الجنة مبتهجا لرؤية تحقق أمنيته الجديرة بالذكر والمجيدة؛ حيث لم يصبح السبعون شيخا فقط أنبياء، بل أصبح كل شعب الرب أنبياء.
رغم ذلك، تركزت آماله على التجربة الكبرى المتمثلة في الجمهورية الإنجليزية المصلحة، وتوقع أن يدعم الرب شعبه الخاص - إنجلترا عادة، لكنه أحيانا يشمل الاسكتلنديين في «بريطانيا». وهذا يعني أن إنجلترا، مثل إسرائيل القديمة، كانت أمة ذات عهد، وفي هذا الصدد يعبر ميلتون وكرومويل عن كثيرين في معسكر الأتقياء. وعلى مدار عقد من الزمان، تمكنا من فرض رؤيتهما القومية البيوريتانية لإنجلترا على الشعب، وحاولا خلق «أمة عهد» جديدة على أساس هوية قومية إنجليزية راسخة منذ زمن طويل لدى النخب، وحاولوا نشرها من خلال المنابر والمطبوعات لقطاع أكبر من السكان، وإن كان قطاعا حضريا في الأساس.
38 (5) إسرائيل جديدة في هولندا
لم تكن إنجلترا أول مثال على أمة عهدية ناشئة، ولعلها لم تكن أنجح تلك الأمثلة. بالتأكيد، نافستها في شدة التعبير عن ذلك المقاطعات المتحدة الهولندية في القرن السابع عشر. وبالفعل في فترة البطولة المبكرة في الثورة الهولندية على جيوش أسرة هابسبورج بقيادة دوق ألبا في أواخر ستينيات القرن السادس عشر وسبعينيات القرن السادس عشر، كان تشبيه المتمردين أنفسهم بإسرائيل القديمة معبرا على نحو واضح. ويمكن رؤية ذلك في «أغاني المتسولين» التي شبهت ويليام أمير أورانج بموسى وداود، وشبهت ملك إسبانيا بفرعون. ووصف الشعب الهولندي بأنه «المختار من قبل الرب» و«شعب الرب»، في حين وصف الإسبان ب «الأمة الأجنبية» المتغطرسة والقاسية. وفي الإعلانات الرسمية لأيام الصلاة والصيام في سبعينيات القرن السادس عشر، كان الإله الذي يدعونه هو إله العهد القديم. والمثال الذي اقتبسه فيليب جورسكي هو إعلان ويليام أمير أورانج لعام 1575:
يحذو جلالته حذو الأمراء المسيحيين الذين في أوقات الخطر والكرب التجئوا إلى الرب القهار، ومع شعبهم تواضعوا أمام يده القهارة وتابوا وأعرضوا عن حياتهم السابقة والآثمة ... (عالمين أن) الرب لم يترك مطلقا شعبه في وقت الحاجة، لكنه وقف دائما بجانبهم وخلصهم.
39
في محنتهم يعود الهولنديون إلى سرد سفر الخروج كما نرى في إعلان آخر للصلاة والصيام يعود لعام 1580 يرجو الرب أن:
يبعد الأوبئة الرهيبة، والدمار الكبير والحرب الطويلة الأمد، عن هذه الأراضي ... ويحرر هذه الأراضي وسكانها الصالحين من كل ما يؤدي إلى التحكم فيهم ومن عبوديتهم الملعونة والأبدية.
40
كان الالتفات إلى خروج اليهود من مصر والموضوعات الشائعة في قصة موسى كثيرا ما يتكرر في القرن التالي، واستحضر الوعاظ والخطباء والكتاب والفنانون الهولنديون هذا المثال كثيرا؛ فقد اضطر كثير من الهولنديين البروتستانت إلى الهروب من اضطهاد دوق ألبا وتقدم جيوشه في الأجزاء الجنوبية من هولندا عابرين الحواجز المائية ليصلوا إلى الجمهوريات الحرة في الشمال؛ ومن ثم، كان هروب بني إسرائيل عبر البحر الأحمر وتخليص الرب لهم من جيوش فرعون يحمل تشابها مدهشا مع حالتهم. وخلال عام 1612، نشر يوست فون فوندل، أعظم روائي هولندي في هذه الفترة، مسرحية «عبور أو خلاص بني إسرائيل من مصر»، تلك المسرحية التي شبه فيها أمير أورانج بموسى:
يا للقدر العجيب الذي يجمع موسى بأمير أورانج
أحدهما يحارب من أجل الشريعة، والآخر يروجها
وبذراعه يحرر الإنجيل
أحدهما يقود العبرانيين عبر فيضان البحر الأحمر
والآخر يقود شعبه عبر بحر ... الدموع والدم.
41
كذلك تبنى العديد من الفنانين الهولنديين هذه الموضوعات، بالإضافة إلى الكثير من الموضوعات الأخرى المأخوذة من العهد القديم، لا سيما بطاركة العهد القديم، وداود، وإستير ومردخاي. وصور أيضا هندريك خولتسيوس، وإبراهام بلومارت، وكورنيليس فون هارليم، وفرديناند بول أحداثا درامية من حياة موسى، بما في ذلك تلقي العهد وكسر الألواح. يوضح سايمون شاما أن شعبية سرد الخروج وسرد التيه في أسفار موسى الخمسة كانت بلا شك انعكاسا للتشابه الذي أدركه الهولنديون بين محنة وتكون الشعب اليهودي القديم وبين حالهم؛ إذ كانوا يتشكلون ويتفردون كشعب مميز بفعل الوحشية والتعصب اللذين أظهرهما دوق ألبا وسيده فيليب الثاني ملك إسبانيا، بالإضافة إلى سنوات الحرب والمحنة الطويلة.
42
موضوعات الكتاب المقدس المتعلقة بالخروج والعهد حاضرة أيضا على نحو واضح في الصلاة الختامية في قصيدة «النشيد التذكاري الهولندي» للشاعر أدريان فاليريوس ابن مقاطعة زيلاند، وجزء من تلك القصيدة التي تعود لعام 1626 يقول:
يا إلهي، عندما كان الجميع يعاملوننا معاملة سيئة أحضرتنا إلى أرض وأصبحنا فيها أغنياء بفعل التجارة، وتعاملت معنا بعطف، وفي الوقت نفسه أخرجت بني إسرائيل من سجن بابل، وانحسرت الأنهار أمامنا وأخرجتنا وأقدامنا جافة، وفي الوقت نفسه أحضرت ناس الأيام الخوالي، مع موسى ويشوع، إلى أرض الميعاد. يا إلهي، لقد فعلت لنا أمورا رائعة. وعندما لم نتبعك، عاقبتنا بقوة شديدة لكنها أبوية؛ بحيث كانت ابتلاءاتك التي أنزلتها علينا دائما مثل عقاب الأطفال. لم تؤاخذ شعبك بخطاياه، بل حررتنا من قيد المؤابيين، وفي الوقت نفسه حررتنا من خلال دبورة وباراق اللذين ظهرت قوتهما أمامنا في الحقل، ومن خلال قوة جدعون الجسور الذي قاتل ضد عنف المديانيين.
43
يصاحب النص نقش للمقاطعات السبع الشقيقة وأمراء ناساو أورانج راكعين في تبجيل وصلاة أمام قبعة الحرية الهولندية الموضوعة على سارية أسفل راية مكتوب عليها اسم الرب المقدس المذكور في الكتاب المقدس في سحابة من المجد. في ذلك الوقت، أصبح التناظر بين «هولندا وإسرائيل» على المستوى الوطني سمة أساسية في سياسة هولندا، ونشر إلى العامة على نحو موسع من خلال المطبوعات والمنشورات الرخيصة. وفي منتصف القرن، كون الحزب الكالفيني، بدعم من أسرة أورانج الحاكمة، برنامجا سياسيا يقوم على قومية العهد لم يتضمن فقط التحرر من السيطرة الأجنبية، بل تضمن كذلك وحدة المجتمع من خلال التوافق الديني والانضباط الأخلاقي القوي، بما في ذلك وصية حفظ السبت الصارمة، وقوانين الترف، وحرية الكنيسة، والحكم القوي الملتزم بإكمال الحرب على إسبانيا وأعداء الجمهورية الآخرين في أوروبا أو خارجها وتطهير الجمهورية من أعدائها الداخليين.
44
لم تكن إنجلترا، واسكتلندا، وهولندا بأي حال الأمثلة الوحيدة على الإصلاح الذي يغذي نوعا حيويا من قومية «العهد»، بل يمكننا العثور على أمثلة أخرى في مستوطنات الاسكتلنديين الموجودين في أولستر في شمال أيرلندا، وفي مستعمرات أمريكا الشمالية، ولاحقا بين الأفريكان بعد الرحلة الكبرى. كان ذلك الجزء من الاتحاد السويسري الذي يضم زيورخ وبيرن وبازل يحظى بأهمية خاصة؛ إذ اتفقت فكرة العهد مع التقاليد السويسرية المتمثلة في اتفاقيات الدفاع المشترك بين الكانتونات التي تعود إلى أواخر القرن الثالث عشر، وكانت الوصايا العشر وشريعة موسى تلقى احتراما كبيرا في ذلك الجزء من الاتحاد. ورغم ذلك، نجح المصلحون هنا وفي ألمانيا وبولندا والمجر في الاستحواذ على أجزاء من المجتمع اللغوي والسياسي، وفي بعض الأحيان كان نجاحهم هذا لفترة مؤقتة فحسب، بينما هزموا وطردوا في نهاية المطاف في بوهيميا وفرنسا.
45
في الأماكن الأخرى، ساد «الإصلاح المدعوم من الحكام» الذي يمثل الجناح اللوثري الأقل حدة من الناحية السياسية. في إسكندنافيا كان الملوك مسئولين عن هذه المبادرة، فكان الملك فريدريك الثاني والملك كريستيان الثالث هما المسئولين في الدنمارك والنرويج، وكان الملك جوستافوس فاسا هو المسئول في السويد. وكما هو متوقع، فقد أسفر ذلك عن تأكيد أقوى للسيادة الملكية وللدولة المطلقة، إلا أن هذا كان له مقابل في تلك البلاد؛ ففي الدنمارك حدث قبول سريع للوثرية الإنجيلية مدعوم بترجمة للكتاب المقدس إلى اللغة الدنماركية عام 1550، وفي السويد ظهرت حركة للتعليم اللوثري تدريجية إلى حد بعيد، كان يرأسها أولويس بيتري ولاورنسيوس بيتري اللذان مهدت كتاباتهما الدينية وقوانينهما الكنسية الصادرة عام 1562 وعام 1571 الطريق أمام الموافقة على اللوثرية باعتبارها دينا قوميا في أحد المجالس الكنسية العامة عام 1593.
46 (6) أمم عهدية، قومية عهدية؟
بحلول أوائل القرن السابع عشر كان العديد من عمليات تكون الأمم يسير بإعداد جيد في شمال ووسط وغرب أوروبا. وتضمن ذلك التعريفات الذاتية والاعتراف بالأسماء الرسمية للممالك وسلالات شعوبها، وترسيخ الذكريات والرموز والأساطير والتقاليد بدرجات متفاوتة، وتزايد أقلمة الذكريات العرقية والارتباطات الشعبية بالممالك والمقاطعات الإقليمية، وخلق ثقافة نخبوية عامة ونشرها مبدئيا بين الطبقات الأخرى، وتكوين عادات مشتركة وتوحيد الأنظمة القانونية عبر الممالك والمقاطعات المستقلة. وكما رأينا، فإن هذه العمليات أسفرت عن قدر معين من الهوية القومية والمشاعر القومية بحيث أصبح من الممكن التحدث عن الأمم الهرمية، لكن تلك الهوية والمشاعر كانت مقتصرة على النخب الحاكمة والمثقفة.
أصبح الآن الشعور بالهوية القومية أكثر قوة وانتشارا بين قطاع أكبر من النخب من خلال تأكيد السيادة الملكية في الدول التي انشقت عن البابا والنظام الديني الكاثوليكي وتبنت أحد الأنواع المختلفة للبروتستانتية. حتى في البلاد التي تبنت عقيدة وليتورجية إنجيلية أقل حدة من الناحية السياسية لم يتمكن السكان في مجملهم من الإحجام عن التورط أو التحرك إلى حد ما لدعم التغيرات العقائدية والليتورجية أو مناهضتها، ودعما لملوك وأمراء بروتستانتيين معينين أو معارضة لهم؛ لذلك، كما هو مفهوم، اجتاح الالتزام المحموم بالأفكار والممارسات اللوثرية الصادرة عن المدن الألمانية الشمالية المجاورة منذ فترة مبكرة، تعود إلى أواخر عشرينيات القرن السادس عشر؛ أعدادا كبيرة من الفلاحين وسكان الحضر، وكانت تلك الحركة هي ما ساعدت أولا فريدريك الثاني وبعده كريستيان الثالث في كسر شوكة النبلاء ورجال الدين الكاثوليك، وساعدت أيضا في دعم السيادة الملكية، ومن ثم إرساء أسس الدولة المطلقة لاحقا.
47
في حالات مثل الدنمارك، والسويد وإن كانت لدرجة أقل، كانت نتيجة الإصلاح هي تقوية الأمة الهرمية وتوسيع نطاقها، دون أن يسفر ذلك عن أي حركة شعبية أو منتمية إلى الطبقة الوسطى الواسعة النطاق ساعية إلى استقلال ووحدة وهوية الدولة البروتستانتية. ورغم ذلك، في حالات أخرى مثل اسكتلندا وهولندا وشمال سويسرا وترانسلفانيا تضمن تبني أحد أنواع الإصلاح البروتستانتي الأكثر راديكالية، سواء إصلاح زفينجلي أو كالفين، قدرا أكبر من الحراك الشعبي الذي وصل في بعض الحالات إلى حركة محددة للقومية البروتستانتية. وكان هذا راجعا إلى عدة عوامل، منها: تكون مفهوم الاستقلال القومي والنضال من أجله في فترة سابقة، وطابع النظام الحاكم والإداري، وطبيعة النخب المتنافسة، ومكان المملكة أو الدولة المدينة أو المقاطعة داخل شبكة الكيانات السياسية والنظم الاقتصادية المتنافسة التي تضم تلك الدول. لكن لعل العامل الحاسم في تكوين قومية بروتستانتية شعبية واسعة النطاق هو النشاط السياسي لكنائس المصلحين التي نشأت عن القمع الذي لاقاه المصلحون على يد الملوك والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكذلك عن الإلهام الذي استوحوه من العودة إلى العهد القديم وسرده لقصة الخروج والعهد لإسرائيل القديمة.
يكشف تاريخ بني إسرائيل القدماء واليهود في الكتاب المقدس معاملات الرب مع شعبه المختار، ويقدم كذلك نماذج للمجتمع السياسي، سواء في حالة وجود ملك تقي أو عدم وجوده. ونتيجة لذلك، ظهر نموذجان من الأمم العهدية في القرن السابع عشر، أحدهما ملكي والآخر جمهوري. النموذج الأول تمثله اسكتلندا وإنجلترا في الجزء الأول من القرن السابع عشر، والنموذج الثاني تمثله المقاطعات المتحدة السبع الهولندية بعد معاهدة اتحاد أوترخت (1579)، بل على الأحرى بعد الهدنة مع إسبانيا منذ عام 1609، والكومنولث الإنجليزي في خمسينيات القرن السابع عشر. في النوع الأول كانت الأمة موحدة على أساس مثال العهد المزدوج بين الرب والشعب وبين الملك والشعب، في النوع الثاني كان يوجد عهد واحد يربط المجتمع مع الرب في كل جماعات المجتمع. وفي الحقيقة، كان يوجد تداخل بين هذين النوعين كما يوضح مثال الاسكتلنديين. على أي حال، تعايش العهد القومي مع الأمة العهدية الملكية، وسعى ذلك العهد القومي إلى دعمها، وعلى الرغم من الصراعات الكثيرة، فمن الممكن العثور على شيء من هذا القبيل في هولندا فيما يتعلق بأمراء أورانج. وقدم كلا النوعين من الأمة العهدية، لكن بدرجات متفاوتة، عنصرا رائجا في المجتمع السياسي، وهو أمر استبعد في النوع الهرمي الأول. ومن المؤكد أنه من الناحية العملية لم يكن عادة بإمكان أحد ضمان الدخول إلى الأمة السياسية سوى سكان المدن والتجار الأكثر ثراء، إلى جانب النبلاء ورجال الدين والمثقفين، وكذلك من الناحية العملية كان يوجد قدر قليل من الاختيار بالنسبة إلى الشخص المعهود إليه، مثلما لم يكن لبني إسرائيل اختيار مطلقا بعد الاتفاق المبدئي في سيناء. علاوة على ذلك، فمن الناحية العملية أيضا كان للمعيار العرقي المضمر دور مؤثر؛ فالمعهود إليهم كانوا ينتمون إلى مجتمع عرقي سياسي محدد، ولديهم إحساس بالهوية القومية النخبوية على أقل تقدير؛ فنجد أن رغبة المقاطعات الشمالية السبع الهولندية في استعادة المقاطعات الجنوبية الهولندية ترجع إلى التاريخ العرقي السياسي، بقدر ما ترجع إلى الدين أو إلى الصراع السياسي المباشر ضد أسرة هابسبورج.
48
لعل الأهم من الامتداد الاجتماعي لأمة العهد هو قوة الروابط التي دعمتها المعتقدات والممارسات الدينية لهذه الأمة. لقد كانت تلك الروابط غاية في القوة في بعض الحالات، حتى إننا يمكننا التحدث حقا عن تأثير «قومية العهد» في هذه الفترة. أنا لا أشير فحسب إلى تكوين اتحادات الكومنولث من خلال المعاهدات والتعهدات، على الرغم من أهميتها، بل يجب أن ننظر إلى الحركات المستمرة والشديدة الداعية إلى الاستقلال والوحدة والهوية التي ظهرت في هذه الفترة بحثا عن أمثلة مبكرة ل «القومية». تتمثل أهمية هذه الحركات لفهمنا للتقاليد الثقافية وسلالات الأمم في أمرين؛ يتعلق الأمر الأول بالأمثلة المبكرة للحركات القومية، والأمر الثاني يتعلق بالقنوات التي من خلالها انتقل تضامن دول العهد وتجدد.
ما الذي يمكننا قوله عن سمات «قوميات العهد» أو «القوميات العهدية»؟ نحتاج إلى أن نتذكر أنه على الرغم من اشتراكها في «المعتقد الأساسي»، فقد عبرت الأيديولوجيات والحركات القومية عن نفسها بطرق متنوعة في فترات تاريخية ومناطق ثقافية مختلفة. إذا يجب ألا نندهش إذا كانت قوميات العهد دينية ليس فقط شكلا من المنظور العام المتمثل في أن كل القوميات تأسست كنوع من الدين العلماني وكدين دنيوي للشعب، بل مضمونا من الناحية الجوهرية المتمثلة في تضمنها لدين روحاني معين قائم على الخلاص «من الخارج»، كما هي الحال بلا شك مع أنواع كثيرة من البروتستانتية. في هذا الصدد، كان الرب، وليس الأمة، هو صاحب السيادة في الكومنولث، حتى لو كان ذلك على نحو متزايد. كان الرب يعمل من خلال الكنائس الإلهية والأمم المختارة. علاوة على ذلك، لقد كانت المساواة بين المؤمنين، وليس المواطنين، هي ما يحظى بفائق الأهمية. رغم ذلك، فكما رأينا مع معتقد «الاختيار العام» لكالفين، فقد كان من المفيد بلا شك انتماء المؤمنين إلى مجتمع تاريخي واحد أوسع نطاقا - دولة مدينة، أو كانتون، أو مملكة، أو جمهورية - وقدرتهم جميعا على قراءة الكتاب المقدس نفسه وكتاب الصلاة نفسه بلغة محلية واحدة واتباع ليتورجية محلية واحدة، ومن ثم تكوين كنيسة واحدة ذات عهد، لكنها مختلطة، على غرار إسرائيل. ومعنى ذلك أن كل من ينتمي إلى مجتمع عرقي سياسي معين كانوا أعضاء محتملين من الأمة المختارة، لكن الأتقياء منهم فقط هم من كانوا من المحتمل خلاصهم من خلال هبة النعمة. وهم فقط من سيصبحون «البقية الصالحة» من إسرائيل الذين سوف يخلصهم الرب ويعيدهم إلى أرض الميعاد، وفقا للأنبياء القدماء. وهذا أيضا له نظيره في القوميات اللاحقة، حيث كان قادة وأعضاء الحركات القومية في المعتاد يرون أنفسهم (أو الفلاحين الذين يرونهم مثاليين) أكثر نقاء وأكثر «مصداقية» عن بقية سكان المدينة المشتركين معهم في العرق، والذين يمثلون في الغالب المكون الأساسي لهم.
من ناحية التركيبة الاجتماعية، فقد كانت قوميات العهد لا تختلف عن نظيرتها العلمانية اللاحقة. وهنا من المهم أن نتذكر أن قوميات القرن التاسع عشر كانت على نحو مميز حركات تقودها الأقلية؛ فخارج باريس كانت متاريس ثورات 1848 المعروفة باسم «ربيع الشعوب» يقف خلفها بعض مئات من المتمردين القوميين . وقارن ذلك بجيوش المتحمسين والأتقياء في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا في القرن السابع عشر، حيث حاربت تلك الجيوش من أجل الأمة المختارة انطلاقا من المعتقد الأيديولوجي على أقل تقدير. بالإضافة إلى ذلك، فوجه الاختلاف بين المشاعر والحركات القومية النخبوية في فترة ما قبل الحداثة وبين القوميات الشعبية الحديثة لا ينطبق على قوميات العهد؛ فعلى الرغم من أن قيادات قوميات العهد كانت بلا شك تنتمي إلى الطبقة الوسطى في طبيعتها، كما هي الحال مع الحركات العلمانية اللاحقة، فقد جذبت قوميات العهد معتنقين من كل الطبقات، ربما باستثناء الفقراء الشديدي الفقر (الذين كانوا غائبين أيضا عن القوميات اللاحقة). ويمكن أن نأخذ فكرة عن تركيبة حركات المصلحين من تحقيق جيفري باركر عن الخلفية الاجتماعية ل «المهرطقين» المدانين في المقاطعات الخاضعة لحكم أسرة هابسبورج في جنوب هولندا في منتصف القرن السادس عشر؛ ذلك التحقيق الذي اكتشف أن حوالي خمسين في المائة منهم كانت أصولهم تعود إلى الطبقة الدنيا.
49
بالمثل، كانت البرامج والأهداف السياسية لقوميات العهد لا تقل تحديدا ووضوحا عن مثيلتها في القوميات الأكثر علمانية التي خلفتها لاحقا. ورأينا أن تلك البرامج والأهداف تتضمن أيضا التحرر من التدخل الخارجي والدفاع عن الكومنولث، وخلق مجتمع موحد يضم الأتقياء ويقوم على قانون واحد للانضباط الأخلاقي بما في ذلك حفظ السبت وقوانين الترف، واستعادة الكنيسة الحرة والحقيقية، وتطهير الكومنولث من أعدائه الداخليين، وتشجيع الحكم القوي الذي لديه القدرة والرغبة في شن الحرب ضد الفجار وكذلك الذين يهددون الكومنولث، اقتصاديا وعسكريا، بما فيهم الدول البروتستانتية الأخرى. بهذه الطريقة، تمكن قوميو العهد من تحفيز الناس من خلال الوعد بالاستقلال القومي والوحدة والهوية القومية كأمة مختارة لديها عهد مع الرب. وكان تركيز قوميات العهد على الجانب «السياسي» هو بالضبط ما جعل النموذج السياسي المذكور في أسفار موسى الخمسة وثيق الصلة للغاية؛ فهو اختيار غير مقيد من الرب لشعبه، إسرائيل الجديدة، وقبولهم له كرب لهم وقبولهم لأنفسهم كشعبه وموافقتهم على طاعة شريعته والالتزام بوصاياه، بوصفهم مجتمعا سياسيا للمؤمنين، وبوصفهم مؤمنين فرادى. بطبيعة الحال ، لم تكن هذه الأهداف السياسية موضحة في برامج مطبوعة أو في بيانات حزبية، بل كانت متداولة عبر الأطروحات والمنشورات، ويوعظ بها عبر المنابر، لكنها رغم ذلك لم تكن أقل قوة في التأثير أو في الانتشار الواسع. وعلى هذا النحو، مثلت برامج قومية العهد نوعا مبكرا من السياسة الشعبية في أوروبا في وقت كانت فيه شرعية الحكام تخضع للفحص والتدقيق على نحو متزايد، وكان الحق في التمرد يناقش على نطاق واسع. وبدأت «مصالح الأمة» كما يقول كرومويل تحظى بالأولوية على كل الاعتبارات الأخرى باستثناء تلك المتعلقة بالعناية الإلهية، وتزايد إدراك وجود تناغم متزايد بينها. وهذا يعني أننا يمكن أن نرى في هذا النوع من القومية ليس فقط طليعة وباكورة القوميات العلمانية اللاحقة، بل نرى أيضا مرحلة أولى ونموذجا أوليا للحركات التالية. ولهذه الأسباب، استمر التشبيه بإسرائيل لفترة طويلة؛ إذ امتد بالفعل إلى القرن الثامن عشر في دول بروتستانتية مثل إنجلترا وهولندا والسويد، وانتقل أيضا - كما سنرى - نموذج العهد المتمثل في إسرائيل القديمة، بمثله المتعلقة بالوحدة والمهمة والأرض المقدسة، إلى الحركات القومية اللاحقة في أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى غيره من التقاليد الثقافية.
50
في الوقت نفسه، عززت هذه الانطلاقات الأولية للحماس القومي الديني الإحساس بالهوية القومية ووسعت كثيرا نطاق المشاعر القومية الموجودة بين السكان الذين لديهم تعريف ذاتي، ووضعت مثال الأمة التقية في طليعة التصورات والأفعال السياسية. وحتى إذا كانت اتحادات الكومنولث التي كونتها فشلت أو اختفت بعد فترة قصيرة، فإن ما دعمته تلك الاتحادات من إحساس بالاختيار القومي، ومثال الوحدة، والارتباط بالأرض؛ كانت له آثار مستمرة على الشعب المختار المقدور له تعزيزها؛ مما ساعد في إمدادهم بالثقة في النفس كقومية وبروح المبادرة والابتكار.
الفصل السادس
الأمم الجمهورية
في عصر الرابع عشر من يوليو عام 1790، في ساحة مارس في باريس، أمام حشد مكون من أربعمائة ألف، وخمسين ألفا من الحرس الوطني، وممثلي كوميونة باريس، ومندوبي الإدارات، وأعضاء الجمعية الوطنية؛ بدأ تاليران مراسم القداس والمباركة على «مذبح الوطن»، وقال للحشد رافعا ذراعيه على الرايات : «غنوا ولتدمعوا دموع الفرح؛ لأنه في هذا اليوم صنعت فرنسا من جديد.» بعد ذلك، امتطى لافايت جوادا أبيض، وسار بين صفوف الحرس وطلب إذن الملك في «إلقاء القسم على مسامع الممثلين الفيدراليين المجتمعين». انتقل القسم عبر الساحة، وقابله «ترديد المحتشدين لقول «أقسم» بصوت مدو»، وتبعه وابل من القذائف المدفعية. بعد ذلك، استخدم لويس السادس عشر لقبه الجديد «ملك الفرنسيين» وقال: «أقسم أن أستخدم كل القوى الموكلة إلي بموجب الدستور في دعم قرارات الجمعية الوطنية.»
1 (1) حلف اليمين في أوروبا الغربية
يشير شاما إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يؤدى فيها مثل هذا اليمين؛ ففي 4 فبراير من ذلك العام، أقسم لويس على أن «يدافع عن الحرية الدستورية ويحافظ عليها؛ تلك الحرية التي وافقت عليها إرادة الأمة التي وافقت إرادتي.» وحتى قبل ذلك، في الخريف السابق، كان لافايت الذي ساعد في تكوين الحرس الوطني قد ترأس مراسم مشابهة لأداء اليمين. بل يمكن القول إن تلك الأيمان كانت الحافز المباشر للثورات. في 21 يونيو عام 1789، عندما منع نواب الطبقة الثالثة من دخول مكان الاجتماع المعتاد لمجلس الطبقات العامة في قصر فرساي نظرا لأعمال إعادة البناء، التجأ النواب إلى ملعب تنس قريب وأدوا اليمين متعهدين: «أمام الرب وأمام الوطن ألا نتفرق أبدا حتى نصوغ دستورا محكما وعادلا كما طالبنا الناخبون.» في تلك الأثناء، وقف النواب الستمائة كجسد واحد، ومدوا أذرعهم اليمنى على نحو مشدود، مقلدين على نحو واع الطريقة التي أقسم بها الإخوة هوراتي الرومانيون على سيف والدهم الذي علقه في الهواء متعهدين بالغزو أو الموت في سبيل الوطن، وهذا مشهد لم يكن في القصة الأصلية التي ذكرها المؤرخ تيتوس ليفيوس، لكن اخترعه جاك لوي ديفيد في رسمته الشهيرة، «قسم الإخوة هوراتي»، قبل خمس سنوات. وقد طلب من ديفيد رسم قسم ملعب التنس المذكور في وقت لاحق، لكنه لم يتمكن إلا من ترك تسجيل لهذا القسم في مخطط رائع غير مكتمل بعد ذلك بسنوات قليلة.
2
لم يكن النموذج الروماني الذي قدمه ديفيد سوى واحد من سلسلة من هذه الأيمان؛ فلقد سبقه تصوير قوي ل «قسم روتلي» رسم في الفترة ما بين 1779-1781 لمجلس مدينة زيورخ. وفي هذه الرسمة، جسد هاينريش فوسلي أول قسم لتحالف الاتحاد السويسري القديم عام 1291 في صورة ثلاثة رجال ضخام البنية. في هذه الصورة المدهشة، يجعل فوسلي ممثلي كانتونات الغابات الثلاث الأصلية أوري وشفيتس وأونترفاليدين، يؤدون قسم الحرية على سيف مرفوع في الهواء على مرج روتلي بجوار بحيرة لوسيرن التي جاءوا عبرها في قوارب يحركونها بمجاديف، كما هو موضح في رسوم فوسلي. وكما نعلم من مصادر أخرى، فإن ممثلي الكانتونات أقسموا على تكوين اتحاد دائم لمقاومة طغيان أسرة هابسبورج واستعادة حقوقهم السابقة من خلال تحرير وديانهم من القضاة الظالمين والضرائب الجائرة. في هذه الصورة، يؤدى قسم التحدي بثلاثة رجال حازمين ومفتولي العضلات مادين أذرعهم، على غرار أسلوب التكلفية الذي ابتكره مايكل أنجلو الذي كان فوسلي معجبا به للغاية أثناء إقامته الطويلة في روما.
