أيامًا معدودات ..
* حتى لا نخسر رمضان
* ماذا نريد من رمضان؟
* رمضان وعودة الروح
مجدي الهلالي
نامعلوم صفحہ
بسم الله الرحمن الرحيم
أيامًا معدودات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد طلب مني إخواني في قسم النشر بمؤسسة اقرأ الجديدة كتابًا جديدًا عن شهر رمضان، ولقد مَنَّ الله ﷿ عليّ بالكتابة حول هذا الموضوع في أكثر من كتيب سابق، ولقد تضمنت تلك الكتيبات العديد من الأفكار والمعاني التي تركز على كيفية الاستفادة من هذا الشهر في إحياء القلب، والتزود الحقيقي بالإيمان، لذلك فقد وجدت أنه من المناسب أن أجمع هذه الكتيبات في كتاب واحد لعله يعطي للقارئ صورة شبه مُجملة حول طريقة الانتفاع بشهر رمضان في دوام الاستقامة طيلة العام ..
أسأل الله أن ينفعني وإياك - أخي القارئ - بكل خير تضمنته هذه الصفحات، وألا يحرمني الأجر إن أصبت أو أخطأت ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: ٣٢].
1 / 1
حتى لا نخسر رمضان
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فعندما يذهب شخص إلى الطبيب شاكيًا من علة ما، فالمتوقع أن يستمع الطبيب إلى شكواه ثم يقوم بالكشف السريري عليه، ثم يكتب له الدواء الذي يراه مناسبًا لحالته.
ولن يفوت الطبيب تذكير مريضه بطريقة أخذ الدواء؛ فهذا قبل الأكل وهذا بعده، وذاك قبل النوم .. ثم ينصحه بالانتظام في تناوله، وفي النهاية يطلب منه مراجعته بعد عدة أيام.
ومن المتوقع أن أول سؤال سيسأله الطبيب لمريضه عند المقابلة الثانية سيكون عن مدى تحسن حالته الصحية، فإن وجد تحسنًا ملحوظًا فسيطلب منه الاستمرار على أخذ الأدوية - كلها أو بعضها - مدة زمنية أخرى حتى يتم له الشفاء - بإذن الله - وإن لم يلحظ هذا التحسن فسيتوجه إلى مريضه بالسؤال عن مدى جديته في تناول الدواء بالطريقة الصحيحة، فإن وجد منه التزامًا في هذا الأمر فسيتجه تفكيره نحو تغيير جرعات الدواء، أو استبداله بآخر، وكيف لا وهو يعلم بأن هدف مجيء المريض إليه هو بحثه عن الشفاء بإذن الله، ويعلم كذلك أن الأدوية ما هي إلا وسائل لتحقيق هذا الهدف.
إن العلاقة بين الأدوية والعافية تمثل العلاقة بين الوسائل والأهداف، فالوسائل ليست مطلوبة لذاتها بل لتتحقق الأهداف من خلالها.
ومن العجيب أن هذا التصور لتلك العلاقة نمارسه بصورة تلقائية، وفي أمور كثيرة فيما يخص أمور دنيانا أما أمور ديننا فالأمر يختلف، بمعنى أن الأهداف في كثير من الأحوال تُنسى، وذلك حين تتحول الوسائل إلى أهداف وغايات.
حياة القلب بالإيمان هي الهدف:
لقد خلقنا الله ﷿، وأسكننا الأرض لنقوم بمهمة عظيمة، ألا وهي ممارسة العبودية له سبحانه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
هذه العبودية لها حقيقة ينبغي أن يعيش المرء في أجوائها، وأن تظهر آثارها على سلوكه وتعاملاته ..
فالعبودية لله ﷿ معناها الانكسار والاستسلام التام له سبحانه، وطاعة أوامره، ودوام خشيته، والشعور بالاحتياج المطلق والافتقار التام إليه، ومن ثمَّ دوام سؤاله، والتمسكن بين يديه، والتوكل عليه، وإخلاص التوجه له، مع حبه وإيثار محابه ومراضيه على كل شيء ... لينعكس ذلك على السلوك فيصبح همُّ المرء فعل كل ما يرضي مولاه ويستجلب به رحمته وفضله وجزاءه الذي وعد به عباده المتقين فيزداد سعيه لكل ما يقربه من الجنة ويبعده عن النار.
فالعبودية الحقيقية تعني غلبة الإيمان بالله على قلب المرء ومشاعره، فيصير حبه سبحانه أحب الأشياء لديه، وخشيته أخوف الأشياء عنده.
1 / 3
يطمئن إليه، ويثق فيه وفي قدرته غير المتناهية، وفي قربه، وعلمه وإحاطته بكل شيء، ومن ثم يتوكل عليه ويتقيه، ويحبه، ويشتاق إليه، و... .
فالتوكل على الله ﷿، ومحبته، وخشيته دليل على قوة الإيمان به والعبودية له:
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٢٣].
﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٣].
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٥٧].
وكلما تمكن الإيمان من القلب تحسن السلوك تبعًا لذلك كما قال ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (١).
فالإيمان هو الدافع للاستقامة وللسلوك الصحيح ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ١].
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: ٣٢].
العبادات وسائل:
فإن كانت حياة القلب بالإيمان هي الهدف الذي به تتحقق العبودية لله ﷿ فكيف يصل المسلم لهذا الهدف؟!
أرشدنا الله ﷿ إلى الوسائل التي من شأنها أن تبلِّغنا هذا الهدف .. هذه الوسائل هي العبادات بقسميها القلبية والبدنية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١]
فالعبادات أدوية ناجحة تحقق للقلب عبوديته التامة لله ﷿ ..
فالصلاة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه، وهي وسيلة عظيمة للاتصال به سبحانه، ومناجاته، واستشعار القرب منه، والأنس به، والشوق إليه فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: ١٩]، ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٩].
وبهذا يزداد الإيمان من خلال تلك الصلاة، وتظهر آثاره في دوافع المرء وسلوكه، فتزداد مسارعته لفعل الخير، ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته لفعل المعاصي أو الاقتراب منها فيحقق قوله تعالى ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
والصدقة عبادة عظيمة تقوم بمعالجة القلب من داء حب الدنيا والتعلق بها .. أي أنها تطهر القلب وتزيده قوة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
والصيام يساعد المرء على السيطرة على نفسه وإلزامها تقوى الله ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].
والذكر بصفة عامة يهدف إلى تذكُّر الله .. تذكُّر عظمته وجلاله وجماله وإكرامه فيزداد به المرء اطمئنانًا وثقة وإيمانًا ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].
وهكذا في بقية العبادات القلبية والبدنية، والتي تشكل منظومة متكاملة، يتحقق من خلال القيام الصحيح بها الهدف العظيم من وجودنا على الأرض ...
فما من عبادة أرشدنا الله إليها إلا وتُعد بمثابة وسيلة و"مَركبة" تنقلنا إلى الأمام في اتجاه القرب منه سبحانه حتى نصل إلى الهدف العظيم في الدنيا (أن تعبد الله كأنك تراه) وفي الآخرة ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ [الزمر: ٦١].
تهيئة الأجواء لتحقيق الهدف:
_________
(١) متفق عليه: البخاري (١/ ٢٨، رقم ٥٢)، ومسلم (٣/ ١٢١٩، رقم ١٥٩٩).
