وسحقت الحية
ذات الرءوس السبعة؟!
30
أما العجيب في أمر هذه القصة كلها، التي تعود إلى مفاهيم شعوب زراعية، تعبر عن مشكلات المزارع وهمومه، ووضعت لتفسير ظواهر ترتبط تماما بعلاقة البحر بالطمي بالنهر بالخصب بالفلاح نفسه، العجيب أن تنتقل بقضها وقضيضها إلى التوراة. وهو كتاب شعب رعوي بدوي لا علاقة له بكل هذا. ويحل فيها الرب العبراني محل كل آلهة المنطقة الزراعية، ليقوم بكافة الأدوار، في مختلف ملاحم قصص البطولة بين المزارع والبحر، دونما مبرر منطقي واحد، سوى استيلاء الرب التوراتي على تراث المنطقة، الذي أصبح تراثا مقدسا، ينحشر داخل كتاب مقدس. ولا شك أن الكتاب التوراتي كان يعلم أن الجميع سيقبلها، في مصر أو كنعان أو الرافدين؛ لأنها إنما تردد تراثهم هم، ومفاهيمهم هم، وذكرياتهم هم، أيام كانت الأنهار تحفر في الرمل طريقا لها، ولا يوجد من أرض تصلح للزراعة إلا في الدلتا حيث يفرش النهر طميه، فيهاجمه البحر، لكن التوراة ألبسته ثوبا جديدا، وبطولة جديدة، وشعبا يختص بشئون الإله البطل الجديد، هو الشعب العبري.
إلى هنا والخطورة محدودة فيما حدث، لكن الإضافات التي لحقت هذا التراث، وعشقها الكاتب التوراتي في قصة الخلق القديمة، تشير إلى المنحى الخطير، والسم المدسوس في العسل، الذي التهمه الجميع شاكرين حامدين. أما الغل اليهودي والحقد البدوي على الزراع فينضح واضحا ويفصح عن نفسه فيما أردف بالروايات الأصلية، ممثلا في صراع بين الراعي والزارع، يجسد الأهداف المطلوبة داخل عقل المنطقة وروحها وقلبها المطمئن بالإيمان، فتروي التوراة ما لم يقله الأصل البابلي والكنعاني، أو تعكس الوضع الذي كان في أصل الرواية المصرية، حول أول بشر على الأرض، فبينما نجد أول البشر في مصر «أوزيريس» رمزا للأرض المنزرعة، إلها للخير، وأخاه «ست» رمز البوادي والبداوة إلها للشر، تقول رواية التوراة:
إن أبا البشر «آدم»، قد أنجب أخوين هما «هابيل» و«قايين»، «وكان هابيل راعيا للغنم، وكان قايين عاملا في الأرض، وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب، وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمائها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر، فاغتاظ قايين جدا، وسقط وجهه ... وحدث، إذ كانا في الحقل، أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله» (التكوين، 4: 2-8).
وهكذا وضح أن الرب قد ميز الراعي على المزارع، أو «العبراني» على «المصري، والكنعاني، والرافدي» منذ بداية الخليقة، دونما سبب واضح سوى أن الفلاح اجتهد، وعرق، وزرع، وحصد، وقدم ثومه، وبصله، وكراثه، قربانا مرويا بعرق جهده البطولي فآذى أنف الرب، الذي كان دوما يتوق إلى رائحة اللحم المحروق، ويلح دائما في طلبه، وهو ما قدمه له الراعي لتهدأ نفسه وتستريح. والسبب الأوضح أن قايين فلاح من أهل الخصب والزرع؛ ومن ثم كان لا بد من إبراز الشر الكامن فيه، مقابل طيبة الراعي السمح الذكي، الذي لم يبذل جهدا، إنما اكتفى بالاسترخاء إلى جوار قطعانه وهي تتلاقح، ثم أخذ من منتوجها لربه قربانا، فيقتل المزارع أخاه الراعي الطيب غيرة وحسدا، ولا يبقى للمزارع ميزة لكل جهوده وحضارته ومنشآته وتراثه وبطولاته، إزاء التفضيل الرباني لهابيل العبراني، وما عليه إلا أن يترك الأرض وتاريخه فيها للراعي الطيب، وما شاء الله قدر. (6) أسطورة الطوفان
إن طوفانا سيهلك مراكز العبادة وتهلك
ذرية البشر ...
إن هذا هو القرار الذي أصدره الإله
نامعلوم صفحہ