رغم ذلك، وكما أوضح روبرت روسنبلوم في البداية، فإن هذه واحدة فقط من سلسلة من رسومات «الكلاسيكية الحديثة» التي توضح حلف اليمين وأداء القسم، تعود لفترة أسبق من لوحة «قسم بروتوس» لأنطوان بوفور التي رسمها عام 1771؛ إذ تعود إلى لوحة «قسم بروتوس» التي رسمها جافين هاميلتون عام 1764، والتي تعد على الأرجح الأولى من هذه السلسلة. في اللوحة الثانية المرسومة على قماش مسرحي كبير، يظهر بروتوس الذي سيصبح لاحقا أول قنصل للجمهورية الرومانية، وهو يقسم مع أصدقائه على الانتقام لانتحار لوكريشا من خلال طرد الطاغية تاركوينيوس الذي اغتصبها خارج المدينة. وتظهر لوكريشا نفسها على نحو واضح في الجانب الأيسر من اللوحة وهي تموت بعد أن طعنت نفسها، وفي الجانب الأيمن يؤدي الأصدقاء الثلاثة القسم على سيف بروتوس. لقد تناول الفنانون هذا الموضوع منذ عصر النهضة؛ وعلى الرغم من أن اهتمامهم الأساسي حينها، من الناحية الأدبية والفنية، انصب في الماضي على نبل تضحية لوكريشا، فلقد تحول الآن إلى العواقب السياسية لتصرفها. وهذا قدم الموضوع الجديد نسبيا المتمثل في التحرر من الطغيان ومنح دورا محوريا لمراسم حلف اليمين، وهذه حقيقة أكدتها ضخامة اللوحة القماشية وضخامة أبطال هاميلتون، بالإضافة إلى قربهم من عين المشاهد.
3
علام يدل هذا الشغف الجديد بالأيمان ومراسم حلف اليمين؟ ألا يمكن القول إنه يمثل العلاقة العهدية التي ناقشناها في الفصل السابق؛ أي إنه نسخة علمانية مما كان في الأصل ممارسة دينية؟ إن أداء اليمين والعهود كانا على أي حال من الأعراف العامة على نحو قاطع، وكانا يستخدمان لتحقيق الالتحام بين عدد كبير من الأشخاص من خلال طريقة تقديس مهيبة يشهدها الجميع. في العهد الأصلي في سيناء، عندما تلقى شعب إسرائيل الوصايا العشر من الرب عن طريق موسى قالوا: «كل الأقوال التي كلم بها الرب نفعل» (سفر الخروج 24: 3). بالمثل، وافق الملك والشعب أثناء الثورة الفرنسية على طاعة القوانين والدفاع عن حرية الأمة والوطن، وأن يخضعوا مصالحهم الشخصية للإرادة العامة.
إلا أن هذا ليس إلا جزءا من القصة. بالتأكيد، كان شكل مراسم حلف اليمين، على الأقل في السنوات الأولى من الثورة، ديني الطابع، وكان يثير التبجيل إن لم يكن الهيبة، بيد أن محتوى المراسم ومضمونها لم يعد دينيا في الأساس، وأصبح أقل تأثرا بالمسيحية على وجه التحديد، وبدأ يصبح هكذا عندما تقدمت الثورة وبدأت تؤثر على أجزاء أخرى من أوروبا. لم تعد إرادة الرب، أو أمة العهد، أو السعي للقداسة؛ هي المثل المنشودة، بل أصبح قانون الأمة والمواطنون المستقلون والمتساوون ومثل الحرية والإخاء هي مصادر إلهام أيمان الثورة التي تقود الأمة نحو التجدد القومي ونحو عصر علماني جديد. ومن هذه المثل والوقائع الجديدة نبع تدمير كل أشكال الملكية وكل الأشخاص الملكيين، والعداء المرير لرجال الدين الذي ظهر في الثورة لاحقا، ومظاهر الوحدة الشعبية الواضحة في المهرجانات الكبرى، والإسراف في العنف ضد كل المقاومين، لا سيما في فونديه، والحماس التبشيري الذي سعى إلى أن يقدم للشعوب الأخرى فوائد الوطنية والثورة.
4 (1-1) سلالة الوطنية
في صميم هذه الأيديولوجية الجديدة يكمن الاعتقاد التنويري الذي يؤمن بقوة المنطق البشري الموجهة، وقدرة البشر على تكوين مجتمع متوافق مع مبادئه. يرى إيلي كادوري أن الشخصية الأساسية في التطور الفكري للقومية العلمانية الثورية كان إيمانويل كانط الذي قال إن الأخلاق الإنسانية، وليست إرادة الرب، هي وحدها المصدر المشروع للعمل السياسي، وإن الإرادة الجيدة هي الإرادة الحرة والمستقلة؛ أي المتحررة من قوانين الرب والطبيعة. وعلى الرغم من نموذج النشاط السياسي الذي مثلته الثورة الفرنسية، فقد كان المفكرون الألمان أمثال كانط وهيردر، وأتباعهم الرومانسيون: فيشته، وشلايرماخر، وشليجل، وآرنت، وشليجل، ومولر، ويان؛ هم من قدموا الأساس المنهجي لنظرية السياسة القومية. في هذه النظرية، تندمج الدولة والأمة في كيان مرض ولا يجد الفرد الحرية الحقيقية إلا في الذوبان في الدولة القومية التي تجسد إرادة شعب مطهر ثقافيا ولغويا. إن تلك الإرادة الشخصية هي التي تقلل في نهاية المطاف من نظام التفكير المستنير المنهجي، وتحدد لنفسها حياتها ومصيرها.
5
كان من شأن هذه السلالة الفكرية أن تبين أن ميلاد القومية في الدول الناطقة بالألمانية أعقب هزيمة بروسيا في معركة يينا عام 1806. أشارت إلى وصول تلك القومية «خطابات إلى الأمة الألمانية» لفيشته التي كتبها في عامي 1807 و1808، التي يرى كادوري أنها تمثل أول نص مفصل على نحو كامل لمعتقد قومي أصيل وصاف. ورغم ذلك، فقبل حوالي ثلاثين عاما، قدم جون جاك روسو سليل جنيف شغفا شديدا بالوطن مشابها لخطابات فيشته في نصيحته للبولنديين في أعقاب أول تقسيم لبلدهم، وكان عنوان تلك النصيحة «اعتبارات متعلقة بحكومة بولندا». في هذا العمل، سبق روسو فيشته في معتقد تحمس له للغاية، تمثل ذلك المعتقد في الإيمان بقوة التعليم القومي العلماني القادرة على القولبة لتشكيل شخصية الشباب: «إن التعليم هو ما يجب أن يمنح الأرواح التكوين القومي، ويوجه آراءهم وأذواقهم بحيث يكونون وطنيين ميلا وشغفا وضرورة.» وفي حديث روسو عن حب «الوطن» يجمع بين السمات والمشاعر المميزة للثورة الكلاسيكية الحديثة فيقول:
هذا الحب هو وجوده كله؛ فهو لا يرى شيئا إلا الوطن، إنه يعيش له وحده، وعندما يكون وحيدا يكون لا شيء، وعندما لا يكون له وطن يصبح غير موجود، وإن كان غير ميت فحاله أسوأ من الموت. التعليم القومي ملائم فقط للرجال الأحرار؛ فهم فقط من يستمتعون بالوجود الجمعي ويخضعون حقا للقانون.
6
الحرية، والقانون، والمساواة، والتعليم القومي، والمواطنة وحب «الوطن»؛ تلك هي الموضوعات المتكررة أثناء الثورة، وفي الواقع أثناء كل الثورات التي شهدتها تلك الفترة؛ وكلها أدت إلى رؤية الأخوة، والرابطة الذكورية المتمثلة في الإخوة الذين يحركهم الحب نفسه وتربط بينهم المثل نفسها، فهم أقارب وأصدقاء في الوقت نفسه، مثل الإخوة هوراتي. لقد كانت تلك الرؤية مستوحاة من قراءة للعالم اليوناني الروماني، لا سيما أسبرطة والجمهورية الرومانية، تأثرت ببلوتارخ أكثر من ثوسيديديس وبليفيوس أكثر من تاكيتوس. في هذه الصورة المثالية للعالم القديم، قدمت الأعمال البطولية والأخلاق الصارمة المتمثلة في الاقتصاد والعفة والتضحية بالنفس «أمثلة الفضيلة» لمجتمعات كانت الطبقة الوسطى فيها تشعر ببغض متزايد تجاه «النظام القديم» الواهن والمستبد المكرس لملذات وتفاهات الأقلية المنعزلة في البلاط الملكي وفي القصور. وكان يوجد قدر أكبر من الاشمئزاز تجاه ما شعروا به من تعصب وخرافة من جانب الكنيسة التي سمحت منذ بضعة أجيال فحسب بأكثر المذابح وحشية ودموية في واقع الأمر أثناء الحروب الدينية في أوروبا. مناهضة للبلاط الملكي والكنيسة، ومناهضة لكل أشكال الهرمية، وتناسيا للانشقاقات والصراعات التاريخية الكثيرة في روما وأثينا وغيرها من الدول المدن القديمة الأخرى، أعلنت ثورة «الكلاسيكية الجديدة» للطبقات الوسطى مثل الدولة المدينة القديمة، وقلدت نموذجها بما يتضمنه من قلة عدد المواطنين، والحدود الإقليمية الواضحة، والتمسك بالقانون، والوطنية الشديدة. وكان هذا الصدد ينطوي على نوع من التضامن السياسي الذي يمكن أن يسمح به العقل وتلهمه الأخلاق، وهذا التضامن بدوره عن طريق التعليم المدني والثقافة الشعبية من الممكن أن يخلق رجالا أحرارا ومتساوين، ومخلصين ل «الوطن» وقوانينه، ومشاركين في الكومنولث ويتصرفون بتناغم من أجل مصلحة الجميع. ألم يكن ذلك هو هدف كل الطقوس والمراسم الوطنية التي صممها ديفيد لليعاقبة في ذروة الثورة، ولموسيقى جوسيك، ولشعر شينيه، تلك الطقوس والمراسم التي بلغت ذروتها في قسم المواطنة الذي يدلى به على مذبح «الوطن »، وفوق كل ذلك، في مهرجان الكائن الأسمى الذي دعا إليه روبسبيير في يونيو 1794؟
7
على الرغم من أن المفكرين الأوروبيين في القرن الثامن عشر استرجعوا تراث العالم اليوناني والروماني القديم، حسبما أعلنوا على نحو واضح، فإن هذا الاسترجاع لم يكن غير مسبوق؛ فعلى أي حال، وكما رأينا، بحلول عام 1100 كان كثير من الدول المدن الإيطالية قد أحيا أشكال المؤسسات السياسية الرومانية وطبقها، وكانت تلك الدول نفسها مؤسسة على أساس مستوطنات أو مدن رومانية قديمة. وفي أوائل القرن الخامس عشر كان المفكرون ورجال الدولة الإنسانويون في فلورنسا قد سعوا إلى استعادة «فضيلة» الوطنية الرومانية وتطبيقها بالإضافة إلى التصور العلماني والعملي للتاريخ، واستمر النموذج الجمهوري لروما ومثلها يجذبان دعما قويا حتى بعدما رضخت الجمهورية نفسها لحكم أسرة ميديتشي المسمى «سنيورية»، مثلما حدث في معظم الدول المدن الإيطالية باستثناء البندقية.
8
لم تكن إيطاليا الوحيدة في إحياء الأخلاقيات الجمهورية؛ فيمكننا سماع أصداء الوطنية الرومانية، أو صورتها المثالية، في الكانتونات السويسرية، والمدن الألمانية، والمقاطعات الهولندية. وبالتأكيد، أصبح أداء القسم جزءا لا يتجزأ من تكوين «الاتحاد السويسري القديم». بعد الانتصارات السويسرية على جيوش هابسبورج في زيمباخ عام 1386 وفي نيفيلس عام 1388، جذب الاتحاد إلى عصبته دولا مدنا قوية مثل لوسيرن وبيرن وزيورخ ومن بعدها جنيف، ومع توسع الاتحاد أصبحت توجد أنواع جديدة من القسم أكثر شمولية من سابقتها، مثل قسم ميثاق الكهنة الذي يعود لعام 1370، وقسم ميثاق زيمباخ الذي يعود لعام 1393، وكان الهدف من أداء هذه الأنواع من القسم هو الدفاع المشترك لصد انتهاكات هابسبورج، وبحلول القرن السادس عشر كان الغرض من أداء القسم هو رفاهة هيلفيتيا. وكان لهذا التراث تأثيراته على كل من المؤرخين السويسريين أمثال إيجيديوس تشودي والإصلاح السويسري؛ إذ نجد أن السياسيين والباحثين الإنسانويين أمثال يوهانيس شتومف وهاينريش بولينر «حاولوا تعريف الاتحاد السويسري بأنه كيان سياسي وثقافي مستقل داخل «الرايخ».» علاوة على ذلك، ارتبطت الأيمان والمعاهدات ارتباطا جيدا بمثل العهد الذي كان المصلحون السويسريون، كما رأينا، محايدين تجاهه من الناحية العملية. وتبنت المقاطعات الهولندية أيضا التقاليد «الرومانية ». ورغم قلة الفعالية والقوة مقارنة بتراث العهد، فإن أسطورة الجمهورية الباتافية القديمة والمقاومة الشعبية ومؤامرة كلاوديوس سيفيليس على روما كانت ذات تأثير لبعض الوقت بين المفكرين والفنانين الهولنديين، وتوافقت جيدا مع استخدام مصطلح «أمة» للهولنديين ومع روح حروب الاستقلال الهولندية؛ مما يرمز إلى الوعي الوطني الناشئ والإحساس بالهوية القومية المنفصلة.
9
رغم ذلك، عندما نظر المفكرون والمحترفون الفرنسيون إلى الوراء من أجل استرجاع تراث الجمهوريانية المدنية وتعديله وفقا لأهدافهم، وجدوا أنه من الضروري العودة إلى مصادره في العالم اليوناني الروماني وتشكيل تلك المصادر من جديد. إعادة اكتشاف التراث وتعديله هما على الأرجح أقل طرق ارتباط الماضي بالحاضر قوة؛ ولهذا السبب بالتحديد تكون عملية الاسترجاع في أغلب الأحيان مرهقة، وواضحة، وقوية. بالإضافة إلى ذلك، ربما نظرا لأن التراث الجمهوري والمدني للعالم اليوناني والروماني لم «ينتقل» من خلال مؤسسة واحدة قوية ومستمرة مثل الكنيسة، بل استرجع على فترات متقطعة على يد المدن والدول المدن والكانتونات الساعية إلى الشرعية والمعنى فيما كان معروفا ومرويا عن العالم اليوناني الروماني في ذلك الوقت، فإن تراث الجمهوريانية المدنية لم يظهر مجددا على نحو كامل إلا في أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر. الأهم من ذلك أن إحياءه تأخر طويلا بسبب تضافر العقيدة الدينية والحكم الهرمي لاستبعاد كل ما اعتبر تراثا علمانيا ومؤسسات علمانية. ولم يتمكن التراث العلماني المتمثل في الجهورية المدنية من البدء في الظهور إلا بعدما بدأت الدولة الحديثة والمهنية والعلمية تتحرر من سيطرة الحكم الفردي وأشكال التنظيم الهرمي. وحتى عند تحقيق ذلك، كانت الأمثلة الأولية للأنماط السياسية الجمهورية خارج الدول المدن في هولندا وإنجلترا ذات الكومنولث؛ ناشئة عن المؤسسات الدينية والحماس البيوريتاني في أمم العهد. ولم يبدأ أي من أشكال الجمهوريانية القومية الجديدة في الازدهار إلا بعد أن بدأ تراجع جاذبية الأنواع الدينية التقليدية وسيطرتها. في هذا الصدد، تمثل إنجلترا القرن الثامن عشر الدولة العلمانية الأكثر «تقدما»؛ فحتى الخطب العامة لكبار رجال الدين تشهد على تراجع أفكار الكتاب المقدس المتعلقة بالأممية ونموذج إسرائيل القديمة بعد منتصف القرن الثامن عشر، وتشهد كذلك على ظهور التصورات العلمانية والكلاسيكية والوطنية.
10
فكرة أن القومية الجمهورية العلمانية لا يمكن أن تظهر إلا بعد تراجع المشاعر والمثل الدينية «العامة»؛ هي واحدة من الموضوعات الأساسية في تحليل ديفيد بيل ل «عبادة الأمة» في فرنسا القرن الثامن عشر. يقول بيل إن مصطلحات مثل «الأمة» و«الوطن» انتشرت في فرنسا القرن الثامن عشر بسبب التحولات الأساسية في الطرق التي بدأ الفرنسيون يفكرون من خلالها في علاقاتهم بكل من الرب والعالم المادي. لم يتمثل الأمر في أنهم كفوا عن الإيمان بالرب، حتى لو كان ترددهم على الكنيسة قد انخفض إلى حد ما، بل تزايد ابتعاد الرب، تاركا العالم وشأنه، أو على الأحرى تاركا العالم لبشر أصبحوا الآن قادرين وجاهزين لإعادة تشكيله وفقا لاحتياجاتهم واهتماماتهم الإنسانية؛ ونتيجة لذلك، ازداد الاتجاه إلى خصخصة الدين التقليدي. وبعبارة أخرى، شغلت المساحة الشاغرة مفاهيم جديدة تتمثل في المجتمع والحضارة والأمة، وطرق جديدة للتفكير في العالم المادي والسياسي وتنظيمه، متحررة من القرارات الدينية على الأقل بين النخب. وكمثال مبكر على المفاهيم والطرق الجديدة، يقدم لنا بيل سرد روسو عن عمل المشرعين القدماء ليكروجوس، ونوما بومبيليوس، وموسى. وفي حالة موسى، لم يقتصر روسو على تدمير التاريخ المقدس لليهود وإحلال تاريخ سياسي علماني محله، بل طرح أيضا أول أمثلة على فكرة البناء الاجتماعي، أي «بناء الأمة» في هذه الحالة، ومدح موسى لأنه كون ونفذ «المبادرة المذهلة المتمثلة في تكوين كيان قومي من مجموعة من الهاربين التعساء ... لقد كان موسى جريئا لدرجة كافية مكنته من تحويل هذه الجماعة المتجولة والمستعبدة إلى كيان سياسي وأشخاص أحرار.»
11
كان يوجد سبب آخر أكثر تحديدا في السياق الفرنسي لزيادة خصخصة الدين بين النخب، وهذا السبب هو الذكرى المؤلمة للمذابح المريعة التي خلفتها الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا في أواخر القرن السادس عشر. تلك الذكريات كانت لا تزال حاضرة في القرن الثامن عشر، لا سيما بين المهنيين والمفكرين، وتسببت في كراهية متزايدة للتعصب الديني . وبالفعل في القرن السادس عشر كان التوسل ب «الوطن» المشترك والمصالح المشتركة لكل الفرنسين مسموعا في الغالب، لكنه لم يحقق إلا قدرا قليلا من الجدوى. وبحلول عام 1600، حل محل هذه المناشدات تركيز جديد على السلالة الحاكمة والدولة الملكية. إلا أنه نظرا للدور المشبوه الذي لعبته الدولة في الحروب الدينية، وتراجعها الواضح أثناء القرن الثامن عشر، فقد تزايد اتجاه الرجال والنساء إلى مفاهيم حيادية وأكثر أملا، كما يرى بيل، وهي مفاهيم الأمة والمجتمع والحضارة والشعبية و«الوطن» التي من خلالها فهموا وأعادوا بناء فرنسا.
12
رغم ذلك كله، فقد كانت علمانية التنوير أحد العوامل التي جعلت مفهوم الأمة يحظى بالصدارة؛ فعلى الرغم من عداء المفكرين ل «النظام القديم»، فإن آثار قوة ومركزية الدولة المتزايدة على فكرة المجتمع القومي لا يمكن إنكارها. وفي حين احتفظت مناطق عديدة بهوياتها الثقافية المستقلة، فقد كانت السيطرة الثقافية والسياسية لباريس يوميا أكثر وضوحا، وكذلك كان الإحساس بفرنسا كمجتمع إقليمي مستقل. ويمكن رؤية ذلك في خرائط فرنسا في القرن الثامن عشر، ولوحات فنية مثل سلسلة اللوحات التي رسمها كلود جوزيف فيرنيه لمناظر الموانئ في بداية الفترة الرومانسية. عززت المنافسة مع بريطانيا هذا الإحساس بالهوية الناشئة، لا سيما أثناء حرب السنوات السبع، وحروب الاستقلال الأمريكية التي ساعدت فرنسا في تمويلها. وعزز هذا الإحساس بصفة خاصة حاجة النخب القوية إلى استرجاع القيادة السياسية والثقافية التي كانت تمتلكها الدولة في القرن السابع عشر المعروف ب «القرن العظيم»؛ تلك القيادة التي شعروا أنها تتراجع في ظل نظام ضعيف ومستبد.
أخيرا، يجب ألا نغفل أهمية النماذج الجمهورية والعهدية التي قدمتها الجمهورية الهولندية، والكومنولث الإنجليزي وإن كان قصير العهد، والثورة المجيدة في وقت لاحق؛ فهذه ليست مجرد مسألة تأثير مارسته إنجلترا وحرياتها على المفكرين الفرنسيين المستقلين بصفة خاصة، بل هي مسألة أسلوب سياسة جديد قدمته قومية العهد: فكرة أن مجموعة من الرجال يمكن أن يدخلوا في عهد مع الرب والملك بإرادتهم الحرة، ويتخلون عن الهيئات الوسيطة، وأن هذه المجموعة تستطيع من خلال جماعاتها التشريعية سن قوانين وإبطالها، والتعبير عن الإرادة العامة للمجتمع السياسي داخل إقليم معين. وهنا يكمن حافز جديد قوي لتكوين أمة فرنسية مستقلة وموحدة لا تخضع لمساءلة أحد إلا أفرادها. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نرى أن مفهوم الأمة الجمهورية المدنية لم ينشأ فقط من تقليد الوطنية الكلاسيكية في بلاد الإغريق وروما وإيطاليا العصور الوسطى والكومونات والكانتونات الشمالية الحرة، بل قام أيضا على معتقدات وسير الكتاب المقدس بدرجة أكبر من اعتماده على المعتقدات والسير الكلاسيكية، حتى مع العلم بأن تلك المعتقدات نفسها قد تعرضت للإنكار في مراحل لاحقة مع الإطاحة بها في بعض الحالات. (2) القومية الجمهورية
بطبيعة الحال، فإن هذه التطورات، المتمثلة في مركزية الدولة، وخصخصة الدين، وتأثير النموذج العهدي من الأمم؛ لم تزدهر أو تجتمع معا على الفور؛ ونتيجة لذلك، فلا يمكننا إدراك بدايات أيديولوجية الأمة الجمهورية المدنية «في حد ذاتها» إلا في أواخر القرن الثامن عشر. ونظرا لمحورية الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية في تاريخ الغرب، فإن هذا النوع من الأيديولوجية القومية بمنزلة المعيار لكل أشكال الأيديولوجيات القومية اللاحقة، حتى تلك التي تجعل نفسها مناهضة على نحو واع لكل من الغرب ومختلف أنواع قومياته.
إن هذه الأيديولوجية المعنية هي أيديولوجية جمهورية شكلا ومدنية موضوعا. لقد نشأت من البيئة الاجتماعية والثقافية المحددة في إنجلترا وفرنسا القرن الثامن عشر بصفتهما القوتين الرائدتين والنموذجين الثقافيين لتلك الفترة. في جوهر الأمر، كما رأينا في الفصل الأول، تطرح الأيديولوجية نموذجا إقليميا مدنيا، تعتبر فيه الأمة مجتمعا متماسكا ومحددا من الناحية الإقليمية، يتبع مجموعة واحدة من القوانين وله مؤسسات قانونية موحدة، ويتسم بالمشاركة الجماعية في الحياة السياسية، ويتمتع بثقافة عامة شعبية، وحكم ذاتي جمعي، ودولة، ويشارك في المجاملات الدولية بين الأمم، وتمثل أيديولوجية القومية مصدر شرعيته إن لم تكن مصدر إلهامه الإبداعي. إنه تصور لا يعكس فقط رؤية التنوير للمثالية العقلانية، بل يعكس أيضا صورتها المثالية عن الوطنية والفضيلة مضرب المثل في العصر الكلاسيكي. إنه أيضا مثال يسعى لتكوين المجتمع السياسي والتضامن من خلال المشاركة الفعالة للمواطنين ، وامتثالهم للقوانين ، وترسيخ الفضيلة المدنية، وهذا يتطلب نشر ثقافة عامة مميزة، وأفضل طريقة لتحقيق ذلك هو التعليم العام الموحد الجماهيري ومحاكاة «النماذج» البطولية التي كانت في الماضي. وهكذا أصبحت المواطنة والقانون والتعليم العلماني السمات المميزة للأمة التي تعتبر مجتمعا سياسيا مكونا من وطنيين.
13
في بعض الأحيان، يعتقد أن الوطنية المدنية مختلفة عن القومية، بل مناقضة لها. ومن تقاليد ومنطلقات مختلفة جدا، يوضح ماوريتسيو فيرولي ووكر كونر أن مصطلح الوطنية يجب أن يستخدم فقط لوصف المشاعر والولاء الموجهين نحو الدولة أو «الجمهورية» وإقليمها، في حين أن القومية توجه مشاعرها صوب الأمة كمجتمع ثقافي عرقي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الوطنية جزء من تراث الدول المدن منذ العصر القديم وحتى جنيف في عصر روسو، ويجب عدم الخلط بينها وبين القومية العرقية التي روجها الرومانسيون وأتباعهم. على سبيل المثال، شهد القرن الثامن عشر انتشار كل أنواع «الجمعيات الوطنية» من أجل تحسين الأخلاق والصحة والزراعة وما شابه ذلك. وفي بعض الأحيان، كان يقال عن هذه الجمعيات الأخوية المنتمية إلى الطبقة الوسطى، التي لها أهداف جمعية، إنها مختلفة كثيرا في الشكل والمضمون عن الجمعيات القومية اللاحقة، التي كانت أهدافها فيلولوجية وتاريخية وفلكلورية، رغم وجود بعض التداخل في حالات عديدة؛ لذلك، فإن كثيرا من الجمعيات الوطنية التي ظهرت في الدنمارك أثناء القرن الثامن عشر كانت مخصص ل «الإصلاح» القومي في مجالات عملية مثل الزراعة والصحة والتجارة، مقارنة بالحركة القومية في القرن التاسع عشر التي هدفت إلى تجديد النسيج الثقافي والاجتماعي للأمة، ورغم ذلك يمكننا بالقدر نفسه أن نقول إن هذا لم يمثل إلا مرحلة أولى من مراحل تطور الإحساس بالهوية القومية، حتى وإن تطلب الأمر حركة تاريخانية لاحقة متمثلة في «القومية» كي تكتمل تلك العملية بنجاح.
14
ينبغي بلا شك توضيح فرق مهم ومفيد بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة؛ فكما رأينا في البداية، فإن مفهوم الدولة يشير إلى مجموعة من المؤسسات المستقلة في إقليم معين، في حين أن الأمة تشير إلى أحد أنواع المجتمعات الثقافية والتاريخية. وصحيح أيضا أنه على مدار قرون كان مصطلح «الوطنية» يشير إلى التعلق إما بمكان ميلاد المرء - سواء أكان حيا أم منطقة أم أرضا - أو بالدولة المدينة، كما في إيطاليا العصور الوسطى، ومؤخرا أصبح يشير إلى الولاء للدولة الإقليمية في حد ذاتها. من ناحية أخرى، في الحالتين الأخريين قد تتطابق الدولة ومجتمعها السياسي مع المجتمع الثقافي للأمة، ومن الصعب عمليا التمييز بين هذين النوعين من الولاء؛ فكثير من الأعضاء، لا سيما «العرقية» المسيطرة، لا يهتمون إلا قليلا بالفرق التحليلي بين الدولة ومجتمعها السياسي وبين الأمة كمجتمع ثقافي عرقي. وهذا هو الوضع إلى حد بعيد في حالة فرنسا، فمع مرور الوقت اندمجت الدولة والأمة، بالإضافة إلى المجتمع السياسي والمجتمع الثقافي العرقي، لتصبح كلها وجهين لعملة واحدة، على الرغم من أن هذا كان على نحو متزايد على حساب المجتمعات العرقية والأمم الأصغر حجما مثل البريتانيين والألزاسيين في «أمة فرنسا الكبرى»، أو الكتالانيين والباسكيين (البشكنج) في إسبانيا.
15
إلا أن عدم الاكتفاء بالتمييز بين التصور «العرقي» والتصور «المدني» للأمة والميل إلى معارضة أحدهما بالآخر يجعل هذا الفرق مربكا؛ فالتصور العرقي يرى أن الأمة مجموعة ممتدة من ذوي القرابة، تربطهم روابط النسب، ويشتركون في ثقافة سلفية مشتركة. في حين يرى التصور المدني أن الأمة مجتمع سياسي يضم مواطنين يعيشون في ظل الحكومة والقوانين نفسها في إقليم معين، ويشتركون في القيم والمثل المشتركة، وهذا هو نوع التعريف الموجود في «الموسوعة». في أغلب الأحيان، تعتبر فرنسا نموذجا أوليا للأمة المدنية كمجتمع سياسي. إلا أنه في حقيقة الأمر، امتزج في فرنسا كلا النوعين من الارتباطات الجمعية، السياسية والثقافية التاريخية، وبحلول القرن الثامن عشر استهدفت الدولة الأرستقراطية والملكية، وساعدت أساطير السلف المشترك المتمثل في بلاد الغال في إرساء «الوطن» على أساس أمة عرقية واحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة المتزايدة إلى التجانس الثقافي والتركيز الجديد على توحيد اللغة على أساس الفرنسية الباريسية أثناء الثورة، في محاولة لإضعاف اللهجات والعادات المحلية، أرسيا قواعد «الوطن» المدني وكونا الأمة الفرنسية على أساس «العرقية» الواحدة الموحدة سياسيا . إن وجود قدر من الهندسة الثقافية والاجتماعية لا يقلل من الامتزاج الفريد بين الهويات والمجتمعات الجمهورية المدنية والعرقية القومية.
16
حتى الفرق بين وطنية الدول المدن والقومية العرقية الثقافية الذي وضحه فيرولي ليس واضحا كما يقول؛ فكما رأينا في الفصل الرابع، كانت البندقية وفلورنسا تعتبران في الغالب أمتين، داخل إيطاليا وخارجها، وحتى أثينا القديمة - كما أوضح إدوين كوهين - كان يرى أرسطو أنها تمثل أمة بناء على حجمها ومساحتها بالإضافة إلى أساطير أصلها ونشأتها. والسبب في ذلك يرجع جزئيا إلى عامل يظهر في سرد فيرولي، ألا وهو التركيز الشديد على التاريخ والأسلاف الأبطال وتضحيتهم في الصور الذاتية لمواطني الدول المدن. وهذا أيضا سمة شائعة في معظم القوميات، وصفة بارزة في تعريف إرنست رينو الكلاسيكي للأمة.
