وحين راحت السكرة وجاءت الفكرة، وجدت أني لست فقط مختلفا تماما؛ كما، ونوعا، وحياة عن شكسبير وغيره، ولكن مختلف أيضا أني موظف كتابة عام، بينما كان هو صاحب قطاع خاص، في استطاعته تصفية كتابته والعيش بما يتبقى لديه من رأس مال، أنا موظف في جريدة كبرى تدفع لي راتبا شهريا من أجل أن أكتب، وعلي - شئت أم أبيت، ومن أجل أن أعيش - أن أظل أكتب، فإذا قررت أن أكف تماما عن الكتابة فأبسط المواقف الشريفة، أن أبحث لي عن عمل آخر، أو وسيلة حياة ثانية، وهكذا مثلما يفعلون قبل المعاش، حيث من حقهم أخذ إجازة ثلاثة أو أربعة أشهر، أعطيت لنفسي الحق في إجازة أبحث فيها عن مصدر رزق؛ أزرع قطعة الأرض التي تخصني في قريتنا، أفتتح مستوصفا للعلاج الرخيص، أتقن حرفة النجارة التي أهواها، والتي أصبحت ماهية الأسطى فيها لا تقل عن عشرة جنيهات في اليوم، أحيل عربتي إلى تاكسي أعمل عليه ... أي شيء، إلا أن أمسك القلم مرة أخرى، وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير، وإنسان يزداد بالتغيير سوءا، وثورات ليت بعضها ما قام؛ فما حدث بعد بعضها أبشع مما كان عليه الحال قبلها.
يأس؟!
ولماذا نسمي النظرة الحقيقية الواقعية يأسا، والتمسك بخرافة الأحلام التي لا تتحقق، هو التفاؤل الإنساني، الذي لا نجده سوى في الكتب، وعلى ألسنة وأفواه وأقلام «إخواننا» الكتاب.
وكنت في قراري صامتا كتوما، لا كلمة واحدة لزوجتي نفسها، ولا علم لصديق؛ فأنا أعرف كم ما سيصدر من اعتراض وسخرية، أقلها أني أتصيد التقريظ والمديح، والرغبة في الحث على مواصلة ما يسمونه بالنجاح. إن الحياة - هكذا أراها - ليست لعبة أضيعها مصغيا لهذا، أو موليا أذني لذاك؛ الحياة حياتي، والقرار قراري، وكم من أمور تكاد تكون قتالة، فعلتها دون ذرة تردد وحتى لو كادت، أو بعضها فعلا ضيعني، دون ذرة ندم.
بل والقرار التالي الأخطر بعد اللاكتابة: هو اللاقراءة! فالحليف الداهية الخبيث للكتابة هو القراءة، هي المنزلق الذي إذا وضعت عليه قدمك، وجدت نفسك في سرعة الضوء، تهوي حتما إلى حيث تبدأ، أنت لا ترى ولكن تصنع الحروف والمعاني والكلمات، ويلفك التيه الخالد ما بين أحرف تصنعها وأحرف تصنعك، وحياة تصنعها ولا تحياها، وحياة تصنعك أجيرا لها، فقط تحقق لها ما هي تريد. مذ كان عمري خمس سنوات وإلى الخمسين، وأنا أقرأ وأكتب، وأكتب وأقرأ. الحياة تصطخب في الدنيا، وأنا صريع الحياة الموهومة بين دفتي كتاب، وكلها من ورق، وكلها من حبر، ضيعت عمري أتعلم كيف أتعلم الكتابة، والبقية الباقية ضيعتها كيف أعلم ما في الكتابة، والنتيجة أني أنا نفسي استحلت إلى كلام، وأصبحت روحي من ورق، وأحلامي ومتعتي كائنة كلها من حبر، بين كلمتين أو جملتين أو صفحتين. أي حياة؟!
كثيرا ما قضيت الليالي إلى صباحها في غابة الأحرف تائها؛ أزرعها مرة، وأقطعها مرات، ولا نسمة إلا رائحة اللون الأسود، وسحابات من دخان، وأنصاف أكواب مليئة «بتنوة» من بن جاف، ولا أتبين إلا هناك أشعة الشمس تشحب ضوء الكهرباء، وأحس أن ظهري انكسر مقوسا إلى الأبد أو يكاد! فأقوم لأعدله وأخرج إلى الشرفة؛ ما أجملها ساعة السابعة في الصباح؛ طازجة، ودائما جديدة! تصور كل صبح دائما جديدا أبدا، لم تمسسه أرض من قبل، ولا احتوته سماء، وإنما هو هدية الكون الجديدة تماما لنا، الناشئة لتوها وفي الحال، هذا هو الصباح الطازج الصابح، الذي علي أن أتركه لأمضغ ساعات ليل ونوم بائتة وحامضة؛ فقد مضى أوانها من زمان.
