المؤلف محمد علي كرد
مستخرج من موقع: (مكتبة العرب) مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم
http://www.maktabatalarab.com/Pages/default.aspx
ترقيم الكتاب غير موافق للمطبوع
أعده للشاملة: سيد بن محمد السناري
صفحہ 1
[1_2]
البيان العربي
عهد الجاهلية:
تنافس العرب أيام الجاهلية في نظم القصيدة والرجز وفي الخطب المنثورة، ورويت عنهم أمثال وأحاديث؛ وكان ما يفيض من قرائح شعرائها وخطبائها في المفاخرات والنافرات والحمالات والمهادنات من دواعي الإعجاب والاغتباط.
وما كان لكل عربي أن ينفتق لسانه بقوله الجيد من الشعر أو النثر، فقد يأتي الجيل والجيلان، والقبيلة العظيمة لا يظهر فيها شاعر أو خطيب يعلى صوتها وصيتها، ويعدد من عام إلى عام مآثرها، ويرفع بما يبتده الضيم عن أهلها، ويرهب بسلطان بلاغته عدوها؛ وكان الشاعر عندهم يفضل على الخطيب، فلما اتخذ الشعراء شعرهم آلة للتكسب، وابتذلوه في المديح والهجاء، علت منزلة الخطيب على منزلة الشاهر.
ولقد حفظ من الشعر بعضه لطربهم به، وعجبهم بالعالي منه، ولأن دون مفاخرهم وخلد تاريخهم، وباد النثر على وفرته، إلا صفحات قليلة لو أنعمنا النظر في بعضها، لما احجمنا عن القول بأنها واهية الإسناد، ظاهرة التصنيع؛ ومنها أمثله في أمهات كتب الأدب لا تروقك ولا تشوقك؛ والغالب أن ما عزى لعهد الجاهلية من المنثور كان مما أخذ بالمعنى كما نقل معظم الأحاديث النبوية. يقول الرقاشي ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر ما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير.
ضاع تراث الجاهلية في النثر لفقدان التدوين، ولغلبة الأمية على العرب، وما رواه الرواة كان من محفوظ الرجال، والحفظ عرضة للنقص والزيادة. وجاء الإسلام
صفحہ 1
[2_2]
وليس في قريش غير سبعة عشرة رجلا وبضع نساء يكتبون ويقرءون، وقريش سادة العرب وأنبه قبيلة فيهم، وأكثرهم حضارة وتمازجا بالشعوب المجاورة. أما سائر بلاد العرب كاليمن فلم يعرف فيها من يكتب.
شاعت الكتابة في الحيرة أكثر من غيرها من البلاد المتاخمة لجزيرة العرب، ويعلل المرزباني ذلك بأن أهل القرى ألطف نظرا من أهل البداوة، وأنهم كانوا يكتبون لمجاورتهم أهل الكتاب، فأخذت قريش الكتابة عن إياد في الحيرة؛ ولما كان أهل القرى أكثر استعدادا للحضارة ظهر الأنبياء فيهم، وما جاء رسول من أهل الوبر.
كتب عدة كتاب من أهل الحيرة في ديوان الأكاسرة، ومنهم عدي أبن زيد وزيد أبن عدي ولقيط بن يعمر الإيادي؛ وكان أكثم بن صيفي حكيم العرب يكاتب الملوك، ولأبناء جفنة في البلقاء كتاب يكتبون عنهم في خاص أمورهم وعامهم، وكان المرقش كاتب الحرث بن شمر الغساني، وبذلك تبين أن الإياديين سبقوا إلى الكتابة، وما جاء أكيد عن الغسانيين الذين جاوروا الروم في جنوب الشام وتصرفوا لهم.
ما علا شأن قريش في الكتابة إلا في الإسلام، ولا يعلم إذا كانت تراسل الملوك، إذ لم يكن لها نظام دولة ثابت، وكانوا إذا رأوا كتبا كتبها أهل الكتاب استعظموها؛ وعثروا في الإسلام على رسالة بخط عبد المطلب بن هاشم في قطعة أدم وذلك في إثبات حقله على رجل من العرب.