17
ومن ثم، في ظل القومية الجمهورية تندمج الأمة السياسية والثقافية لخدمة مجتمع إقليمي يضم مواطنين ينصاعون للقوانين نفسها ويشتركون في القيم والمثل نفسها المتمثلة في الفضيلة وحب «الوطن». من وجهة نظر القوميين الجمهوريين، فإن الأرض مقسمة إلى أمم، لكل منها شخصيتها، وتاريخها، ومصيرها، وتسكن كل منها في وطنها التاريخي وتسعى إلى الوحدة والاستقلال الكامل كمجتمع سياسي يضم مواطنين متساوين. تكون الأمة وقوانينها المصدر الوحيد للسلطة السياسية، ولا يوجد وجود خارج الأمة. ولا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية إلا من خلال الانتماء للأمة والمشاركة في حياتها ومن خلال التعليم العلماني الذي سوف يغرس في النفوس الحب الشديد للوطن، وتاريخه، ورموزه، وقيمه ومثله. إرادة الأمة هي أعلى محكمة استئناف، وهي مصدر كل الخيرات؛ وهذا يعني أن نوع الحكم يجب أن يكون جمهوريا وديمقراطيا في نهاية المطاف كي يجسد ويعبر عن سيادة الشعب ومجتمع المواطنين بأكمله. (3) دين علماني؟
إذا لقد قدمت القومية الجمهورية سردا علمانيا صرفا للمواطنة والتضامن السياسي. إن إصرارها على تأسيس مجتمع الأمة على أساس المصالح والاحتياجات البشرية وحدها، على النقيض من القانون الإلهي أو قوانين الطبيعة، دعم مثلها المدنية والجمهورية. ولعل الأهم من ذلك أنها أكدت على الحاجة إلى الثورة من خلال التحرر الذاتي الجمعي وقدرة البشر في كل مكان على تنظيم نوع من المجتمع عقلاني وأكثر مثالية. ومن هذا المنطلق، فإن كل الأفراد في كل مجتمع يستطيعون إعادة تشكيل المجتمع، وينبغي أن يشكلوه على أساس المبادئ العلمانية الجديدة المتمثلة في الحرية والسيادة الشعبية والوطنية. ومن الناحية العملية، كان معنى ذلك أن كل الشعوب تستطيع - ومنوط بها - الإطاحة بالحكام الطغاة و«الأنظمة القديمة»، والقضاء على الجهل وخرافات رجال الدين، وتعليم شبابها فضائل الإخاء والوطنية، وتحفيز مواطنيها على المشاركة السياسية الفعالة، وغرس الرغبة في تجديد المجتمع والدفاع عنه ضد أعدائه الخارجيين وأعدائه في الداخل.
من ثم، ظهرت أيديولوجية الأمة الفاعلة - إن لم تكن المقاتلة - وهي تلك الأمة التي تأسست كما قلت على مبادئ علمانية بحتة تتمثل في عقلانية البشر وإرادتهم وتضامنهم. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن المعتقد قد يكون علمانيا، فإن تطبيق هذه الأيديولوجية يتشابه للغاية مع الأديان التي من المفترض أن تحل محلها. ولم يكن الأمر مجرد استحضار هذه المبادئ العلمانية للورع والخشية المرتبطين ب «الدين»، أو أن الأيديولوجية العلمانية في بداية عهدها، كما رأينا، كانت ترتدي عباءة دينية مقترضة. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير؛ فالقوميون الجمهوريون في إطار سعيهم لاستبدال المسيحية التقليدية التي تمثل أساس المجتمع، تبنوا إلها إقصائيا ومتطلبا مثل الرب الذي سعوا إلى الإطاحة به. وأثناء تحويل الأمة نفسها إلى المعبود والمبجل الوحيد، خلقت القومية الجمهورية دينا علمانيا جديدا يقوم على التجمع المقدس للشعب ويعج برموزه الخاصة المتعلقة بالشرف والتعبد، مثل: الشعارات، والأعلام، والعملات المعدنية، والتقاويم، والأناشيد، والمواكب، والأقسام، والقوانين، ومراسم إحياء الذكرى والاحتفال، والأكاديميات القومية، والمتاحف والمكتبات القومية، وكل لوازم المؤسسات والتصنيفات التي توحد المواطنين وتميزهم عن الغرباء. وكما تقول عريضة مثيري الاضطرابات الصادرة عام 1792 فإن: «الأمة هي الإله الوحيد المسموح بعبادته.»
18
هذا الدين القائم على العمل الجمعي العلماني كانت تدعمه افتراضات أساسية معينة متعلقة بنوع المجتمع الذي يمكن أن يكون مقصدا لأفراده العاملين. في البداية، بناء على قول روسو المأثور الذي ينص على أن كل شعب لا بد أن تكون له شخصيته المميزة، فقد أصبح من الأمور المسلم بصحتها أن سيادة الشعب لا يمكن ترقبها إلا من شعب يتسم بأنه مجتمع بشري خاص ومميز، وهذا أحد التقسيمات الأساسية للبشر. بطبيعة الحال، كل شعب لا بد أن يملك سيادته وأن يصبح المصدر الوحيد للقانون والمواطنة، لكن الشعب يصبح فرعا إنسانيا تاريخيا ومستقلا من خلال ترسيخ التقاليد والأعراف والعادات الخاصة به، ومن خلال بطولة الأجيال المتعاقبة من أفراده وتضحيتهم بأنفسهم. وعبر هذان الأمران معا عن «عبقرية» الشعب، وهذه فكرة تعود على الأقل إلى اللورد شافتسبيري وبولينجبروك، وطورها مونتسكيو لتصبح (روح) الأمة. وفي حين أن الروح التبشيرية ل «الوطنيين» الفرنسيين عقب عام 1792 أصرت على استنساخ نموذج ثورتها بمفاهيمها عن السيادة الشعبية والمواطنة في الأراضي والشعوب التي احتلتها الجيوش الثورية، فإنها رغم ذلك قبلت الاختلافات بين الشعوب والأمم، وشخصياتهم وأعرافهم وعاداتهم وتواريخهم المميزة. وكل ما رغب فيه هؤلاء الوطنيون هو منح «الشعوب الخاضعة لهم» الحرية والسيادة التي حرمهم إياها الملوك والكهنة والنبلاء.
19
عززت الاختلافات في اللغة والثقافة الشخصية المميزة للشعوب والأمم. ولم يكن الاهتمام باللغة ناتجا عن الرومانسية الألمانية فحسب على الرغم من تأثير هيردر في أوروبا الشرقية وجزر البلقان؛ فمنذ الترجمات الأولى للكتاب المقدس التي زادت في القرن السادس عشر من خلال انتشار الطباعة بين العوام، أصبحت اللغة شأنا سياسيا، وإن كان ذلك على نحو غير مباشر في البداية. بالتأكيد، بحلول القرن السابع عشر، أسهمت نسخ الكتاب المقدس المكتوبة وكتب الصلاة المكتوبة باللغات العامية في إبراز وتحديد الشخصيات المميزة للأمم، لا سيما في الدول البروتستانتية. أكمل التحول إلى العامية في النصوص الدينية بنشأة قانون أدبي أكثر علمانية على يد الشعراء والمسرحيين والمؤرخين والفلاسفة المحليين. وكان انتشار الأدب المحلي والجمهور القادر على قراءته جزءا من تقدير أوسع نطاقا للتراث والأعمال الفنية والذكريات والقيم والمؤسسات القومية المميزة، باختصار كان تقديرا للثقافة الخاصة بكل أمة. وكانت اللغة قد برزت بالفعل كعامل في المقاطعات الشمالية المقسمة في هولندا، بتمييزها بين الهولنديين الشرقيين والغربيين، لكنها مثلت مشكلة خاصة بالنسبة إلى اليعاقبة الذين سعوا إلى تكوين فرنسا موحدة مكونة من مقاطعاتها المختلطة؛ الجمهورية الموحدة غير القابلة للتقسيم داخل «حدودها الطبيعية»؛ ومن ثم، كان تقرير أبي جريجوار عن اللهجات الفرنسية، حيث قال بضرورة التخلص من اللهجات لأنها تدعم التقاليد والأعراف والمؤسسات المحلية لمقاطعات فرنسا المختلفة؛ ومن ثم تعيق الوحدة اللغوية والثقافية للجمهورية. وهذا يعني أنه نظرا للافتراض القائل إن العالم مكون من أمم ودول قومية مستقلة، فسرعان ما أصبح واضحا أن الوحدة القومية في الجمهورية تعتمد على الوحدة الثقافية والتجانس اللغوي.
20
إن سعي القومية الجمهورية الحثيث للتخلص من وجود «الأمم داخل الأمم» كان موضحا على نحو بين في معاملة الثورة الفرنسية ونابليون لليهود في فرنسا؛ إذ كانوا يرون أن اليهود مجتمع عرقي أجنبي ومنحط؛ ولذلك فقد كان واضحا أنهم إذا منحوا مزايا وفوائد «الحضارة» الفرنسية فإنهم سوف يحررون من معوقاتهم التقليدية وكذلك من هويتهم العرقية المقيدة و«الضيقة». ولكي يصبح اليهود مواطنين في الجمهورية كان لزاما أن يخلصوا «دينهم» من «الهوية العرقية» التي طالما كان مرتبطا بها، بصفته دين بني إسرائيل (أو يعقوب)، ويمارسوه فقط كأفراد في حياتهم الخاصة منذ تلك اللحظة، وكان لزاما عليهم أيضا أن يتخلوا عن وجودهم المستقل إلى حد بعيد، إن لم يكن غير المتكافئ والبائس، كمجتمع يهودي مستقل، ليحصلوا على المساواة العامة «كأفراد» ومواطنين داخل الدولة القومية الفرنسية، ومن ثم يصبحوا مواطنين فرنسيين من النوع «الإسرائيلي». علاوة على ذلك، فإن التاريخ الذي سوف يتعلمونه ويعتنقونه، ومن بعدهم كثير من الشعوب الخاضعة للاستعمار الفرنسي، لن يكون التاريخ المقدس لشعبهم بداية من إبراهيم وحتى راشي وموسى بن ميمون، بل التاريخ الفرنسي بداية من فيرسانجيتوريكس - أو ربما كلوفيس - وحتى نابليون. ومع الوقت، كان مأمولا أن يرى أحفادهم أنهم منحدرون من نسل الغاليين، وتحل محل هويتهم العرقية التقليدية هوية قومية علمانية جديدة. والصراعات الحديثة المتعلقة بالمهاجرين المسلمين تؤكد الالتزام الفرنسي الواضح بالعلمانية، وكذلك الأساس العرقي الثقافي المضمر للقومية الجمهورية المدنية.
21
وهذا يوضح أن القومية الجمهورية، في بدايتها على الأقل ، لم تعتمد فقط على الوحدة الثقافية للأمة التي تسعى إلى تحريرها من الطغيان والخرافة، بل اعتمدت أيضا على الأساس العرقي لتلك الأمة. وكان هذا الأمر ينطبق على الأمريكيين مثلما كان ينطبق على الفرنسيين؛ فالسود، سواء أكانوا عبيدا أم أحرارا، اعتبروا أنهم يكونون فئة عرقية - عنصرية في هذه الحالة - منفصلة، واستغرق الأمر قرونا من الصراع والتظاهر لقبولهم كأمريكيين كاملين. علاوة على ذلك، فحتى في صفوف البيض كان الأساس العرقي الأنجلوسكسوني والسيطرة الأنجلوسكسونية على الأمة الأمريكية الناشئة مقبولا إلى حد بعيد. تعكس هذه الأمثلة أهمية العنصر العرقي في القومية الجمهورية، ومن ثم تقلل من التناقض الشائع بين القومية «المدنية» والقومية «العرقية» (لكن ليس الفرق بينهما).
22
توجد صفتان إضافيتان للقومية الجمهورية توضحان طابعها كدين «يهتم بالعالم المادي» أو ك «دين علماني»؛ الصفة الأولى: هي عبادة أتباعها للأرض كإقليم تاريخي، وكأرض «الأسلاف» وأرض الميلاد. كما رأينا، فإن المشاعر المرتبطة بأرض الوطن لها تاريخ طويل يعود إلى «قصة سنوحي» في مصر القديمة، والمزامير، لا سيما المزمور 137، وفي الأغاني التي تتحدث عن جمال جوقات اليونان القديمة المعروفة باسم «هيلاس» في مآسي سوفوكليس ويوريبيديس. والاعتراف بالسمات المميزة للمناظر الطبيعية الحضرية والريفية يظهر مجددا في النهضة الإيطالية، لا سيما في الرسومات الفلمنكية والهولندية؛ حيث بدأت تتخذ طابعا قوميا. وفي الرسم والشعر البريطاني والفرنسي والسويسري في القرن الثامن عشر، بدأ الطابع القومي للمناظر الطبيعية لتلك الدول يبرز على سبيل المثال من خلال شعر هالر عن جبال الألب، ومن خلال الشعراء الإنجليز أمثال جراي وطومسون وأوائل الرسامين البريطانيين الذين استخدموا الألوان المائية؛ كوزنز وجيرتن وساندبي. ولا شك أن الرومانسية جعلت هذه التوجهات والمشاعر رائجة ومنتشرة في مطلع القرن، وعززت الاهتمام القومي ومجدت الفلاحين وأسلوب حياتهم الريفي.
23
على الرغم من ذلك، فإن الحاجة المصاحبة إلى الوحدة القومية أسهمت أيضا في عبادة الوطن. من ناحية، فقد مالت إلى أن تجمع داخل نطاق الجمهورية مناطق مختلفة غالبا، من خلال كل من إدارة المسئولين ومشاركة الأفراد من كل المقاطعات في الجيش والمدارس والمهرجانات العامة وسياسة المركز. ومن ناحية أخرى، فقد أسست رمزية «فرنسا» على سبيل المثال، ومفاهيمها المتعلقة ب «الحدود الطبيعية» للأمة، ومن ثم إدراك الأهمية السياسية للجبال والأنهار والسواحل وما شابه ذلك في تحديد الحدود وطبيعة الأمة نفسها. ونظرا لميوعة مثل هذه التصورات، بالإضافة إلى الظروف السياسية المتغيرة باستمرار، فمن غير المفاجئ أن تلك الحاجة إلى الوحدة القومية قدمت ذرائع ومحفزات أخرى للصراعات والحروب على الحدود، كما في حالة الألزاس واللورين وفي حالة مدينتي تريستى وفيومى. إلا أن القبول السريع الذي حازته تلك الصراعات لدى كثير من الناس يشهد على الطابع شبه المقدس للتصور القومي للوطن وحدوده، وهذا موضوع قدمه قوميون جمهوريون مؤمنون بأفكار حسية وعقلانية متعلقة بالمجتمع القومي ومكانته في عالم من الأمم المتجانسة.
24
كانت صفة التقديس للوطن واضحة بصفة خاصة في ارتباطها ببطولة قتلى الحرب: الأرض والأموات. وعلى الرغم من أن موضوعات التضحية الجماعية ليست بجديدة بالمرة، فحتى عصر الإصلاح كانت التضحية البطولية ترى إلى حد بعيد في الملوك والفرسان المجاهدين الفرادى أو في القديسين الشهداء، باستثناء حالات التضحية الجماعية في اسكتلندا وسويسرا وإسبانيا. وبدأت أفكار حب «الوطن» والتضحية من أجله تتسلل إلى الشعر والنثر الفرنسي في القرن الخامس عشر، وتبنت إنجلترا وهولندا تلك الأفكار، لا سيما في تبجيل ويليام الصامت في القرن السابع عشر في هولندا. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت عبادة تقليد الأبطال تربط المجتمع القومي بقائمة أسماء الرجال العظماء، لا سيما محاربي العصور الوسطى ورجالها الوطنيين أمثال دو جيكلان، وبايارد، وتيل، وألفريد، وأكملت تلك القائمة بالأبطال المعاصرين مثل الجنرال وولف. إلا أن القومية الجمهورية هي من طورت هذا التفسير ووسعت أهميته الشعبية إلى حد بعيد. ومنذ منتصف القرن، طالب الفلاسفة والمروجون والنقاد الفرنسيون كلا من القادة والشعب على حد سواء أن يحاكوا شجاعة ووطنية الأبطال القدماء أمثال ليونيداس وسقراط وسكيفولا وسكيبيو، واقتبسوا علاوة على ذلك أعمال الفضائل المدنية والتضحية بالذات التي قام بها هؤلاء الأبطال. وأضافت الثورة أعدادا من شهدائها المعاصرين - رجالا أمثال لو بيلتييه ومارا - وابتكرت تكريما لهم مراسم ورموزا وعبادات شبه دينية، استخدمها «الوطنيون» ليبثوا في نفوس الشعب الأخلاق الصارمة المطلوبة من المواطنين في المجتمع القومي الذي ولد من جديد. وأصبح تبجيل تجربة الحرب والتضحية القومية لكل من الأفراد والجماعات شريان الحياة للأمة الجمهورية الذي من خلاله يمكن لمجتمعات معينة ولأديانها المدنية أن تتجدد باستمرار؛ مما يحول الهزيمة والنكسة إلى فوز وانتصار.
25
بطبيعة الحال، لم يكن تبجيل الأموات المجيدين مقتصرا على الجمهوريات أو القوميات المدنية؛ ففي أعقاب مذبحة الحرب الكبرى، شعر كثير من أبناء الشعب البريتوني أنهم في حاجة إلى نصب تذكاري دائم لقتلى الحرب، وحرصوا على أن يظل النصب التذكاري الذي صممه لاتيونز وشيد لموكب 1919 تكريما دائما لذكرى قتلى الحرب. على هذا النحو، يمكن أن تتضح الدلالة الرمزية للشخصية الشعبية لأمم بريطانيا ويعبر عنها على نحو مبجل من خلال المراسم السنوية ليوم إحياء الذكرى. ورغم ذلك، فقد سارت بريطانيا في هذا الصدد على خطى فرنسا وغيرها من الدول التي حملت راية القيادة، بعد أن أقرت الديمقراطية لاحقا في أمتها التي كانت هرمية وعهدية في السابق. إن النموذج الجمهوري المدني من القومية هو ما ساعد في خلق رموز ومراسم لإحياء ذكرى الوطنيين الذين قتلوا في الحروب من أجل الأمة الجمهورية، وكان أول من عبر عن شخصيتها الشعبية والعلمانية، ومن ثم خلق نوعا جديدا من الدين «العلماني» المناسب لمجتمع المواطنين المقدس، نوعا كان من الممكن تصديره إلى الأمم الجمهورية الأخرى المحتملة.
26 (4) الاختيار الشعبي: المهمة العلمانية
تمثل القومية الجمهورية نوعا من التناقض؛ فمن ناحية، نجد أن محتوى عقيدتها علماني على نحو جذري، ويركز على احتياجات المواطنين، والتزامهم بالقانون، وترسيخ الفضيلة والوطنية. ومن ناحية أخرى، فإن ممارسة أيديولوجيتها دينية على نحو حماسي. إن نمط ثقافتها العامة، وتبجيلها للوطن، وتبجيلها لقتلى الحرب؛ تقدم جميعا صورة شركة مقدسة يقوم بها المواطنون في طقوس ومراسم عامة، وكذلك من خلال قوانين وتقاليد ورموز ومؤسسات. وبالمثل، فيما يخص القومية الجمهورية، فإن «الأمة» (مقارنة ب «دولتها») تعتبر شركة علمانية ذات أعراف وتقاليد، ولغة وثقافة محليتين ، ووطن متوارث عن الأسلاف، وتاريخ وطقس عام يتمثل في بطولة التضحية بالذات؛ بيد أن هذه الصفات نفسها تساعد أيضا في تحويلها إلى فئة دينية، وشركة مقدسة للشعب؛ ومن ثم تصبح شيئا محل تبجيل ديني وعبادة شعبية.
كان هذا التحول متأثرا بقوة بتقليد الاختيار العرقي الطويل والمؤثر. لقد رأينا ذلك بالفعل في القرن السابع عشر، حيث نقلت البروتستانتية الراديكالية صفة الاختيار من الملك ومملكته إلى مجتمع الأمة المؤمنة والمختارة. والآن، أصبح مثال السيادة الشعبية ممتزجا بمثال الاختيار العرقي للأمة الجمهورية المكونة من كل أفرادها بصرف النظر عن المكانة أو الثروة؛ ونتيجة لذلك سعت القومية الجمهورية إلى رفع منزلة كل من الأشخاص العاديين أو «عامة الشعب» وشعب بعينه، أي مجتمع مقدس محدد، وهذه شخصية مزدوجة وضحها جيدا تصور جروندفيج عن الشخصية الشعبية للشعب الدنماركي في القرن التاسع عشر، أو عن مثال أنصار السلافية المتمثل في الشركة المقدسة للشعب الروسي. وهذا يساعد أيضا في تفسير الشخصية الانعكاسية الذات للقومية الجمهورية، وإصرارها على العبادة الجمعية لذاتها كمجتمع حصري، ومتفوق غالبا على غيره، واثق من شخصيته وصفاته الفريدة.
27
كشف هذه الشخصية المثالية للأمة الجمهورية وعززها دورها الفريد ومهمتها الفريدة اللذان يكملان عادة ذكرياتها الأسطورية عن العصور الذهبية. ومن المحتمل أن تتمثل مهمتها في أن تسطع كمنارة للحضارة أو كمجمع للثقافة، أو أن تجسد مثالا للتفوق العسكري، أو أن تقدم مثالا للتكامل الاجتماعي أو التقدم الصناعي. وأيا كان مجال تميز الأمة، فإن كل أمة يمكنها أن تبرر - ولو في نظرها على أقل تقدير - مكانتها الخاصة في الإطار الأخلاقي للعالم بأسره من خلال أسطورة عن شخصيتها الفريدة ودورها الفريد في التاريخ، كما هي الحال مع أسطورة الثورة الفرنسية التي تقدم فرنسا على أنها أمة الحرية والإخاء التي تجلب لغيرها بركات النظام الجديد. والأهم من ذلك أن أفراد الأمة من الممكن أن يجدوا الراحة والفخر في مهمتها الخاصة، ومن المحتمل أن يكونوا واثقين من مصيرها الجمعي؛ مما يحقق قدرا من الخلود من خلال معرفة أن الأجيال القادمة ستستمر في إكمال الدور المميز للأمة مع «تقدمها» عبر الزمن إلى المستقبل غير المعلوم. وفي كل الأوقات، سواء الجيدة أو السيئة، ستنكشف القيمة الأساسية للأمة من خلال مهمتها الممنوحة من الرب أو الموكلة من التاريخ.
28
انطلاقا من هذا، ليس من الصعب معرفة السبب في ضرورة أن تصبح الأمة محل عبادة، أو في ضرورة أن تتخذ المراسم العامة طابعا مقدسا ومبجلا بصفتها «أفعال عبادة»، كتلك الواضحة للغاية في مهرجانات الثورة الفرنسية الكبيرة أو في الاحتفالات القديمة بيوم الطالب الألماني. إلا أنه مع تكون أمم جديدة في القرنين التاسع عشر والعشرين، شعر قادة تلك الأمم ومناصرو أيديولوجياتها بأنهم يحتاجون إلى تكوين طقوس عامة مشابهة، وأن يبثوا في نفوس أفراد الأمة مشاعر العبادة والتبجيل الدينية المشابهة لمشاعر الأديان التقليدية. ومن خلال الرموز السياسية والمراسم الجماعية المصممة، وتماثيل الأبطال، ومواقع الاحتفال وإحياء الذكرى، سعوا إلى خلق نوع من التاريخ الجمعي والمصير الجمعي لأمة خالدة، وفي الوقت نفسه متطورة، عبر الزمن من أجل تحقيق مهمتها التاريخية. وهذه هي الحال إلى حد بعيد في ألمانيا القرن التاسع عشر التي وثق جورج موسيه مهرجاناتها وآثارها، لكننا نجد طقوسا واحتفالات مشابهة في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها في أواخر القرن التاسع عشر. وتحقيقا لتلك الغاية، لقي المعماريون والفنانون والموسيقيون والشعراء تشجيعا على خلق صور وآثار حية للأمة تستحضر جلالها وحقيقتها الخيرة والموجودة في كل مكان، بحيث يجعلون ما هو عام ومجرد بالضرورة محددا وملموسا. وفي هذا الصدد أيضا، قلدت القومية الأديان التقليدية؛ فمثلما كشفت الأديان عن الرب من خلال القوانين الإلهية والأيقونات، كذلك رأى القوميون أن الأمة يمكن إدراكها من خلال قوانين الأشخاص أصحاب السيادة، ومن خلال الصور التي يقدمها الفنانون والكتاب في هذه الأمة. ومثلما دمجت الأديان التقليدية الأفراد في مجتمع المؤمنين، سعى أيضا دين القومية العلماني إلى استيعاب الفرد في مجتمع المواطنين المقدس وثقافته التاريخية المدنية.
29 (5) سلف القومية الجمهورية
لا يظهر هذا الارتباط الوثيق بين إعلاء مكانة الشعب صاحب السيادة والمهمة العلمانية للأمة على نحو أكثر وضوحا إلا في فرنسا الحديثة. بطبيعة الحال، كانت فكرة أن الفرنسيين «شعب مختار» شائعة في العصور الوسطى وما بعدها. أما ما كان جديدا فهو انتقال هذا المعتقد من مملكة فرنسا إلى الشعب الفرنسي المتمثل في مواطني الجمهورية المتآخين؛ فبينما مثل الشعب الفرنسي في العصور السابقة أمة مختارة، من حيث إنهم يشكلون الجزء الرئيسي من المملكة الفرنسية ورعايا «الملك الأكثر مسيحية» وليس أكثر من ذلك، فأثناء الثورة الفرنسية لم يصبح الشعب والأمة كفكرة منفصلين عن الملك والمملكة فحسب، بل أعلى منهما مكانة، وبعد عام 1792 أصبحوا وحدهم من يحملون صفة «الاختيار» في النموذج العلماني الحديث من الإرادة والحرية والفضيلة القومية. ولم يكن هذا التحول مفاجئا. بالفعل في عهد لويس الرابع عشر، كانت فكرة فرنسا كأمة حضارة ومجد مرتبطة بعبادة ملك الشمس؛ مما وضع معايير الذوق والثقافة لغيرها من دول الملكية المطلقة في أوروبا. وخلال القرن الثامن عشر، كانت فكرة الأمة ك «شعب» و«مجتمع» قد اكتسبت شعبية، وتحررت من ارتباطاتها بالإله والملك على حد سواء. إلا أنه على الرغم من هذا الإعداد المفاهيمي، فإن الأيديولوجية القومية الجمهورية المتعلقة بالإرادة القومية والحرية الشعبية كانت جديدة في محتواها ونطاقها؛ إذ إنها رأت أن الأمة هي المصدر الوحيد والأصلي لكل القوانين والسيادة، أو كما قال القس سييس في أوائل 1789:
توجد الأمة قبل كل الأشياء وهي أصل كل شيء. إرادتها قانونية دائما، وهي القانون نفسه ... الأمم على الأرض يجب أن تعتبر أفرادا خارج الرباط الاجتماعي، أو كما يقال، أفرادا في وضع الطبيعة. إن ممارستها لإرادتها حرة ومستقلة عن كل الأنواع المدنية. ونظرا لوجود إرادتها في النظام الطبيعي فقط، فإنها تحتاج فحسب إلى امتلاك الخصائص «الطبيعية» للإرادة كي تؤثر تأثيرها الكامل. وأيا كانت طريقة تعبير الأمة عن إرادتها، فإنه يكفي أنها تريد؛ فكل الأشكال مشروعة وإرادتها هي دائما القانون الأعلى.
30
كان اليعاقبة، بصفة خاصة، يعتبرون مثل الحرية والفضيلة و«الوطن» مثلا مقدسة. لكنهم لم يكونوا هم الوحيدين؛ فمن وجهة نظر كثير من الأشخاص، كانت الأمة جزءا من النظام الطبيعي وأساس الحياة الاجتماعية والسياسية، والنظير العلماني للإله، وكانت الثورة تمكن الرجال من التكريم والعبادة على مذبح ذلك الإله المقلد. لاحظ ماركيز دو كوندورسيه في ذلك الوقت الصفة الدينية للثورة فقال:
ثورتنا دين، وروبسبيير قائد طائفة دينية في هذا الصدد. إنه كاهن مسئول عن عباده.
31
ومن هنا كانت الحاجة إلى التخلص من الأديان المنافسة، وسحق أي علامات لإحياء الكاثوليكية، لا سيما في ثورة فونديه الممتدة. إلا أن روبسبيير في بداية عام 1794 كان قد بدأ، للسبب نفسه، في تحجيم حملته المسعورة الهادفة إلى اجتثاث المسيحية التي شنها أتباعه الأكثر تطرفا، وحاول ترسيخ الثورة من خلال تأسيس دين علماني للكائن الأسمى الذي يرى كل شيء، على أن يحتفل به في مهرجان شعبي مصمم بعناية في يونيو 1794.
32
على مدار القرن التالي، شهد الدين العلماني للقومية الجمهورية الفرنسية دعما على نحو متكرر، على الرغم من تحدي النزعة المحافظة الكاثوليكية له في أغلب الأحيان، وفي البداية كان هذا الدعم منبثقا عن سياسات نابليون ومؤسساته، ولاحقا كان نابعا من الحملة العلمانية الصارمة للجمهورية الثالثة، وتحديدا في مجال التعليم الجماعي والتماثيل الأثرية والطقوس العامة. وكما وثق إريك هوبزبوم على نحو واضح، ففي هذه الفترة كان مثال الأمة الفرنسية العلمانية التي تضم كل مواطنيها يروج له من خلال العلم، ومن خلال تبني النشيد الوطني الفرنسي «لامارسييز»، وتأسيس مقبرة العظماء «البانثيون»، واختيار يوم الباستيل كإجازة قومية. وعلى الرغم من الصراعات الشديدة بين المحافظين الملكيين والكاثوليك والجمهوريين العلمانيين الراديكاليين، فقد ظل نموذج القومية الغالب في فرنسا أثناء الفترة الحديثة علمانيا وجمهوريا بالأساس، لا سيما أثناء قضية دريفيوس وفي منتصف القرن العشرين. وحتى وقتنا الحاضر، يمكننا رؤية سعي النخبة السياسية وراء هذه المثل من خلال التوجه العدائي تجاه العرض العام للممارسات الإسلامية وغيرها من الممارسات الدينية، لا سيما في المدارس. وما زالت مثل اليعاقبة المتمثلة في العلمانية والحرية و«الوطن» تجد أصداء قوية في الصعيد السياسي والاجتماعي والرمزي، كما تذكرنا المراسم العلمانية الصرفة ليوم الباستيل.
33
في كل أنحاء أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ساعد مثال أوروبا ودينها العلماني المتمثل في القومية الجمهورية في تحويل مزيج من دول الملكية المطلقة وإمارات صغيرة الشأن إلى جمهوريات قومية سيادية متشابهة ظاهريا تقوم على مبادئ القانون والمواطنة والتعليم العلماني. كان نجاح نابليون يعود جزئيا إلى جاذبية تلك المبادئ الجمهورية الثورية، وما تبع ذلك من إصدار لدساتير علمانية تقوم على المواطنة والحرية المدنية وحكم القانون، لا سيما في الولايات الألمانية والبلدان المنخفضة وسويسرا. وفي سويسرا، تأسست الجمعية الهيلفيتية عام 1762، وبتأثير من يوهان ياكوب بودمر وتلميذيه ألبرشت فون هالر ويوهان ياكوب برايتينجر، ازداد ربط أعضاء هذه الجمعية مثل التنوير والتقدم بشخصية «الاتحاد السويسري القديم» ومصيره.
لذلك، فإن فرض فرنسا الثورية للجمهورية الهيلفيتية عام 1798 - على الرغم من أنه مثل تحولا اجتماعيا بارزا عند حلول الوطنيين الراديكاليين المنتمين للطبقة الوسطى محل حكومات الأقلية في بيرن وزيورخ وغيرهما من المدن - يمكن النظر إليه على أنه النهاية المنطقية لتاريخ طويل من مقاومة سويسرا للطغيان وإيمانها بالحرية. وكنتيجة جزئية للمناخ الدولي بعد سقوط نابليون، وأيضا بسبب افتقار الجمهورية الهيلفيتية للدعم الشعبي الكافي، فسرعان ما حل محلها أنظمة محافظة، لكن «امتزاج الدستورية الديمقراطية والقومية الشعبية» منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر أدى في نهاية المطاف، بعد الحرب الأهلية القصيرة بين الكانتونات البروتستانتية والكانتونات الكاثوليكية عام 1847، إلى انتصار الجمهوريين الراديكاليين وتبني الدستور الفيدرالي السويسري لعام 1848.