1 / 4
والمتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحثنا وتساعدنا على تهيئة الأجواء المناسبة للتفاعل القلبي مع العبادات ومن ثم زيادة الإيمان من خلالها، فعلى سبيل المثال: الصلاة .. نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من الشواغل وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها، فإذا حضر الطعام مع دخول وقت الصلاة يفضل البدء بالطعام حتى يدخل المرء إلى الصلاة وذهنه غير مشغول به.
وكذلك عند مدافعة الأخبثين .. قال ﷺ: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (١).
ولا ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلاة، بل عليه أن يمشي في سكينة وهدوء، فالإسراع من شأنه أن يجعله يذهب إلى الصلاة وهو مضطرب فيصعب عليه جمع قلبه ..
والحث على التبكير في الذهاب للمسجد قبل إقامة الصلاة له دور مهم في صرف شواغل الدنيا عن الذهن ..
وكذلك فإن الحث على تذكر الموت قبل الصلاة من شأنه أن يستجيش المشاعر نحو الرجاء والطمع في عفو الله والخوف والرهبة من عقوبته ..
كل ذلك وغيره يهيئ المسلم للاستفادة من الصلاة وما فيها من قراءةٍ للقرآن، وذكر، ودعاء في تحقيق هدفها بزيادة الإيمان وتحسين السلوك ..
غياب الرؤية:
عندما تغيب هذه الرؤية ويصبح الهدف هو أداة العبادة، بأي شكلٍ كانت، فإن ثمرة العبادة لا تكاد تظهر للوجود، ومن ثمَّ يظل العبد في مكانه؛ فلا يتقدّم في مضمار سباق السائرين إلى الله، ولا يجد حلاوة الإيمان، ولا يشعر بتحسن ملحوظ في سلوكه، لتكون النتيجة: إنسانًا ذو شخصيتين متناقضتين؛ فقد تجده كثير الصلاة والصيام والحج والاعتمار، ومع ذلك تجده لا يؤدي الأمانة، ولا يتحرى الصدق، ويسيء معاملة الآخرين، ويحسدهم على كل خير يبلغهم .. يصاب بالهلع والفزع إذا ما تعرَّضت أمواله وممتلكاته أو دنياه لمكروه ...
هذه المظاهر السلبية وغيرها تدل على أن صاحبها لم يَسْتَفِد من عباداته، ولم يتحسن إيمانه من خلالها، وبالتالي لم ينتج منها الأثر الصحيح الذي من شأنه أن يصلح السلوك والمعاملات ..
وتأكيدًا لهذا التشخيص، لك أخي القارئ أن تتأمل قوله ﷺ: «رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، ورُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (٢) ..
وكذلك قوله «واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (٣).
وقوله «ليجيئن أقوام يوم القيامة وأعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى النار»، قالوا: يا رسول الله مصلين؟ قال: «نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هنة من الليل فإذا عُرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه» (٤).
فالمقصد من العبادة ليس فقط أداؤها من الناحية الشكلية، بل المهم والأهم هو أداؤها بطريقة تحقق هدفها؛ فإراقة دماء الهَدْي في الحج على سبيل المثال ليست مقصودة لذاتها، بل المقصود هو زيادة الإيمان والتقوى من خلال أداء هذه الشعيرة ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: ٣٧].
إحسان العمل أولًا:
من هنا نقول بأنه ينبغي علينا أن نهتم بتحسين العمل ليتحقق من خلاله مقصود العبادة، ويزداد الإيمان في القلب ..
وفي هذا المعنى يقول الحافظ بن رجب:
كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.
_________
(١) رواه مسلم (١/ ٣٩٣، رقم ٥٦٠).
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ٣٧٣، رقم ٨٨٤٣)، والحاكم (١/ ٥٩٦، رقم ١٥٧١)، وصححه الشيخ الألباني ﵀ في صحيح الترغيب والترهيب (١٠٨٣).
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٥١٧، رقم ٣٤٧٩)، والحاكم (١/ ٦٧٠، رقم ١٨١٧) السلسلة الصحيحة (٥٩٤).
(٤) أخرجه أبو نعيم في الحلية (١/ ١٧٨).
1 / 5
وقال بعضهم: إن الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ.
إن القلب هو محل نظر الله ﷿، ومن ثمَّ فإن الأعمال تتفاضل عنده سبحانه بتفاضل ما في القلوب من إيمان ومحبة وإخلاص وخشية له، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة موافقة هذه الأعمال للشرع ..
ولئن كان السير إلى الله والقرب منه إنما يكون بالقلوب، فإن وسائل ذلك هي العبادات والأعمال الصالحة التي دلنا عليها القرآن والسنة، ولكي تتم الاستفادة من هذه الوسائل في تحقيق الهدف لابد من تحسينها والاهتمام بتفاعل القلب معها، أما إذا تم التعامل معها على أنها غايات فسيصبح همّ المرء إتيانها والإكثار منها بأي شكل كان دون النظر لحضور القلب وانتفاعه بها، فيؤدي هذا إلى غياب الأثر الإيجابي للعبادات والأعمال الصالحة في حياة الفرد.
سل الواقع
ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلقةً مفقودةً بين العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد، وعلى الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات، والمتنفلين بالحج والعمرات، إلا أننا لا نرى الأثر المتوقع لهذه العبادات ... فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة! وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا لتلاوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلات تلو الويلات! ... وما أكثر وما أكثر.
إن وجود هذا الانفصال بين العبادات وأثرها مردُّه - بالأساس - لتعاملٍ غير صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي، ويقصرها فقط على الناحية الشكلية، ولعل من أسباب هذا التعامل:
- تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في فضائل الأعمال، وعدم ربطها بمقاصدها في تحقيق العبودية وزيادة الإيمان ..
- كذلك فإن من أسباب هذا التعامل: سهولة القيام بالطاعات من الناحية الشكلية فقط .. فالاجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى جهد - قد لا يريد الكثيرون بذله- وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ.
- ومنها أيضًا: الشعور بالرضا عن النفس عند إنجاز (كَمّ) معتبر من العبادات، فالملاحظ أنه كلما نجح المرء في الانتهاء من أداء عمل شعر بالرضا عن نفسه، وهذا الشعور يدفعه دفعًا إلى الاستمرار في هذا الطريق.
ولعل أبلغ مثال يؤكد هذا الأمر هو تلاوة القرآن في رمضان، فالتسابق في إنجاز أكبر عدد من الختمات دون فهم ولا تدبر من أسبابه الشعور بالزهو والرضا عن النفس كلما ختم المسلم ختمة فيدفعه ذلك للبدء في ختمة أخرى وسرعة الانتهاء منها، وهكذا ...
تحصيل الثواب
ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرةً ومتعددةً، إلا أن أهم تلك الأسباب هي الرغبة في تحصيل الثواب المترتب عليها؛ فعلى سبيل المثال قراءة القرآن، هذه العبادة العظيمة التي من شأنها أن تحييَ القلب وتنيره وتشفيَه من أسقامه، قد تحوَّلت على ألسن الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بلا فهم ولا تدبر ولا تأثر، بل أصبحت الغاية من التلاوة هي قطع المسافة بين فاتحة المصحف وخاتمته في أقل وقت ممكنٍ؛ أملًا في تحصيل الثواب، وذلك عملًا بقوله- ﷺ: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (١).