وإذ كانت الخطب والرسائل في ذلك العهد قاصرة الأغراض، وصادر عن أناس على الفطرة، ليس لهم من المدينة مادة تدعوهم إلى الفلسفة والتوسع في الفكر، تجردت كتابهم من كل صنعة وفن، ويقول الجاحظ: إنه لم يجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة، ولا طبعا رديئا،
صفحہ 2
[3_2]
ولا قولا مستكرها؛ وأكثر ما وجد من ذلك في خطب المولدين البلديين المتكلفين، ومن أهل الصنعة المتأدبين، سواء أكان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب، أو كان من نتائج التخير والتفكير.
عهد الإسلام:
والمعقول أن أسلوب الجاهلين في الكلام المنثور لا يختلف عن الأسلوب المتبع في الرسائل والخطب أول الإسلام، لأن الرسول عليه الصلات والسلام خاطب قومه بالطريقة التي يفهمونها، وتقع في نفوسهم الموقع الحسن. وما قدرت العرب بلاغته حق قدرها إلا لأن بلاغتهم ضرب من بلاغته، والبليغ يدرك من هو أبلغ منه. وقد كتب النبي إلى عماله، وإلى رؤساء القبائل، وإلى الأمراء والملوك؛ ومنها ما أملاه بنفسه أو كتبه له كتابه فأقرهم عليه، مثال من بلاغة الأقدمين من العرب؛ وقد رأيناه صلوات الله عليه ينكر على من يسجعون الكلام، وينهى عن السجع على نحو سجع الكهان، وكانوا يسجعون للإغراب والتأثير والزينة.
كان الرسول يتوخى إذا كتب لغير العرب، أن يوجز القول، ويقل من اللفظ الذي لا يتفهمه كل إنسان، حتى يسهل نقل كلامه إلى ألسن من كتب إليهم من غير العرب، كما كان إذا خاطب قبائل من غير قريش أو كاتبهم يستعمل ألفاظا مألوفة لهم لا يعرفوها القرشيون، ذلك لأن مقصده الإفهام، والبليغ من الكلام ما فهم وأبقى في النفس أثرا.
أوتي الرسول جوامع الكلام وأختصر له الكلام اختصارا، وكلامه جزل رشيق، لا تعمل فيه ولا غموض، وروي عنه أنه قال: أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون يريد أهل الإكثار وأصحاب التقعير في الكلام. والتقعير التكلم بأقصى الفم، والتشدق تكلف البلاغة. نعم كان نزورا يذم المكثار، ويترسل في القول، ويكره الانبعاق في الكلام أي الاندفاع فيه. وقال: نضر الله وجه رجل أوجز في كلامه،
صفحہ 3
[4_2]
واقتصر على حاجته. فأصلح الرسول العربي لغة التخاطب والتكاتب، كما جاء لإصلاح المعاد والمعاش. وكذلك يقال في بلاغة الصحابة ومن أخذوا عن الرسول، وكذلك يقال فيمن أخذ عن الصحابة من التابعين وتابعيهم والخلفاء والأمراء، يمتاز أفراد منهم بالبلاغة كما يتمايزوا برجحان العقل.
وكتب الناس إلى أواخر القرن الأول على النمط الذي عرفوه عن الرسول، آخذين بالطبع، بعيدين عن الإطناب. ومن ذلك أمثلة كثيرة في كتب التاريخ والسير، ومن أهمها رسالة عمر أبن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وقد كتبت على أسلوب عصره، لا تعمل فيها ولا سجع ولا مزاوجة، لفظها على قدر معناها.