34
وعلى النحو نفسه اتبعت غالبية النخبة المثقفة اليونانية، وكذلك كثير من التجار والمهنيين اليونانيين، إيوسيبوس مويسيوداكس وأدامانتيوس كورائيس رغبة في جمهورية قومية علمانية لليونان المجددة التي تستحق أسلافها القدامى، والتي شبهت كثيرا بأثينا القديمة وديمقراطيتها؛ ومن ثم، كانت الرغبة في لغة يونانية نقية مجردة من الإضافات الأجنبية، والعودة إلى التعليم العلماني المعتمد على الكلاسيكيات القديمة، من أجل تأهيل اليونانيين المعاصرين للمشاركة السياسية في جمهورية ديمقراطية واستعادة اليونان لموقعها الثقافي الريادي. لقد كان أملا بدا من الممكن تحقيقه من خلال مواطنة الدولة الهيلينية الصغيرة التي كونتها القوى العظمى عام 1832، على الرغم من مكانتها السابقة كمملكة دستورية؛ لأن نخبتها كانت ملتزمة بمثل التنوير المتمثلة في العقل والحرية وحكم القانون، وببرنامج تعليم يوناني علماني.
35
لم يكن التأثير الجمهوري مقتصرا على أوروبا؛ فبعد قرن في تركيا المجاورة ظهرت مجددا وبشدة الروح الجمهورية في الدستور العلماني والسياسات العلمانية اللذين اقترحهما مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن العشرين. وبالإضافة إلى إلغاء كل من السلطنة والخلافة، فرضت حكومة أتاتورك برنامجا للتحديث متوافقا كثيرا مع الحضارة الغربية التي كانت فرنسا الجمهورية تعتبر المثال الريادي فيها. وكان ضياء جوكالب المنظر الرئيسي للنظام متأثرا كثيرا بالفلسفة الوضعية لأوجست كونت والعلمانية الراديكالية المرتبطة بها. وكان التعليم يعتبر مفتاحا لكل من المواطنة والمجتمع القومي المتماسك القادر على أن ينافس على قدم المساواة القوى الغربية الرائدة. وكانت المبادئ الجمهورية قوية بصفة خاصة بين العسكريين المهنيين الذين ظلوا حراسا للقومية العلمانية الراديكالية وللدولة حتى اليوم الحاضر، وظلوا يشتبهون في أي تعاليم إسلامية بين الأحزاب السياسية. واتبعوا بدقة المثال الفرنسي، على الرغم من الوضع الاجتماعي والثقافي المختلف، واضعين الدولة فوق المجتمع واختلافاته الدينية والعرقية، وأثبتوا في ذلك نجاحا كبيرا حتى وقتنا الحاضر، ربما بسبب غياب التقليد الثوري، وأيضا بسبب القيود الدولية المساهمة.
36
أخيرا، كان التأثير الفرنسي، لا سيما نموذجه الجمهوري العلماني، متغلغلا في كثير من الدول الناطقة بالفرنسية الموجودة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولا شك أن هذا حفزه إلى حد بعيد الاستعمار الفرنسي والتقاليد الثقافية لنخبته. إلا أنه أثناء عصر الحركات القومية النخبوية الساعية إلى الاستقلال، كانت خطابات الرجال أمثال سيكو توري وليوبولد سنجور، وشعارات وأهداف الحركات السياسية في المستعمرات الفرنسية، تعج بمثل روسو واليعاقبة المتمثلة في العقد الاجتماعي والحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة. مرة أخرى، ارتبطت تلك المثل ببرنامج تعليمي (رغم أنه كان للنخبة فقط عادة)، وكان تعليما علمانيا وإنسانيا على الرغم من التأثير القوي للبعثات المسيحية في هذا المجال. علاوة على ذلك، فإن الحاجة إلى تأسيس «الأمة المزمعة» على الأرض التي كانت مستعمرة في السابق، والتغلب على الانقسامات العرقية العميقة في الدول الجديدة؛ جعلت القومية الجمهورية العلمانية الأساس الأيديولوجي الوحيد الممكن والواقعي للدول الأفريقية الجديدة، وجعلت الأمة الجمهورية المدنية النموذج الوحيد الشمولي والمشروع للمجتمع السياسي الحديث. وعلى الرغم من أن الوعي العرقي والوحدة الأفريقية (وأيديولوجية الزنوجة في بعض الأراضي الفرنسية) مثلا عوامل جذب، فإن أشكال التضامن القومي والمثل السياسية السائدة في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الجديدة اقتبست في الأساس من تقاليد روسو والثورة الفرنسية التي روجتها الجمهورية الثالثة (أو اقتبست من لوك وميل في المستعمرات البريطانية)، وخضعت للتعديل مع مرور الوقت بتأثير من الرموز والطقوس والمعتقدات الأفريقية.
37
خاتمة
اخترقت الأمة الجمهورية المدنية - بوصفها نموذجا للمجتمع السياسي الحديث - معظم أنحاء الكوكب، وأصبح نموذج القومية العلمانية مرجعا تقريبا - لكل من المجتمعات القومية ودولها ولكثير من منظري الأمم والقومية. ومن وجهة نظر المشاركين، فإن السبب في ذلك لا يقتصر على قوة الأمة الجمهورية المدنية وأفكارها وممارساتها وارتباطها بالمجتمعات الحديثة، لكنه يعود أيضا إلى قوة صفتها الدينية وجاذبيتها العاطفية. وكما أوضحت في الفصل الرابع، فإن التراث الجمهوري المدني للعالم اليوناني الروماني جمع بين البعد العلماني والبعد الديني في «الدولة المدينة» القديمة، وهما البعدان المتمثلان في العقد المبرم من قبل البشر ولأجلهم، والمحروس والمقدس من قبل الآلهة، والمحتفى به في الأساطير المدنية والطقوس والمهرجانات؛ تلك الثنائية الواضحة أيضا في نظائرها الإيطالية والشمالية في العصور الوسطى. حدث إحياء التراث القديم على نحو متعمد إلى حد ما، على يد «الفلاسفة» أثناء بحثهم عن نماذج لمجتمع غير هرمي وللتضامن العلماني. وتبنوا هم وأتباعهم في فرنسا وغيرها من الدول دينا علمانيا يقوم على التقدم البشري والحرية والفضيلة وإعمال العقل، ذلك الدين الذي تمثل مظهره السياسي الطبيعي في الجمهورية الحرة التي تضم مواطنين متساوين تربطهم المثل المشتركة وتقاليد الولاء بالأمة صاحبة السيادة؛ وهذا بدوره تطلب من أعضاء الأمة خلق ثقافة قومية مشتركة ومميزة، وتأسيس «دين مدني» للوطنية يتكون من المعتقدات والممارسات المشتركة، مع التعبير عن الرموز السياسية والذكريات والأساطير والقيم من خلال التماثيل التذكارية، والأدب، والموسيقى الوطنية، وفوق ذلك كله من خلال المهرجانات والمراسم العامة. في هذه المظاهر السياسية والثقافية والمؤسسية القوية، يكمن السبب وراء القدر الكبير من الجاذبية والاستمرارية اللتين تتمتع بهما الأمة الجمهورية وقوميتها العلمانية والإقليمية.
38
السبب الثاني لنجاحها العالمي هو سهولة نشرها لكل أنواع المجتمعات من خلال النخبة المثقفة العلمانية. كثير من المنظرين لاحظوا الدور الريادي للمفكرين والمهنيين في نشر القومية العلمانية وفكرة الأمة الجمهورية المرتبطة بها، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنها تقدم بيئة مواتية لطموحاتهم ومواهبهم التي لم تظهر المجتمعات التقليدية أي اهتمام أو استخدام لها. إلا أن العملية الفعلية المتمثلة في «وضع الأيديولوجية» للأمة الجمهورية العلمانية من خلال التحديد المميز لمثلها المميزة المتمثلة في الاستقلال والوحدة والهوية وتكوين نموذج جاهز يمكن نقله؛ كانت هي أساس الدور التحويلي الذي لعبه كل من القومية العالمية وناقليها الرئيسيين المتمثلين في النخبة المثقفة في تحديث المجتمعات. وفي تلك الأثناء، أصبحت أيديولوجية «القومية» منفصلة عن أشكال تاريخية معينة من المجتمع القومي، بما في ذلك الأمة الجمهورية نفسها في نهاية المطاف.
39
رغم ذلك كله، يجب أن نتذكر أن هذه الأيديولوجية الجمهورية كانت مجرد نوع من أنواع القوميات الحديثة، وأنها قدمت نوعا واحدا فحسب من النماذج القومية، وعلى الرغم من نجاحها، فإنها لم تكن خالية من المشاكل والنواقص. وفي هذا الصدد، كان من الممكن أن تقدم قوميات العهد القديمة بديلا لها. وحتى الأيديولوجية غير المفصلة المتمثلة في الأمة الهرمية، كان من الممكن تبنيها في مجتمعات سياسية في العالم الحديث. وهنا تكمن أسباب الاختلاف والصراع، وهذه البدائل الحديثة هي ما ألتفت إليه في الفصل الأخير من الكتاب.
الفصل السابع
مصائر بديلة
عندما اقتطعت القوى العظمى من الإمبراطورية العثمانية مملكة هيلينية صغيرة على الأراضي اليونانية عام 1832، عززتها بملك بافاري ومستشارين ألمانيين، وتوقعت منها أن تتبع النموذج الغربي المتمثل في الاندماج الفريد بين الدولة والأمة المفترض أنه يميز المجتمعات المتحضرة. ولم يخب أمل تلك القوى العظمى في البداية. منحت الدولة الجديدة دستورا، وحريات مدنية، وبرلمانا، بالإضافة إلى المؤسسات الأساسية الأخرى للدول، ومن ذلك التبعية للكنيسة الأرثوذكسية التي أصبحت منفصلة عن بطريركية القسطنطينية . كانت المواطنة والتعليم العلماني وحكم القانون، ولو نظريا على الأقل، هي السمات الأساسية لما كان فعليا أمة جمهورية. بالإضافة إلى ذلك، كانت أيديولوجية الدولة وبرنامجها الأساسيان نوعا من القومية الجمهورية التي كان من المفترض أن تترجم إلى سياسات عملية رؤية التنوير التي تبناها قادة النخبة المثقفة اليونانية، من ريجاس فالستنليس إلى أدامانتيوس كورائيس، وهي رؤية اعتبرها المثقفون اليونانيون مأخوذة من إنجازات أسلافهم البطولية في أثينا القديمة. ونرى هذه الرؤية موضحة بجلاء في كل من خريطة اليونان التي رسمها ريجاس، وفي دستور عام 1797 الذي وضعه لجمهورية هيلاس التي اقترحها، وأعلن فيه مساواة كل المواطنين قائلا:
الناس المتمتعون بالسيادة هم كل أناس هذه الدولة دون تمييز بسبب الدين أو اللهجة، يونانيين، وبلغاريين، وألبانيين، وفلاخيين، وأرمن، وأتراكا، وكل عرق آخر.
1
إلا أنه، منذ البداية، لم يتشارك الجميع هذه الرؤية. وبينما استطاعت الدولة اليونانية الحديثة، ولا شك، بدعم من القوى العظمى، تقديم إطار سياسي ومجموعة من المؤسسات للأمة اليونانية الحديثة التكوين، كانت نخبها عاجزة عن بث الروح الهيلينية والرؤية التنويرية بين غالبية السكان الناطقين باليونانية. لم يتبن السكان الناطقون باليونانية الأيديولوجية القومية الجمهورية التي تبنتها نخب المهنيين والتجار، ولم يقبلوا علمانيتهم المتزمتة، وبالتأكيد، لم يقبلوا شغفهم بالتعليم الكلاسيكي. لم يكن هذا الأمر مسألة طبقة أو مصلحة اجتماعية، أو حتى افتقار إلى القدرة على القراءة والكتابة والتعليم على الرغم من أهمية تلك الأمور، ولم يكن الأمر مجرد جهل بالتراث الكلاسيكي المجيد، أو عجز عن تقدير فوائد الحضارة الغربية؛ فالواقع أن الفلاحين والرعاة وقطاع الطرق في موريا وروملي - الذين كان لزاما أن يعبئوا لمقاومة العثمانيين، وأن يمثلوا بعد ذلك السواد الأعظم من مواطني الدولة الجديدة - كانت تلهمهم مثل ورؤى بديلة، حتى إن مصالحهم وهوياتهم لم تكن محلية على نحو صرف. وما حدث أنهم، بوصفهم مسيحيين أرثوذكسيين يونانيين، ثاروا على الطغاة العثمانيين المسلمين؛ وأنهم، بوصفهم متحدثين باليونانية من بين أتباع المذهب الأرثوذكسي، كان من الواجب تعبئتهم ودمجهم في مملكة يونانية معبأة على هذا النحو للتوسع من أجل تحقيق ذلك ؛ ومن ثم، فمنذ البداية، واجهت الرؤية الهيلينية التي تبنتها النخبة المثقفة وطبقات التجار تحديا فرضته المثل المنافسة التي تبناها شعب الأمة نفسه الذي تأسست الدولة القومية الجديدة وأيديولوجيتها باسمه.
2
كان المثال البديل الذي تبناه غير المنتمين إلى النخب يقوم على خرافة اصطفاء اليونانيين الأرثوذكس، وهذه نسخة من فكرة الشعب المختار الشائعة. بالطبع، كانت المسيحية الأرثوذكسية دينا عالميا، ومجتمعها ومملكتها لا ينتميان في نهاية المطاف إلى هذا العالم. رغم ذلك، كما رأينا، فإن الكنيسة الأرثوذكسية، في شكلها البشري والدنيوي، رأت نفسها الإيمان المسيحي الحق الوحيد، ومن ثم، الخليفة الحقيقي لإسرائيل القديمة؛ ذلك الشعب المختار الأصلي الذي نبذه الرب عندما رفض المسيح. إلا أن هذا الدين العالمي ازداد ارتباطا بخصوصية ثقافية يونانية، شجعتها حقيقة أن لغة العهد الجديد كانت اليونانية، وأن لغة المناسك والطقوس الأرثوذكسية كانت يونانية، وأن كهنة الكنيسة كانوا يتحدثون باليونانية. كانت هذه العملية موجودة بالفعل خلال القرون الأخيرة من الإمبراطورية البيزنطية، عندما أدى الإحياء الهيليني بين النخب البيزنطية - ممتزجا بكراهية الرهبان الشديدة للكنيسة اللاتينية، وخسارة الأراضي غير اليونانية النائية - إلى انشقاق ثقافي يوناني قوي عن الإمبراطورية والكنيسة. وبعد كارثة عام 1453، أصبحت «الملة الرومية» الأرثوذكسية اليونانية، التي سماها الحكام العثمانيون ووضعوها تحت الإدارة الكهنوتية والمدنية لبطريرك القسطنطينية، مشبعة بالإحساس بالاختلاف والهوية المسيحية الأرثوذكسية، لكن باعتبارهم «روميين» (رومانا شرقيين)، في مقابل كل من الهيلينيين القدماء والفرنجة اللاتينيين. وتعززت هويتهم بالذكريات المشتركة المتعلقة بالماضي البيزنطي المجيد، حينما كان شعب الله المختار يعيشون في مملكته في ظل نائبه على الأرض؛ الإمبراطور البيزنطي. كما استمرت في التجدد من خلال تقليد رؤيوي قائم على نبوءة تتصور انبعاث الإمبراطور البيزنطي الأخير، قسطنطين الحادي عشر، واستعادة إمبراطوريته بعد اكتمال مدة عقاب الرب شعبه على خطاياهم، وطرد الكفار من المدينة المقدسة.
3
هذه الرؤية، على النقيض الصارخ من المثال الجمهوري الهيليني، جمعت بين تقليد عهدي وتصور هرمي قوي للمجتمع الأرثوذكسي اليوناني. من الناحية الظاهرية، فإن هذا المصير البديل المعد للمجتمع اليوناني، والمتأثر قليلا، أو غير المتأثر على الإطلاق، بالحداثة الغربية التي تدعمها النخبة المتحدثة باليونانية، لم يكن من المحتمل أن يؤثر على مصير المملكة اليونانية الحديثة التكوين، فضلا عن تشكيل مصيرها؛ ففي نهاية الأمر، أصرت القوى الغربية على تأثير أوروبي قوي متمثل في الوصاية، متضمنا فصل الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في الأراضي اليونانية عن البطريركية الموجودة في القسطنطينية الخاضعة لسيطرة العثمانيين، وحل كثير من أديرتها، وتبعية تراتبيتها الهرمية للدولة اليونانية. إلا أنه سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الكنيسة كفت بهذه الطريقة عن ممارسة أي نوع من النفوذ؛ فعلى غرار الكنيسة الجاليكانية في فرنسا، أصبحت الكنيسة مؤسسة يونانية قومية على نحو متزايد، واعترفت بها هكذا في نهاية المطاف بطريركية أصبحت تقبل أخيرا «تنظيم الكنائس على أساس عرقي»، أي تقسيم الكنيسة العالمية إلى كنائس عرقية وقومية، مثل تلك التي كانت (أو ظلت) مؤسسة في بعض الدول الناشئة في جزر البلقان مثل صربيا وبلغاريا.
4
في اليونان، لم تحافظ الكنيسة فقط على احتكارها الديني داخل ما كان يعترف بأنه مجتمع سكاني شبه متجانس، بل أصبح نموذجها «البيزنطي»، إن لم تكن دعائمها التراتبية الهرمية، ابتداء من عام 1844، بعد خطاب كوليتيس في الجمعية الوطنية، أكثر توافقا مع اللغة والأهداف المتضمنين في السياسة اليونانية المتمثلة في «فكرة ميغالي»؛ تلك الأيديولوجية الاسترجاعية الهادفة إلى استرداد أراضي الأرثوذكسية اليونانية ومجتمعاتها السكانية المتناثرة عبر بحر إيجة، وشمال اليونان، وما يعرف حاليا بغرب تركيا. وفي هذه الحالة، كان من المفترض أن تتوسع المملكة الصغيرة التي كونتها القوى العظمى من جزء من الأرض اليونانية، لتشمل جزر الدوديكانيز، وثيساليا، وإبيروس، وكريت، وتراقيا، وغيرها من المناطق التاريخية التي كانت غالبية سكانها من أتباع المذهب الأرثوذكسي اليوناني الناطقين باليونانية. وهذا يعني أنه، بدلا من الأيديولوجية العلمانية الصرف لأمة المواطنين الإقليمية، أصبحت المعايير الدينية واللغوية العرقية هي ما يحدد الأمة اليونانية ومواطنيها، وهي معايير أدت على نحو شبه حتمي إلى إعادة تفسير التاريخ اليوناني، وإلى حركة وبرنامج سياسيين راديكاليين.
البرنامج السياسي معروف جيدا: أسفرت «فكرة ميغالي» عن المحاولة الكارثية التي جرت عام 1922 لتسترجع من الإمبراطورية العثمانية شبه المنقرضة المجتمعات السكانية الناطقة باليونانية والأرثوذكسية في الأناضول، والأراضي التي سكنوها، ورأى القوميون العرقيون اليونانيون أنها تضم سلالات المستعمرات الأيونية القديمة وأراضيها في آسيا الصغرى. إلا أن إعادة التفسير التاريخية كانت على القدر نفسه من الأهمية. لم تستتبع رفضا محضا للرؤية الهيلينية، ولكنها حاولت دمج العالم القديم الكلاسيكي والإمبراطورية البيزنطية في سرد واحد متماسك عن «الأمة اليونانية» منذ عصر المسينيين وحتى اليونان الحديثة. وقدر لكل من عالم الفلكلور، سبريديون زامبليوس، الذي نشر عام 1852 مجموعته من الأغاني الفلكلورية مصحوبة بمقدمة مطولة، وكذلك المؤرخ، كونستانتينوس باباريجوبولوس، في كتابه «تاريخ الأمة اليونانية» (1860-1877) المكون من خمسة مجلدات؛ أن يقدما تفسيرا ركز على الأمة اليونانية باعتبارها الفاعل الجمعي الأساسي في كل الحقب الرئيسية الثلاث المكونة لسرد واحد للتاريخ اليوناني: القديمة، والقروسطية، والحديثة. وباستخدام تعبيرات شخصية مثل «إمبراطوريتنا في العصور الوسطى»، و«أسلافنا في العصور الوسطى»، تمكن باباريجوبولوس، بصفة خاصة، من إعادة دمج الإرث البيزنطي وتراثه ووعده المجيدين في رؤيته للأمة اليونانية ومصيرها الألفي. وفعل ذلك بإعطاء معان سياسية جديدة للمناسك والطقوس الأرثوذكسية ذات الأسس الراسخة، وما يرتبط بها من ذكريات مشتركة عن الأباطرة المسيحيين والمدينة المقدسة - شعر كثير من الناس أن استرجاعها إن لم يسفر عن إعادة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية، فسيسفر، على الأقل، عن إرجاع اليونان إلى سموها الثقافي والسياسي السابق. من الناحية العملية، حاول هذا النوع من إعادة التفسيرات تحقيق المثال المسيحي القديم بشأن «عالم مسكون» أرثوذكسي، لكنه مجرد من المجتمعات والأراضي غير اليونانية (الصرب، والألبان، والبلغار، إلخ)، داخل سياق مملكة يونانية حديثة موسعة، سعت إلى جمع كل المجتمعات السكانية الأرثوذكسية الناطقة باليونانية «غير المسترجعة» ومناطق إقامتهم.
5 (1) الانشقاق وإعادة التفسير
تقدم لنا الحالة اليونانية مثالا مختصرا لعدد من الموضوعات العامة المعنية بتكوين الأمم المعاصرة.
أولا: لم تمح الأمة الجمهورية وقوميتها، على الرغم من قابليتهما للتأثر بالطابع الغربي والحداثة، أشكال المجتمع التاريخية الأخرى. على النقيض من ذلك، ووجهت القومية الجمهورية المدنية بتحديات على نحو متكرر، وأجبرت على قبول التصورات والتقاليد التاريخية الأخرى الأسبق. وحتى في «موطن» الجمهورية والقومية، اضطرت فرنسا إلى النضال من أجل الحفاظ على سلطتها، وفرض شكلها المميز على الأمة كلها، ليس فقط عام 1848 وعام 1871، وأثناء قضية درايفوس، ولكن أثناء القرن العشرين كذلك، منذ حكومة فيشي وحتى حركة لوبن. داخل الأمم، وكذلك فيما بينها، عادت الأشكال العهدية والهرمية من الهويات القومية إلى الظهور على نحو متكرر في صورة تباديل معقدة مناهضة للأشكال الجمهورية أو متوافقة معها.
6
في الحالة اليونانية، ووجه تصور هرمي أسبق - وإن كان عالميا - بشأن الإمبراطورية والأرثوذكسية، وفي القلب منه عنصر التبعية للكرسي الرسولي، بتحد، وحل محله مبدئيا تصور إقليمي وجمهوري حصري لأمة يونانية صرف. إلا أن مفاتن رؤية «العالم المسكون» الأرثوذكسي المتمركز على القسطنطينية ظلت تمثل مصيرا بديلا ذائعا لأمة يونانية متوسعة، ولم يمر وقت طويل حتى شجعت فسيفساء جزر البلقان، الدينية واللغوية العرقية المعقدة على ترجمة هذه الرؤية البديلة إلى حركة سياسية وسياسة عامة. في هذه الأثناء، كان التراث البيزنطي يعاد تفسيره ويلحق بتصور شامل عن الأمة اليونانية الألفية، بحيث أصبح العصر الذهبي للإمبراطورية البيزنطية وعقيدتها الأرثوذكسية، على غرار العصر الذهبي لأثينا الكلاسيكية، نتاج العبقرية المبدعة لتصور مستلهم من الماضي بشأن الأمة اليونانية.
7
ثانيا: كانت تلك التصورات الأسبق في كثير من الأحيان متغلغلة في الطبقات الأقل تعرضا للأفكار الغربية والتغيير الاجتماعي؛ ولذلك، غالبا ما كان الصراع الأيديولوجي داخل أمة أو دولة قومية ما مصحوبا بانشقاق اجتماعي، محلي الطابع ومفتت في بعض الأحيان، وسياسي الطابع وانفجاري في أحيان أخرى. إلا أنه على الرغم من أن هذا الانقسام غالبا ما تجلى في صورة نفور العامة من المثال الجمهوري أو معارضتهم له، فإنه كان مصحوبا بصراعات علنية داخل أوساط النخبة المثقفة الأكثر تأثرا بالغرب؛ إذ كان أنصار قضية الأمة الجمهورية يتعرضون لهجوم من المفكرين الآخرين المرتبطين بمثل الأمة القائمة بقدر أكبر على مبدأ الهرمية أو العهد. وبخلاف النخبة المثقفة اليونانية، ربما تكون أشهر هذه الانقسامات العامة هي الصراعات الطويلة الأمد بين المحافظين والجمهوريين الراديكاليين في فرنسا القرن التاسع عشر ، والمعارك الكلامية المحتدمة بين أنصار النزعة السلافية وأنصار النزعة الغربية في روسيا القرن التاسع عشر في الفترة نفسها. وخارج أوروبا أيضا، يمكننا أن نوضح مثل هذه الصراعات بين النخب المثقفة في مصر في أوائل القرن العشرين؛ حيث تحدت الحركة الفرعونية تفوق الهوية العربية الإسلامية، ونجد ذلك في الهند حيث أعلن الإحيائيون الهندوس، منذ حركة أريا ساماج وحتى حزب بهاراتيا جاناتا، للهند مصيرا بديلا من ذلك الذي رسمته القومية ذات الطابع الجمهوري والاجتماعي المسيطرة التي تبناها حزب المؤتمر الوطني الهندي.
8
ثالثا: عندما لا تسفر تلك الصراعات الأيديولوجية عن ثورة كاملة، فغالبا ما يكون من الممكن حلها جزئيا على الأقل من خلال عملية انتقاء وإعادة تفسير جيلية. في كل جيل، خضعت التصورات المتناقضة عن الهوية القومية للتعديل على نحو متعاقب، وخضعت التقاليد والأساطير والذكريات والقيم القومية التي تحظى بالقبول العام إلى تدقيق شديد واقتطاعات وإعادات تفسير راديكالية بقدر أو آخر، كان الهدف منها هو التأليف بين عناصر من التصورات المختلفة في كيان كلي أكبر وأكثر تماسكا. وشهدت اليونان في القرن التاسع عشر محاولة لتقديم شيء من قبيل هذه التركيبة، حتى إن النزعة الجمهورية الهيلينية امتزجت بالمعايير الدينية العرقية المأخوذة من مثال للأمة هو أقرب إلى المثال «البيزنطي»، لا سيما في النموذج الأيديولوجي الذي قدمه المؤرخ كونستانتينوس باباريجوبولوس. ويمكننا أن نزعم أنه على الرغم من رفض التصور الفرعوني في مصر، فإن بعضا من افتراضاته الأساسية - مثل التأكيد على أرض معينة وبيئة معينة، وتمييز أمة قديمة منفصلة عن غيرها من العرب - أدمج في النظرة القومية السائدة لدى النخب الحاكمة.
رابعا: تساعد آليات الانشقاق الاجتماعي، والصراع الأيديولوجي، والانتقاء وإعادة التفسير عبر الأجيال هذه في شرح كل من الحافز على التغيير الاجتماعي واحتوائه النسبي ضمن الضوابط الاجتماعية والثقافية للدولة القومية. وفي هذا الصدد، لا يكفي استحضار الضغوط الخارجية؛ ذلك أنه بمجرد وجود الدولة القومية الحديثة فإنها تصبح «بطبيعة الحال» جزءا لا يتجزأ من النظام «الأممي» الذي يتكون من الدول القومية التي تحتفظ بالضرورة بشكلها، كما كانت الحال، بلا شك، داخل المملكة اليونانية. في هذه الحالة، كانت العوامل المقابلة، الثقافة الداخلية النابعة من التقاليد الثقافية المشتركة اليونانية ومن الأرثوذكسية، حاسمة بالقدر نفسه، وساهمت هذه العوامل في تحديد نطاق التغيير في الأشكال والتصورات المتعلقة بالأمة اليونانية وتقييد درجته.
أخيرا: فإنني أود أن أوضح أن هذه التقاليد المشتركة هي في العموم متداخلة، بما أنها كلها نابعة من تقاليد ثقافية مشتركة الأصل، تعود في نهاية المطاف إلى العصور القديمة، ويدعمها اعتقاد طويل الأمد بوجود عرقية مشتركة ونموذج نظام اجتماعي عرقي. لا يقتصر الأمر على تداخل أشكال الأمة: الجمهوري، أو العهدي، أو الهرمي في أي لحظة تاريخية معينة؛ فغالبا ما تتمازج هذه الأشكال، ويكثر حدوث ذلك عندما تنتظم في مجتمعات عرقية موحدة بقدر ما أو بآخر، وعلى الرغم من أن نسبة كل شكل من هذه الأشكال يمكن أن تتنوع وأن تنوع، ففي حالة معينة وأثناء فترة معينة، نادرا ما تختفي هذه الأشكال تحت الغطاء الرسمي للخطاب السياسي؛ لذلك، يمكن اعتبار التشكيلات المتغيرة للهويات القومية الحديثة، في أغلب الأحيان، تنويعات كثيرة للتقاليد الثقافية الثلاثة الكبرى وتباديلها.
في هذا الصدد، تعتبر اليونان مثالا يحتذى. كان لزاما أن يعقد نموذجها الجمهوري المسيطر تسوية مع المصير البديل الذي خططه المفكرون الذين اعتمدوا على التقاليد الثقافية للكنيسة الأرثوذكسية والتراث البيزنطي، وهي تقاليد مختلفة، لكنها نابعة من الأصل نفسه. ومما جعل ذلك أسهل أنه لم يكن من الصعب في تلك الأيام الزعم بوجود تراث يوناني ثقافي عرقي طويل الأمد، عمره آلاف السنوات في واقع الأمر، قائم على صمود أشكال اللغة اليونانية، وقائم، بصفة خاصة، على الاعتقاد اليوناني المنتشر بانحدار اليونانيين المعاصرين من أسلافهم اليونانيين القدماء. لقد سبب التحول إلى المسيحية الأرثوذكسية انفصالا اجتماعيا وثقافيا كبيرا عن العصور القديمة الكلاسيكية لدى كثير من اليونانيين المتأخرين، إلا أن المفكرين والسياسيين في القرن التاسع عشر لم يعتبروا ذلك أساسا كافيا لتقويض التسوية مع النزعة البيزنطية التي شجعت على اتباع القوميين الجمهوريين المؤيدين للمشروع الهيليني «فكرة ميغالي».