_________
(١) الترمذي (٥/ ١٧٥، رقم ٢٩١٠)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٦٤٦٩).
1 / 6
ومما يثير العجب أن هناك العديد من الآيات والأحاديث التي تتحدث عن تدبر القرآن لتحصيل العلم والهداية والشفاء، وتذم من يقرؤه بلا فهم أو تدبر كقوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: من الآية ٢٩]، وقوله: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان:٧٣].
وتأمل قوله ﷺ لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه لقراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: «لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث» (١).
ورأى ﷺ يومًا بعض الصحابة يقرءون القرآن فقال لهم: «الحمد لله .. كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار، وفيكم الأحمر والأسود .. اقرءوا القرآن، اقرءوا قبل أن يأتي أقوام يقرءونه، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه» (٢).
ومن أقواله- ﷺ: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يَدْرِ ما يقول فلينصرف، فليضطجع» (٣).
وعندما نزلت آيات سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] قال ﷺ: «ويل لمَن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر بها» (٤).
وتأمل معي قوله ﷺ: «ستكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيَهم» (٥).
وأقوال الصحابة في ضرورة تدبر القرآن كثيرة، منها قول عبد الله بن مسعود: «لا تهُذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم من السورة آخرها».
وقول علي بن أبي طالب: «لا خير في قراءة ليس فيها تدبر»، وقول الحسن بن علي: «اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه».
وقال رجل لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: «لأن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ كما تقول» (٦).
وهذه السيدة عائشة ﵂ تسمع رجلًا يقرأ القرآن قراءة سريعة، فقالت: ما قرأ هذا وما سكت (٧).
إذن فالنصوص التي تؤكد ضرورة تدبر القرآن وتفهمه وترتيله كثيرة، فلماذا لا يتم التركيز إلا على الأحاديث التي تسرد الثواب المترتب على القراءة فقط دون غيرها؟!
لا شك أن من أهداف تلاوة القرآن تحصيل الأجر، ولكن من خلال القراءة المتدبرة التي تزيد الإيمان وتُذكِّر القارئ بما ينبغي عليه فعله أو تركه فيصير القرآن حجة له لا عليه.
_________
(١) أخرجه الإمام أحمد (٢/ ١٦٥ و١٨٩)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (١١٥٧).
(٢) أخرجه أبو داود (١/ ٢٢٠، رقم ٨٣١)، وابن حبان (٣/ ٣٦، رقم ٧٦٠)، والطبراني (٦/ ٢٠٧، رقم ٦٠٢٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (٢/ ٥٣٩، رقم ٢٦٤٥).
(٣) أخرجه مسلم (١/ ٥٤٣، رقم ٧٨٧).
(٤) حديث صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (٢/ ٣٨٦، برقم ٦٢٠)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (٦٨).
(٥) أخرجه أحمد (٣/ ١٩٧، رقم ١٣٠٥٩)، وأبو داود (٤/ ٢٤٣، رقم ٤٧٦٦)، وابن ماجه (١/ ٦٢، رقم ١٧٥)، وصححه الألباني في صحيح ظلال الجنة (٩٤٠).
(٦) فضائل القرآن لأبي عبيد الهروي.
(٧) الزهد لابن المبارك (١١٩٧).
1 / 7
يقول ابن القيم: «لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها؛ فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وتذوق حلاوة القرآن» (١).
أين الثمرة؟
لقد جرَّبنا القراءة السريعة، وكان هَمُّ الواحد منا الانتهاء من ختم القرآن، بل كان بعضنا يتنافس في عدد مرات الختم، خاصةً في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غيَّر فينا القرآن؟! أيُّ تحسُّن حدث في أخلاقنا ومعاملاتنا نتيجة كثرة القراءة باللسان والحناجر فقط؟
إحسان ثم إكثار:
ليس معنى هذا الكلام هو الزهد في الأجر والثواب المترتب على أداء العبادات، بل المقصد هو إحسان العبادة أولًا، مع الاجتهاد في حضور العقل وتفاعل القلب معها، ثم لنكثر منها بعد ذلك ما شئنا، فنجمع بين الأمرين وننال الخيرين.
بل إن الثواب المترتب على الأعمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحضور القلب أثناء القيام بها ...
يقول ابن القيم: «وكل قول رتَّب الشارع ما رتَّب عليه من الثواب، إنما هو القول التام، كقول الرسول ﷺ: «من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطَّت عنه خطاياه، أو غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر»، وليس هذا مترتبًا على قول اللسان فقط .. نعم، من قالها بلسانه غافلًا عن معناها معرضًا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيًا مع ذلك ثوابها، حُطَّت من خطاياه بحسب ما في قلبه؛ فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتهما ما بين السماء والأرض (٢).
الفهم الصحيح أولًا
إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات، وأنها وسائل لا غنى عنها لإحياء القلب بالإيمان، هو الخطوة الأولى على طريق الاستفادة الحقيقية من تلك العبادات، وسيكون من نتاج ذلك الفهم- بإذن الله- البحث عن كيفية إحسان العبادة.
ففي الصلاة: سيكون الهمُّ هو حضور القلب فيها، وهذا يستدعي التبكير إلى المسجد، والتفكر في الآيات المقروءة، والاطمئنان في الركوع والسجود، وكثرة المناجاة والدعاء والتذلل لله ﷿ و... .
وفي الذكر: سُيقرنه الذاكر بالتفكر فيه، فيستغفر مستحضرًا ذنوبه وتقصيره في جنب الله، نادمًا على ما أسلف، مستحضرًا جلال مَن عصاه، وسيقرن التسبيح متفكرًا في مظاهر عظمة الله وقدرته وإبداعه، كما يقول الحسن البصري: «إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة» (٣).
حتى لا يضيع علينا رمضان
إذا أسقطنا هذا المفهوم على رمضان فإن تعاملنا معه سيختلف عن ذي قبل وسنجتهد في الانتفاع الحقيقي به.
إن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لإحياء القلب وعمارته بالإيمان وانطلاقه في رحلة السير إلى الله، لما قد اجتمع فيه من عبادات متنوعة مثل الصيام، والصلاة، والقيام، وتلاوة القرآن، والصدقة، والاعتكاف، والذكر، والاعتمار، و....
هذه العبادات إذا ما أحسنَّا التعامل معها فإن أثرها سيكون عظيمًا في إحياء القلب وتنويره وتأهيله للانطلاق في أعظم رحلة: "رحلة السير إلى الله".
أما إن تم التعامل معها بصورة شكلية محضة فسيبقى الحال على ما هو عليه .. ستبقى الأخلاق هي الأخلاق، والنفوس هي النفوس، والاهتمامات هي الاهتمامات ... والواقع هو الواقع، وستستمر الشكوى بعد رمضان من الفتور وضعف الهمة والتثاقل نحو الأرض ..
_________
(١) مفتاح دار السعادة لابن القيم.
(٢) مدارج السالكين لابن القيم.
