وهكذا فإن الأكثر بأسا والأكثر بؤسا إذ جعلوا من قواتهم أو احتياجاتهم ضربا من الحقوق حول مال الآخرين، مساويا حق التملك على رأيهم عقب المساواة المتحطمة أفظع ارتباك، وهكذا فإن اغتصابات الأغنياء ولصوصيات الفقراء وأهواء الجميع الجامحة، إذ خنقت الرأفة الطبيعية وصوت العدل الضعيف جعلت الناس بخلاء طامحين خبثاء، وكان يقع بين حقوق الأقوى وحق واضع اليد الأول صدام دائم لا ينتهي إلا بمعارك وسفك دماء،
2
وأدى المجتمع الناشئ إلى أشنع الحروب، وبما أن النوع البشري المهين الحزين لم يستطع بعد أن يرجع القهقري، ولا أن يعدل عما اتفق له من كسب مشئوم، وبما أنه لم يعمل لغير ما فيه فضوحه بإساءة استعماله الخصائص التي تشرفه، فإنه وضع نفسه على حافة الهلاك، «فعلى الغني والفقير أن يفرا من الثراء، وأن يخسرا ما نشداه بما وجد حديثا من شرورهما.» (أوفيد، التناسخ، 11-127).
وليس من الممكن إلا أن يكون الناس قد قاموا في نهاية الأمر بتأملات حول وضع بالغ هذا البؤس، وحول البلايا التي أصيبوا بها، ويجب أن يكون الأغنياء - على الخصوص - قد شعروا من فورهم بمقدار ما كانت في غير مصلحتهم حرب دائمة يقومون بجميع نفقاتها وحدهم، ويكون الخطر الذي يحيق بالحياة فيها عاما، ويكون الخطر الذي يحيق بأموالهم خاصا، ثم مهما يكن اللون الذي استطاعوا أن يصبغوا به اغتصاباتهم، فإنهم كانوا يشعرون شعورا كافيا بأن حالهم لم يقم على غير حق قلق فاضح نالوه بالقوة، فيمكن القوة أن تنزعه منهم من غير أن يكون من الأسباب ما يتظلمون معه، حتى إن الذين اغتنوا بالصناعة وحدها لم يكونوا ليقدروا أن يقيموا تملكهم على حجج أحسن من تلك. ومن العبث أن يقال مكررا: «إنني أنا الذي بنى هذا الجدار، وقد نلت هذا الموضع بعملي، وقد يمكن أن يكون الجواب: من الذي أعطاك هذا الموقف، وإلى أي شيء تستند في ادعائك أن ندفع إليك عن عمل لم نطلب منك صنعه؟ ألا تعلم أن فريقا كبيرا من إخوانك يهلك أو يألم من احتياجه إلى ما تملك كثيرا، وأنه يجب أن تكون لديك موافقة صريحة إجماعية من النوع البشري حتى تملك من القوت العام أكثر مما تحتاج إليه لتقويم أودك؟» والغني المجرد من الأسباب المقبولة لتزكية نفسه، ومن القوى الكافية للدفاع عن نفسه، والغني الساحق للفرد بسهولة، والمسحوق من قبل زمر من اللصوص، والغني الذي هو وحده ضد الجميع والذي لا يستطيع أن يتحد - عن حسد متقابل - هو وأمثاله ضد أعداء متحدين عن أمل مشترك في السلب، هذا الغنى الذي ضغطته الضرورة يفكر أخيرا في أرزن مشروع خطر على بال إنسان، وذلك أن يستخدم نفعا له قوى من كانوا يهاجمونه، وأن يجعل حماته من خصومه، فيوحي إليهم بمبادئ أخرى ويمنحهم نظما أخرى تكون ملائمة له كعدم ملاءمة الحق الطبيعي له.
وهو عند هذا النظر، وبعد أن عرض على جيرانه فظاعة وضع كان يسلحهم جميعا ضد بعضهم بعضا، وكان يجعل أملاكهم مرهقة إرهاق احتياجاتهم، وحيث كان لا يوجد أحد يرى سلامته في الفقر ولا في الغنى، اخترع بسهولة من الأسباب المقبولة ما يجلبهم به إلى غرضه، فقال لهم: «دعونا نتحد لوقاية الضعفاء من الاضطهاد وردع ذوي الطموح وصيانة ملك كل واحد، فتوضع أنظمة للعدل والأمن يلزم الجميع بالخضوع لها من غير استثناء أحد، وتقوم بها أهواء النصيب من بعض الوجوه بجعل القوي والضعيف خاضعين لواجبات متبادلة على السواء.
والخلاصة: هي أن نجمع قوانا في سلطة عالية تحكم فينا وفق قوانين رشيدة، وتحامي وتدافع عن جميع أعضاء الجماعة، وتدفع الأعداء المشتركين، وتمسكنا ضمن وفاق أبدي.»
وكان أقل كلام حول هذا المقصد يكفي لمخادعة أناس غلاظ سهل إغواؤهم، وذلك لما كان عليهم أن يأتوه من منازعات كثيرة لا يستغنون فيها عن التحكيم، ولما كانوا عليه من طموح وبخل كثيرين لا يستغنون فيهما عن سادة لزمن طويل، وكل يسعى إلى قيوده بسرعة معتقدا أنه يضمن حريته؛ وذلك لأنه إذا كان لديه من العقل ما يكفي للشعور بفوائد أحد النظم السياسية، فإنه ليس لديه من التجربة ما يبصر معه أخطار هذا النظام. وكان أكثر الناس قدرة على البصر في سوء الاستعمال هم الذين يرون الانتفاع به، حتى إن الحكماء رأوا من الضروري أن يضحوا بقسم من حريتهم حفظا للقسم الآخر، شأن الجريح الذي تبتر ذراعه إنقاذا لبقية الجسم.
ذلك ما كان، أو ما وجب أن كان، أصل المجتمع والقانون اللذين ربطا الضعيف بقيود جديدة، ومنحا الغني
3
قوى جديدة، فقضيا على الحرية الطبيعية من غير رجوع، وثبتا قانون التملك والتفاوت إلى الأبد، وحولا اغتصابا لبقا إلى حق لا ينقض، وسخرا الجنس البشري للعمل والعبودية والبؤس؛ نفعا لبعض ذوي الطموح. ومن السهل أن يرى كيف أن قيام مجتمع واحد جعل قيام جميع المجتمعات الأخرى أمرا ضروريا، وكيف أنه وجب على بقية الجنس البشري أن تتحد من ناحيتها لمقاومة القوى المتحدة، وقد تكاثرت المجتمعات واتسعت فلم تلبث أن ملأت جميع وجه الأرض، وصار يتعذر أن تجد زاوية واحدة في العالم يمكن الإنسان أن يتحرر فيها من النير، ويتخلص من السيف الذي يراه مصلتا عليه دائما. وبما أن الحقوق المدنية أصبحت قاعدة المواطنين العامة على هذا الوجه، عاد قانون الطبيعة لا يكون له مكان إلا بين مختلف المجتمعات، حيث عدل - باسم الحقوق الدولية - ببضعة عهود ضمنية جعلا للتجارة أمرا ممكنا، وتعويضا من الرأفة الطبيعية التي خسرت بين مجتمع وآخر - تقريبا - كل قوة كانت لها بين إنسان وآخر، والتي عادت لا تكون في غير بعض أكابر الوطنيين العالميين الذين يجاوزون الحواجز الخيالية الفاصلة بين الشعوب، والذين يسيرون على غرار المولى الخالق فيشملون جميع النوع البشري برعايتهم.
نامعلوم صفحہ