9
وفيما يتعلق بالصراع الأيديولوجي وإعادة التفسير ، تتشابه سويسرا القرن التاسع عشر واليونان تشابها مثيرا. في سجلات الوقائع القديمة التي تتحدث عن تأسيس «الاتحاد السويسري القديم»، عزيت أصول الاتحاد إلى انتفاضة فلاحين بقيادة فيلهلم تل ضد طغاة أسرة هابسبورج وقلاعهم في خريف عام 1307. كانت خرافة التمرد والتحرر هذه هي التراث المقبول الموجود في «كتاب سارنين الأبيض» الذي يعود إلى عام 1471، وفي كتاب إيجيديوس تشودي الذائع الأثر «الوقائع الهيلفيتية»، وكانت هي أيضا الحكاية المقبولة والمستخدمة من قبل الفلاحين في انتفاضتهم عام 1653 (حرب الفلاحين) ضد حكومات الأقلية الحضرية. حتى يوهانس فون مولر، في كتابه «تاريخ الاتحاد السويسري» الذي يعود إلى عام 1786 - ولذلك فهو مكتوب بعد اكتشاف يوهان جليسر «ميثاق الاتحاد» الأصلي الذي يعود إلى عام 1291 - التزم تقليد تشودي الرائج و«كتاب سارنين الأبيض». ومع ذلك، فإن اكتشاف «ميثاق الاتحاد السويسري» الأصلي في شفيتس الذي وثق ميثاق كانتونات الغابات الثلاث: شفيتس، وأوري، وأونترفالدين، المتفق عليه، وفقا للتقاليد، على مرج روتلي على ضفاف بحيرة لوسيرن؛ أشار إلى تفسير جد مختلف للأصول الاجتماعية والسياسية للاتحاد السويسري؛ فبدلا من الإشارة إلى انتفاضة فلاحين جماهيرية، أشار الميثاق إلى حاجة العائلات البارزة في كانتونات الغابات الداخلية إلى الحفاظ على حقوقهم القديمة التي كان ينتهكها كبار اللوردات الإقطاعيين من أسرة هابسبورج، في وقت فتح فيه ممر سانت جوتهارد الذي يقطع جبال الألب أمام الحركة التجارية المربحة. لم يورد ذلك الميثاق، الذي يعد الأول من بين مواثيق كثيرة بين هذه الكانتونات والكانتونات المجاورة، أي ذكر لفيلهلم تل، أو لانتفاضات جماهيرية وحرائق لقلاع الإقطاعيين، لكنه أكد الحق الحصري للكانتونات، وللمولودين على أرضها، في الحكم على زملائهم الأعضاء، وأبرز الحاجة المطلقة إلى التعاون بين الكانتونات، شاملا الدفاع العسكري، للحفاظ على حرياتهم القديمة. كان هذا موضوعا تكرر في كثير من مجتمعات العصور الوسطى، على سبيل المثال، أبرم البارونات الاسكتلنديون ميثاقا مشابها في «إعلان أربروث» عام 1320.
10
بطبيعة الحال، لم تكن المكونات المختلفة ل «الأصول السويسرية» متباعدة، من حيث الزمان والمكان والدافع العام، لدرجة تحول دون إعادة جمعها في سرد أكثر «شمولا ». على سبيل المثال، كان فريدريش شيلر في مسرحيته «فيلهلم تل» (عام 1805) قادرا على الجمع بين عناصر من خرافتي الأصول السويسرية كلتيهما، وتوضيح الطريق إلى مصير سويسري قائم على الحرية وفضيلة الفلاحين. وعلى الرغم من أن «قسم روتلي» بين شتاوفاخر ورفاقه حاز على أولوية تأريخية هامشية، فقد صاحبه في المسرحية رفض تل الاعتراف بحاكم هابسبورج، جيسلر، ورمي التفاحة بالسهم، وتبعه سريعا ذبح جيسلر وتحرك الفلاحين ضد الطغاة الإقطاعيين؛ تأكدت هذه القراءة على نحو واضح بدنو انتصار الكانتونات الحاسم على فرسان هابسبورج في مورجارتن (1315)، وكذلك بالانتصارات اللاحقة في زيمباخ (1386) ونيفيلس (1388). وبحلول احتفالات الذكرى الستمائة عام 1891، استطاع هذا الخليط من التقاليد أن يصبح النسخة الرسمية، وأن يحتفى به، بتوجيهات من الحكومة الفيدرالية، على مدار يومين في أوائل أغسطس في كل من شفيتس وعلى مرج روتلي على ضفاف بحيرة لوسيرن.
مرة أخرى، يوضح المثال كلا من التقاليد والذكريات المتعددة المصادر بشأن «الماضي القومي»، والطرق التي يمكن من خلالها احتواء تلك الصراعات الأيديولوجية والاجتماعية. بطبيعة الحال، لم تكن هذه عملية تغيير تطوري سلسة؛ فالواقع أن صراعات القيمة والنظرة القومية التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ما زالت قائمة حتى في وقتنا الحاضر. في سويسرا الحديثة، ما زالت الكانتونات الداخلية الريفية الموجودة في الوديان الجبلية (معظم سكانها كاثوليك أيضا) ذات الأخلاقيات الأكثر محافظة؛ تتوجس قلقا من الرأسمالية العلمانية التحديثية التي تنتهجها البلدات والمدن، ولا سيما زيورخ وبيرن، التي تزايدت سيطرتها منذ زمن الجمهورية الهيلفيتية عام 1798، ثم مرة أخرى أثناء الجمهورية الفيدرالية عام 1848، على السياسة والمجتمع الحضري السويسريين. وطفت هذه المصائر البديلة القائمة على نمط القومية الجمهورية المدنية المعززة، ونمط قومية أكثر «عهدية» كانتوني الأساس، على السطح أثناء النقاشات التي أثارتها الذكري السبعمائة لوثيقة التأسيس السويسرية، كما ظهرت في استجابات السويسريين لضغوط العولمة والهجرة.
11 (2) الأمم الهرمية الحديثة
قد يعتقد أنه ما دامت الكانتونات السويسرية الريفية لم تظهر بصفة خاصة أي رغبة في التراتبيات الهرمية التقليدية، فلا متسع في العالم الحديث لتراث التراتبية الهرمية القديم. إلا أنه على الرغم من صحة أن مفهوم «الأمة الهرمية» كتلك التي رأيناها في أوروبا القروسطية قد ولى زمانه، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة، فإن التقاليد المحافظة، وحتى عناصر من المجتمع الهرمي، ما زالت موجودة على نحو مناهض غالبا للقومية الجمهورية السائدة في الدول القومية الحديثة.
في القرن التاسع عشر، أسس عدد من المجتمعات القومية في هيئة جمهوريات ذات ملكيات دستورية، واستمر عدد قليل من الدول الكبرى في هيئة دول قومية هرمية أو أعيد تشكيلها على هذا النحو، وأبرزها ألمانيا واليابان. الحالة الألمانية معقدة؛ فهي تتضمن تباديل من كل تقاليد المجتمع الثلاثة في آخر قرنين. لكننا نجد في اليابان تقليدا هرميا مسيطرا، نراه أولا في شوجونية توكوجاوا التي منحت بموجب إجراءاتها الاستبعادية المجتمع الإقطاعي الياباني طابعا قوميا على نحو متزايد، بعضه مستعار من الأمثلة الغربية، مع إضافة خرافات عن الأصل والاصطفاء القوميين شابهت تلك الموجودة في أوروبا، ونراه ثانيا في إصلاح ميجي عام 1868، بعد تغلغل القوة الأمريكية. في العملية اللاحقة، كانت ثورة بعض عشائر الساموراي على حكم الشوجون، واستعادة الإمبراطور ميجي الحكم وانتقاله إلى إيدو (طوكيو) بعد أن ظل بلاطه الإمبراطوري في العاصمة القديمة كيوتو طوال تلك القرون الماضية؛ ثورة محافظة في جوهرها، استخدمت أشكالا تقليدية جديدة لإضفاء الشرعية والقداسة على رغبة هؤلاء النخب في تحقيق التكافؤ بين اليابان والغرب من خلال برنامج للتحديث السريع. كان تضافر الدين الشعبي، والتعليم الجماهيري، وعبادة الإمبراطور ضروريا لنجاح هذا البرنامج؛ فلو كان على المجتمع الياباني أن يشرع في تطبيق إصلاحات عميقة تمكنه من البقاء ومنافسة الغرب المتدخل، لكان لزاما توعية أعضائه بقواسمهم المشتركة ومجتمعهم الحميم بصفته «أمة عائلية»، لم تكن موجودة حتى تلك اللحظة إلا نظريا، أي في عقول بعض المفكرين والساسة الذين كانوا يستلهمون من النصوص القديمة. من أجل ذلك، هدفت نخب ميجي إلى تعزيز طقوس الشينتو العائلية، والتقديس الشنتوي الوطني لقتلى الحرب، لا سيما في ضريح ياسوكوني المجدد، كما سعت أيضا إلى ربط هذه الطقوس بكل من الدين الشعبي لجموع الفلاحين، وعبادة الإمبراطور بصفته أبا «الأمة العائلية» وحاميها. وكان لزاما، من أجل تحديث أمة الإمبراطور «العائلية»، فرض النظام الجديد للتعليم الإلزامي الجماهيري، الموضح في المرسوم الإمبراطوري بشأن التعليم عام 1890 المحتفى به، مع توقع أن يكون ذلك النظام محرك التنمية الاجتماعية والاقتصادية اليابانية.
12
على هذا النحو، ألحقت مرة أخرى الأشكال اليابانية من التراتبية الهرمية بأفكار الغرب عن الأمة، من أجل تحقيق تطوير متأخر ل «الأمة الهرمية» في شكل بدا أكثر تأثرا بالتقاليد الأصلية منه بالتقاليد والنماذج النابعة من الغرب، وإن لم يكن خاليا من التأثر بأشكال المجتمع الغربية الحديثة. وليس واضحا إلى أي مدى كانت القومية الرومانسية في ثلاثينيات القرن العشرين، التي سبقت مباشرة النظام الفاشي، مدينة للأفكار الرومانسية الألمانية، وإلى أي مدى أثرت على الفاشيين. إلا أنه في النظام اللاحق، كان التركيز على القوة الإمبراطورية والقرابة الوطنية في ظل الإمبراطور مدعوما بلا شك بحرب الغزو والدفاع الطويلة في آسيا، والدعاية الرسمية التي صاحبتها. بدا لبعض الوقت أن الهزيمة اليابانية اللاحقة والمعاناة المنقطعة النظير التي عاناها الشعب الياباني تتضمنان انتهاء المبدأ الهرمي نفسه، وتقوضان معه الترابط القومي الياباني، لكن القرار الأمريكي بالاحتفاظ بالإمبراطور وعائلته وإخضاع اليابان للاحتلال الأجنبي ساعد في إحياء الروابط القومية حول فكرة كون اليابانيين ضحية جمعية في «حرب المحيط الهادئ». وكشفت استعادة المؤسسات والسياسة اليابانيتين المستقلتين مدى الاحتفاظ بالأشكال الاجتماعية المحافظة المتميزة السابقة، كما كشفت عن استمرارية مركزية العائلة الإمبراطورية لمفهوم القومية اليابانية.
13
يجسد المثال الرائع الآخر للأشكال الهرمية المدمجة في تكوين المؤسسات القومية نمطا من العلاقات الثقافية مختلفا للغاية. في إنجلترا، ظلت الهرمية ممزوجة بقومية عهدية قوية نابعة من فترة الكومنولث البيوريتاني العنيفة على قصرها. وعلى الرغم من إلغائه سريعا، فإن تأثيره الديني والثقافي على تطور الهوية القومية الإنجليزية، والأنجلو-بريطانية لاحقا، كان هائلا. كما رأينا في الفصل الخامس، فإن نوع «العرقية» الهرمية الذي كان الأنجلوسكسونيون رواده، وطوره النورمان، ثم رسخه ملوك أسرة تيودر لاحقا بعد تقلبات عديدة، في إحساس بالهوية القومية الإقليمية، إلى جانب القوانين والعادات المشتركة والثقافة العامة المميزة، قطعه لفترة قصيرة لكن مضطربة ظهور أنواع عهدية من الهوية والمجتمع القوميين في ظل البيوريتانيين. كانت إنجلترا، من وجهة نظر كرومويل، وكذلك من وجهة نظر ميلتون، أمة مختارة من الرب، والمولود الأول للرب، وجديرة بأن تكون خليفة لإسرائيل القديمة، وسوف تتحقق في الكومنولث الجديد الذي ألغى الملكية، ومجلس اللوردات، والكنيسة الأنجليكانية. وبعد فشل الحكم العسكري، استعيدت هذه الأنواع الهرمية من الثقافة الشعبية بعد عام 1660، لكنها وضعت في سياق أيديولوجي جديد يتمثل في الحرية السياسية، وفي نسق ديني جديد يتمثل في الاختيار القومي - للإنجليز بوصفهم أمة مختارة تتمتع بالحرية المدنية والتقدم - وساعد هذا المفهوم في دعم مثل «الثورة المجيدة» عام 1688، وكذلك أمة اتحاد القرن الثامن عشر الأنجلو-بريطانية البروتستانتية إلى حد بعيد، وإلى حد ما الحركات الاجتماعية والمسيحية في العصر الفيكتوري.
14
لم تختف تماما هذه الأنواع الهرمية والمحافظة، حتى في مناخ التدهور ما بعد الإمبراطوري والجمهورية الوشيكة. فعلى الرغم من أن الملكية نالت بغض العامة من وقت إلى آخر، فإنها نجحت إلى حد بعيد في إعادة تجديد أسلوبها، ومثلت، في أوقات الأزمات، كما في الحرب العالمية الثانية، مركز ثقل للمجتمع القومي المضطرب. وما زالت عراقتها الواضحة، ومحوريتها للثقافة الشعبية القومية، واحتفالاتها المثيرة، وتسليط الأضواء الإعلامية عليها باستمرار، تسهم في قدرتها على البقاء، إضافة إلى افتقار أي بديل منها للتأييد الجماهيري. على النقيض من الكنيسة الأنجليكانية، نجحت الملكية، على الرغم من انفصالها بثرائها وتقاليدها عن غالبية البريطانيين الكاسحة، نجاحا كبيرا في الاحتفاظ بإحساس التفرد القومي، على النقيض المدرك من جمهوريات أوروبا القارية؛ ذلك التناقض الذي ربما عززه تبجيل الشعب للبرلمان والتقليد البرلماني العريق، وكذلك تبجيلهم للعرف. تعتبر هذه المؤسسات كلها جزءا من اختلاف بريطانيا في واقع الأمر، وإنجلترا بصفة خاصة، عن دول المجتمع الأوروبي، بل تفردها، ودليلا عليه - ذلك الاختلاف الذي يمكن إرجاع بدايته إلى الانفصال عن روما في عهد الملك هنري الثامن، وتبلور في عهد الملكة إليزابيث، ولا سيما بفعل النزعة العهدية القومية البيوريتانية، وهو اختلاف يثبت المفاهيم والأشكال الهرمية داخل تقليد عهدي أنجلو-بريطاني واسع النطاق حتى يومنا الحاضر.
15 (3) الأمم العهدية الحديثة
لمثل هذا السبب، قد يسأل المرء: أين توجد الأمم العهدية في وقتنا الحاضر؟ ألم تختف مع انهيار أولستر ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؟
بالتأكيد، بدا أن كلا المجتمعين يعكسان مرحلة من التحديث والتصنيع المبكرين، شاع فيها الفصل بين القوى العاملة على أساس عنصري أو ديني عرقي. في كلا المجتمعين، انفصل عن الأغلبية مجتمع أقلية مسيطر ليؤسس دولته الخاصة التي كانت هرمية سابقا في السياق الأوسع نطاقا، وعهدية داخل كل مجتمع. في حالة أولستر، أدى انفصال المقاطعات الست عام 1921 إلى وضع أقلية كاثوليكية داخل أولستر الاتحادية، حتى حينما مثل «الاتحاديون البروتستانت» أقلية في جزيرة أيرلندا. ثم أضفي الطابع المؤسسي على حافز عهدي قوي نابع من المستوطنين البروتستانت الأصليين في التنظيم البرتقالي، وفي المسيرات السنوية التي تحيي ذكرى انتصار البروتستانت في معركة بوين عام 1690. وفي حالة جنوب أفريقيا، اعتبر هروب الكثير من الأفريكان من «مستعمرة الكيب» التي كان يسيطر عليها البريطانيون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر «خروجا» في آخر الزمان، هربا من «فرعون» ظالم، بحثا عن أراض موعودة في مرعى الفلد. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، رافق إحياء اللغة الأفريكانية تقديس متزايد، ولا سيما في جمهورية ترانسفال التي كان رئيسها بول كروجر، للرحلة الكبرى وانتصار جيش البوير الإعجازي على شعب الزولو بقيادة دينجان في معركة «بلد ريفر» (نهر الدم) عام 1838. وبحلول عام 1938 أعاد الحزب الوطني برئاسة الدكتور مالان ترسيخ التقديس في الاحتفالات المئوية بيوم العهد (أوساواتريك)، وفي الإفريز الذي يسجل أبطال الرحلة وكبرى مناقبهم في نصب فورتراكر المهيب الموجود خارج بريتوريا، وكذلك في الاحتفالات التذكارية التي أقامها نظام الفصل العنصري القومي لاحقا.
16
إذا، كانت هذه أمثلة لأمم عهدية تتبع بروتستانتية آخر الزمان، جمعت بين رغبتها الانفصالية الأصلية النابعة من الكتاب المقدس، وبين السيطرة على أشخاص مختلفين عنها في المعتقدات الدينية أو الأصول العرقية. في حالة الولايات المتحدة، كانت هذه الرغبة المنبثقة من الكتاب المقدس متمازجة في الأصل أيضا مع عناصر هرمية واضحة في الثقافات الإقليمية القوية الموجودة سابقا في المستعمرات. إلا أنه أثناء الصراع ضد بريطانيا، وفي حين احتفظت تلك المستعمرات بحقوقها كدولة، فإنها نجحت أيضا في التوحد على أساس خرافة تأسيس مشتركة، موضحة في إعلان الاستقلال وفي الدستور، وهما نصان يجمعان بين كل من العناصر العهدية وعناصر الجمهورية-المدنية. من ناحية تزايد تهميش الولايات البروتستانتية الأنجلوسكسونية المتنوعة للشعوب الأصلية، حيث لم تبدهم، وفي الوقت نفسه مارست السيطرة والاستغلال (لا سيما في المزارع الجنوبية مالكة العبيد) على المجتمعات السكانية السوداء المجلوبة إلى أمريكا الشمالية عنوة ومن ثم عزلتهم عن مناطق البيض المسيطرين ومواردهم. من الناحية الأخرى، قدمت الثورة والجمهورية الأمريكيتان في ثوب روماني بوصفها أمة مدنية وجمهورية من الرجال (البيض) الأحرار والمتساوين، ولا شك أن «آباءها المؤسسين» استمدوا كثيرا من إلهامهم من أسلافهم الكلاسيكيين، ومن مثل التنوير أيضا.
17
في الوقت نفسه، شهدت الرؤية البروتستانتية الأصلية المقتبسة من الكتاب المقدس التي يتبعها المستوطنون الأكثر بيوريتانية إحياءات دورية، وما زالت تقود عددا كبيرا من التابعين في أجزاء مختلفة من الولايات المتحدة. وأدى هذا، أحيانا، إلى ضغوط من أجل الانعزال عن العالم الأوسع، وتركيز على فرادة التجربة الأمريكية، ورحابها الواسعة، أو، بدلا من ذلك، إلى شن «حملات صليبية إنجيلية» باسم الحرية، بوصفها زعيمة العالم الحر، ضد الشيوعية السوفييتية في بداية الأمر، ثم ضد أشكال التطرف العنيف فيما بعد. رغم ذلك، فإن الروح العهدية التي رفضت أشكال الهرمية التقليدية وفتحت الباب أمام تبني الحريات السياسية والمدنية الجمهورية ساعدت في تشكيل أمة منفتحة وتعددية ومتحمسة ملتزمة بحكم القانون والديمقراطية؛ أمة تتذبذب بين موقف نقاء عرقي أكثر انفصالية يذكرنا بعهد إسرائيل القديمة، وبين مواجهة أكثر توسعية وتبشيرية لهذا العالم «الدنس».
18
يمكننا أن نجد في إسرائيل المعاصرة مزيجا لا يختلف عن ذلك، يجمع بين الرؤية العهدية، والأشكال الجمهورية، والهرمية العرقية. على الرغم من أن إسرائيل تعتبر في بعض أوساط المفكرين الغربيين مجتمعا استيطانيا استعماريا، فإن الرغبة الأصلية والرؤية الموجهة كانت عملية ونابعة من الكتاب المقدس أيضا؛ وهي فصل اليهود المشردين والمضطهدين عن مجتمعاتهم المضيفة، وإعادتهم إلى وطنهم القديم، وفقا لوعد النبوءة؛ ومن ثم، على النقيض من الأفريكان الذين احتفظوا بعبيدهم في مستعمرة الكيب، على سبيل المثال، سعى الرواد الصهاينة الأوائل إلى الجلاء عن أوروبا المعادية وتكوين مجتمع جديد منفصل يقوم على الاعتماد على الذات، وكرامة العمل اليدوي، ومحرر من الامتهان الذي خضعوا له هم وأسلافهم.
19
رغم ذلك، فمنذ فترة مبكرة نسبيا، تسببت الحاجة المدركة إلى توظيف العمالة العربية الأرخص، والظروف الاجتماعية الصعبة المديدة لكل من الأقلية العربية داخل إسرائيل، بعد إنشاء دولة إسرائيل، واليهود الشرقيين أيضا؛ في حدوث تفاوتات عرقية غير مرغوبة. إلا أن ذلك عادله إطار جمهوري-مدني قوي، والتزام بالديمقراطية، والحريات المدنية، والخطاب الحر، وكذلك حكم القانون الموروث من الانتداب البريطاني؛ لذلك، على الرغم من أن إسرائيل في بدايتها يمكن وصفها على نحو مستحق بأنها أمة عهدية تسعى إلى خلق مجتمع ريادي متساو فريد، فإن عملية «تطبيعها»، بوصفها دولة ومجتمعا قوميا، أولت عنايتها الأولى على نحو متزايد إلى تقليدها الجمهوري-المدني؛ ذلك التقليد الذي أضعفته التراتبيات الهرمية العرقية الناتجة إلى حد بعيد من الضغوط الخارجية المعادية، ولكن يشجعها أيضا مثال اصطفاء قومي ديني عرقي دائم.
20 (4) الأمم الجمهورية الحديثة
على الرغم من تساوي مثال المجتمع الجمهوري المدني في العراقة مع التقاليد الثقافية الأخرى، فلم يصبح منتشرا إلا بعد القدوم الكامل للحداثة والعلمانية. وحتى تلك اللحظة كانت البنى الهرمية المهيبة التي كافحها أتباع المثل الجمهورية وتحرروا منها في النهاية تلقي بظلها على المثل الجمهورية وتكتنفها. ويرجع حماس الأمة الجمهورية إلى حد بعيد إلى قسوة انفصالها المبدئي عن التراتبيات الهرمية التقليدية، الأصلية منها والاستعمارية.
في تلك الأيام، ظهر أكثر هذه الاضطرابات تأثيرا، وإن لم يكن أولها، في فرنسا أثناء الثورة، ورسخ المثل المدنية والعلمانية للأمة الجمهورية على نحو يفوق حتى ما في أمريكا. منذ العصور الوسطى، جسدت مملكة فرنسا المثال النموذجي للمجتمع الهرمي المقدس في ظل «ملكها الأكثر مسيحية». حقق هذا النموذج وضوحا لا نظير له من خلال إقليم المملكة المتماسك - الذي يطلق عليه السداسي - في بدايات العصر الحديث، بل حتى قدرا من التماثل بين سكان الحضر بسبب تزايد تغلغل الإدارة الملكية المركزية ولغة باريس وثقافتها، على الرغم من استمرار المناطقية والثقافات واللهجات المحلية الريفية. إلا أنه مع أواخر القرن السابع عشر، استلهاما من الوطنية الليبرالية في ثورة إنجلترا وأشكال التضامن السياسية في الدول المدن القديمة، بدأت مجموعة متعاقبة من المفكرين المؤمنين بالتحديث يشكلون إحساسا علمانيا جديدا بالهوية القومية الفرنسية. تبنت مفهوم الأمة الجمهورية حركة ثورية متنامية مكونة من الطبقة الوسطى، داعمة مثل «السيادة الشعبية» و«إرادة الأمة»، من أجل نزع الشرعية عن هرمية «النظام القديم» الملكية الكاثوليكية، والإطاحة بها. وأثناء مجريات الثورة، ما بين عامي 1789 و1794، ظهر لوقت وجيز نوع من العهدية الشعبية يعج بالقسم الجماعي، والطقوس، والمهرجانات، والشهداء، والتقويم الجديد. في هذه المراسم، تبنى الممثلون الشعبيون رمزية دراما خلاص الأمة وحركاتها الاستعراضية في عروض جماعية تعبر عن العبادة الدينية العلمانية ل «الوطن» الذي أصبحت أشكاله وعلاماته المميزة علمانية ورومانية وجمهورية على نحو متزايد.
21
إذا كان نظام نابليون اللاحق سعى إلى نظام جديد متسق قائم على مثل جمهورية مدنية، فإن انهياره أعطى الفرصة لقوى الرجعية الكاثوليكية والملكية لإعادة تشكيل فرنسا بوصفها مملكة كاثوليكية تتبع النزعة المحافظة الجديدة، وعلى النحو الذي روج له بونالد. إلا أن المحاولة باءت بالفشل، ومنذ ذلك الحين وحتى نظام فيشي، تذبذبت السياسة الفرنسية، على نحو عنيف في بعض الأحيان، ما بين نزعة جمهورية متزايدة العلمنة والراديكالية، وبين نزعة محافظة عسكرية ملكية كاثوليكية قوية. وأقرت هذه المصائر البديلة ل «فرنسا» على نحو واضح في الجمعية الوطنية، وفي المحاكم، وفي الشوارع أثناء قضية درايفوس (1894-1899) التي سبقت حل الكنيسة الكاثوليكية عام 1905. إلا أن الانتصار الجمهوري كان مؤقتا وحسب. ويمكن أن نشهد الازدواجية والانشقاق اللذين ظهرا أثناء تطور الهوية القومية الفرنسية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في آثارها وتماثيلها وعمارتها المميزة، وكذلك في المناقشات المتعلقة بدخول البانثيون واستخدامه . ويدل على هذا الانشقاق على نحو مماثل تنامي تقديس القديسة جان دارك التي طوبت عام 1920، وأصبحت أيقونة للقومية الكاثوليكية المتأصلة، بينما يعتبرها اليسار في الوقت نفسه بطلة شعبية للحرية والمقاومة الفرنسيتين. كما تجلت مصائر فرنسا البديلة مرة أخرى في القرن العشرين في الصراع بين قادة يتسمون بالقوة والسلطوية والكاريزمية، أمثال بيتان وديجول اللذين بدا أنهما يجسدان الرابطة بين التراب الفرنسي وموتى الأمة الأبطال الذين كانوا بمنزلة «آباء الأمة»، والحركات الشعبية الساعية إلى الحرية، والمساواة، والثورة، أمثال حركة الماكيز التي واجهت طغيان الاحتلال الألماني، أو ثورة الطلبة عام 1968 التي كانت موجهة ضد النظام البيروقراطي للدولة الرأسمالية. إلا أن هذه الصراعات، على الرغم من عنفها، احتويت ضمن الأشكال القوية للأمة الجمهورية الفرنسية الملتزمة بالقيم والمثل المدنية لقومية فرنسية علمانية مهيمنة، قائمة مع ذلك على إحساس قوي بهوية ثقافية عرقية مشتركة.
22
كانت الاضطرابات التي أتت بجمهورية ألمانيا الحديثة إلى الوجود على القدر نفسه من طول الأمد، وربما كانت حتى أكثر عنفا. رأينا في الفصل الرابع أنه بالفعل بحلول أواخر العصور الوسطى، اعتبرت الطبقات المتعلمة الألمانية أن الإمبراطورية الرومانية المقدسة هي إمبراطورية من الألمان في المقام الأول، وأن الإحساس الناشئ بالهوية القومية المدعوم بالأفكار النمطية الخارجية واستعادة «جرمانيا» تاكيتوس، وبانتشار اللغة والأدب الألمانيين؛ تجلى وسط النخبة المثقفة ذات النزعة الإنسانية في عصر النهضة. ورغم ذلك، فإن هذا الإحساس النخبوي بهوية سياسية وثقافية ألمانية أوسع نطاقا عجز عن الاستمرار بعد مذبحة حرب الأعوام الثلاثين وانقسام الأراضي الناطقة بالألمانية خارج النمسا إلى دول مطلقة، قليل منها عظيم، وكثير منها صغير. وبحلول القرن الثامن عشر، بدا أن تفتت الهرمية، بالإضافة إلى نفوذ الثقافة الفرنسية المتغلغل، يضعان معا نهاية لأي أحلام بدولة أو أمة ناطقة بالألمانية على غرار النموذج الإنجليزي أو الفرنسي المعاصر لها، إلا ربما في قليل من الأوساط المحلية الغائمة.
رغم ذلك، شجع نموذج الثورة الفرنسية وصدمة الهزيمة في معركة يينا إجراء إصلاحات مدنية في بروسيا، والمقاومة القومية من أجل ألمانيا من جانب المفكرين والطلبة الذين ازدادوا تأثرا بعقائد البطولة الرومانسية؛ الأمر الذي أسفر في النهاية عن مناقب «قوات المتطوعين» وذكرياتهم الخرافية في الانتصار على نابليون في لايبتسيج عام 1813. وتبع ذلك مظاهر عهدية مثيرة، وإن كانت محدودة نوعا ما، للأخوية الألمانية في قلعة فارتبورج عام 1817، وفي قلعة هامباخ عام 1832، أثناء فترة عامة من الرجعية الهرمية في أوروبا. ولو أن حركة الإصلاح العهدي هذه تمكنت من التغلب على الانقسامات العميقة بين ممثلي برلمان فرانكفورت حول تعريف الأراضي الألمانية والهوية الألمانية، لشهد عام 1848 الثوري ميلاد أمة ألمانية جمهورية وليبرالية. وكما حدث، كانت هذه الدول الهرمية القديمة قادرة على التجمع مجددا، وكان الطريق مفتوحا أمام تقوية بروسيا قبضتها على الأراضي الشمالية الناطقة بالألمانية، وأمام إمبراطورية «رايخ» ألمانية تسيطر عليها بروسيا في نهاية المطاف.
23
من الناحية الظاهرية، بدا أن الهرمية الملكية بقومية «ألمانيا الصغرى» غير الليبرالية انتصرت. إلا أن فشل احتفالاتها الرسمية بيوم الانتصار في معركة سيدان في أسر خيال العامة، واستمرار التوجهات الخفية المتمثلة في الحركات الشعبية التي تستحضر الدساتير الليبرالية من فترة الثورة الفرنسية، بالإضافة إلى تنامي الحركة الاشتراكية؛ كل ذلك كشف عن استمرار وجود مصائر بديلة للقومية الجمهورية الألمانية. مرة أخرى، يمكن أن نرى ذلك في الآثار التي جاء تمويلها من الاكتتاب العام، وأشهرها تمثال هيرمان الشيروسكي في غابة تويتوبورج، وفي ظهور العديد من مذاهب القروسطية القوطية و«العبقرية» الألمانية، لا سيما عبقرية لوثر ودورر، وفي كثير من روايات «الفولكيش» الشعبية في هذه الفترة، وفي مهرجان فاجنر المجتمعي للفنون في بايروث الذي يستحضر الميثولوجيا الجرمانية والأيسلندية القديمة، ولاحقا في العنصرية الروحانية غالبا لدى أوساط «الفولكيش» الشعبية المتطرفة ونظيرتها السياسية المقاتلة «رابطة الشعوب الجرمانية».
