ربما الشيء الوحيد الذي تبقى يخصني، ويجعلني في لحظات أحس بصهللة الإحساس بالحياة، هو نوع من حب الاستطلاع؛ كيف - إذا جاء - سيجيء؟ كيف الناس يموتون؟ وأي إحساس بالضبط؟ وما هو ذلك الشيء الذي تواضعت عليه البشرية من قديم الزمان، وأسمته طلوع الروح؟ أتأتي على هيئة «كرشة» نفس، تنتاب الشخص لهنيهة، ثم ينقطع النفس؟ أتأتي على هيئة استمرار طويل لنوبة من نوبات التوهان والدوخة، التي كانت تعتريني بين الحين والحين، حتى لأحس أني انفصلت عن وعيي، وأنه بقي معلقا مدركا للموجودات من حولي، بينما أنا هويت وأهوي بسرعة مخيفة إلى بئر لا قرار لها؟ لا أحس أني أهوي، ولكن حين ينتقض شيء في رأسي، يعيد وصل الوعي بالأنا الهاوية، أحس أني فعلا أصعد، ومعنى هذا أني كنت بالتأكيد أهوي.
كيف إذن يأتي ذلك الشيء المحير؟ تلك النهاية السؤال؛ الموت؟ إن الجهد الذي بذله مخترع المحرك؛ ليوجد الوسيلة التي يستطيع بها إيقافه عن الدوران، لم يقل في رأيي عن الجهد الذي بذله؛ لكي يحول المعدن الساكن إلى عجلة متحركة؛ فخلق الحركة لا يعادله سوى اختلاق السكون. كيف سأسكن أنا؟ أيحدث إغماء محتم قبلها، أم أن بعضهم يكون إحساسه بالموت هو آخر مدركاته، بحيث تكون النهاية هي نهاية الإدراك؟
ولم أكن أتوقع أن يأتي هكذا أبدا.
فجأة ذلك الصباح، وأنا أداعب ابنتي الصغيرة، قبل ذهابها المبكر إلى «أوتوبيس» المدرسة، حاملة جبل الكتب المقررة على الثانية الابتدائية - كتلة ضخمة تنوء بها البنت فعلا لا مجازا - فجأة وهي تجري لتلحق بالأوتوبيس الزاعق، أحسست أني بلا ألم أتنفس بصعوبة، أشفط بطني كله لكي أخلق الفراغ في صدري، وما يكاد جزء منه يمتلئ، حتى أحس بحاجتي إلى هواء أكثر، وهكذا في منتصف الشهيق أشهق، وفي منتصف المنتصف أعود أشهق!
ولم يبرق خاطر وإنما مسمار رهيب، بخبطة شاكوش واحدة مفاجئة، أدركت السلاح الذي اختاره الموت؛ جلطة الرئة! في ثوان ينتهي كل شيء. ولم أعرف - أنا المسجى ثلاثة أرباع ميت، على فراش غائص بي، مقعر فعلا - أني أمتلك هذه القدرة الهائلة على الهلع.
وكأنما كنت، وأنا أفكر بالموت بتلك السهولة واللامبالاة، أتحداه من حيث لا أدري، فحين استقر إلى درجة النزال وأمسك بسلاحه، أرعش الرعب كل خلية من خلاياي.
وعادة تليفون الجيزة لا يتصل بالدقي، فإذا اتصل ورد منزل جراح الشرايين الكبرى، لتقول لنا الفاضلة زوجته: إنه في مستشفى قصر العيني الآن، فمعنى هذا أنك ميت، لا محالة ميت، إن الجلطة لا يبدو أنها من النوع القاتل في الحال، وأن هناك احتمالا لاستئصالها بالجراحة، والحياة - كل الحياة - أصبحت معلقة بتليفون قصر العيني، الذي أعرفه منذ عملت فيه من قديم الزمان، أنه أبدا عمره ما كان إلا مشغولا مشغولا مشغولا! فالاتصال بالعزيز رئيس المكتب «تعبير تليفوني»، وكأن المكالمة من الخارج أو إلى الخارج، وليدخل على الخط، وفي ثوان يكون سامع على الطرف الآخر! وفي ثلاث دقائق تكون زوجتي تقود العربة بأقصى سرعة، وهي تؤكد أن لا جلطة ولا خوف. وإلى قسم التشخيص بالإشعاع الذري، ومجموعة هائلة - من عميد الكلية إلى الجراح إلى كتيبة من شباب الأطباء - تتلقفني وتدخلني غرفة، الوحيدة في مصر التي ترسم الرئة بالألوان بواسطة عقل إليكتروني، وتظهر نتيجة غريبة محيرة؛ الرئة اليسرى ليس بها قطرة دم، ولكن أيضا ليس بها أي جلطة!
ويشكون في صدق الآلة؛ فهذه نتيجة عبثية تماما، فمعنى خلو الرئة من لون الدم أنها لا تتنفس، بينما بالسماعة وحتى باليد صوت تنفسها واضح وجلي ومسموع.
ويتطوع الطبيب الشاب بشرح كيف أنهم في أمريكا يبتكرون بحثا أو علما جديدا اسمه: أخطاء الآلات، وأنها تشكل كذا في المائة.
وكان لا بد من إعادة الفحص.
نامعلوم صفحہ