(٣) إحياء علوم الدين
1 / 8
الغنيمة الباردة:
ولعل من أهم الأمور التي تُعين المسلم بإذن الله على الاستفادة من رمضان هو إدراكه أن هذا الشهر يُعد بمثابة (الغنيمة الباردة) التي يمكنه من خلالها إيقاظ الإيمان وتجديده في قلبه والتزود بالتقوى، وأن هذه الغنيمة لا يمكن إدراكها من خلال القيام بأشكال العبادات دون تحرك القلب معها، وهذا يستدعي منه تفرغًا - إلى حد ما - من الشواغل التي تشوش على عقله، وتصرفه عن الحضور والتجاوب القلبي مع الأداء البدني للعبادات.
ويحتاج الأمر كذلك إلى عدم إجهاد البدن قدر المستطاع، فكلما أُجهد البدن ثقلت العبادة وغاب أثرها على القلب.
والجدير بالذكر أن البعض يتصور أن قيامه بنوافل العبادات - كصلاة القيام - وهو في حالة من الإجهاد البدني والشعور الشديد بالتعب أفضل من عدم قيامه بها، لأنه لو تركها وأخلد للراحة بصورة مؤقتة فستفوته تلك النافلة مع الجماعة، وهذا - بلا شك - نتيجة لغياب الفهم الصحيح لحقيقة العبودية، ولقد مر علينا قوله ﷺ: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف، فليضطجع» وليس معنى هذا هو سرعة الاستسلام للشعور بالتعب والإجهاد، ولكن لابد من إعطاء البدن حقه من الراحة حتى نستطيع - بعون الله - القيام بالعبادة وعقولنا وقلوبنا حاضرة معها قدر المستطاع.
ولك - أخي القارئ - أن تتأمل قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣].
ففي مرحلة التدرج في تحريم شرب الخمر، كان التوجيه بعدم شربها قبل الصلاة حتى لا تُذهب العقل فلا يدري المصلي ما يقول، أي أن التركيز في الصلاة وفهم ما يقوله المرء أو يسمعه أمر ضروري يتحقق من خلاله مقصودها.
فماذا تقول عمن يدخل إلى الصلاة وهو شارد الذهن ويغلبه النعاس فيبدأ الصلاة وراء الإمام برفع يديه بالتكبير ثم يفاجأ بالتسليم؟! هل بهذا الشكل يزداد الإيمان والتقوى؟!
يقول ﷺ: «ما بال أقوام يُتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يُتلى منه مما ترك، هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل، فشهدت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله من عبد عملًا حتى يشهد بقلبه مع بدنه» (١).
في رمضان العمل مع أنفسنا أهم واجباتنا:
فإن قلت: ولكن ماذا أفعل وفي رمضان تزداد الأعمال الخدمية والاجتماعية مما يؤثر بالسلب على إتقان العبادة؟
إن الحركة وسط الناس مطلوبة لتوجيههم ودعوتهم إلى الله، ومساعدتهم، وإسداء الخير لهم، ولكي يستفيد المسلم من هذه الحركة لابد وأن تنطلق من إيمان حي، ونفس مزكاة، فإن لم يحدث هذا كانت النتيجة سلبية كما قال ﷺ: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه، مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» (٢).
ويقول الرافعي: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة لمن حولك وتترك الفوضى في قلبك ..
وشهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلب بالإيمان، وترويض النفس وتزكيتها، فإن ضاعت من المسلم هذه الفرصة فأي حال سيكون عليه قلبه وإيمانه؟
فمن لم يحيي قلبه في رمضان فمتى يحييه؟ ومن لم يتزود بالإيمان في رمضان فمتى يتزود؟
_________
(١) حديث ضعيف: أورده ابن الأثير في جامع الأصول (٥/ ٦٤٨)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (١١/ ٥٢ برقم ٥٠٥٠).
(٢) أخرجه الطبراني، وقال الشيخ الألباني ﵀ في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره.
1 / 9
وليس معنى هذا هو الاعتكاف التام عن الناس طيلة الشهر، ولكن المقصد هو تخفيف الجرعة، وهذا يستدعي منا إنهاء ما يمكن إنهاؤه من واجبات اجتماعية وخدمية قبل قدوم رمضان أو بعد رحيله، والإقلال قدر المستطاع من الزيارات العائلية، والإفطارات المجمعة، وكيف لا وشهر رمضان (أيامًا معدودات) سرعان ما تنقضي.
لقد كان ﷺ يعتكف في كل عام العشر الأواخر من رمضان، وفي العام الذي تُوفي فيه اعتكف عشرين يومًا .. أي ثلثي الشهر، فماذا نقول بعد ذلك وأي حجة سنسوقها كي نبرر لأنفسنا عدم التركيز في العبادة وتحصيل الزاد من خلال منظومة العبادات في شهر رمضان؟!
ولئن كانت الظروف المحيطة ببعض الأفراد تستدعي منهم كثرة الحركة وبذل الجهد مع الآخرين في هذا الشهر؛ فإن التخطيط الجيد لتنفيذ الأعمال الدعوية والاجتماعية، والمساعدات الخيرية، والحرص الشديد على الوقت وتنظيمه يساعد بإذن الله على تحقيق ذلك دون الإخلال ببرنامج الاستفادة الحقيقية من رمضان، وبهذا نجمع الخيرين.
البنا يؤكد:
إليك أسوق - أخي القارئ - كلمة للإمام المجدد حسن البنا ﵀ والتي كانت جزءًا من درسه الأسبوعي المعروف بـ (حديث الثلاثاء) يؤكد فيها على هذا المعنى فيقول:
أيها الأخوة الفضلاء: أحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
في هذه الليلة التي تجاوز ختام شعبان نختم هذه السلسلة من الأحاديث حول نظرات في القرآن - كتاب الله ﵎ وإن شاء الله في العشر الأول من شوال نعود إليها، ونستفتح بذلك موسمًا جديدًا من مواسم المحاضرات، وسيكون موضوعها إن شاء الله (نظرات في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي).
هذا أيها الإخوان ورمضان شهر شعور وروحانية وتوجُّه إلى الله، وأنا أحفظ فيما حفظت أن السلف الصالح كانوا إذا أقبل رمضان ودَّع بعضهم بعضًا حتى يلتقوا في صلاة العيد، وكان شعورهم: هذا شهر العبادة وشهر الصيام والقيام، فنريد أن نخلو فيه لربنا، والحقيقة أيها الإخوان، إني حاولت أن أوجد فرصة نقضي فيها حديث الثلاثاء في رمضان فلم أجد الوقت الملائم، فإذا كنا قد قضينا معظم العام في نظرات في القرآن فأنا أحب أن نقضي رمضان في تطبيق هذه النظرات ..
أيها الإخوة الفضلاء:
لقد تحدثنا طويلًا عن عاطفة الحب والتآخي التي ألف الله بها بين قلوبنا، والتي كان من أبرز آثارها هذا الاجتماع على الله، وإذا كنا سنُحرم هذا اللقاء أربعة أسابيع أو أكثر فليس معنى هذا أن تخمد العاطفة أو تخبو، أو ننسى أبدًا ما كانت تفيض به قلوبنا ومشاعرنا في هذا المجلس الطيب من أسمى معاني العزة والتآخي في الله، بل أنا أعتقد أنها ستظل متمثلة ومشتعلة في نفوسنا حتى نحظى بلقاء كريم بعد هذه الإجازة إن شاء الله، فإذا جاء أحدكم يصلي العشاء ليلة الأربعاء لي رجاء أن يدعو لإخوانه بالخير، فلا تنسوا هذا، ثم أحب أن تتذكروا أننا إذا كانت عاطفتنا ستتعطّش إلى هذا اللقاء خلال هذه الأسابيع، فأحب أن تعلموا بأنها ستروى من معين أفضل وأكمل وأعلى، وهو الاتصال بالله ﵎، وهو خير ما يتمناه مؤمن لنفسه في الدنيا والآخرة ...) (١).