24
إذا كانت الهزيمة في الحرب الكبرى وتعويضات معاهدة فرساي فرضتا جمهورية على أمة منهكة ومحرومة، فسرعان ما اكتسحت منطقة فايمار حركة حاسمة، ربطت عناصر العهد بهرمية عنصرية وعسكرية بمستوى غير مسبوق وعنف مدو. وإذا كان «اتحاد القبائل الجرمانية الألمانية» الذي اقترحه هيملر لخص جوهر رؤية هتلر العنصرية، فإن هذه الرؤية ضمنت، مع ذلك، في بنية قيادة عسكرية برئاسة الفوهرر، دمجت التراتبيات الهرمية العديدة المتنافسة لكل من الدولة والحزب والجيش ووحدة إس إس الوقائية. وقدمت النازية صورة مزدوجة؛ فهي من ناحية مواكب حاشدة، وأغاني مسيرات، وأعلام صليب فاستيكا المعقوف، ورايات، وتأثيرات إضاءة، ومراسم جماعية مصممة بدقة، جدد فيها الألمان «العرقيون» عهد الطاعة للفوهرر، والموت في سبيل «الوطن»، في توافق أخوي كان أشبه بمحاكاة علمانية للعهد الديني، وهي من ناحية أخرى دولة إمبريالية ذات نزعة عنصرية تديرها بيروقراطية مركزية متضخمة ونخبة قوية من وحدة إس إس الوقائية، سعت إلى مواجهة الانقسامات العميقة بفعل الطبقة والدين والمنطقة.
25
قد يعتقد المرء أن تلك الهزيمة الكاملة كان من الممكن أن تفتت اندماج الهرمية السياسية ونزعة العهد الأيديولوجية، لكن كلتيهما تجددتا في ألمانيا الشرقية، وإن كان ذلك لأهداف متناقضة كليا. اتضح هذا في المراحل الأخيرة من النظام الشيوعي في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حينما حاولت تحقيق أهدافها الماركسية باستخدام وقائع وأبطال يحظون بالشعبية، مختارين بعناية من التاريخ الألماني، ليكونوا «أمثلة للفضيلة»، من أجل تعزيز شرعيتها وارتباطها مع «الشعب». إلا أن الهرمية والعهد لم يجدا مكانا لهما في الغرب في جمهورية ألمانيا الاتحادية. تضمن السعي إلى التجديد الاقتصادي والديمقراطية السياسية رفض الشعبية الكاريزمية والهرمية الإمبريالية، شكلا وروحا، لصالح الرشادة الاقتصادية، وأمة جمهورية مدنية داخل اتحاد الأمم الأوروبي. والواقع أن مثال التكامل الأوروبي بدا أنه يمنح نخبة ألمانيا الغربية احتمالية التحرر من أعباء الماضي القريب ومنغصاته في ظل دولة مدنية جيدة التنظيم. رغم ذلك، فإن حماس هؤلاء القادة أنفسهم في السعي إلى الاتحاد السياسي مع ألمانيا الشرقية بعد انهيار جمهوريتها الشيوعية عام 1990؛ كشف عن استمرار الروابط العرقية الألمانية الطويلة الأمد وقوتها، وأوضح أن مثال إغراق الخصوصيات الماضية في دولة دستورية صرف ربما لم يكن مضمونا بالقدر الذي أمل فيه أشخاص مثل يورجن هابرماس الذي امتدح فضيلة «الوطنية الدستورية» الصرف.
26
قد تكون انعكاسات شبيهة وثيقة الصلة في حالة روسيا المعاصرة. هنا أيضا نجد أمة جمهورية مدنية قيد التكوين، لكن مع وجود المزيد من المشاكل والأمور غير المؤكدة . في الحالة الروسية، نشهد مسارا مشابها من الهرمية الإمبراطورية إلى القومية الجمهورية، مع وجود فترة وجيزة من الأخوية العهدية في أوائل عشرينيات القرن العشرين. كما رأينا في الفصل الرابع، تطورت الدولة الموسكوفية على هيئة هرمية أبوية، مع اعتماد متبادل قوي بين الدولة والكنيسة في ظل قيادة القيصر، بوصفه حاكما مقدسا وأبا لشعبه. إلا أن الانقسام الكبير الذي أعقب الإصلاحات الكنسية التحديثية التي أجراها البطريرك نيكون في ستينيات القرن السابع عشر؛ أدى إلى مقاومة شديدة في مختلف مجتمعات الشهداء وطوائف «المؤمنين القدامى» العهدية التي استمر بعضها في القرن التاسع عشر، وأبرزت الانقسام المتزايد بين بلاط ودولة بيروقراطية هادفين إلى التغريب، ومجتمع روسي عرقي أرثوذكسي، لا سيما في الريف.
27
في أواخر القرن التاسع عشر، قوضت الإصلاحات الاجتماعية القيصرية والتحديث «من أعلى» المثال التراتبي الهرمي، وهيأت الظروف للمجموعات الشعبية والماركسية للترويج لأخوية الجماهير، ومساواة الأمم الخاضعة في «سجن الشعوب» القيصري. إلا أن رسالتها لم تترجم إلى فعل إلا بعد أن دمرت كوارث الحرب الكبرى التراتبيات الهرمية التقليدية بالإضافة إلى القيصرية. مع وجود حركات راديكالية مناوئة تتنافس على السلطة، قدر للبلاشفة الأفضل تنظيما الذين خرجوا منتصرين من الحرب الأهلية أن يقودوا الحركة الثورية. وإذ أعلنت ثورة لينين أن الأرض للفلاحين وحكم العمال السوفييت، أعلت من قيمة «الشعب»، وتصورت ظاهريا ميلاد أمة عهدية جديدة مكونة من الجماهير المتآخين، لم تلبث أن أخضعتها لنسخة من الهرمية العلمانية التاريخية أكثر صرامة واستبدادا، في ظل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومكتبه السياسي، البوليتبورو، وسكرتيره العام في نهاية المطاف. واصطنع دين مدني علماني جديد للحكم البروليتاري المتعدد الجنسيات، من أجل شحذ طاقات الشعوب، وتغطية مصالح الحزب والدولة الجبارين. رغم ذلك، في «الحرب الوطنية العظمى»، وجد ستالين أنه من الضروري الاستعانة بروح القومية العرقية الروسية وأبطالها الروسيين القدماء أمثال ألكسندر نيفسكي، وفي عام 1941، كان أكثر استعدادا «في الظروف العصيبة» لاستخدام طقوس الكنيسة الأرثوذكسية المنتهكة وأيقوناتها من أجل توحيد الروس وتعبئتهم لمواجهة الغزو النازي. وعلى الرغم من الانتقاد الرسمي المستمر لشوفينية روسيا العظمى، فلا شك تقريبا أن قومية الدولة الروسية كانت مكونا متأصلا، وإن كان غير رسمي، في أيديولوجيات القيادة السوفييتية وسياساتها اللاحقة.
28
مع انهيار الشيوعية السوفييتية أدار القادة ظهورهم لكل من التراتبيات الهرمية التقليدية والمثل الأخوية من أجل بناء نوع من الدولة الجمهورية أكثر مدنية، وأمة روسية على وجه أكثر تحديدا. وكان معنى ذلك الاستعانة بعلمانية النظام السابق، وتأكيد سماته الوطنية الكامنة، وتجديد بنية قيادته وسيطرته على الدولة، مع رفض أيديولوجيته الاشتراكية. وخلال عقود قليلة، أتم المجتمع الروسي انتقاله من تراتبية هرمية تقليدية، وإن كانت تحديثية، من خلال حركة ثورية للتضامن العهدي الشعبي، إلى: شكل شيوعي جديد من المجتمع الجمهوري والاقتصادي الذي توجهه دولة وحزب بيروقراطيان مركزيان قويان، وأخيرا إلى: أمة جمهورية أكثر مدنية وأقل أيديولوجية وأكثر روسية على نحو واضح، وذات قدر أكبر من السيطرة الدولانية. (5) انتصار الأمة الجمهورية؟
ليست هذه هي الأمثلة الوحيدة لمسار تحولت فيه الأمم الهرمية والإمبراطورية غالبا، بقليل أو كثير من السرعة والعنف، إلى أمم جمهورية-مدنية. ولا تقتصر هذه الأمثلة على أوروبا والغرب. تقدم تركيا الحديثة مثالا مثيرا بصفة خاصة لهذا التحول. انتهى التدهور الطويل الذي عانته القوة الإمبراطورية العثمانية، وما صاحبه من خسارة أراضيها، بتصدعين تسببا في قطع الاستمرارية العثمانية؛ تمثل الأول في ثورة الضباط في «جمعية الاتحاد والترقي» عام 1908، وكان الثاني الذي يعد الثورة الأكثر راديكالية بعد هزيمة الغزو اليوناني عام 1922 وتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1932؛ حين ألغيت السلطنة والخلافة كلتاهما. ألهمت هذين التصدعين الرؤية الجديدة للأتراك باعتبارهم أمة عرقية منفصلة. أما ضباط «جمعية الاتحاد والترقي»، فرأوا أن الأتراك هم الأمة المسيطرة في إمبراطورية عثمانية متعددة القوميات، لكنها إمبراطورية مدركة في إطار قومي على نحو متزايد. وأما مصطفى كمال وأتباعه، فكان الأمر من وجهة نظرهم يتخطى ذلك إلى أمة جمهورية تركية منفصلة ليس فقط عن رعاياها السابقين، ولكن عن الأمم الأخرى الناطقة بالتركية أيضا خارج الإمبراطورية السابقة. كانت الأيديولوجية الكمالية إقليمية وتغريبية على نحو صارم. وبما أن منظرها ضياء جوك ألب كان يتطلع إلى فرنسا الجمهورية نموذجا، فقد تبنت الأيديولوجية الكمالية تصورا مدنيا تحديثيا للأمة بوصفها مجتمعا قائما على النظام والتقدم، كان مأمولا أن تتمكن تركيا من خلاله من مضاهاة الغرب من خلال الانضمام إلى عصبة الأمم «المتحضرة». وظل هذا هو هدفها الأهم حتى وقتنا الحاضر. ويقدم طلبها المعطل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أحدث دليل على نزعة جمهورية ذات طابع أيديولوجي، تعارض فيها القومية العلمانية الدولانية والإقليمية التي يتبناها معظم النخبة العسكرية والسياسية كلا من النزعة الإسلامية الحداثية السياسية التي يتبناها الحزب الحاكم حاليا، والمعتقد الإسلامي لدى الأغلبية الريفية. إلا أنه في كلتا الحالتين، تظل مسلمة المجتمع التركي العرقي القومي المميز تقدم المجال والأساس لهذه المصائر البديلة.
29
حدثت اضطرابات وتحولات مشابهة في كثير من الدول التي حكمتها فيما سبق بيروقراطيات إمبراطورية وكبار إقطاعيين، من الصين والهند حتى مصر وإثيوبيا. في الغالبية العظمى من الحالات، أسفرت الثورة الاجتماعية والقومية عن قادة كاريزميين وأعداد كبيرة من التابعين في فورة من الأخوية العهدية. إلا أن هذه اللحظة سرعان ما انحسرت، وتبعها الظهور المؤلم بقدر ما أو آخر لنظام مدني جديد في الدولة القومية الجمهورية. على نحو مختلف، قدم الغزو الأجنبي والحكم الاستعماري، لا سيما في أفريقيا، أنواع النزعة الجمهورية المدنية والإقليمية، بالإضافة إلى النموذج القومي الذي عدله «الآباء المؤسسون» القوميون وفقا لأعراف الشعوب الأصلية وتقاليدها. نرى ذلك واضحا بصفة خاصة في الجيل الأول من القادة في غرب أفريقيا الذين سعوا إلى الاحتفاظ بالحدود الاستعمارية لدولهم، بدلا من التهديد بالتفتت العرقي، لكنهم مثلوا في الغالب «عرقيات» معينة مسيطرة عادة، حتى أثناء تطلعهم إلى تكوين أمة جمهورية مدنية موحدة. وفي أي من الحالتين، وبصرف النظر عن طريق الوصول، يبدو أن نقطة النهاية كانت واحدة.
30
يطرح ذلك مسألة حتمية التقدم العلماني إلى الأمة الجمهورية المدنية. أشرت إلى بعض الحالات النقيضة؛ اليابان وبريطانيا، وبدرجة أقل الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن هل من المحتمل أن تكون هذه الحالات «الشاذة» ظاهرية أكثر منها حقيقية؟ أم من غير المحتمل أن تسلك الطريق نفسه الذي سلكه الأفريكان والبروتستانت في أيرلندا الشمالية؟ على أي حال، تخلى المجتمع الإسرائيلي إلى حد بعيد عن أخلاقياته المسيحانية الريادية، باستثناء ما بين الأقلية الأرثوذكسية التي تعبر عن آرائها بقوة، وتشهد حركة الإحياء المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية مقاومة مستمرة من النخبة المثقفة الليبرالية وأصحاب النفوذ السياسي في الساحل الشرقي. وكما هي حال اليابان وبريطانيا، فالتحديث السياسي المستمر للأعراف والمؤسسات يقلل تدريجيا من الدور السياسي للتراتبيات الهرمية التقليدية، من العائلة وحتى الملكية.
رغم ذلك، تبقى النزعة الجمهورية المدنية مجرد نوع من أنواع كثيرة من المصائر القومية. وبين الحين والآخر، يسفر المزيد من الاضطرابات عن أشكال ومصائر قومية جديدة، وما إيران المعاصرة إلا أوضح هذه الحالات. هنا، بعد سقوط السلالة القاجارية في الثورة الدستورية عام 1905، انتزعت السلطة سلالة بهلوي، ونصب رضا بهلوي نفسه في منصب الشاه. مرة أخرى عام 1953، سحقت القوى الكبرى محاولة تكوين جمهورية علمانية بقيادة الدكتور مصدق، وسلمت السلطة إلى ابن الشاه. وأطلق برنامج تحديث سريع وقومية «آرية» تستحضر ماضي الدولة الأخمينية السابقة للإسلام، مستخدما السيطرة الصارمة للدولة والشرطة لتحقيق أهدافه، لكن هذا لم ينجح إلا في عزل تجار البازار ورجال الدين. وعند سقوط الشاه عام 1979 لم تعد إيران إلى مسار مصدق، ولكنها سقطت على نحو متزايد تحت سيطرة آية الله الخميني وتابعيه من رجال الدين في ثورة أعادت شريعة إسلامية مرشدة وتراتبية هرمية شيعية داخل إطار الأمة الجمهورية وقوميتها الجديد نسبيا.
31
ربما يكون المثال الإيراني هو الأشهر، لكنه لم يكن الحالة الوحيدة لأمة هرمية حديثة. في خمسينيات القرن العشرين، حاول أو نو، رئيس وزراء بورما، الجمع بين البوذية والاشتراكية، مستخدما المثل الهرمية القديمة للحكام المخلصين ليمثل الشعب. وفي تايلاند، يجمع الحكم السياسي الحالي بين تقاليد الحكم الشخصي العريقة والمثل البوذية. وفي المملكة العربية السعودية، قلب الإسلام، جدد آل سعود أنفسهم وحكمهم السياسي الأبوي من خلال الترويج المتحمس للإسلام الوهابي المتشدد، في محاكاة لرسالة النبي العهدية الأصلية.
32
إلا أننا نجد، فيما وراء هذه الأمثلة الفردية، السمات الهرمية والعهدية متمازجة في أغلب الأحيان مع القومية الجمهورية حتى يومنا الحاضر. ولا تقتصر صحة ذلك على بريطانيا واليابان وإسرائيل والولايات المتحدة، لكن يمكن أن نشهد هذا أيضا في دول قومية تمتد من أيرلندا وبولندا إلى صربيا واليونان والمكسيك، حيث تحتفظ الكنيسة بتبعية قوية. في تلك البلدان، ما زالت المثل العهدية المتمثلة في الاصطفاء والرسالة العرقيين تثير حماسة شرائح من سكانها؛ ومن ثم تقدم بدائل للمصائر القومية العلمانية التي حددتها النخب الليبرالية والاشتراكية، أو تستمر في مزج هذه المصائر بقدر من البديل العهدي.
خاتمة
في ضوء هذه الاعتبارات، ستكون أي محاولة للتنبؤ بشكل الأمم الحديثة محاولة مبتسرة ومفتقرة إلى الحكمة، ومن الممكن أن تعرضنا لخطر الالتباس بين أشكال الحكم السياسي الظاهرة وبين المحتويات الاجتماعية والثقافية الأكثر تغيرا. كل ما يمكن قوله بقدر من اليقين هو أن الإحساس بالهوية العرقية المشتركة ظل مكونا قويا ومرنا حتى في أكثر المجتمعات القومية مدنية وجمهورية، وأنه منذ العصور القديمة وحتى العصر الحاضر، ظل تأثير الروابط والمشاعر والنماذج العرقية محسوسا باستمرار، حتى في الفترات التي سادتها أشكال السياسة والمجتمع المنتمية إلى الإمبراطورية والإقطاع والدول المدن.
33
سعيت، في هذه الدراسة الاستقصائية الموجزة، إلى توضيح أن مقاربة النموذج الحداثي السائد مقاربة مختلفة لا تكشف عن استمرارية الهويات والنماذج العرقية فقط، ولكنها تكشف كذلك عن استمرارية تلك العمليات الاجتماعية والرمزية التي تشجع على تكوين الأمم. ويمكن تتبع تلك العوامل حتى في العالم القديم، رغم أنها لم تتضافر إلا في حالات قليلة جدا لتخلق الظروف التي تمكن المجتمعات البشرية من الاقتراب من النموذج المثالي للأمة بدلا من الأنواع الأخرى من الهويات والمجتمعات الجمعية الثقافية و/أو السياسية.
والواقع أنه لم يحدث إلا في أواخر الحقبة القروسطية، مع تفتت وحدة العالم المسيحي، أن خلقت تلك الظروف من جديد في أوروبا، وأن بدأ نوع قومي من الهوية يرتبط بالدول الملكية، خالقا بين النخب ما أطلقت عليه مصطلح «الأمم الهرمية». غير أننا لا نستطيع الحديث عن «القومية» بوصفها أيديولوجية أو حركة أثناء هذه الفترة. استلزم هذا الأمر الانتظار حتى القرن السابع عشر، بعدما اتخذ الإصلاح البروتستانتي اتجاها راديكاليا، فظهرت في دول قليلة، مثل إنجلترا واسكتلندا وهولندا، قومية «عهدية» تستمد إلهامها من سرد الكتاب المقدس عن إسرائيل القديمة، لا سيما في أسفار موسى الخمسة. على الرغم من المنظور الرؤيوي والأوروبي، فإن هذا النوع البروتستانتي الراديكالي من القومية بدأ يرى العناية الإلهية في كنائس الرب وفي الأمم المختارة، وبدأ يستنتج الاستنتاجات السياسية المنطقية. من جوانب عدة، يمثل هذا النوع مركز تاريخ اجتماعي لتكون الأمم والقومية، بمعنى أن البروتستانتية العهدية الراديكالية شكلت وسيلة «الاختراق» إلى الأمم والقومية الحديثة، ولولا إلهامها وإنجازاتها، لانتابنا الشك فيما إذا كان للأمم كما أصبحنا نعرفها أن تشكل، أو ما إذا كان للقومية أن تصبح حركة أيديولوجية بهذا القدر من الفعالية والقوة. وإلى هذا الحد، لا بد من مراجعة التأريخ والفهم الحداثيين للقومية.
من ناحية أخرى، فإن ظهور القومية الجمهورية المدنية الراديكالية، لا سيما في فرنسا، وتأسيس أول أمة ودولة متحولتين إلى العلمانية، يؤكدان الفرضية الحداثية المتمثلة في «الأمة الحديثة» شريطة فهمها على أنها مجرد شكل، وإن كان مؤثرا، من مختلف أشكال الأمة. في هذا الصدد، تقف الأيديولوجية القومية مستقلة بنفسها، لكنها لا تنفصل تماما عن أيديولوجيات أخرى مثل الليبرالية والاشتراكية. في المقابل، واجه نوع الأمة الجمهوري المدني تحديات متكررة من أنواع الهويات الأخرى المؤسسة على تقاليد الهرمية والعهد القديمة، أدرك معها سريعا أنه لا بد من السعي إلى شيء من التكيف؛ وهذا يوضح أننا لا يمكننا فصل مسألة التحقيب الزمني والتأريخ لمفهوم الأمة عن المسائل الأوسع المتعلقة بالأشكال التاريخية للأمم الفردية، ولا عن التقاليد الثقافية الأساسية التي قامت على أساسها تلك الأشكال، وما زالت تطرح مصائر قومية بديلة.
الخاتمة
كانت نقطة الانطلاق في هذا البحث هي مسألة التحقيب الزمني للأمم: أي الحقبة أو الحقب التي ظهرت فيها وازدهرت المجتمعات التاريخية التي نسميها «أمما». وسرعان ما اتضح أن أنواعا مختلفة من الأمم أو المجتمعات القومية ظهرت في فترات مختلفة؛ ومن ثم ، أصبحت المشكلة تتعلق بتفسير العلاقة بين فترات ظهورها وأشكالها الثقافية المتنوعة: أي العلاقة بين ما يمكن أن نسميه «التأريخ» للأمم و«تشكيلها».
افترضت هذه الصياغة استمرار استخدام مصطلحات مثل «الأمة» و«الهوية القومية» بوصفها فئات تحليلية إلى جانب فئات الهوية الثقافية الجمعية الأخرى. ومن أجل الوضوح والتحديد، أصبح تعريف مفهوم الأمة وفقا لمصطلحات نموذجية مثالية خطوة أولية ضرورية؛ وسمح لنا هذا، بدوره، بتعريف أنواع مختلفة من الأمة بوصفها مجتمعا تاريخيا يفترض أنه يمتلك هوية ثقافية و/أو سياسية. ووفقا لذلك، عرفت فئة الأمة بأنها مجتمع إنساني له اسم وتعريف ذاتي، يبني أفراده خرافات وذكريات ورموزا وقيما وتقاليد مشتركة، ويقيمون في وطن تاريخي يتحدون معه، ويخلقون ثقافة عامة مميزة وينشرونها، ويراعون تقاليد وقوانين عامة مشتركة. في هذا السياق، كان من المهم الفصل بين فئة «الأمة» وفئة «القومية» التي عرفناها بأنها حركة أيديولوجية للحصول على الاستقلالية والوحدة والهوية والحفاظ عليها من قبل مجتمع سكاني إنساني يرى أفراده أنه يكون أمة فعلية أو محتملة. والسبب في ذلك أن نظرية القومية وأيديولوجيتها حديثتان نسبيا على الرغم من أن بعض عناصر القومية ظهرت قبل وقت طويل من تأريخها التقليدي المحدد بأواخر القرن الثامن عشر. من ناحية أخرى، على الرغم من أن غالبية الأمم الحالية ظهرت في القرنين الأخيرين، فإن كلا من مفهوم الأمة وبعض الأمثلة المعروفة من المجتمعات القومية والمشاعر القومية يعود تاريخه إلى وقت أقدم بكثير من وقت ظهور الحداثة.
من خلال تبني مقاربة تؤكد أهمية الروابط العرقية، والرموز والخرافات والذكريات والتقاليد العرقية، يمكننا تدوين العمليات والموارد الثقافية التي شجعت تشكيل الأمم واستمرارها، بالإضافة إلى تتبع أشكالها التاريخية المختلفة؛ نتيجة لذلك، أصبح من الممكن إبراز الفترات والمواقع التي أصبحت فيها الأمم والهويات القومية واضحة ومنتشرة، ليس فقط في ضوء العمليات المتمثلة في التعريف الذاتي، وبناء الرموز، والأقلمة، والثقافة العامة، وما شابه ذلك، لكن أيضا من خلال وجود الموارد الثقافية المختلفة واستخدامها؛ خرافات الاصطفاء العرقي، وذكريات العصر الذهبي، ومثل التضحية، وتقديس الأوطان .
في العالم القديم ، في العالم اليوناني والروماني الكلاسيكي وفي الشرق الأدنى، كانت الروابط والهويات العرقية سائدة، بالإضافة إلى الارتباطات بدول مدن وقبائل، وبإمبراطوريات بدرجة أقل، لا سيما في اليونان القديمة وبلاد فارس. وفي المقابل، كانت العمليات المفضية إلى نشأة الأمم (فضلا عن القومية) غائبة في العموم. رغم ذلك، وجدت استثناءات قليلة: مصر القديمة، وأرمينيا المسيحية القديمة، ومملكة يهوذا بصفة خاصة قبيل النفي البابلي وبعده. وفي الحالتين الأخيرتين، ساعد خلق الموارد الرمزية والثقافية المختلفة في ضمان بقاء المجتمع المعياري، وإن كان في أشكال بديلة، بعد نفي كثير من أفراده من أوطانهم.
ربما كان العامل الأهم في تكوين الأمم لاحقا هو تلك الموروثات التي تركها العالم القديم للفترات اللاحقة. وفي هذا الصدد، اخترت ثلاثة تقاليد ثقافية أساسية من الثقافة العامة، هي: تقليد الهرمية، وتقليد العهد، وتقليد الكومنولث أو الجمهورية المدنية. كان النوع الأول، بطبيعة الحال، مسيطرا ومنتشرا في أنحاء الشرق الأدنى القديم والبحر المتوسط، من المملكة المصرية القديمة وإمبراطورية سرجون الأكدي، وحتى الممالك الهلينستية والإمبراطورية الرومانية. قدم تقليد الهرمية مثالا للتفاوت المقدس والحكم المقدس، وعند ارتباطه ب «عرقية» مسيطرة، وذكرى ملوك إسرائيل ويهوذا المنحدرين من نسل الملك داود، استخدم مثال للملكية المقدسة، كما في فرنسا القروسطية؛ ذلك التراث الذي انتقل من الإمبراطورية الرومانية، واستخدم مرارا وتكرارا طوال العصور الوسطى منذ عصر بيبان وشارلمان وحتى عصر شارل الخامس وهنري الثامن.
كان النوعان الآخران من التقاليد الثقافية على القدر نفسه من الأهمية على المدى الطويل. نشر مثال إسرائيل القديمة العهدي من خلال الكتاب المقدس العبري والترجمة السبعينية أولا، ثم من خلال الكنيسة في الشرق الأرثوذكسي اليوناني والغرب الكاثوليكي اللاتيني، ولا سيما الإيمان بالاصطفاء العرقي والوحدة وبالرسالة الإلهية. على نحو مشابه، استقى النموذج المدني للجمهورية أو الكومنولث إلهامه من وطنية المدينة الإغريقية وتضامن مواطنيها، لا سيما أثينا القديمة، ومن البساطة البطولية والتضحية بالذات الموجودتين في الجمهورية الرومانية المصورة بطريقة مثالية. ومع إحياء هذا النموذج في جمهوريات المدن الإيطالية القروسطية، تبنته كوميونات حرة كثيرة في ألمانيا وسويسرا والفلاندرز في العصور الوسطى.
رغم ذلك، فإن أجزاء كبيرة من الكتلة الأرضية الأوروبية، وكذلك الشرق الأدنى، كانت في أغلب الأحيان ساحة للإمبراطوريات المتعاقبة. وهنا، لم تطور العمليات الأساسية لتشكيل الأمم، ونادرا ما كانت الهرمية مرتبطة بمجتمع عرقي منعزل أو مسيطر. وحيث أصبحت الهرمية مرتبطة ب «العرقية» المسيطرة، بعد تفتت العالم المسيحي الأوروبي وظهور الدول المركزية، كما حدث في دول مثل موسكوفي، وإسبانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والدنمارك، والسويد، ساعدت في توفير الأساس لنوع هرمي من الأمم، نجد فيه أنه على الرغم من حقيقة أن مشاعر جمهور السكان لم تدون إلى حد بعيد، فقد تجلى إحساس قوي وحصري بالهوية القومية بين الحكام والنخب. هذه المشاعر القومية، بدورها، شجعتها المنافسة التجارية والحرب، كما ساعدت في تأجيجهما، بين الدول الأوروبية المتنافسة التي عبأت الجيوش بدورها، وبثت فيهم فضيلة التضامن والحاجة إلى الدفاع عن «أراضيهم» القومية، وأمدتهم بخرافات المعارك والأعمال البطولية. وبهذا المعنى، يمكننا الحديث عن وجود «أمم هرمية» في أواخر العصور الوسطى، بدأت فيها «الوطنية المرتكزة على التاج» تنتقل إلى الطبقات الوسطى الحضرية، مقدمة نقطة ارتكاز لمشاعر قومية قوية داخل إطار إقليم قومي يزداد تحديدا ومركزية، ونظام قانوني موحد المعايير، وثقافة شعبية متميزة.
كان الإصلاح البروتستانتي هو ما قدم «الاختراق» إلى كل من الأمم الشعبية وأول أنواع «القومية». وأعاد رجوعه إلى العهد القديم في النسخ الإصلاحية الراديكالية، لا سيما الكالفينية، تقديم النموذج العهدي، ذلك المفهوم الديني العريق، إلى الاتجاه السياسي السائد. في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا، وفي كثير من المستعمرات الأمريكية والمدن السويسرية أيضا، في أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، أصبح المثال العهدي وسرد الخروج المذكور على نحو بالغ الوضوح في الكتاب المقدس المكتوب بالعامية، هو المحرك للتغيير الجذري سعيا للخلاص الفردي والاصطفاء الإلهي الجمعي، شاملا اصطفاء الأمم. من جوانب عدة، هذه الفترة محورية في نشأة كل من الأمم والقوميات. وبالبناء على المشاعر القومية الموجودة سابقا بين النخب، تمكنت «الأمم والقوميات العهدية» من تقديم تصورات للأمة ومثلها أوسع نطاقا وأكثر فعالية - بل كونتا كومنولثات جمهورية - ومن ثم تمكنتا من تعبئة أعداد كبيرة من الأشخاص من أجل برامج سياسية وعمل عسكري.
للوهلة الأولى، يبدو أن «الأمة الجمهورية المدنية» العلمانية الحديثة تمثل انشقاقا عن كل الأشكال التاريخية السابقة للأمة، مثلما بدت قوميتها مختلفة تماما، في الطابع والأسلوب، عن القومية العهدية السابقة. وهذا مشابه للطريقة التي قدمت بها الوطنية الجمهورية في العالم اليوناني الروماني القديم تقليدا ثقافيا، ومشاعر جمعية، ونموذجا مجتمعيا تختلف كثيرا عما حولها. إلا أن الأشكال والأيديولوجيات الجمهورية الحديثة تعتمد في واقع الأمر على الأمثلة، وتستخدم الكثير من رموز الأمم والقوميات العهدية السابقة وقيمها وتقاليدها. وبهذا المعنى، أفضل تصور للقوميات الحديثة، بداية بالثورة الفرنسية، هو أنها نوع من أنواع الدين العلماني للشعب، إلى جانب التقاليد الدينية أو مقابلها. أما ما يعطيها طابعها الراديكالي فهو تنصلها من الهرمية، وما يصاحب ذلك من برنامج ثوري مناهض ل «النظام القديم» الذي أسهمت فيه الملكية المقدسة إسهاما كبيرا. إلا أنه لم يوجد عداء تجاه الأمم والقوميات العهدية على النحو الذي أظهرته صيحة مراسم أداء القسم والعهود المقدسة. والواقع أن كثيرا من العناصر المشتقة في النهاية من زمن العهد القديم ظل متأصلا في كثير من القوميات الأوروبية والغربية. وحتى بعض تقاليد الأمم الهرمية مثل الملكية أبقيت، ولو في صورة مضعفة، وهي تفرض، إلى جانب التقاليد العهدية، تحديا للتقدم العالمي للأمة الجمهورية. على نحو مشابه، قد تلهم الخرافات والذكريات المتعلقة ب «عصور ذهبية» هرمية أو عهدية مصائر بديلة بين قطاعات عريضة في المجتمع؛ ومن هنا ينبثق الطابع المتعدد المصادر غالبا في كثير من الأمم التي يمكن اعتبارها ألواحا كثيرة كتبت عليها مواض وتقاليد ثقافية جمعية مختلفة.