ما عدا أسلوب الكتب، أسلوب الرسائل والخطب. بيد أن تدوين الكتب تأخر قليلا، ومن أول ما دون ما كتبه صاحب الرسالة لعمرو بن حزم وغيره في الصدقات والديانات والفرائض والسنن، وما كان يكتبه عمر من الحديث، وقد أمره الرسول بتقييد العلم، وأشار إليه أن يكتب خطبته في عام الفتح إلى أبي شاه، وكان وأثلة بن الأسقع يملي على الناس الأحاديث وهم يكتبونها بين يديه. وألف زيد بن ثابت كتابا في الفرائض، وألف كتاب في قضاء على في عهد ابن عباس. وأمر معاوية أن يدون ما يتحدث به إليه عبيد بن شرية من أخبار عاد وثمود وجرهم. وكان عبيد من القدماء في الحكمة والخطابة مثل أسقف نجران وأكيدر صاحب دومة الجندل. كل أولئك كان الأساس الأول الذي قام عليه التأليف في القرن الثاني، بالرواية وذكر السنة، ولم يصل إلينا من خطب القوم ومحاوراتهم ورسائلهم إلا مالا بال له.
أسلوب القرآن:
أما أسلوب القرآن فهو فوق كل أسلوب، وأسمى من كل كلام. لم يعهد العرب مثله في نظام القول وترتيبه، وأما أستطاعة، على كثرة فصائحها في دهر نزوله، أن
صفحہ 4
[5_2]
تحتذي مثاله في أسلوبه وأداء معانيه، وقد أريد على ذلك وتحدوا عليه. والقرآن حسن ملكة الكتابة والخطابة، كما كان كذلك تأثيره في الشعراء، فجاء الشعر الإسلامي أرق من الشعر الجاهلي.
وقد قال بعض العارفين إن في القرآن المرسل والمسجع والمزدوج. والمرسل ما يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطع أجزاء، بل يرسل إرسالا من غير تقليد بقافية ولا غيرها. والمسجع ما أتى قطعا والتزمت في كل قافيتين منه قافية واحدة. والمزدوج أن يشبه الكلام بعضه بعضا في السجع أو الوزن. وقالوا إنه لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجا، ولا تكاد تجد لبليغ كلاما يخلو من الازدواج.
يقول ابن خلدون إن القرآن وإن كان من المنثور، إلا أنه خارج عن الواصفين، وليس يسمى مرسلا مطلقا ولا مسجعا، بل تفصيل آياته ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف لا يكون سجعا ولا قافية، ويسمى آخر الآيات فواصل، إذ ليست أسجاعا، ولا التزام فيها ما يلتزم في السجع ولا هي قواف.
وذهب المعتزلة إلى نفي السجع من القرآن. وقال الباقلاني: أن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع، وليس كذلك ما أتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ؛ ومتى أرتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره؛ ومتى أرتبط المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى. وقال أيضا: ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن يقال هو سجع معجز، لجاز لهم أن
صفحہ 5
[6_2]
يقولوا شعر معجز؛ كيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات وليس كذلك الشعر.
وسواء كان القرآن سجعا أو ما يشبه السجع فهو من الكلام المنثور الذي لا تبلغ قرائح البلغاء مداه، ما عرف شبيه له بهذه الروعة وهذه العبقة. يقول الجاحظ: لو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان، وقال أيضا: ولو أن رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نطامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى به أبلغ العرب لأظهر عجزه عنه لغا ولفظا.
الأسلوب الأول:
احتفظت الكتابة والخطابة في عصر الصحابة ومن بعدهم بالطريقة التي ما حدقوا غيرها، وهي تدور على توفية المعنى واللفظ حقهما، مع البعد عن الإطناب والمبالغة، والقصد إلى الإيجاز والسهولة، يرسلون الكلام إرسالا بلفظ سمح، ومخرج سهل، إملاآتهم كأحاديثهم ابنة السليقة وربيبة الغريزة، خالية من كل ما هو متكلف مصنع. بكلمات مؤلفات، إن فسرت بغيرها عطلت، وإن بدلت بسواها من الكلام استصعبت، فسهولة ألفاظهم توهمك أنها ممكنة إذا سمعت، وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طلبت، وكانوا يقولون : البلاغة هي التقرب من البعيد، والتباعد من الكلفة، والدلالة بقليل على كثير، وقالوا: البلاغة إيجاز في غير عجز، وإطناب في غير خطل، وإن البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى. وقال علي بن أبي طالب: ما رأيت بليغا قط إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة، وقيل لعمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم ليسمع منها.