وفي الختام نسأل الله ﷿ أن ينفعنا بهذا الشهر الكريم وأن نكون ممن غفر لهم وأعتقهم من النار، والحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
_________
(١) مقالات الإسلاميين في رمضان لمحمد موسى الشريف نقلًا عن حديث الثلاثاء لحسن البنا (خواطر حول شهر الصيام)
1 / 10
ماذا نريد من رمضان؟
1 / 11
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من رحمة الله وفضله علينا أن جعل لنا في هذه الحياة الدنيا محطات نتزود فيها بالإيمان والتقوى، ونمحو ما علق بقلوبنا من أثار الذنوب والغفلات ... نلتقط فيها أنفاسنا، ونعيد ترتيب أوراقنا، فنخرج منها بروح جديدة، وهمة عالية وقوة نفسية تعيننا على مواجهة الحياة وما فيها من جواذب وصوارف، وتيسر لنا أداء المهمة التي من أجلها خلقنا الله ﷿. فإذا ما بحث الواحد منا عن تلك المحطات وجدها كثيرة ... .
فمنها اليومية كالصلوات الخمس، ومنها الأسبوعية كيوم الجمعة، ومنها السنوية كشهر رمضان، ومنها ما قد يكون مرة واحدة في العمر كالحج والعمرة.
والسعيد من رتب أوراقه وهيأ نفسه للاستفادة من تلك الفرص قبل قدومها عليه، فلا يدعها تمر حتى يتزود منها بكل ما يحتاجه في رحلته إلى الله ﷿، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:١٩٧].
ومن أهم المحطات التي تمر على المسلمين مرة واحدة كل عام: شهر رمضان، فها هي الأيام تمضى ويهل علينا الشهر الكريم بخيره وبركته ... ولقد جعله الله ﷿ موسمًا لاستباق الخيرات، النافلة فيه كالفريضة والفريضة كسبعين فريضة في غيره .... شعاره يا باغي الخير أقبل .... الشياطين فيه مصفدة، وأبواب النيران مغلقة، والأجواء مهيأة لنيل المغفرة والرحمة والعتق من النار. تزينت فيه الجنة ونادت خطابها أن هلموا إلى وأسرعوا الخطى فالسوق مفتوح والبضاعة حاضرة، والمالك جواد كريم.
فهيا بنا نحسن الاستعداد لاستقباله حتى لا نفاجأ بقدومه.
ومما يعنينا على ذلك معرفة ماذا نريد من هذا الضيف الكريم؟ وما الوسائل التي سنستخدمها؟
وهذه الصفحات التي بين أيدينا هي محاولة للإجابة عن هذا السؤال
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
هل من مشمر للجنة
يقول ﷺ «ألا هل من مشمر للجنة، فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في حلية عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: «قولوا إن شاء الله» فقالوا إن شاء الله (١).
إن دخول الجنة يحتاج بعد التعلق برحمة الله إلي كثير من المجهود نبذله في طاعة الله، ولم لا؟ وما هي إلا أيام معدودات نمكثها في هذه الحياة الدنيا ثم يعقبها سنوات طوال - لا نهاية لها - في القبر والدار الآخرة.
إن أغلى أماني أهل القبور أن يعودوا إلى الدنيا ولو للحظة: يسبحون الله فيها تسبيحة أو يسجدون له سجدة واحدة.
فهل لنا فيهم من عبرة؟!
أما آن لنا أن نفيق من غفلاتنا ونستعد لمواجهة المصير الذي ينتظرنا؟!
إننا ما زلنا في الدنيا والفرصة سانحة أمامنا للتزود لما بعد الموت، وها هو شهر رمضان يدعونا لذلك.
هيا بنا نشمر عن سواعدنا ونهجر فراشنا ونوقظ أهلنا ونرفع راية الجهاد ضد أنفسنا وشهواتها ورغباتها.
هيا بنا نجيب داعي الله: ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ﴾.
أحوال الناس مع رمضان:
نعم .. رمضان فرصة عظيمة لا تأتي إلا مرة واحدة في العام، ولكن هل يتعامل معها المسلمون بنفس المستوى؟
فمن الناس من يعتبر مجيء هذا الشهر عبئًا ثقيلًا عليه يتمنى زواله فلا يرى فيه إلا الحرمان .. هؤلاء دخل عليهم رمضان ثم خرج دون أن يترك فيهم أثر أو يحدث لهم ذكرًا.
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٤٨، رقم ٤٣٣٢)، وابن حبان (١٦/ ٣٨٩، رقم ٧٣٨١)، والطبراني (١/ ١٦٢، رقم ٣٨٨).
1 / 12
ومنهم من أستشعر قيمته فشمر سواعد الجد واجتهد غاية الاجتهاد في الإتيان بأكبر قدر من الطاعات فأكثر من ختم القرآن وأداء الصلوات والقربات دون الاهتمام بحضور القلب فيها ...
تعامل مع كل وسيلة علي أنها هدف في حد ذاته، ولم ينظر إلى الهدف الأسمى الذي يرنو الصيام إلي تحقيقه.
هؤلاء قد يشعرون بأثر طيب في قلوبهم .. هذا الأثر سرعان ما يزول بعد انتهاء رمضان بأيام قلائل.
وهناك صنف من الناس اعتبر رمضان فرصة نادرة لإحياء القلب وإيقاظه من رقدته وإشعال فتيل التقوى وجذوة الإيمان فيه. نظر إلى مستهدف الصيام فوجده في قول الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٨٣] فتقوى الله ﷿ هي مقصود العبادات ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] وعلى قدرها في القلب يكون قرب العبد أو بعده من الله ﷿ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:١٣] وعلم هذا الصنف أن شهر رمضان ما جاء إلا ليقرب الناس من ربهم ويزيد من صلاتهم به، ويقطع عن قلوبهم صلتها بالدنيا فهو يزود القلوب بخير زاد ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:١٩٧] فشمر عن سواعد الجد وجمع بين عمل القلب وعمل الجارحة ..
ومما لا شك فيه أن الصنف الأخير هو الفائز الأكبر من رمضان فلقد أصلح من خلاله قلبه وانطلق به في طريق السائرين إلي الله ....
علامات صلاح القلب:
فإن قال قائل: وما علامة صلاح القلب التي ينشدها رمضان؟
عندما يستيقظ الإيمان، وتشتعل جذوته في القلب فإن أمارات الصلاح تظهر بوضوح على الجوارح مصداقًا لقول الرسول ﷺ: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (١) فترى صاحب هذا القلب مسارعًا في الخيرات معظمًا لشعائر الله مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج:٣٢) تتحقق فيه المبادأة والذاتية: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:٤٤) سريع الاستجابة للتوجيه والنصح: ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر﴾ (البقرة:٢٣٢) وتراه كذلك زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله .. قال ﷺ: «إذا دخل النور القلب أنشرح وأنفتح» قالوا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله» (٢).