ما الدروس التي يمكن أن نستقيها للعالم المعاصر من هذا السرد للأمم والقوميات؟ الدرس الأول هو: استمرار قدرة المجتمع والهوية العرقيين على أن يشكلا أحد أسس التضامن الاجتماعي والسياسي الراسخة على مدار التاريخ وحتى يومنا هذا. وحتى في هذه اللحظة، لا توجد أي إشارة على انحسار الروابط العرقية الذي تنبأ به كثير من المراقبين الليبراليين. بل لعل ضغوط العولمة، من خلال الهجرة الواسعة النطاق ووسائل الاتصال الجماهيري، أحيت الروابط والمشاعر العرقية عبر العالم.
الدرس الثاني هو: الطبيعة المتعددة الأوجه لمعظم الأمم والقوميات، والطابع المتعدد الطبقات غالبا لتقاليدها الثقافية، الذي يعد نتيجة للتطور التدريجي أو للتغيير الجذري والثورة. ويعكس هذا، بدوره، الأهمية المستمرة للتقاليد الثقافية المختلفة، لا سيما تلك المتعلقة بالعهد والجمهورية؛ إذ إنها تمنح المجتمعات القومية ثراء وتنوعا يتعارضان غالبا مع محاولات القوميين خلق ثقافات موحدة ومواطنين متماثلين. إلا أن هذا التنوع لا يقلل من الطبيعة المميزة للثقافة الشعبية الأساسية لأمة ما، أو تفرد مخزونها الخرافي والرمزي؛ لأن التقاليد الثقافية الثلاثة الرئيسية تحول أساسها السياسي العرقي إلى تباديل وتسلسلات مختلفة.
الدرس الثالث هو: طول عمر الأمم وصمود التصورات القومية. حتى إذا لم نتمكن إلا من العثور على أمثلة قليلة للأمم في العالم القديم، فإن فكرة الأمة المعبر عنها على نحو بالغ الوضوح في الكتاب المقدس العبري ظلت جزءا من المفردات السياسية للنخب الأوروبية على مدار ما يزيد على ألف سنة، وكانت موجودة قبل ذلك بكثير في الشرق الأدنى. ربما كان الواقع ثقافيا عرقيا (أو إمبراطوريا أو حضريا) لكن الطموح كان قوميا في الغالب. ويبدو أن ما كان ناقصا، حتى بين المجتمعات العرقية، كان بعض هذه العمليات والموارد التي تشجع تشكيل الأمم - أو كلها - وهي: أقلمة الذكريات والارتباطات، وتكوين ثقافة شعبية مميزة ونشرها، ومراعاة قوانين موحدة المعايير وتقاليد مشتركة، وكذلك تقاليد العصر الذهبي أو الرسالة والتضحية. إلا أن هذا لم يقلل من جاذبية نموذج الأمة؛ لأنه كان ممثلا ومنقولا في الكتاب المقدس العبري من خلال التقاليد المسيحية، عبر قرون كثيرة من الاضطراب والتغير. وهذا يعني أن الفكرة والنموذج القوميين يسبقان الثورة الفرنسية بزمن طويل، ويمتلكان استمرارية لا بد أن تحذرنا من حكم مبتسر للغاية بزوالهما المبكر.
أخيرا، وربما على نحو بالغ الأهمية، فإن حقيقة أن القومية، بصفتها أيديولوجية وحركة، نشأت في أعقاب الإصلاح البروتستانتي، بوصفها جزءا من ثورة شعبية أكبر ومحفزا لها ضد سلطة الكاهن والملك المتأصلة؛ يجب أن تنبهنا إلى دورها المحوري والمستمر في العالم الحديث. وعلى الرغم من أن تعبيرات القومية والهوية القومية زادت ونقصت بفعل الحربين العالميتين وغيرهما من الأحداث الكبرى، فإن جوهر الأيديولوجية القومية ظل سليما منذ دخولها لأول مرة في سياسة أوروبا الغربية في القرن السابع عشر. ومنذ ذلك الحين، عززت تصورات ومشاعر قومية قديمة، وقدمت نموذجا للمجتمعات العرقية لكي تتحول إلى أمم سياسية. وبانفصال القومية عن مواطنها التاريخية المبكرة، أصبحت متاحة لأغراض التحفيز الشعبي وإضفاء الشرعية في كل قارة، ومن المحتمل أن تستمر في فعل ذلك ما دامت الحاجة مستمرة إلى الهوية الثقافية ممزوجة بالسعي إلى السيادة الشعبية.
الملاحظات
مقدمة: الجدل النظري
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
المراجع
Aberbach, David (2005): “Nationalism and the Hebrew Bible,”
Nations and Nationalism
11, 2, 223-42.
Aberbach, Moses (1966):
The Roman-Jewish War (66-70 AD),
London: The Jewish Quarterly/Golub Press.
Ackroyd, Peter (1979): “The History of Israel in the Exilic and
320-50).
Agnew, Hugh (1993): “The Emergence of Czech National Consciousness: A Conceptual Approach,”
Ethnic Groups
10, 1-3, 175-86.
Agulhön, Maurice and Bonte, Pierre (1992):
Marianne: Les Visages de la République,
Gallimard.
Ahlstrom, Gosta (1986):
Who Were the Israelites?,
Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Akenson, Donald (1992):
God’s Peoples: Covenant and Land in South Africa, Israel and Ulster,
Ithaca, NY: Cornell University Press.
Alty, J. H. (1982): “Dorians and Ionians,”
Journal of Hellenic Studies
102, 1-14.
Anderson, Benedict (1991):
Imagined Communities: Reflections on the Origins and Spread of Nationalism,
London: Verso.
Anderson, Benedict (1999): “The Goodness of Nations,” in van der Veer and Lehmann (1999, 197-203).
Anderson, G. W. (ed.) (1979):
Tradition and Interpretation,
Oxford: Clarendon
Andrewes, Antony (1971):
Greek Society,
Harmondsworth: Pelican.
Antal, Frederick (1956):
Fuseli Studies,
London: Routledge and Kegan
Ap-Thomas, D. R. (1973): “The Phoenicians,” in Wiseman (1973, 259-86).
Argyle, W. J. (1976): “Size and Scale as Factors in the Development of Nationalism,” in A. D. Smith (1976, 31-53).
Armstrong, John (1982):
Nations before Nationalism,
Chapel Hill: University of North Carolina
Armstrong, John (1995): “Towards a Theory of Nationalism: Consensus and Dissensus,” in Periwal (1995, 34-43).
Aston, Nigel (2000):
Religion and Revolution in France, 1780-1804,
Basingstoke: Macmillan.
Atiyah, A. S. (1968):
A History of Eastern Christianity,
London: Methuen.
Bacon, H. (1961):
Barbarians in Greek Tragedy,
New Haven: Yale University
Barth, Fredrik (ed.) (1969):
Ethnic Groups and Boundaries,
Boston: Little, Brown.
Bartlett, J. R. (1973): “The Moabites and Edomites,” in Wiseman (1973, 229-58).
Beaulieu, Paul-Alain (2002): “The God Amurru as Emblem of Ethnic and Cultural Identity,”
48th Rencontre Assyriologique Internationale on Ethnicity in Ancient Mesopotamia,
Leiden, 1-16.
Beaune, Colette (1985):
Naissance de la Nation France,
Gallimard.
Beaune, Colette (1991):
The Birth of an Ideology: Myths and Symbols of the Nation in Late Medieval France,
trans. Susan Ross Huston from
Naissance de la Nation France (1985), ed. Fredric L. Cheyette, Berkeley and Los Angeles: University of California
Bell, David (2001):
The Cult of the Nation in France, 1680-1800,
Cambridge, MA: Harvard University Press.
Benbassa, Esther (1999):
The Jews of France: A History from Antiquity to the Present,
trans. M. B. DeBevoise, Princeton, NJ: Princeton University Press.
Berlin, Isaiah (1976):
Vico and Herder,
London: Hogarth Press.
Berlin, Isaiah (1999):
The Roots of Romanticism,
ed. Henry Hardy, London: Chatto and Windus.
Beyer, W. C. (1959): “The Civil Service in the Ancient World,”
19, 243-9.
Bhabha, Homi (ed.) (1990):
Nation and Narration,
London and New York: Routledge.
Bhatt, Chetan (2001):
Hindu Nationalism: Origins, Ideologies and Modern Myths,
Oxford and New York: Berg.
Billig, Michael (1995):
Banal Nationalism,
London: Sage.
Blackbourn, David (2003):
History of Germany, 1780-1918: The Long Nineteenth Century,
2nd edition, Oxford: Blackwell.
Blacker, Carmen (1984): “Two Shinto Myths: The Golden Age and the Chosen People,” in Sue Henny and Jean-Pierre Lehmann (eds.),
Themes and Theories in Modern Japanese History,
London: Athlone Press.
Bolgar, R. R. (1954):
The Classical Heritage and its Beneficiaries,
Cambridge: Cambridge University Press.
Bracher, Karl D. (1973):
The German Dictatorship: The Origins, Structure and Effects of National Socialism,
Harmondsworth: Penguin.
Brandon, S. G. F. (1967):
Jesus and the Zealots,
Manchester: Manchester University
Brass, Paul (ed.) (1985):
Ethnic Groups and the State,
London: Croom Helm.
Brass, Paul (1991):
Ethnicity and Nationalism,
London: Sage.
Breton, Raymond (1988): “From Ethnic to Civic Nationalism: English Canada and Quebec,”
Ethnic and Racial Studies
11, 1, 85-102.
Breuilly, John (1993):
Nationalism and the State,
2nd edition, Manchester: Manchester University
Breuilly, John (1996): “Approaches to Nationalism,” in Gopal Balakrishnan (ed.),
Mapping the Nation,
London and New York: Verso, 146-74.
Breuilly, John (2005a): “Dating the Nation: How Old is an Old Nation?,” in Ichijo and Uzelac (2005, 15-39).
Breuilly, John (2005b): “Changes in the Political Uses of the Nation: Continuity or Discontinuity?,” in Scales and Zimmer (2005, 67-101).
Briggs, Robin (1998):
Early Modern France, 1560-1715,
Oxford: Oxford University
Brinkman, J. A. (1979): “Babylonia under the Assyrian Empire, 745-627 BC,” in Larsen (1979a, 223-50).
Brookner, Anita (1980):
Jacques-Louis David,
London: Chatto and Windus.
Brubaker, Rogers (1996):
Nationalism Reframed: Nationhood and the National Question in the New Europe,
Cambridge: Cambridge University
Brucker, Gene (1969):
Renaissance Florence,
New York: John Wiley.
Burleigh, Michael (2001):
The Third Reich: A New History,
Basingstoke and Oxford: Pan Macmillan.
Calamy, Edmund (1997) [1643]:
Cromwell’s Soldier’s Bible (Reprint in Facsimile), Whitstable, Walsall, and Winchester: Pryor
Cambridge Ancient History (1973): Vol. 2, Part 1,
The Middle East and the Aegean Region, 1800-1380 BC,
Cambridge: Cambridge University
Cambridge Ancient History (1975): Vol. 2, Part 2,
The Middle East and the Aegean Region, 1380-1000 BC,
Cambridge: Cambridge University
Cambridge History of Iran (1983): Vol. 3, Parts 1 and 2,
The Seleucid,
ed. E. Yarshater, Cambridge: Cambridge University Press.
Cambridge History of Judaism (1989) Vol. 2,
The Hellenistic Age,
eds. W. D. Davies and Louis Finkelstein, Cambridge: Cambridge University
Campbell, John and Sherrard, Philip (1968):
Modern Greece,
London: Ernest Benn.
Canefe, Nergis (2005): “Turkish Nationalism and Ethno-Symbolic Analysis: The Rules of Exception,”
Nations and Nationalism
8, 2, 135-55.
Carr, Edward H. (1945):
Nationalism and After,
London: Macmillan.
Cartledge, Paul (1987): “The Greek Religious Festivals,” in Easterling and Muir (1987, 98-127).
Cauthen, Bruce (1997): “The Myth of Divine Election and Afrikaner Ethno-Genesis,” in Hosking and Schöpflin (1997, 107-31).
Cauthen, Bruce (2004): “Covenant and Continuity: Ethno-Symbolism and the Myth of Divine Election,” in Guibernau and Hutchinson (2004, 19-33).
Cazelles, H. (1979): “The History of Israel in the Pre-Exilic
Charlton, D. G. (1984):
New Images of the Natural in France,
Cambridge: Cambridge University
Chatterjee, Partha (1986):
Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse,
London: Zed Books.
Cherniavsky, Michael (1975): “Russia,” in Ranum (1975, 118-43).
Cinar, Alev (2005):
Modernity, Islam and Secularism in Turkey,
Minneapolis: University of Minnesota Press.
Citron, Suzanne (1989):
Le Mythe National,
Clanchy, M. T. (1998):
England and Its Rulers, 1066-1272,
2nd edition, Oxford: Blackwell.
Clark, J. C. D. (2000): “Protestantism, Nationalism and National Identity, 1660-1832,”
Historical Journal
43, 1, 249-76.
Cobban, Alfred (1963):
A History of Modern France,
Vol. 1:
1715-99,
3rd edition, Harmondsworth:
Cohen, Edward (2000):
The Athenian Nation,
Cohen, Shaye (1998):
The Beginnings of Jewishness: Boundaries, Varieties, Uncertainties,
Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Colley, Linda (1992):
Britons: Forging the Nation, 1707-1837,
New Haven: Yale University
Connor, Walker (1990): “When is a Nation?,”
Ethnic and Racial Studies
13, 1, 92-103.
Connor, Walker (1994):
Ethno-Nationalism: The Quest for Understanding,
Connor, Walker (2004): “The Timelessness of Nations,” in Guibernau and Hutchinson (2004, 35-47).
Conversi, Daniele (1997):
The Basques, the Catalans and Spain: Alternative Routes to Nationalist Mobilization,
London: C. Hurst.
Conversi, Daniele (ed.) (2002):
Ethno-Nationalism in the Contemporary World: Walker Connor and the Study of Nationalism,
London: Routledge.
Cook, J. M. (1983):
The Persian Empire,
London: Book Club Associates.
Cowan, Edward (2003): “For Freedom Alone”: The Declaration of Arbroath, 1320,
East Lothian: Tuckwell Press.
Crummey, Robert (1987):
The Formation of Muscovy, 1304-1613,
London and New York: Longman.
Dakin, Douglas (1972):
The Unification of Greece, 1770-1923,
London: Ernest Benn.
David, A. Rosalie (1982):
The Ancient Egyptians: Religious Beliefs and Practices,
London, Boston, and Henley: Routledge and Kegan Paul.
Davies, Norman (1979):
God’s
2 vols., Oxford: Clarendon
Davies, Philip (1992):
In Search of “Ancient Israel,”
Sheffield: Sheffield Academic
Davies, Rees R. (2000):
The First English Empire: Power and Identities in the British Isles, 1093-1343,
Oxford: Oxford University
Davies, W. D. (1982):
The Territorial Dimension of Judaism,
Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Day, John (ed.) (2004):
In Search of
London: T. and T. Clark International.
Detroit (1974):
French Painting, 1774-1830: The Age of Revolution,
Detroit, MI: Wayne State University Press.
Deutsch, Karl (1966):
Nationalism and Social Communication,
2nd edition, New York: MIT
Dever, William (2003):
Who Were the Early Israelites and Where Did They Come From?,
Grand Rapids, MI, and Cambridge: W. B. Eerdmans.
Dever, William (2004): “Histories and Non-Histories of Ancient Israel: The Question of the United Monarchy,” in Day (2004, 65-94).
Dieckhoff, Alain and Jaffrelot, Christophe (eds.) (2005):
Revisiting Nationalism: Theories and
London: C. Hurst.
Doak, Ken (1997): “What is a Nation and Who Belongs? National Narratives and the Ethnic Imagination in Twentieth-Century Japan,”
American Historical Review
102, 4, 282-309.
Doumanis, Nicholas (2001):
Italy: Inventing the Nation,
London: Arnold.
Duncan, A. A. M. (1970):
The Nation of Scots and the Declaration of Arbroath,
London: Historical Association.
Dunlop, John B. (1985):
The New Russian Nationalism,
New York: Praeger.
Easterling, P. E. and Muir, J. V. (eds.) (1987):
Greek Religion and Society,
Cambridge: Cambridge University Press.
Edwards, John (1985):
Language, Society and Identity,
Oxford: Blackwell.
Eissfeldt, O. (1975): “The Hebrew Kingdom,” in
Cambridge Ancient History (1975, 537-605).
Elgenius, Gabriella (2005): “Expressions of Nationhood: National Symbols and Ceremonies of Contemporary Europe,” unpublished PhD thesis, University of London.
Eller, Jack and Coughlan, Reed (1993): “The Poverty of
Ethnic and Racial Studies
16, 2, 183-202.
Ely, Christopher (2002):
This Meager Nature: Landscape and National Identity in Imperial Russia,
DeKalb, IL: Northern Illinois University Press.
Emerton, J. A. (2004): “The Date of the Yahwist,” in Day (2004, 107-29).
Engelhardt, Juliane (2007): “Patriotism, Nationalism and Modernity,”
Nations and Nationalism
13, 2, 205-23.
Eriksen, Thomas H. (1993):
Ethnicity and Nationalism,
London: Pluto Press.
Finkelberg, Margalit (2005):
Greeks and
Cambridge: Cambridge University Press.
Finkelstein, Israel and Silberman, Neil (2001):
The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of its Sacred Texts,
New York: Free
Finkelstein, Louis (1989): “The Men of the Great Synagogue (circa 400-170 BCE)” and “The Pharisaic Leadership after the Great Synagogue,” in
Cambridge History of Judaism (1989, 229-44, 245-77).
Finley, Moses (1986):
The Use and Abuse of History,
London: Hogarth Press.
Fishman, Joshua (1980): “Social Theory and Ethnography: Neglected Perspectives on Language and Ethnicity in Eastern Europe,” in Sugar (1980, 69-99).
Flacke, Monica (ed.) (1998):
Mythen der Nationen: Ein Europaisches Panorama,
Berlin: German Historical Museum.
Fletcher, Anthony (1982): “The First Century of English
309-17).
Fondation Hardt (1962):
Grecs et Barbares, Entretiens sur l’Antiquité Classique
VIII, Geneva.
Foot, Sarah (2005): “The Historiography of the Anglo-Saxon Nation-State,” in Scales and Zimmer (2005, 125-42).
Forde, Simon, Johnson, Lesley, and Murray, Alan (eds.) (1995):
Concepts of National Identity in the Middle Ages,
Leeds: School of English, Leeds Texts and Monographs, new series 14.
Frame, Robin (2005): “Exporting State and Nation: Being English in Medieval Ireland,” in Scales and Zimmer (2005, 143-65).
Frankfort, Henri (1948):
Kingship and the Gods,
Chicago: Chicago University
Franklin, Simon (2002): “The Invention of Rus(sia)(s): Some Remarks on Medieval and Modern Perceptions of Continuity and Discontinuity,” in Smyth (2002a, 180-95).
Fraschetti, Augusto (2005):
The Foundation of Rome,
trans. Marian Hill and Kevin Windle, Edinburgh: Edinburgh University Press.
Frazee, C. A. (1969):
The Orthodox Church and Independent Greece, 1821-52,
Cambridge: Cambridge University Press.
Freeden, Michael (1998): “Is Nationalism a Distinct Ideology?,”
46: 748-65.
Frendo, Anthony (2004): “Back to Basics: A Holistic Approach to the Problem of the Emergence of Ancient Israel,” in Day (2004, 41-64).
Friedman, Richard E. (1997):
Who Wrote the Bible?,
2nd edition, San Francisco: HarperCollins.
Frye, Richard (1966):
The Heritage of
New York: Mentor.
Frye, Richard (1978):
The Golden Age of
London: Weidenfeld and Nicolson.
Fulbrook, Mary (1997): “Myth-Making and National Identity: The Case of the GDR,” in Hosking and Schöpflin (1997, 72-87).
Gallant, Thomas (2001):
Modern Greece,
London: Hodder Arnold.
Galloway, Andrew (2004): “Latin England,” in Lavezzo (2004, 41-95).
Gans, Herbert (1979): “Symbolic Ethnicity,”
Ethnic and Racial Studies
2, 1, 1-20.
Garsoian, Nina (1999):
Church and Culture in Early Medieval Armenia,
Aldershot: Ashgate Variorum.
Geary, Patrick (2001):
The Myth of Nations: The Medieval Origins of Nations,
Geertz, Clifford (1973): “The Integrative Revolution,” in Geertz,
The Interpretation of Cultures,
New York: Fontana.
Geiss, Immanuel (1974):
The PanAfrican Movement,
London: Methuen.
Gellner, Ernest (1964):
Thought and Change,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Gellner, Ernest (1973): “Scale and Nation,”
3, 1-17.
Gellner, Ernest (1983):
Nations and Nationalism,
Oxford: Blackwell.
Geopolitics (2002): Special Issue on “When is the Nation?,” 7, 2.
Gershoni, Israel and Jankowski, Mark (1987):
Egypt, Islam and the Arabs: The Search for Egyptian Nationhood, 1900-1930,
Oxford: Oxford University Press.
Giddens, Anthony (1984):
The Nation-State and Violence,
Cambridge: Cambridge University
Gildea, Robert (1994):
The Past in French History,
New Haven and London: Yale University
Gillingham, John (1992): “The Beginnings of English Imperialism,”
Journal of Historical Sociology
5, 392-409.
Gillingham, John (1995): “Henry Huntingdon and the Twelfth Century Revival of the English Nation,” in Forde et al. (1995, 75-101).
Gillis, John R. (ed.) (1994):
Commemorations: The Politics of Identity,
Goldstein, Jonathan (1989): “The Hasmonean Revolt and the Hasmonean Dynasty,” in
Cambridge History of Judaism (1989, 292-351).
Goodblatt, David (2006):
Elements of Ancient Jewish Nationalism,
Cambridge: Cambridge University
Gorski, Philip (2000): “The Mosaic Moment: An Early Modernist Critique of Modernist Theories of Nationalism,”
American Journal of Sociology
105, 5, 1428-68.
Grant, Susan-Mary (2005): “Raising the Dead: War, Memory and American National Identity,”
Nations and Nationalism
11, 4, 509-29.
Green, V. H. H. (1964):
Renaissance and Reformation: A Survey of European History between 1450 and 1660,
London: Edward Arnold.
Greenfeld, Liah (1992):
Nationalism: Five Roads to Modernity,
Cambridge, MA: Harvard University
Grimal, Pierre (1968):
Hellenism and the Rise of Rome,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Grosby, Steven (1991): “Religion and Nationality in Antiquity,”
European Journal of Sociology
33, 229-65.
Grosby, Steven (1994): “The Verdict of History: The Inexpungeable Tie of Primordiality - A Reply to Eller and Coughlan,”
Ethnic and Racial Studies
17, 1, 164-71.
Grosby, Steven (1995): “Territoriality: The Transcendental,
Nations and Nationalism
1, 2, 143-62.
Grosby, Steven (2002):
Biblical Ideas of Nationality, Ancient and Modern,
Winona Lake, IN: Eisenbrauns.
Grosby, Steven (2006):
A Very Short Introduction to Nationalism,
Oxford: Oxford University
Gruen, Erich (1994):
Culture and National Identity in Republican Rome,
London: Duckworth.
Guibernau, Montserrat (1999):
Nations without States,
Cambridge: Polity.
Guibernau, Montserrat (2004): “Anthony D. Smith on Nations and National Identity: A Critical Assessment,” in Guibernau and Hutchinson (2004, 125-41).
Guibernau, Montserrat and Hutchinson, John (eds.) (2004):
History and National Destiny: Ethno-symbolism and its Critics,
Oxford: Blackwell.
Hall, Edith (1992):
Inventing the Barbarian: Greek Self-Definition through Tragedy,
Oxford: Clarendon Press.
Hall, Jonathan (1997):
Ethnic Identity in Greek Antiquity,
Cambridge: Cambridge University
Haller, William (1963):
Foxe’s Book of Martyrs and the Elect Nation,
London: Jonathan Cape.
Handelman, Don (1977): “The Organization of Ethnicity,”
Ethnic Groups
1, 187-200.
Hankey, Teresa (2002): “Civic Pride versus Feelings for Italy in the Age of Dante,” in Smyth (2002a, 196-216).
Harootunian, Harry (1999): “Memory, Mourning and National Morality: Yasukuni Shrine and the Reunion of State and Religion in Post-War Japan,” in van der Veer and Lehmann (1999, 144-60).
Hastings, Adrian (1997):
The Construction of Nationhood: Ethnicity, Religion and Nationalism,
Cambridge: Cambridge University
Hastings, Adrian (1999): “Special Peoples,”
Nations and Nationalism
5, 3, 381-96.
Hastings, Adrian (2003): “Holy Lands and their Political Consequences,”
Nations and Nationalism
9, 1, 29-54.
Hatzopoulos, Marios (2005): “ 'Ancient Prophecies, Modern
thesis, University of London.
Hayes, William (1973): “Egypt: Internal Affairs from Tuthmosis I to the Death of Amenophis III,” in
Cambridge Ancient History (1973, 313-416).
Hearn, Jonathan (2006):
Rethinking Nationalism: A Critical Introduction,
Basingstoke: Palgrave Macmillan.
Henze, Paul B. (2000):
Layers of Time: A History of Ethiopia,
London: C. Hurst.
Herbert, Robert (1972):
David, Voltaire, Brutus and the French Revolution,
London: Allen Lane.
Herzfeld, Michael (1982):
Ours Once More: Folklore, Ideology and the Making of Modern Greece,
Austin: University of Texas Press.
Highet, Gilbert (1959):
Landscape,
Harmondsworth: Pelican.
Hill, Christopher (1994):
The English Bible and the Seventeenth-Century Revolution,
Harmondsworth:
Hobsbawm, Eric (1983): “Mass-Producing Traditions: Europe, 1870-1914,” in Hobsbawm and Ranger (1983, 263-307).
Hobsbawm, Eric (1990):
Nations and Nationalism since 1780,
Cambridge: Cambridge University
Hobsbawm, Eric and Ranger, Terence (eds.) (1983):
The Invention of Tradition,
Cambridge: Cambridge University Press.
Hodgkin, Thomas (1964): “The Relevance of 'Western’ Ideas in the Derivation of African Nationalism,” in J. R. Pennock (ed.),
Self-Government in Modernising Societies,
Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
Hofer, Tamas (1980): “The Ethnic Model of Peasant Culture: A Contribution to the Ethnic Symbol Building on Linguistic Foundations by East European Peoples,” in Sugar (1980, 101-45).
Hooson, David (ed.) (1994):
Geography and National Identity,
Oxford: Blackwell.
Horowitz, Donald (1985):
Ethnic Groups in Conflict,
Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Horowitz, Donald (2002): “The Primordialists,” in Conversi (2002, 72-82).
Hosking, Geoffrey (1985):
A History of the Soviet Union,
London: Fontana
Hosking, Geoffrey (1993):
Empire and Nation in Russian History,
Baylor University, Waco, TX: Markham University Press.
Hosking, Geoffrey (1997):
Russia:
London: HarperCollins.
Hosking, Geoffrey and Schöpflin, George (1997):
Myths and Nationhood,
London: Routledge.
Housley, Norman (2000): “Holy Land or Holy Lands? Palestine and the Catholic West in the Late Middle Ages and Renaissance,” in Swanson (2000, 234-49).
Howard, Michael (1976):
War in European History,
London: Oxford University
Howe, Nicholas (1989):
Migration and Myth-Making in Anglo-Saxon England,
New Haven: Yale University Press.
Hroch, Miroslav (1985):
Social
Cambridge: Cambridge University Press.
Hubbs, Joanna (1993):
Mother Russia: The Feminine Myth in Russian Culture,
Bloomington, IN: Indiana University Press.
Huntington, Samuel (2004):
Who Are We? The Cultural Core of American National Identity,
New York: Simon and Schuster.
Hupchik, Dennis (2002):
The Balkans: From Constantinople to Communism,
Basingstoke: Palgrave Macmillan.
Hutchinson, John (1987):
The Dynamics of Nationalism: The Gaelic Revival and the Creation of the Modern Irish Nation State,
London: George Allen and Unwin.
Hutchinson, John (1994):
Modern Nationalism,
London: Fontana.
Hutchinson, John (2000): “Ethnicity and Modern Nations,”
Ethnic and Racial Studies,
23, 4, 651-69.
Hutchinson, John (2005):
Nations as Zones of Conflict,
London: Sage.
Hutchinson, William and Lehmann, Hartmut (eds.) (1994):
Many Are Chosen: Divine Election and Western Nationalism,
Minneapolis: Fortress
Ichijo, Atsuko (2002): “The Scope of Theories of Nationalism: Comments on the Scottish and Japanese Experiences,”
Geopolitics,
7, 2, 53-74.
Ichijo, Atsuko (2004):
Scottish Nationalism and the Idea of Europe: Concepts of Europe and the Nation,
London and New York: Routledge.
Ichijo, Atsuko and Uzelac, Gordana (eds.) (2005):
When is the Nation? Towards an Understanding of Theories of Nationalism,
London and New York: Routledge.
Ignatieff, Michael (1993):
Blood and Belonging: Journeys into the New Nationalisms,
London: Chatto and Windus.
Ihalainen, Pasi (2005):
Nations Redefined: Changing Perceptions of National Identity in the Rhetoric of the English, Dutch and Swedish Public Churches, 1685-1772,
Leiden and Boston: Brill.
Im Hof, Ulrich (1991):
Mythos Schweiz: Identitat-Nation-Geschichte, 1291-1991,
Zürich: Neue Verlag Zürcher Zeitung.
Jacobsen, Thorkild (1976):
The Treasures of Darkness: A History of Mesopotamian Religion,
New Haven and London: Yale University Press.
Jaffrelot, Christophe (1996):
The Hindu Nationalist Movement and Indian Politics, 1925 to the 1990s,
London: C. Hurst.
James, Edward (1988):
The Origins of France: From Clovis to the Capetians, 500-1000,
Basingstoke: Macmillan Education.
James, Harold (2000):
A German Identity: 1770 to the Present Day,
London: Phoenix
Jesperson, Knud (2004):
A History of Denmark,
trans. Ivan Hill, Basingstoke: Palgrave Macmillan.
Jones, A. H. M. (1978):
Athenian Democracy,
Oxford: Blackwell.
Jones, Howard M. (1974):
Revolution and Romanticism,
Cambridge, MA, and London: Harvard University
Jones, Sian (1997):
The Archaeology of Ethnicity: Constructing Identities in the Past and the
London and New York: Routledge.
July, Robert (1967):
The Origins of Modern African Thought,
London: Faber and Faber.
Just, Roger (1989): “The Triumph of the
Ethnos, ” in Tonkin et al. (1989, 71-88).
Kaufmann, Eric (2002): “Modern Formation, Ethnic Reformation: The Social Sources of the American Nation,”
Geopolitics,
7, 2, 99-120.
Kaufmann, Eric (ed.) (2004a):
Rethinking Ethnicity: Majority Groups and Dominant Minorities,
London and New York: Routledge.
Kaufmann, Eric (2004b): “The Decline of the WASP in the United States and Canada,” in Kaufmann (2004a, 63-83).
Kaufmann, Eric and Zimmer, Oliver (1998): “In Search of the Authentic Nation: Landscape and National Identity in Canada and Switzerland,”
Nations and Nationalism
4, 4, 483-510.
Keddie, Nikki (1981):
Roots of Revolution: An Interpretive History of Modern Iran,
New Haven: Yale University Press.
Kedourie, Elie (1960):
Nationalism,
London: Hutchinson.