في ساعات صبح كتلك، كنت كثيرا جدا، ما ألمح «كناس» شارعنا جالسا على الرصيف المقابل، مسندا مقشته إلى كتفه، محتضنا إياها وكأنما يلتمس منها ألفة يوم كامل سيقضيانه معا، وفي يده اليمنى غالبا كنت ألمح كوب شاي وفي اليسرى سيجارة. ومهما كانت الدنيا صيفا أو شتاء، فأبدا لا برودة هناك ولا نية احترار، وإنما هي - في رأيي - لحظة السعادة القصوى! هذا رجل يقوم بعمل جاد محدد؛ ينظف شارعنا من كل ما نقذفه نحن الأفندية والستات من فضلات! نام قطعا الليل ونامه مبكرا؛ فها هو مبكرا قد استيقظ، واستمتعت كل خلية من خلاياه بسبع ساعات على الأقل من خلو البال. واحدا من ملايين ملايين الرجال، الذين لا أشير ولن يشار لهم بأي بنان، عاش وقام، ورفس زوجته ونام، بالضبط اتسق تماما مع قانون كون أعظم، جالسا استعدادا لقانون عمل أعظم، وها أنا المشار إليه بالبنان، عاكس القانون، ومقاوم الظلام ليغير الناموس، وأتى عليه النهار ليجده حطام دون كيشوت، خيل إليه أنه قضى الليل يعكس ويحارب طواحين الهواء والاتجاه، وأحس حتى دون أن يواجه أحدا، أن طاحونة لم تتوقف وجناحا منها لم يتعطل أو يتغير أو يتبدل، لا تنعم براحة البال ولا حتى براحة البدن، أعطني مقشتك أيها الرجل وخذ ذلك القلم؛ فمنتهى أملي أن أرى أو أستعمل شيئا له مفعول مقشتك، والمفعول أراه أمامي بعيني، وأشهده وأحس بفائدته.
قدرك الذي عذبك وأمرضك، وحملت من أجله هموم الكرة الأرضية فوق قرنك، ولست ثورا إفريقيا خالدا، باستطاعته أن يتحمل الدنيا بهمومها، بله همومك أنت وحدك إلى الأبد، كل جسدك من المرض، مرض المرض، وحيرت نطس الأطباء من الكرملين إلى مايو كلينيك وكليفلاند وهارلي ستريت، وأصبحت مريضا عالميا، وأصبحت حياتك كونية الحيرة، فيقرر الأطباء أنك ستموت في ظرف 48 ساعة، وإذا بك بعد 24 ساعة في قوة الحصان، ويقرر الأطباء أن عندك سرطانا، وأنك أمامك شهر بالكثير لتودع الحياة، فتبدأ حياة جديدة وسيمة الملامح جدا بعد أسبوع، حتى يئسوا منك مثلما قالت لك الدكتورة إيلينا: أنت يا زميل، حالتك لا تخضع للطب الذي درسنا، وقال لك البروفيسور الكبير في نيويورك فريدمان: حالتك نادرة، ولكنها التفسير الأوحد، تنفعل إلى درجة المرض، وتمرض إلى درجة الموت، وتموت إلى درجة الحب، والمسألة خرجت عن كل ما لدينا من علم تعلمناه نعلمه؛ ربما تعرف أنت!
وفي ركن خفي من أركان نفسي السرية كنت أعرف: أنها ذلك الجزء الذي يملي علي أن أكتب، يمرضني ويحيرني، وجزء كقوانين الكون كيف لي أن أسيطر عليه؟ ولا كيف أريحه؟ فإذا أخذت إجازة وذهبت إلى الشاطئ، ثارت الزوبعة في يافوخي حتى تتكتل علي الأمراض، وربما تهدأ تماما إذا وجدت نفسي في وسط وحركة جيش التحرير في الجزائر، أو أستعد ليوم عصيب من أيام الحركة الوطنية والقومية.
وأيضا ما علينا.
نامعلوم صفحہ