فإن كانت هذه بعض علامات تحقق الهدف فكيف السبيل للوصول إليه؟
إن الوسائل معروفه لدينا، بل مارسنا أغلبها من قبل، ولكن الجديد هو كيف نتعامل معها، ونستفيد منها لنصل إلي الغاية المنشودة من رمضان.
ويمكن تقسيم هذه الوسائل إلى قسمين رئيسيين: قسم يصلح من خلاله العبد ما بينه وبين الله، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الجانب الشعوري الوجداني.
أما القسم الأخر فيختص بعلاقة الفرد بمجتمعه ويسمى الجانب السلوكي الاجتماعي.
_________
(١) متفق عليه: البخاري (١/ ٢٨، رقم ٥٢)، ومسلم (٣/ ١٢١٩، رقم ١٥٩٩).
(٢) أخرجه الحاكم (٤/ ٣٤٦، رقم ٧٨٦٣)، والبيهقي في شعب الإيمان (٧/ ٣٥٢، رقم ١٠٥٥٢)، وضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة.
1 / 13
ولا يمكن الاستغناء بأحد القسمين عن الأخر، فكلاهما له دور في إنجاح مهمة المسلم على الأرض، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ (النساء:١٢٥) فإسلام الوجه لله - وهو أمر شعوري ووجداني - لابد أن يصاحبه إحسان إلى الخلق، ومن الخطأ الذي يقع فيه البعض التركيز على جانب دون الأخر ... فالذي يعطى جل جهده فيما يصلح بينه وما بين الله تاركا كل ما يعود بالنفع على الناس: إيمانه ناقص، فالإيمان قول وعمل .. بل إن من أهم نتائج الأعمال الصالحة أنها تزيد إيمان صاحبها وتثبت قواعده في قلبه، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر:١٠) جاء في بعض الأثر: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله بنية صادقه نظرت الملائكة إلي عمله، فإن كان موافقًا لقوله، صعدا جميعًا، وإن كان العمل مخالفًا وقف قوله حتى يتوب من عمله (١).
وفى المقابل فإن الانشغال بالعمل والحركة وسط الناس لقضاء حوائجهم، وحل مشكلاتهم، وإسداء النفع لهم دون أن يصاحب ذلك وجود قلب حي متصل بالله أمر خطير من شأنه أن يحدث أثر سلبيًا في نفس صاحبه، ولقد حذرنا رسول الله ﷺ من هذا الأمر فقال: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة، تضيء للناس وتحرق نفسها» (٢).
ويقول الرافعي: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك (٣).
فلا بد من وجود الأمرين معا ليشكل كل منهما طرفا تنعقد به العروة الوثقى كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [لقمان: ٢٢].
القسم الأول
مع الله
يتيح شهر رمضان للمسلم العديد من الوسائل التي من شأنها أن تحي قلبه، وتحسن صلته بربه.
- وأولى هذه الوسائل: الصيام
وهو وسيله عظيمة لامتلاك النفس والسيطرة عليها فالنفس هي العائق الأكبر في سير العباد إلى الله، فمن شأنها دومًا طلب الحظوظ والفرار من الحقوق، ومن أفضل طرق ترويضها الصيام، فبه تضعف مادة شهوتها.
فإذا أردنا أن نستفيد من هذه الوسيلة فعلينا ألا نقضى أغلب النهار في النوم، وعلينا كذلك أن نتوسط في تناول الطعام والشراب عند الإفطار، ولا نتوسع في الأصناف فيكفى صنف أو اثنان، قال الحليمي: وكل طعام حلال فلا ينبغي لأحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه، فيحوجه إلى النوم، ويمنعه من العبادة وليأكل بقدر ما يسكن جوعه، وليكن غرضه من الأكل أن يشتغل بالعبادة ويقوى عليها (٤).
ومع الصيام عن الطعام والشراب علينا كذلك الإقلال من الكلام والضحك قدر المستطاع ولنرفع شعار «أمسك عليك لسانك» وليكن كلامنا بعيدا عن اللغو وسائر آفات اللسان.
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٤/ ٢١١.
(٢) أخرجه الطبراني، وقال الشيخ الألباني ﵀ في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره.
(٣) وحي القلم ٢/ ٤٣.
(٤) شعب الإيمان للبيهقي ٥/ ٢٢.
1 / 14
- ثانيا: التعلق بالمساجد:
المسجد له دور كبير في تنوير القلوب ... ففي ختام قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يقول تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور: ٣٥) وفى الآية التي تلتها حدد سبحانه أعظم مكان لتلقى نوره بقوله: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ﴾ (النور: ٣٦) ففي المسجد تربط القلوب على طاعة الله وتحبس النفس عن معصيته .. يقول ﷺ: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكارة وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط» (١).
إن قلب المؤمن كثير التقلب من حالة إلى حالة نتيجة التنازع المستمر بين داعي الإيمان وداعي الهوى، وهو بحاجه إلى ربطه وتثبيته على حالة الإيمان .. وهنا يأتي دور المسجد، قال أبو هريرة في قوله تعالى: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ (آل عمران: ٢٠٠) لم يكن في زمان النبي ﷺ غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة (٢).
فلنبكر بالذهاب إلى المسجد ولا نترك أماكننا بعد الصلاة إلا لضرورة كي ننعم بصلاة الملائكة علينا .. قال ﷺ: «الملائكة تصلى على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث: اللهم اغفر له اللهم ارحمه» (٣).
وعلى الأخت المسلمة أن تخصص مكانًا في بيتها تتخذه مسجدًا فتبكر في الذهاب إليه وانتظار الصلاة وترديد الأذان وطول المكث فيه كلما سنحت ظروفها.
- ثالثًا: القرآن الكريم
رمضان شهر القرآن وقد كان من هدى رسول الله ﷺ مدارسة القرآن فيه ... فهو وسيلة عظيمة لشفاء القلوب وهدايتها وتنويرها، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ٥٧) وعلى قدر صلة المسلم بالقرآن تكون صلته بالله .. قال ﷺ: «أبشروا!! فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا» (٤).
هذه الوسيلة العظيمة لن تحقق مقصودها ولن تكون هدي وشفاءً ونورًا إلا إذا تعاملنا معها بالشكل الذي يريده الله ﷿ ..
لقد نزل القرآن لنتدبره ونستخرج منه ما ينفعنا لا لنقرأه بألسنتنا فقط، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ﴾ (ص: ٢٩).
قال بعض السلف: لا يجالس أحد القرآن ويقوم سالما إما أن يربح أو يخسر قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ (الإسراء: ٨٢).
لقد قرأنا القرآن بألسنتنا قبل ذلك مرات ومرات، وكان هم الواحد منا الانتهاء من ختمه، بل وكان بعضنا يتنافس في عدد المرات التي يختمه فيها وبخاصة في رمضان، فأي استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غير فينا القرآن؟!
_________
(١) رواه مسلم (١/ ٢١٩، رقم ٢٥١).
(٢) شعب الإيمان ٣/ ٧٠.
(٣) أخرجه أحمد (٢/ ٣١٢، رقم ٨١٠٦)، وأبو داود (١/ ١٢٧، رقم ٤٦٩)، والنسائي (٢/ ٥٥، رقم ٧٣٣)، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر.