Kedourie, Elie (ed.) (1971):
Nationalism in Asia and Africa,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Keen, Maurice (1973):
The Pelican History of Medieval Europe,
Harmondsworth:
Keeney, Barnaby (1972) [1947]: “Military Service and the Development of Nationalism, 1272-1327,”
Speculum
22, 534-49, partly reprinted in Tipton (1972, 87-97).
Kemilainen, Aira (1964):
Nationalism:
Yvaskyla: Kustantajat Publishers.
Kemp, Barry (1983): “The Old Kingdom, the Middle Kingdom and Second Intermediate Period, 2686-1552 BC,” in Trigger et al. (1983, 71-182).
Kennedy, Emmet (1989):
A Cultural History of the French Revolution,
New Haven and London: Yale University
Kershaw, Ian (1989):
The Hitler Myth: Image and Reality in the Third Reich,
Oxford: Oxford University Press.
Kidd, Colin (1993):
Subverting Scotland’s Past: Scottish Whig Historians and the Creation of an Anglo-British Identity, 1689-c. 1830,
Cambridge: Cambridge University Press.
Kitromilides, Paschalis (1979): “The Dialectic of Intolerance: Ideological Dimensions of Ethnic Conflict,”
Journal of the Hellenic Diaspora
6, 4, 5-30.
Kitromilides, Paschalis (1989): “ 'Imagined Communities’ and the Origins of the National Question in the Balkans,”
European History Quarterly
19, 2, 149-92.
Kitromilides, Paschalis (1998): “On the Intellectual Content of Greek Nationalism: Paparrigopoulos, Byzantium and the Great Idea,” in Ricks and Magdalino (1998, 25-33).
Kitromilides, Paschalis (2006): “From Republican Patriotism to National Sentiment: A Reading of
Hellenic Nomarchy, ”
European Journal of
5, 1, 50-60.
Knapp, Peggy A. (2004): “Chaucer Imagines England (in English),” in Lavezzo (2004, 131-60).
Knoll, Paul (1993): “National Consciousness in Medieval
Ethnic Groups
10, 1-3, 65-84.
Kohn, Hans (1940): “The Origins of English Nationalism,”
Journal of the History of Ideas
1, 69-94.
Kohn, Hans (1944):
The Idea of Nationalism,
New York: Macmillan.
Kohn, Hans (1967):
Experience, 1789-1815,
New York: Van Nostrand.
Koliopoulos, John and Veremis, Thanos (2004):
Greece: The Modern Sequel, 1821 to the Present,
London: Hurst.
Kreis, Jacob (1991):
Der Mythos von 1291: Zur Enstehung des Schweizerisches Nationalfeiertags,
Basel: Friedrich Reinhardt Verlag.
Kreis, Jacob (1998): “Schweiz,” in Flacke (1998, 446-60).
Kristof, Ladis (1994): “The Image and the Vision of the Fatherland: The Case of Poland in Comparative Perspective,” in Hooson (1994, 221-32).
Kuhlemann, Ute (2002): “The Celebration of Dürer in Germany during the Nineteenth and Twentieth Centuries,” in Giulia Bartrum (ed.),
Albrecht Dürer and His Legacy: The Graphic Work of a Renaissance Artist,
London: British Museum
Kumar, Krishan (2003):
The Making of English National Identity,
Cambridge: Cambridge University
Kumar, Krishan (2006): “English and French National Identity: Comparisons and Contrasts,”
Nations and Nationalism
12, 3, 413-32.
Larsen, Mogens Trolle (ed.) (1979a):
Copenhagen: Akademisk Forlag.
Larsen, Mogens Trolle (1979b): “The Traditions of Empire in Mesopotamia,” in Larsen (1979a, 75-103).
Lartichaux, J.-Y. (1977): “Linguistic Politics in the French Revolution,”
Diogenes
97, 65-84.
Lavezzo, Kathy (ed.) (2004):
Imagining a Medieval English Nation,
Minneapolis and London: University of Minnesota Press.
Le Goff, Jacques (1998): “Reims, City of Coronation,” in Nora (1997-8), Vol. 3, 193-251.
Lehmann, Jean-Pierre (1982):
The Roots of Modern Japan,
London: Macmillan.
Leith, James (1965):
The Idea of Art as
Ideas,
Toronto: Toronto University
Levine, Donald (1974):
Greater Ethiopia: The Evolution of a Multiethnic Society,
Chicago: Chicago University Press.
Levine, Lee I. (1998):
Judaism and Hellenism in Antiquity: Conflict or Confluence?,
Seattle and London: University of Washington Press.
Lewis, Bernard (1968):
The Emergence of Modern Turkey,
Oxford: Oxford University
Linehan, Peter (1982): “Religion, Nationalism and National Identity in Medieval Spain,” in Mews (1982, 161-99).
Liverani, Mario (1973): “The Amorites,” in Wiseman (1973, 100-33).
Liverani, Mario (1979): “The Ideology of the Assyrian Empire,” in Larsen (1979a, 297-317).
Llobera, Josep (1994):
The God of Modernity: The Development of Nationalism in Western Europe,
Oxford and Providence: Berg.
Loades, David (1982): “The Origins of English Protestant Nationalism,” in Mews (1982, 297-307).
Loades, David (1992):
Nation, 1450-1660,
4th edition, London: Fontana
Loomis, Louise (1939): “Nationality at the Council of Constance: An Anglo-French Dispute,”
American Historical Review
44, 3, 508-27.
Luz, Efraim (1988):
Religion and Nationalism in the Early Zionist Movement,
trans. Lenn J. Schramm, Philadelphia: Jewish Publication Society of America.
Lydon, James (1995): “Nation and Race in Medieval Ireland,” in Forde et al. (1995, 103-24).
Lyons, F. S. L. (1979):
Culture and Anarchy in Ireland, 1890-1939,
Oxford and New York: Oxford University Press.
MacCulloch, Diarmaid (2004):
Reformation: Europe’s House Divided, 1490-1700,
London:
MacDougall, Hugh (1982):
Racial Myth in English History: Trojans, Teutons and Anglo-Saxons,
Montreal and Hanover, NH: Harvest House and University Press of New England.
Machinist, Peter (1997): “The Fall of Assyria in Comparative Ancient Perspective,”
Anniversary Symposium of the Assyrian Text Corpus Project,
eds. S. Parpola and R. M. Whiting, Helsinki: University of Helsinki, 179-95.
Mackie, John (1976):
A History of Scotland,
Harmondsworth: Penguin.
Malamat, A. (1973): “The Arameans,” in Wiseman (1973, 134-55).
Mallowan, Max (1978):
The Nimrud Ivories,
London: British Museum
Mango, Cyril (1980):
Byzantium: The Empire of New Rome,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Mann, Michael (1993):
The Sources of Social Power,
2 vols., Cambridge: Cambridge University Press, Vol. 2.
Mann, Michael (1995): “A Political Theory of Nationalism and its Excesses,” in Periwal (1995, 44-64).
Marcu, E. D. (1976):
Sixteenth-Century Nationalism,
New York: Abaris Books.
Martin, Ronald (1989):
Tacitus,
London: Batsford.
Martines, Lauro (2002):
Imagination: City-States in Renaissance Italy,
London:
Marx, Anthony (2003):
Faith in Nation: Exclusionary Origins of Nationalism,
Oxford and New York: Oxford University Press.
Marx, Steven (2000):
Shakespeare and the Bible,
Oxford: Oxford University
Mason, R. A. (1983): “Scotching the
Brut : The Early History of Britain,”
History Today
35 (January), 26-31.
Mendels, Doron (1992):
The Rise and Fall of Jewish Nationalism,
New York: Doubleday.
Mendes-Flohr, Paul (1994): “In Pursuit of Normalcy: Zionism’s Ambivalence towards Israel’s Election,” in Hutchinson and Lehmann (1994, 203-29).
Merridale, Catherine (2001):
Night of Stone: Death and Memory in Russia,
London: Granta.
Mews, Stuart (ed.) (1982):
Religion and National Identity,
Ecclesiastical History Society, Oxford: Blackwell.
Michalski, Sergiusz (1998):
Monuments: Art in Political Bondage, 1870-1997,
London: Reaktion Books.
Millard, A. R. (1973): “The Canaanites,” in Wiseman (1973, 29-52).
Miller, David (1993): “In Defence of Nationality,”
Journal of Applied Philosophy
10, 1, 3-16.
Miller, David (1995):
On Nationality,
Oxford: Oxford University
Milner-Gulland, Robin (1999):
The Russians,
Oxford: Blackwell.
Minogue, Kenneth (1976): “Nationalism and the Patriotism of City-States,” in A. D. Smith (1976, 54-73).
Moore, R. I. (1987):
The Formation of a
950-1250,
Oxford: Blackwell.
Moscati, Sabatino (1973):
The World of the Phoenicians,
London: Cardinal, Sphere Books.
Mosse, George (1964):
The Crisis of German Ideology,
New York: Grosset and Dunlap.
Mosse, George (1975):
The Nationalization of the Masses: Political Symbolism and Mass Movements from the Napoleonic Wars through the Third Reich,
Ithaca, NY: Cornell University Press.
Mosse, George (1990):
Fallen Soldiers,
Oxford: Oxford University
Mosse, George (1994):
Confronting the Nation: Jewish and Western Nationalism,
Hanover, NH: University Press of New England.
Mundy, John and Woody, Kennerly (eds.) (1961):
The Council of Constance: The Unification of the Church,
trans. L. Loomis, New York and London: Columbia University Press.
Nairn, Tom (1977):
The Break-up of Britain: Crisis and Neo-Nationalism,
London: Verso.
Nations and Nationalism (1999): Special Issue on “Chosen Peoples,” 5, 3.
Nations and Nationalism (2003): “Religion and Nationalism: Symposium in Honour of Professor Adrian Hastings,” with essays by Steven Grosby, Josep Llobera, Branka Magas, and Anthony D. Smith, 9, 1, 5-28.
Nations and Nationalism (2007): Debate on Krishan Kumar’s
The Making of English National Identity,
13, 2, 179-203.
Nersessian, Vrej (2001):
Treasures of the Ark: 1700 Years of Armenian Christian Art,
London: British Library.
Newman, Gerald (1987):
The Rise of English Nationalism: A Cultural History, 1740-1830,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Nicholson, Ernest (1988):
God and His
Oxford: Clarendon Press.
Nora, Pierre (ed.) (1997-8):
Realms of Memory: The Construction of the French Past,
3 vols., ed. Lawrence Kritzman, New York: Columbia University Press (orig.
Les Lieux de Mémoire,
vols., 1984-92).
Noth, Martin (1960):
The History of Israel,
London: Adam and Charles Black.
Novak, David (1995):
The Election of Israel: The Idea of the Chosen People,
Cambridge: Cambridge University Press.
Nylander, Carl (1979): “Achaemenid Imperial Art,” in Larsen (1979a, 345-59).
Oakes, Lorna and Gahlin, Lucia (2005):
The Mysteries of Ancient Egypt,
London: Hermes House, Anness
O’Brien, Conor Cruise (1988a):
God-Land: Reflections on Religion and Nationalism,
Cambridge, MA: Harvard University Press.
O’Brien, Conor Cruise (1988b): “Nationalism and the French Revolution,” in G. Best (ed.),
The Permanent Revolution: The French Revolution and Its Legacy, 1789-1989,
London: Fontana, 17-48.
Odisho, Edward (2001): “The Ethnic, Linguistic and Cultural Identity of Modern Assyrians,” in
Mythology and Mythologies (Melammu Symposium II), ed. R. M. Whiting, Helsinki: University of Helsinki, 137-48.
Ogilvie, R. M. (1976):
Early Rome and the Etruscans,
London: Fontana.
Oguma, Eiji (2002):
A Genealogy of “Japanese” Self-Images,
trans. David Askew, Melbourne: Trans
Okamura, J. (1981): “Situational Ethnicity,”
Ethnic and Racial Studies
4, 4, 452-65.
Oppenheim, A. Leo (1977):
Ancient Mesopotamia: Portrait of a Dead Civilization,
revised edition, Chicago and London: University of Chicago
Ossowski, Stanislav (1962):
Class Structure in the Social Consciousness,
London: Routledge and Kegan Paul.
Ostergård, Uffe (1996): “Peasants and Danes: The Danish National Identity and Peasant Culture,” in Geoff Eley and Ronald Suny (eds.),
Becoming National: A Reader,
Oxford and New York: Oxford University Press, 179-201.
Ozouf, Mona (1982):
L’Ecole, l’Eglise et la République, 1871-1914,
Offredo.
Ozouf, Mona (1998): “The Pantheon: The Ecole Normale of the Dead,” in Nora (1997-8, Vol. 3, 325-46).
of Armenian Identity,” in
Geopolitics , 121-46.
The Dutch Revolt,
revised edition, Harmondsworth:
Neo-Assyrian Empire and Assyrian Identity in Post-Empire Times,”
Journal of Assyrian Academic Studies
18, 2, 5-40.
Ivan the Terrible,
Harlow: Longman, Pearson Education.
Ethnic Groups
10, 1-3, 43-64.
Notions of Nationalism,
Budapest: Central European University
Nation and Word: Religious and Metaphysical Language in European National Consciousness,
Aldershot: Ashgate.
Christendom and European Identity: The Legacy of a Grand Narrative since 1789,
Berlin and New York: Walter de Gruyter.
Stalin’s Russia,” in Geoffrey Hosking and Robert Service (eds.),
Russian Nationalism, Past and Present,
Basingstoke: Macmillan.
Europe,” in Sugar (1980, 373-417).
Republicanism in Nineteenth-Century France, 1814-1871,
Basingstoke: Macmillan.
of the Quebec Independence Movement,”
Ethnic and Racial Studies
7, 1, 19-54.
Arabia,” in James Piscatori (ed.),
Islam in the
Cambridge: Cambridge University
Kamenka (ed.),
Nationalism: The Nature and Evolution of an Idea,
London: Edward Arnold, 22-36.
The Aryan Myth,
New York: Basic Books.
Vol. 1, 27-75).
Mesopotamian Conception of the World,” in
Mythology and Mythologies (Melammu Symposium II), ed. R. M. Whiting, Helsinki: University of Helsinki, 195-231.
Nation and Identity,
London and New York: Routledge.
France in the Later Middle Ages,
Oxford: Oxford University
Top Hat, Grey Wolf and Crescent: Turkish Nationalism and the Turkish Republic,
London: Hurst.
The Ancient Near East: A New Anthology of Texts and Pictures,
2 vols.,
(1997-8, Vol. 2, 307-30).
Republican Identities in War and Peace,
trans. Jay Winter with Helen McPhail, Oxford and New York: Berg.
Ranum, Orest (ed.) (1975):
National Consciousness, History and Political Culture in Early Modern Europe,
Baltimore, MD: Johns Hopkins University
Reade, Julian (1979): “Ideology and Propaganda in Assyrian Art,” in Larsen (1979a, 329-43).
Reade, Julian (1984):
Assyrian Sculpture,
London: British Museum
Redgate, Ann (2000):
The Armenians,
Oxford: Blackwell.
Renan, Ernest (1882):
Qu’est-ce qu’une nation?,
Reuter, Timothy (2002): “The Making of England and Germany, 850-1050: Points of Comparison and Difference,” in Smyth (2002a, 53-70).
Reynolds, Susan (1983): “Medieval
origines gentium
and the Community of the Realm,”
History
68, 375-90.
Reynolds, Susan (1984):
Kingdoms and Communities of Medieval Europe, 900-1300,
Oxford: Clarendon
Reynolds, Susan (2005): “The Idea of the Nation as a Political Community,” in Scales and Zimmer (2005, 54-66).
Richter, Michael (2002): “National Identity in Medieval Wales,” in Smyth (2002a, 71-84).
Rickard, Peter (1974):
A History of the French Language,
London: Hutchinson.
Ricks, David and Magdalino, Pauls (eds.) (1998):
Byzantium and Modern Greek Identity,
Centre for Hellenic Studies, Kings College, Aldershot: Ashgate
Robertson, Martin (1987): “Greek Art and Religion,” in Easterling and Muir (1987, 155-90).
Rose, Paul L. (1996):
Wagner: Race and Revolution,
London and Boston: Faber and Faber.
Rosenberg, Jakob (1968):
Rembrandt, Life and Work,
London and New York:
Rosenblum, Robert (1961): “Gavin Hamilton’s
Brutus
and its Aftermath,”
Burlington Magazine
103, 8-16.
Rosenblum, Robert (1967):
Transformations in Late Eighteenth Century Art,
Rosenblum, Robert (1985):
Jean-Dominique-Auguste Ingres,
London: Thames and Hudson.
Roshwald, Aviel (2006):
The Endurance of Nationalism: Ancient Roots and Modern Dilemmas,
Cambridge: Cambridge University Press.
Roudometof, Victor (1998): “From
Rum
Millet to Greek Nation: Enlightenment, Secularization and National Identity in Greek Society, 1453-1821,”
Journal of Modern Greek Studies
16, 1, 11-48.
Roudometof, Victor (2001):
Nationalism, Globalization and Orthodoxy: The Social Origins of Ethnic Conflict in the Balkans,
Westport, CT: Greenwood
Routledge, Bruce (2003): “The Antiquity of Nations? Critical Reflections from the Ancient Near East,”
Nations and Nationalism
9, 2, 213-33.
Roux, Georges (1964):
Ancient Iraq,
Harmondsworth: Penguin.
Rublack, Ulinka (2005):
Reformation Europe,
Cambridge: Cambridge University
Sacks, Jonathan (2002):
The Dignity of Difference: How to Avoid the Clash of Civilizations,
London: Continuum.
Sarkisyanz, Emanuel (1964):
Buddhist Backgrounds of the Burmese Revolution,
The Hague: Nijhoff.
Scales, Len (2000): “Identifying 'France’ and 'Germany’: Medieval Nation-Making in Some Recent Publications,”
Bulletin of International Medieval Research
6, 23-46.
Scales, Len (2005): “Late Medieval Germany: An Under-Stated Nation?,” in Scales and Zimmer (2005, 166-91).
Scales, Len and Zimmer, Oliver (eds.) (2005):
Cambridge: Cambridge University Press.
Schama, Simon (1987):
The Embarrassment of Riches: An Interpretation of Dutch Culture in the Golden Age,
London: William Collins.
Schama, Simon (1989):
Citizens: A Chronicle of the French Revolution,
New York and London: Knopf and Penguin.
Schama, Simon (1995):
Landscape and Memory,
London: HarperCollins (Fontana).
Scheuch, Erwin (1966): “Cross-National Comparisons with Aggregate Data,” in Richard Merritt and Stein Rokkan (eds.),
Comparing Nations: The Use of Quantitative Data in Cross-National Research,
New Haven: Yale University
Schniedewind, William (2005):
How the Bible Became a Book,
Cambridge: Cambridge University
Schwartz, Seth (2004):
Imperialism and Jewish Society, 200 BCE to 640 CE,
University Press.
Scott, Franklin D. (1977):
Sweden: The Nation’s History,
Minneapolis: University of Minnesota
Scurr, Ruth (2006):
Fatal Purity: Robespierre and the French Revolution,
London: Chatto and Windus.
Seton-Watson, Hugh (1977):
Nations and States,
London: Methuen.
Shafir, Gershon (1989):
Land, Labour and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 1882-1914,
Cambridge: Cambridge University
Shiiyama, Chiho (2005): “Nationalism and Supranational Regional Solidarity: The Case of Modern Japanese Nationalism and Its Perception of Asia, 1868-2001,” unpublished PhD thesis, University of London.
Shils, Edward (1957): “Primordial, Personal, Sacred and Civil Ties,”
British Journal of Sociology
7, 13-45.
Shimoni, Gideon (1995):
The Zionist Ideology,
Hanover, NH: Brandeis University
Smith, Anthony D. (ed.) (1976):
Nationalist Movements,
London and Basingstoke: Macmillan.
Smith, Anthony D. (1979):
Nationalism in the Twentieth Century,
London: Martin Robertson.
Smith, Anthony D. (1981): “War and Ethnicity: The Role of Warfare in the Formation, Self-Images and Cohesion of Ethnic Communities,”
Ethnic and Racial Studies
4, 4, 375-97.
Smith, Anthony D. (1983) [1971]:
Theories of Nationalism,
2nd edition, London and New York: Duckworth and Holmes and Meier.
Smith, Anthony D. (1986):
The Ethnic Origins of Nations,
Oxford: Blackwell.
Smith, Anthony D. (1991a):
National Identity,
Harmondsworth: Penguin.
Smith, Anthony D. (1991b): “The Nation: Invented, Imagined, Reconstructed?,”
Millennium, Journal of International Studies
20, 3, 353-68 (also in A. D. Smith 2004).
Smith, Anthony D. (1997): “The Golden Age and National Renewal,” in Hosking and Schöpflin (1997, 36-59) (also in A. D. Smith 2004).
Smith, Anthony D. (1998):
Nationalism and Modernism: A Critical Survey of Recent Theories of Nations and Nationalism,
London and New York: Routledge.
Smith, Anthony D. (1999a):
Myths and Memories of the Nation,
Oxford: Oxford University
Smith, Anthony D. (1999b): “Sacred Territories and National Conflict,”
Israel Affairs
5, 4, 13-31.
Smith, Anthony D. (2000a):
The Nation in History: Historiographical Debates about Ethnicity and Nationalism,
Jerusalem: Historical Society of Israel; Hanover, NH: University Press of New England; and Cambridge: Polity
Smith, Anthony D. (2000b): “The 'Sacred’ Dimension of Nationalism,”
Millennium, Journal of International Studies
29, 3, 791-814.
Smith, Anthony D. (2001):
Nationalism: Theory, Ideology, History,
Cambridge: Polity
Smith, Anthony D. (2003):
Chosen
Oxford: Oxford University Press.
Smith, Anthony D. (2004):
The Antiquity of Nations,
Cambridge: Polity Press.
Smith, Anthony D. (2005): “Nationalism in Early Modern Europe,”
History and Theory
44, 3, 404-15.
Smith, Anthony D. (2006): “'Set in the Silver Sea’: English National Identity and European Integration,”
Nations and Nationalism
12, 3, 433-52.
Smith, S. Tyson (2003):
Wretched Kush: Ethnic Identities and Boundaries in Egypt’s Nubian Empire,
London and New York: Routledge.
Smyth, Alfred P. (ed.) (2002a):
Medieval Europeans: Studies in Ethnic Identity and National
Basingstoke:
Smyth, Alfred P. (2002b): “The Emergence of English Identity, 700-1000,” in Smyth (2002a, 24-52).
Staab, Andreas (1998):
National Identity in Eastern Germany: Inner Unification or Continued Separation?,
Westport, CT and London:
Steinberg, Jonathan (1976):
Why Switzerland?,
Cambridge: Cambridge University
Stergios, James (2006): “Language and Nationalism in Italy,”
Nations and Nationalism
12, 1, 15-33.
Sternhell, Zeev (1999):
The Founding Myths of Israel: Nationalism, Socialism and the Making of the Jewish State,
trans. David Maisel, Princeton: Princeton University
Strath, Bo (1994): “The Swedish Path to National Identity in the Nineteenth Century,” in Oystein Sorenson (ed.),
Nordic Paths to National Identity in the Nineteenth Century,
Oslo: Research Council of Norway, 55-63.
Strayer, Joseph (1971):
Medieval Statecraft and the Perspectives of History,
Sugar, Peter (ed.) (1980):
Ethnic Diversity and Conflict in Eastern Europe,
Santa Barbara, CA: ABC-Clio.
Sugar, Peter and Lederer, Ivo (eds.) (1969):
Nationalism in Eastern Europe,
Seattle: University of Washington Press.
Suleiman, Yasir (2003):
The Arabic Language and National Identity,
Edinburgh: Edinburgh University Press.
Swanson, Robert (ed.) (2000):
The Holy Land, Holy Lands and Christian History,
Ecclesiastical History Society, Woodbridge: Boydell Press.
Tadmor, Hayim (1991): “On the Role of Aramaic in the Assyrian Empire,”
Near Eastern Studies, Bulletin of the Middle Eastern Cultural Centre in Japan,
Vol. 5, 419-26, Wiesbaden: Otto Harrassowitz.
Tadmor, Hayim (1997): “Propaganda, Literature, Historiography: Cracking the Code of the Assyrian Royal Inscriptions,” in Simo Parpola and R. M. Whiting (eds.),
Assyria 1995,
Helsinki: University of Helsinki, 325-7.
Talmon, Shmaryahu (1986):
King, Cult and Calendar in Ancient Israel,
Jerusalem, Hebrew University: Magnes Press.
Templin, J. Alton (1999): “The Ideology of a Chosen People: Afrikaner Nationalism and the Ossewa Trek,”
Nations and Nationalism
5, 3, 397-417.
Thaden, Edward (1964):
Conservative Nationalism in Nineteenth-Century Russia,
Seattle: University of Washington Press.
Thompson, Leonard (1985):
The Political Mythology of Apartheid,
New Haven: Yale University
Thomson, Robert (1982):
Elishe: History of Vardan and the Armenian War,
trans. R. Thomson, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Tipton, C. Leon (ed.) (1972):
Nationalism in the Middle Ages,
New York: Holt, Rinehart, and Winston.
Tilly, Charles (ed.) (1975):
The Formation of National States in Western Europe,
Toftgaard, Anders (2005): “Letters and Arms: Literary Language,
Tonkin, Elisabeth, McDonald, Maryon, and Chapman, Malcolm (eds.) (1989):
History and Ethnicity,
London and New York: Routledge.
Tønnesson, Stein and Antlöv, Hans (eds.) (1996):
Asian Forms of the Nation,
Richmond: Curzon
Triandafyllidou, Anna (2001):
Immigrants and National Identity in Europe,
London and New York: Routledge.
Trigger, B. G., Kemp, B. J., O’Connor, D., and Lloyd, A. B. (1983):
Ancient Egypt: A Social History,
Cambridge: Cambridge University Press.
Tudor, Anthony (1972):
Myth,
London: Pall Mall Press.
Tuveson, E. L. (1968):
Redeemer Nation: The Idea of America’s Millennial Role,
Chicago: Chicago University Press.
Ulker, Erol (2005): “Contextualising 'Turkification’: Nation-Building in the Late Ottoman Empire, 1908-1918,”
Nations and Nationalism
11, 4, 613-36.
Ullendorff, Edward (1988):
Ethiopia and the Bible,
Oxford: Oxford University
Uzelac, Gordana (2002): “When is the Nation? Constituent Elements and Processes,”
Geopolitics,
7, 2, 33-52.
Van den Berghe, Pierre (1995): “Does Race Matter?,”
Nations and Nationalism
1, 3, 357-68.
Van den Berghe, Pierre (2005): “Ethnies and Nations: Genealogies Indeed,” in Ichijo and Uzelac (2005, 113-18).
Van der Veer, Peter and Lehmann, Hartmut (eds.) (1999):
Nation and Religion: Perspectives on Europe and Asia,
Vasiliev, A. A. (1958):
History of the Byzantine Empire, 324-1453,
2 vols., Madison: University of Wisconsin Press, Vol. 2.
Viroli, Maurizio (1995):
For Love of Country: An Essay on Patriotism and Nationalism,
Oxford: Clarendon Press.
Vital, David (1990):
The Future of the Jews: A People at the Cross-roads?,
Cambridge, MA, and London: Harvard University Press.
Waley, Daniel (1969):
The Italian City-Republics,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Walzer, Michael (1984):
Exodus and Revolution,
New York: HarperCollins, Basic Books.
Warner, Marina (1983):
Joan of Arc: The Image of Female Heroism,
Harmondsworth:
Watkins, Frederick M. (ed.) (1953):
Rousseau, Political Writings,
Edinburgh and London: Nelson.
Weber, Eugene (1991):
My France:
Cambridge, MA: Harvard University
Weber, Max (1948):
From Max Weber: Essays in Sociology,
eds. Hans Gerth and C. Wright Mills, London: Routledge and Kegan Paul.
Weber, Max (1968):
Economy and Society,
3 vols., eds. G. Roth and C. Wittich, New York: Bedminster Press.
Webster, Bruce (1997):
Medieval Scotland: The Making of an Identity,
Basingstoke: Macmillan.
Welsby, Derek and Anderson, Julie (eds.) (2004):
Sudan: Ancient Treasures,
London: British Museum Press.
Westermann, Mariet (2004):
The Art of the Dutch Republic, 1585-1717,
London: Laurence King.
Widengren, Geo (1973): “The Persians,” in Wiseman (1973, 312-57).
Wiesehofer, Josef (2004):
Ancient Persia from 550 BC to 650 AD,
London and New York: I. B. Tauris.
Wilkinson, L. P. (1976):
The Roman Experience,
London: Paul Elek.
Williamson, Arthur (1979):
Scottish National Consciousness in the Age of James VI,
Edinburgh: John Donald.
Wilmsen, Edwin and McAllister, Patrick (eds.) (1995):
The Politics of Difference: Ethnic Premises in a World of
Chicago: University of Chicago
Wilton, Andrew and Barringer, Timothy (eds.) (2002):
American Sublime: Painting in the United States, 1820-1880,
London: Tate.
Winichakul, Thongchai (1996): “Maps and the Formation of the Geobody of Siam,” in Tønnesson and Antlöv (1996, 67-91).
Winter, Irene (1997): “Art in Empire: The Royal Image and the Visual Dimensions of Assyrian Ideology,” in Simo Parpola and R. M. Whiting (eds.),
Assyria 1995,
Helsinki: University of Helsinki, 359-81.
Winter, Jay (1995):
Sites of Memory, Sites of Mourning: The Great War in European Cultural History,
Cambridge: Cambridge University
Wiseman, D. J. (ed.) (1973):
Old Testament Times,
Oxford: Clarendon
Wormald, Patrick (1984): “The Emergence of Anglo-Saxon Kingdoms,” in Lesley Smith (ed.),
The Making of Britain: The Dark Ages,
Basingstoke: Macmillan.
Wormald, Patrick (2005): “Germanic Power Structures: The Early English Experience,” in Scales and Zimmer (2005, 105-24).
Yack, Bernard (1999): “The Myth of the Civic Nation,” in Ronald Beiner (ed.),
Theorising Nationalism,
Albany, NY: State University of New York, 103-18.
Young, Crawford (1985): “Ethnicity and the Colonial and
Zacek, Joseph F. (1969): “Czechoslovakia,” in Sugar and Lederer (1969, 166-206).
Zadok, Ran (1991): “Elements of Aramean Prehistory,” in
Ah, Assyria, Scripta Hierosolymitana
33, 104-17.
Zeitlin, Irving (1984):
Ancient Judaism,
Cambridge: Polity Press.
Zeitlin, Irving (1988):
Jesus and the Judaism of His Time,
Cambridge: Polity
Zernatto, Guido (1944): “Nation: The History of a Word,”
Review of Politics
6, 351-66.
Zernov, Nicolas (1978):
Eastern Christendom: A Study of the Origin and Development of the Eastern Orthodox Church,
London: Weidenfeld and Nicolson.
Zimmer, Oliver (1998): “In Search of Natural Identity: Alpine Landscape and the Reconstruction of the Swiss Nation, 1870-1900,”
Comparative Studies in Society and History
40, 4, 637-65.
Zimmer, Oliver (2000): “Competing Memories of the Nation: Liberal Historians and the Reconstruction of the Swiss Past, 1870-1900,”
168, 194-226.
Zimmer, Oliver (2003):
A Contested Nation: History, Memory and Nationalism in Switzerland, 1761-1891,
Cambridge: Cambridge University
Zubaida, Sami (1978): “Theories of Nationalism,” in G. Littlejohn, B. Smart, J. Wakeford, and N. Yuval-Davis (eds.),
London: Croom Helm.
نامعلوم صفحہ