صفحہ 6
[7_2]
قيل: فهل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها.
لا جرم أن الإيجاز من طبع العرب وطبيعة لغتهم، وتخير الألفاظ من شأن كل بليغ. والعرب كما قال ابن جني تعني بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتلاحظ أحكامها. قال فإن المعاني أقوى عندها واكرم عليها، وأفخم قدرا في نفوسها؛ فأول ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها ومراميها. أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب في الدلالة على القصد. وللمتأخرين آراء كثيرة في هذا الشأن، ومنا ما قاله الجرجاني: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وقولهم يدخل الأذن بلا إذن، فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يتصور ان يراد به دلالة اللفظة على معناه الذي وضع له في اللغة.
كانوا يكتبون الرسالة في المقصد الكبير، ويضعون الخطاب في أعظم المعضلات. في إيجاز لا فضول فيه، عار على المقدمات والتزويق، يقيمون لكل لفظ معناه، ولكل معنى لفظه، وجودة اللفظ تبع لجودة المعنى: وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة، وعلى طريق الخطباء مشت الكتاب. ذلك لأن الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية، وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل. فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل، والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة، والرسالة تجعل خطبة، والخطة تجعل رسالة، في أيسر كلفة. قال ذلك العسكري، وذكر غيره أن الخطابة نوع من منثور الكلام، تأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس من دون إتعاب ذهن، ولا تكلف في الأداء، ومن النظم
صفحہ 7
[8_2]
سلاسته، وتأثيره في النفس.
تبدل الأسلوب:
عرضت بواعث كثيرة لأولى الأمر من العرب بكثرة الفتوح، وانتشار الإسلام، وتمازج الفاتحين بأجناس من الأمم، فاحتيج إلى التعاهد والتعاقد، والتدريب والترتيب، والمرادات والمشادات، ودعت الحال إلى أن يخطب ويكتب في ضروب من الكلام، وما خرج الكاتبون مع هذا عن معهود طريقتهم، لا يتعدون إذا أطالوا في رسائلهم الأسلوب القديم بحال؛ يتوسعون في المعاني للإقناع والتأثير، واستيفاء الموضوع من عامة أطرافه، ويبقون الألفاظ والتراكيب على النسج الذي عرفوه، لا يكثرون من اللفظ إلا بقدر ما يصورون المعاني، ويجمعون شتيت المقاصد، ولا يستخدمون من الكلمات إلا الشائعة في الاستعمال، ولا من المعاني ما يعلوا عن أذهان عامة الطبقات، ولا من السجع إلا ما وافق الطبع.
وزادت مع الزمن من أعمال الملك والسلطان، وحدثت للناس مشاكل وعضل وخيف ضياع العلم، فدعت الضرورة إلى تدوين أمهات المسائل في الدين واللغة والشعر والأخبار والسير، والكتابة لم تبرح على ما كانت، يتبسطون في الفكر والشعر، ويبعدون عن التزيد والتزين، ويراعون الإيجاز ما أمكن، ويحتفظون أبدا بالطريقة المأثورة عن أهل الصدر الأول؛ فكان التوسع في الأغراض والمطالب فقط، وما خرجوا عن الألفاظ والقوالب المشهورة. وفي كلام التابعين، ومن جاء بعد عصرهم من رواة العلم، جمل قليلة تقرءوها في كتب التفسير والسنة والتاريخ والرجال، فتناديك بأن الطريقة القديمة في أداء الكلام لم يدخلها تغير ولا تبديل.