(٤) أخرجه البزار (٨/ ٣٤٦، رقم ٣٤٢١)، والطبراني في الكبير (٢/ ١٢٦، رقم ١٥٣٩)، وفى الصغير (٢/ ٢٠٩، رقم ١٠٤٤)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (٣٤).
1 / 15
إن القراءة باللسان فقط - دون حضور القلب - كالنخالة كبيرة الحجم قليلة الفائدة، وهذا ما كان يؤكده الصالحون على مر العصور، قال على ﵁: لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، وقال الحسن، كيف يرق قلبك وإنما همك أخر السورة؟ ويؤكد هذا المعنى ابن القيم فيقول ﵀: لا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العالمين، ومقامات العارفين .. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواه، فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم.
فليكن رمضان هو البداية الحقيقية للتعامل الصحيح مع القرآن.
كيف ننتفع بالقرآن؟
القرآن هو أهم وسيله لترقيق القلوب .. قال وهيب بن الورد: نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره.
وتلاوة القرآن حق تلاوته - كما يقول أبو حامد الغزالي - هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار ... فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ (١).
وهذه بعض الوسائل العملية التي من شأنها أن تيسر لنا - بعون الله - الانتفاع بالقرآن:
١ - قبل بدء القراءة: دعاء الله والإلحاح عليه بأن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه، وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر، فهذا الدعاء له دور كبير في تهيئه القلب لاستقبال القرآن ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (غافر: ١٣،١٤).
٢ - الإكثار من تلاوة القرآن، وإطالة فترة المكث معه ويفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان هادئ - قدر المستطاع - وبعيدًا عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة.
٣ - القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل: فالترتيل له وظيفة كبيرة في الطرق على المشاعر ومن ثم استثارتها وتجاوبها مع الفهم الذي سيولده التدبر، لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر.
٤ - القراءة الهادئة الحزينة: علينا ونحن نرتل القرآن أن نعطي الحروف والغُنَّات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وترنمها وتدبرها والتأثر بها، وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر.
٥ - الفهم الإجمالي للآيات: من خلال إعمال العقل في تفهم الخطاب، وهذا يستلزم منا التركيز التام مع القراءة، وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها وما ورائها، بل يكفى المعنى الإجمالي الذي تدل عليه الآية أو الآيات حتى يتسنى لنا الاسترسال في القراءة، ومن ثم التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فنصل إلى التأثر والانفعال في أسرع وقت.
٦ - الاجتهاد في التعامل مع القرآن: كأنه أنزل عليك، وكأنك المخاطب به، والاجتهاد كذلك في التفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التي تتضمنها الآيات، والتأمين عند مواضع الدعاء، ...... وهكذا.
٧ - تكرار وترديد الآية أو الآيات التي حدث معها تجاوب وتأثر قلبي حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات.
٨ - لا بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا: لجلاء شبهة أو معرفة معنى شق علينا فهمه، وإن كان من الأفضل الرجوع إليه بعد انتهاء القراءة حتى لا نخرج من جو القرآن والانفعالات الوجدانية التي نعيش في رحابها، إلا إذا ألحت علينا كلمة نريد معرفة معناها في التو واللحظة.
_________
(١) إحياء علوم الدين ٢/ ٥٨.
1 / 16
- رابعًا: قيام الليل
قيام الليل من الوسائل المهمة في إحياء القلب .. يقول ﷺ:
«عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد» (١).
إن التعرض لنفحات الليل واقتسام الغنيمة مع المجتهدين لمن أعظم وسائل غرس الإيمان في القلب ...
لقد افترض الله قيام الليل على رسول الله ﷺ والصحابة الكرام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل أن تشرع الحدود، بل قبل أن تفرض الصلوات الخمس، لأن الإنسان إذا خلا بربه واتصل قلبه به في جنح الليل طهر القلب ونزلت عليه الفيوضات.
إن هذه الوسيلة العظيمة التي تجمع بين تدبر القرآن وما فيه من كنوز وبين الركوع والسجود، وما فيها من معاني الذل والخضوع والانكسار للمولى ﷾ لمن أهم وسائل التقرب إلى الله ﷿. فلا ينبغي أن تفوتنا ليلة دون قيام مهما كانت الظروف، والأفضل بجانب أدائنا لصلاة التراويح أن نستيقظ قبل طلوع الفجر بوقت كاف للتهجد والاستغفار، لعلنا نتذوق طعم الحياة الحقيقية باستنشاق نسيم الأسحار ونحن نناجى الرحمن.
قال بعض الصالحين: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
وقال إقبال: كن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل حتى تكون لك أنَّة في السحر .. إنه - رحمة الله - يريد أن يقول:
كن داعيًا ناجحًا .. كن خطيبًا مفوهًا .. كن محاضرًا فذًا، كن كما تريد ولكنك لن تفيد نفسك إلا إذا كانت لك وقفة مع الله في السحر تخلع فيها ثياب الشهرة والعزة، وتنزع فيها الألقاب الزائفة وتعيش حال العبد الخائف من غضب مولاه الطامع في رحمته.
فجهز مطالبك، وحدد أهدافك وكن خفيف النوم تنتظر دقات الساعة للخلوة بالحبيب ....
من فقه قيام الليل:
عندما يمن الله علينا بالاستيقاظ قبل الفجر بوقت كاف، علينا ألا نطيل القيام والقراءة فقط بل نطيل الركوع والسجود أيضا.
فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .. ففي السجود يتم إخراج معاني الذل والانكسار وإظهار الفقر والمسكنة لمن بيده ملكوت السماوات والأرض.
فمناجاة الله في السجود لمن أعظم صور الفرار إليه سبحانه واسترضائه، وطلب العفو والصفح منه وإظهار الذل والخضوع له .. وفيه يقدم العبد طلباته ويرفع حاجاته.
اسجد واقترب:
إذا أردنا أن تحقق السجدة هدفها، فنقترب من خلالها إلي الله شيئًا فشيئًا كما قال ﷾: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: ١٩) علينا أن نجعلها سجدة حارة تنسكب فيها الدموع لتكون مداد رسائلنا إلى مولانا.
قال عبد الله بن المبارك:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود ... أنين منه تنفرج الضلوع
ماذا نفعل لو حرمنا القيام؟!
قد نأخذ بجميع الأسباب المعينة على الاستيقاظ للتهجد ثم نفاجأ بأذان الفجر، فماذا نفعل؟!
إنها رسالة من الله ﷿ تحمل لنا معاني كثيرة: منها أن هذا الحرمان قد يكون بسبب ذنب أذنبناه أو تقصير في حق من الحقوق .. ومنها أن الرغبة في القيام لم تكن أكيدة .. ومنها أنها قد تكون ابتلاء من الله لينظر ماذا سنفعل ..
فإذا حدث ذلك فعلينا بالفرار إلى الله في الصلاة والدعاء نسترضيه ونستغفره ونتملقه عساه يعفو عنا .. وعلينا أيضا بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب.
_________
(١) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (٥/ ٥٥٢، رقم ٣٥٤٩)، والبيهقي (٢/ ٥٠٢، رقم ٤٤٢٥)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: ٤٠٧٩، بدون لفظة (ومطردة للداء عن الجسد).
