في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان، الحية الهاربة. لوياثان الحية المتحوية، ويقتل التنين الذي في البحر. (إشعياء، 27: 1)
كانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه ... وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والتي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء. (تكوين، 1: 2-8)
ثم بعد ذلك، تخير الرب التوراتي مكانا على يابسة الأرض، أسمته التوراة «جنة عدن»، وقد اتسم الإله بصفة الخلد لأنه كان يتعاطى في هذه الجنة من شجرة الحياة التي تمنح الحياة الأبدية، كما اتسم بالمعرفة؛ لأنه كان يغتذي من شجرة أخرى هناك، هي شجرة المعرفة. ويوما ما قرر الرب خلق الإنسان المدعو «آدم»، ثم خلق له من ضلعه أنيسا هو «حواء» زوجته، ووضعها معه في الجنة، لكنه حرم عليهما ثمرة شجرة المعرفة، ففضل أن يكون رب جاهلين لا رب عارفين، وتشرح التوراة القول: ثم كان ضباب يطلع من الأرض، ويسقي كل وجه الأرض، وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسا حية، وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وحيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر ... وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ لأنك يوم تأكل منها موتا تموت، وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينا نظيره ... فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت ... وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر ... ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي (تكوين، إصحاح 2، 3). وهكذا، وبرغم محاولة الرب إيهام الزوجين أن ثمرة المعرفة ثمرة سامة وقاتلة، فقد فضل الزوجان العلم بالشيء على الجهل به، فغضب عليهما الرب لفضولهما المعرفي، وخشي أن يدفعهما الفضول إلى ما هو أكثر ترويعا، وربما يأكلان من ثمرة الخلد فيكسبان الألوهية؛ مما قد يؤدي إلى منافسة غير مضمونة النتائج، ومن هنا:
قال الرب: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا أكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (تكوين، 3: 22-24).
وقد كان المظنون، حتى عهد قريب، أن الكاتب التوراتي هو الناظم الأول لأسطورة الخلق بهذا الشكل، الذي اكتسب ثباتا عجيبا، وانتقل إلى ديانات أخرى مع بعض التهذيب هنا والتشذيب هناك، حتى بدأت الكشوف الأركيولوجية المعاصرة في آثاريات المنطقة تأتي بثمارها، وتم فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية، والمسمارية الرافدية، والأوجاريتية الكنعانية؛ مما أثبت أن هذه الملحمة ليست إلا تهجينا مستهجنا لمجموعة من الملاحم القديمة، التي عرفها بنو عابر مبكرين، وأعادوا صياغتها في توراتهم، بينما اندثرت تلك الحضارات القديمة، ونسي تراثها، حتى أعاد الزمان سيرته، وبدأ نفض غبار الأيام الغبراء عنها.
وبرغم عدم تناسق الدراما التوراتية في التكوين، وتنافرها بعضها مع بعض، ومع أبسط البداهات العقلية، كنتيجة لسلب التراث دون إدراك لمرامي تركيباته الأصلية، ولنزعه عن سياقه البيئي اجتماعيا وجغرافيا وزمانيا، فإن العودة إلى الأصول الأولى لمنابته، تضع بين أيدينا الأسس الحقيقية، والظروف التي بنى عليها الأقدمون تصوراتهم الكونية، كناتج طبيعي لمشاهدات الإنسان وتراكم خبرات تفاعله البيئي، ومحاولته تفسير ما يجري من جدل بين عناصر الطبيعة، ودوره ككائن متميز في هذا الجدل. ولنعد معا إلى البداية نستطلع أحوال هذا الإنسان في ضوء ما سنطرحه من تصورات.
في مناطق الخصب، التي بدأ الأقدمون يستقرون فيها، بدأ صراع إنساني رفيع القدرات بين الإنسان والطبيعة، من أجل أن يثبت أقدامه في مقرها، رافضا التراجع إلى طور البداية والبداوة، تطلعا إلى حياة أقدر على تحدي مزاج الطبيعة المتقلب، وتحديها المستمر لهذا الكائن الذي نشأ من رحمها، ويحاول السيطرة عليها وكبح جماحها لصالح وجوده واستمراره.
وفي مناطق الخصب تنتاب الطبيعة تقلباتها المزاجية، ما بين جدب يزهق الأرواح جوعا، ويقضي بجفافه على الزرع، والضرع، وبين إفراط في السخاء فتدمر الفيضانات جهود سنين مضنية وشاقة من عمل الإنسان الدءوب، أما الآفة الكبرى، والوحش الجبار، فكان ماء البحر الذي يداوم محاولاته في عدم ترك اليابس، واستمرار طغيانه على دلتا الأنهار؛ مما أدخل الإنسان المزارع في ملحمة رائعة البطولة مع هذا الوحش، ذي الأمواج المتطاولة بألسنتها من الماء المالح، تلفح زرعه وتربته كل حين، وكان على كل منهما: الإنسان، والبحر، أن يثبت قدرته أكثر من الآخر على التمسك بالطمي الذي كانت تلقيه الأنهار في دلتاها، وكثيرا ما أطل البحر بأعاصيره رءوسا وألسنة تنهش من الفلاح زرعه، وتشيع في مستقراته الويل والدمار، ولعل أروع هذه الملاحم بطولة ما سجله المصريون وهم يضمون إلى اليابس مزيدا، يوما وراء يوم، ويدفعون البحر إلى الوراء خلف حدوده، حتى تمكنت الدلتا من قوامها العظيم، وهو الأمر نفسه الذي جد السومريون لتحقيقه في العراق القديم.
ومن هنا كان البحر دائما رمزا للفوضى والدمار والظلام. وإنه كي يقيم الفلاح يابسا لزراعته وقراه، فلا بد أن يفرضه على شاطئ البحر فرضا أو ينتزعه من البحر بجبروته، ومن هنا نفهم لماذا تصور الإنسان بداية الكون بحرا أزليا فوضويا معربدا، ولماذا تصوره وحشا متعدد الرءوس لا تقوم الحياة المستقرة واليابسة، بوجه خاص، دون التغلب عليه وقهره؛ ولذلك تصور العقل، وهو في بدئه يحاول الفهم والتفسير، أن البحر هو الأساس في الكوزموسية، ورمز للشر والظلام، بينما أصبح اليابس بطميه، الذي تأتي به الأنهار، رمزا للخير والضياء، أما الشمس التي كانت تساعد على مزيد من التجفيف وزيادة المساحات المنزرعة، فقد أصبحت أعظم الآلهة طرا في جميع البلدان الزراعية، والوديان النهرية، بلا استثناء.
ومن هنا فقد تصور المصريون الأقدمون، وهم بسبيل الفهم، إنشاء علاقات جدلية مع الطبيعة، أن الكون بدأ غمرا ويما هائلا مظلما، أطلقوا عليه اسم «نون»، وأن من «نون» خرج إله الشمس «رع» بقدرته وحده؛ لينشر الضياء والحرارة على الأرض، من أجل ظهور اليابس، وتكون التربة الصالحة للزراعة، وعليه فإن «رع» قبل الخلق كان في الأزلية والبدء على سطح «نون»، أو ما جاء في الرواية التوراتية يقول: «وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه».
نامعلوم صفحہ