جاء من الأمويين كتاب بلغاء، وخطباء أنبياء، جروا في ترتيب دولتهم على سنة من تقديمهم في الرسائل والعهود. وفي الموجزات من رسائل عمر بن عبد العزيز مثال من البلاغة، لو لا أن اختلط كلامه بما كتبه له كتابه، وكان يكتب بيده إلى
صفحہ 8
[9_2]
عماله في الأمصار ويكتب كتابه في المسائل العادية. كان من بلغاء الكتاب ومصاقع الخطباء، ولما بويع بالخلافة دعا إليه كاتبا فأملى كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وابلغه وأوجزه ، ثم أمر بذلك الكتاب فنسخ إلى كل بلد. وكتب إلى عامله على المدينة، وقد سأله طراطيس: دقق القلم وأوجز الكتاب فإنه أسرع للفهم.
جرى بعض خلفاء الأمويين على نهج عمر بن عبد العزيز في الإيجاز وبعضهم على التطويل؛ وقيل إن الوليد أول من جود القراطيس، وجلل الخطوط، وفخم المكاتبات، وتبعه من بعده من الخلفاء إلا عمر بن عبد العزيز وزيد بن الوليد، فإنهما جريا في المكتبات على طريقة السلف، ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنه الوليد بن عبد الملك، إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد فعمدوا إلى الإطناب. ولنا أن نقول بعد هذا أن القرن الأول كان قرن الإيجاز والفطرة؛ والقرن الثاني قرن التطويل والإيجاز معا؛ والناس يتخرجون في البيان تخريجا، ويجود من أوتي طبعا سليما، ولكل زمان ما يليق به من البيان كما قالوا.
الأعاجم والعربية:
كان أخوف ما يخافه العرب على اللغة سراية اللحن إليها، وما أهمهم ما دخل من التطويل على الرسائل والخطب، وما سرى من تغير طفيف إلى نسج الكلام، كالإكثار من السجع والازدواج. والغالب أن اللحن أخذ يشيع في الناس منذ عهد الرسول. فقد روي أنه سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: أرشدوا أخاكم فإنه ظل، ورووا أيضا أن أحد ولاة عمر كتب إليه كتابا لحن فيه، فكتب إليه عمر أن قنع كاتبك سوطا. وعلة الامتناع من الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها.
صفحہ 9
[10_2]
وذكروا أن الوليد بن عبد الملك كان لحانا، وكان عبد الملك فصيحا، وعرف بلحن ابنه، فقال له: إنك يا بني لا تصلح للولاية على العرب وأنت تلحن، وجعله في بيت وجعل معه من يعلمه الإعراب. وإذا لم يكن للخليفة أو الأمير حظ من العربية، وقسط جزيل من البلاغة، فكيف يخطب في أيام الجمع والاعياد، وفي النوازل الكارثة.
سأل الحجاج، وهو من ابلغ الخطباء، يحيى بن يعمر هل يلحن عنبسة ابن سعيد؟ قال : نعم، كثيرا. قال: فأخبرني عني، هل ألحن؟ قال: لا، أنت أفصح الناس. قال لتخبرني، قال إنك تلحن لحنا خفيفا، تزيد حرفا أو تنقص حرفا وتجعل إن في موضع أن. ويقال إن الحجاج قال له: عزمت عليك لتخبرني عن نفسه، وكانوا يعظمون عزائم الأمراء. فقال يحيى: نعم في كتاب الله، قال: ذاك اشنع، ففي أي شيء في كتاب الله؟ قال: قرأت: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله) فترفع أحب وهو منصوب. قال: إذا لا تسمعني ألحن بعدها، ونفاه إلى خراسان، وما احتمل له قوله إنه قد يلحن، وعد ذلك سبة على مثله.
وطبيعي أن يزيد اللحن بدخول الأعاجم في الدين وتمازجهم بالعرب، وأن تضعف ملكة البلاغة في القول والكتابة، بتكاثر الدولة الأموية وعمالهم من أبناء الروم والفرس والقبط والبربر، ولا سبيل إلى أن يكون الدخيل كالأصيل حذو القذة بالقذة، في منازع التصوير والتفكير والتحبير.
