65
ولم يزل يمارسه الشيعة المتطرفون في احتفالات الحزن على «الحسين» الشهيد في لبنان وسوريا والعراق وإيران، حتى اليوم. ومع ذلك أجدني أخالف «فرويد» في كثير مما ذهب إليه.
إن قول «فرويد» إن الاحتفال بالفصح حول ذكر غنم مذبوح إحياء لذكرى قتل الأب - والأب كما اتفقنا كان الإله - على يد أبنائه. وذكرى انتصارهم عليه، فيها كثير مما يجافي المنطق والواقع. ومجافاة المنطق تتضح في التساؤلات: هل كانت حالة قتل الأب البدائي حالة واحدة حدثت في جماعة بعينها دون بقية الجماعات، وترسبت ذكراها بعد ذلك لدى كل الجماعات والمجتمعات، التي ما زالت إلى اليوم على اختلاف مللها ونحلها تمارس طقس الأضحية في أعيادها؟ بالطبع هذا غير ممكن أيا كانت التبريرات. أم أن حادثة قتل الأب قد تكررت الصورة نفسها لدى كل العشائر القديمة، حتى تظل في ذاكرة جميع الشعوب، ويتم تذكرها إلى اليوم باحتفالات التضحية، وهذا بدوره نوع من الصدفة مستحيلة الوقوع بهذا الاطراد والتزامن والتشابه.
ثم إنه إذا كان أكل الخروف إلى اليوم ، هو أكل الإله ذاته - كما هو واضح تماما في العقيدة المسيحية - فهل التقرب يتم هنا للإله نفسه؟ أعني أن الاعتقاد بهبوط الإله المسيح من السماء وموته على الصليب لفداء البشر، وأكل الخروف في الفصح المسيحي تذكرة به، إذ قال المسيح: «من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.»
66
هل يعد هذا الاعتقاد تقربا للإله ذاته؟ إن ذلك يبدو لي غير منطقي بالمرة، ولا يمكن أن أتصور الإنسان حتى اليوم يتقرب للإله بالإله ذاته، فينزل من عرشه السماوي ليصلبه على الأرض، ثم يأكله بعد ذلك خروفا، فيما يزعم «فرويد» أنه احتفال بذكرى قتل الأب البدائي وانتصار حلف الأبناء عليه.
إنه تفسير يجافي المنطق تماما، ثم يجافي الواقع المعيش، ومن الواقع المشاهد للآن يمكنني أن أرسم صورة تأملية نستعيد فيها حقيقة ما حدث في غابر الأزمان، يمكن أن نفسر بها سر التضحية ب «الأب، الملك، الإله، الخروف» على حد سواء. (10) الأضحية والفداء
مرة أخرى أعود فأؤكد أن القربان النباتي (الفطير) كان في مجتمع زراعي أمومي، لم يعرف الدماء ولا الذبح في مبدأ أمره، وكانت قرابينه إما دعارة أو فطيرا. بينما كانت التضحية بالذبح والدم احتفالية رعوية نشأت في مجتمع أبوي، وكي تتماسك حلقات رؤيتي التأملية، أستمر في استقراء الواقع، وأعود إلى «داروين» كما عاد إليه «فرويد». فأجد أن نظرية الانتخاب الطبيعي لا تعني أبدا تضافر الإخوة لقتل الأب، إنما كان ما يحدث، هو ما يحدث اليوم في عالم الحيوان؛ إذ يستمر الذكر القوي في سيادة القطيع، حتى ينتابه ضعف الشيخوخة، فيظهر ذكر آخر قوي يدعوه للنزال وينازعه السيادة، وعلى المهزوم أن يتخلى عن موقعه، وهكذا دواليك، أما تمثل الأب في طوطم يؤكل في موعد يحدد فليس مرجعه جريمة ارتكبها الأبناء في حق الأب كما ذهب «فرويد»، إنما أتصور الأمر كامنا في معنى «الأضحية» نفسه، فهي في الإنجليزية
sacrifice
بمعنى التضحية والذبح للإلهة وهي الأضحية. والذبيحة، وتعني أيضا الخسارة والتضحية بشيء، من أجل شيء آخر، والأضحية في اللغة العربية من التضحية، والتضحية «فعل » يحمل معنى الخسارة والتنازل عن شيء نملكه. كما يحمل أيضا معنى فداء الآخرين، ومعنى النبل، فهي خسارة شخصية من أجل كسب أكبر وأهم للجماعة كلها.
نامعلوم صفحہ