في عصر الوثنية الحديثة هذا أصبح الإله الواحد، حتى في الدين الواحد عشرات الملل والنحل، والأب الواحد أصبح عشرات الآباء تختار أيهم كما شئت، حسب لون الفانلة أو نوع الفتاة أو فرقة الغناء أو مكانتك في الشلة. وما أبعد المسافة بيننا وبين البدء! بحيث أصبحت الكلمة والأوقع والأكثر جذبا للانتباه شارع المتعة والحياة: فلان؟ أهلا وسهلا، أو أهلين! من جديد أمر يحتاج إما أن تهدمه تماما وتعيده خلقا آخر، وهذا ليس بمستطاعك، وإما أن تكتفي أن تقوم بدور المتفرج، في طابور طويل من الآباء يغمر العالم كله، يتفرجون على كائنات كانت في البدء أبناء. •••
ولم يعد إلا أن أحيل نفسي - رغم الطاقات التي تتفجر مني، ورغم أني في أكمل وأنضج «فورمة» إنتاج في أي مجال ومكان - إلى التقاعد! وتقاعدت. أتمشى مبكرا في الصباح، أحتسي كوب شاي في مقهى أو ناد، أعود إلى البيت، أحاول أن أصلح حنفية أو أفسد «كوبس» نور، أنا في إجازة ما قبل الإحالة إلى الاستيداع.
وشيئا فشيئا بدأت ألحظ مسألة بالغة التفاهة.
إن قدرتي على التمشي أصبحت أقل، وكل يوم تقل، وأصبحت أعود إلى البيت، وكأني قد بنيت السد العالي بمفردي، متعبا مهدودا لا أكاد أصل إلى البيت، حتى أظل أستريح - ولو من الراحة - استراحة تصل إلى الظهر.
وأتغدى وأجد نفسي في حاجة ماسة إلى النوم، وكأنني ظللت اليوم بطوله ساهرا.
ثم ساءلت نفسي السؤال الأكبر: لماذا اليقظة المبكرة أصلا، وليس ورائي من عمل أؤديه؟
ثم سؤال أكبر وأكبر: ولماذا المشي كل يوم كل يوم ، وأنا ليس لدي عمل ثابت لكل يوم؟ وأسئلة ليست مجرد أسئلة، ولكنها مقدمة حتمية معقولة؛ لشمولها بالنفاذ الفوري.
ما أروع التمطي في فراش دافئ ونحن في طوبة، حيث كل شيء وكل إنسان من البرد يتجمد! ما أروع فكرة أن ليس وراءك بالمرة أي عمل! ليس الكسل هو الرائع في الموضوع، ولكن الأروع هو الإحساس الكامل أن ليست لديك أية مواعيد أو واجبات، وإنما أنت لك حرية اليوم والغد والزمن القادم كله.
كل حياتي كان محورها أني أكتب؛ كل اتصالاتي، دعواتي، ارتباطاتي، سببها خيط واحد يصدر مني ليوزع آلاف خيوط بعضها يجذب، بعضها يعزف، بعضها يقلق، بعضها يفرح، بعضها يذكر أو يتذكر أو يصرخ ألما. والخيوط تلتقي عندي، تصنع لي يقظتي ومنامي، وترغمني أن أرتدي الثياب كل يوم، وأعاني مشاق كل يوم، وأودع الأمس وداع المغتاظ مرة، وداع الصبوة مرة، لا أنتظر الغد بصبر نافد، بل لا أريده أن يأتي أبدا.
ذلك المحور لم يعد له وجود؛ الكرة الأرضية الآن انطلقت في الفضاء على حريتها، بكل اتساعه وشموله، تدور حول الشمس أو لا تدور، تترك وليدها القمر ينعي حظه وخسوفه، إذا أحست بعلل الصحبة.
نامعلوم صفحہ