1 / 17
ومن توصيات الرسول ﷺ أن من فاتته صلاته بالليل فليصلها ما بين صلاة الفجر والظهر كما روى الإمام مسلم في صحيحه.
وفى بعض الأحوال قد نستيقظ قبل الفجر وعندما نبدأ في الصلاة نفاجأ بهروب قلوبنا منا في أودية الدنيا وكلما حاولنا جمعها مع الله فرت منا .. فماذا نفعل؟!
يقول ابن الجو زى: إذا جلست في ظلام الليل بين يدي سيدك، فاستعمل أخلاق الأطفال، فإن الطفل إذا طلب من أبيه شيئًا فلم يعطه بكى عليه.
فعلينا في هذه الحالة بالإلحاح والإلحاح على الله ﷿ والاستغفار مرات ومرات حتى يفتح لنا الباب ألم يقل سبحانه: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ (الأنعام: ٤٣) فعدم القيام أو حرمان حلاوة المناجاة وإقبال القلب على الله عقوبة منه سبحانه تستوجب تضرعًا وإلحاحًا واستغفارًا لعله يرانا على هذا الحال فيعفو عنا.
- خامسًا: الاستفادة من الأوقات الفاضلة
يقول ابن رجب: جعل الله ﷾ لبعض الشهور فضلًا على بعض، كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر .. وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيها لطيفه من نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من أغتنم مواسم الشهور والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات يسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من لفحات .. يقول ﷺ «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدا» (١).
هذه النفحات بلا شك ستصيب من يتعرض لها أما الغافل عنها فأحسن الله عزاءه.
فعلى مستوى اليوم هناك ثلاثة أوقات يسميها العلماء بأوقات السير إلى الله بالطاعات وهي آخر الليل وأول النهار وآخره قال ﷺ: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (٢)، وقد وردت من النصوص الكثيرة في أذكار الصباح والمساء وفى فضل من ذكر الله حين يصبح وحين يمسى، وكان السلف لأخر النهار أشد تعظيما من أوله (٣).
يقول الإمام حسن البنا: أيها الأخ العزيز أمامك كل يوم لحظة بالغداة ولحظة بالعشي ولحظة بالسحر تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملأ الأعلى، فتظفر بخيري الدنيا والآخرة .. وأمامك مواسم الطاعات وأيام العبادات وليالي القربات التي وجهك إليها كتابك الكريم ورسولك العظيم ﷺ، فاحرص أن تكون فيها من الذاكرين لا من الغافلين، ومن العاملين لا من الخاملين .. واغتنم الوقت فالوقت كالسيف، ودع التسويف فلا أضر منه.
- أما بالنسبة للأسبوع فليوم الجمعة شرف عظيم وفيه ساعة يجاب فيها الدعاء فلنحرص على التعرض لها، يقول النووي: ويستحب الإكثار من الدعاء في جميع يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس رجاء مصادفة ساعة الإجابة (٤).
فعلينا بالاجتهاد في هذا اليوم المبارك ولنضع له برنامجًا خاصًّا، ولنبكر فيه الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة على أحسن هيئة.
_________
(١) أخرجه الطبراني في الكبير (١٩/ ٢٣٣، رقم ٥١٩)، وأخرجه أيضًا: في الأوسط (٣/ ١٨٠، رقم ٢٨٥٦)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم ١٩١٧.
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٢٣، رقم ٣٩)
(٣) لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي.
(٤) الأذكار للنووي ص ١٢٩.
1 / 18
وإن كان شهر رمضان له أفضلية خاصة عن بقية الشهور فإن ليلة القدر لها شرف عظيم، يقول ﷺ «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه» (١) والتماس ليلة القدر إنما يكون في العشر الأواخر من رمضان، لذلك يستحب الاجتهاد فيها فلقد كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
ومن هذه المواسم أيضا: موسم العمرة فهي في رمضان تعدل حجه، فلنحرص علي القيام بها ..
وليعمل كل منا على أن ينظم أموره بالطريقة التي تعينه على الاستفادة من هذه الأوقات الفاضلة، فإن فاته وقت منها لم يترك الاجتهاد في البقية الأخرى.
- سادسًا: الاعتكاف
الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله، وهو مستحب في كل وقت في رمضان وغيره وأفضله في العشر الأواخر من رمضان ليتعرض العبد فيها لليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر. ولقد ذهب الإمام أحمد أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه. وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية التي لا يترك معها الجمع والجماعات، فعلينا أن نغتنم أي وقت - مهما قصر - في نهار رمضان أو ليله ننوى فيه الاعتكاف ونختلي فيه بالله ﷿ ..
ولنحرص على الاعتكاف في العشر الأواخر فإن لم نستطع فليكن ذلك في لياليها وبخاصة الوتر منها، ولنحظر من الخلطة والكلام وكل ما يقطع علينا خلوتنا بالله ﷿.
يقول ابن رجب: «فحقيقة الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق».
وللأخت المسلمة أن تعتكف في مسجد بيتها استنادًا على رأى الأحناف في جواز ذلك ولتقتطع من يومها وقتًا تلازم فيه مسجدها وتقبل فيه على الله ﷿.
- سابعا: الدعاء
الدعاء هو العبادة، ولا يرد القدر سواه، ففيه يتمثل فقر العبد وذله وانكساره إلى من بيده ملكوت كل شيء .. وهناك أوقات مخصوصة يفضل فيها الدعاء منها: بين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات، وفي الثلث الأخير من الليل، ويوم الجمعة منذ أن يصعد الإمام المنبر حتى تنتهي الصلاة وكذلك في الساعة الأخيرة من هذا اليوم، وفي ليله القدر .. وعند نزول المطر .. وللصائم دعوة مستجابة، وكذلك المسافر .. وفي كل ليلة من رمضان عتقاء من النار وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فعلينا اغتنام تلك الأوقات نتذلل فيها لله ونتبرأ من حولنا وقوتنا .. نستعطفه ونتملقه ونسترضيه ونسأله من خيري الدنيا والآخرة، ولنحذر من الدعاء باللسان دون حضور القلب. قال ﷺ «واعلموا أن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاه» (٢).
ولنكثر من الدعاء لإخواننا المسلمين المضطهدين في كل مكان ولنخص المرابطين في فلسطين بحظ وافر من الدعاء .. ولندع كذلك علي الطغاة الظالمين الذين يحادون الله ورسوله في كل مكان عساه - سبحانه - أن يفرج الكرب ويكشف الغمة وينزل نصره الذي وعد، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: ٤٧).
- ثامنا: الصدقة
إن المتأمل لكتاب الله ﷿ يجد الكثير من الآيات التي تحث المسلم على الإنفاق في سبيل الله، ولقد كان رسول الله ﷺ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان يقول تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة: ١٠٣) فالمستفيد الأول من الصدقة هو صاحبها لأنها تخلصه من الشح وتطهره من الذنوب.
_________
(١) البخاري (٢/ ٦٧٢، رقم ١٨٠٢)
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٥١٧، رقم ٣٤٧٩)، والحاكم (١/ ٦٧٠، رقم ١٨١٧) السلسلة الصحيحة (٥٩٤).
1 / 19