وإذا عرفنا أن اختلاط العرب بالفرس بدأ من عهد الأكاسرة عن طريق الحيرة، حتى أن بهرام جور بن يزدجرد وضعه أبوه عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ليتأدب بآداب العرب، ويعرف أيامها وأخبارها، وأن الحضارة باكرت الحيرة كما
صفحہ 10
[11_2]
باكرت جنوب الشام، وأن شعراء الجزيرة كانوا يفدون على المناذرة والغساسنة فيلقون صدورا رحبة، ويتقبل أمراء ذينك الإقليمين أماديح شعراء العرب بقبول حسن إذا عرفنا هذا فلا علينا أن نقول إن صلات العرب والفرس استحكمت قبل البعثة بزمن طويل، وكثرت في الفتح وفود الشعراء على بعض أمراء العرب من الفاتحين في فارس، واقتضى نصب كتاب يكتبون لهم في أغراضهم المختلفة.
وقر في صدور الشعراء والكتاب من العرب ما رأوه في أرض فارس من مدنية قديمة، فأخذوا ينقلون ما رأوا أمتهم في حاجة إليه، وأخذت الدولة العربية عن فارس قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، وكانت أكثر العربات مأخوذة من الفارسية. ولما نقلت الدواوين على عهد عبد الملك بن مروان من الفارسية والرومية والقبطية إلى اللغة العربية انتقل جمهور كبير من الكتاب والحساب من الأعاجم إلى حجر العرب يكثرون سوادهم.
ولما كان معظم من دانوا بالإسلام من الفرس لأول المر أكثر من الروم والقبط - والفرس مجوس تقصد كالمشركين هدايتهم أولا ويتسامح مع أهل الكتاب - كثر عديد الكتاب من الفرس بالضرورة، وزاد عدد من ينزلون بلادهم من العرب، لتولي الأحكام وإدارة الملك، وسرت إليهم بعض عادات الفرس من حيث لا يشعرون، وأمسوا يغرقون في التبجيل والتحميد، ويستعملون ذلك في الرسائل والخطب، وظلت كتابة الكتب بمعزل. وبهذا تكون الأسلوب الفارسي. وكان عبد الملك بن مروان كثيرا ما يقول: إن روح بن زنباع، وهو من المشهورين بالخطابة والعلم والسياسة: شامي الطاعة، عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة.
وتجلت في القرن الثاني الطريقة الفارسية في العربية، ووضع عبد الحميد بن يحيى أساس هذا الأسلوب المطول، وكان يحسن الفارسية، وهو أول من أطال
صفحہ 11
[12_2]
الرسائل، ولم يعهد تطويل مثل تطويله في أهل القرن الأول، اللهم إلا ما كان من رسالة علي بن أبي طالب إلى الأشتر النخعي، وهي في مطالب إدارية عظيمة، هذا إذا صحت نسبتها إلى أمير المؤمنين. فأسلوب القرن الثاني لم يخرج والحالة هذه عن أسلوب أهل القرن الذي تقدمه بألفاظه وتراكيبه، اللهم إلا ما كان من سجع قليل، وشيء من مبالغة وتهويل، ولولا الإطالة لأشبهت كتابه أهل القرن الثاني كتابه أهل القرن الأول. دع ما كان من أفكار جديدة سرت بالترجمة والاختلاط، مما هو طبيعي في اللغات والأمم.
وتعليل هذا الغلو المستفيض في كتابة الفرس، وكتابة تأثروا بآثارهم من كتاب العرب، أن الفرس كانوا قبل حكم العرب يؤلهون ساداتهم وكبراءهم وهؤلاء يسخرونهم كما يسخرون العبيد، وما على العبد إلا إرضاء سيده، والإدهان له. والإسلام لم ينزع كل ما تأصل في الطباع. وصار إيغال الفرس في التبجيل والتعظيم خلقا لهم، وعادة متأصلة على الأيام، فظهر أثر ذلك في الكتابة - والكتابة صاحبها - على ما لم يعهد مثله للعرب فيما سبق من الآباد. بدا ذلك قليلا في بعض كتاب القرن الثاني وشعرائه، وعم وطم في القرن الرابع.
ومن قارن بين ما كان يصدر من الرسائل عن الصحابة وخلفاء بني أمية وأوائل بني العباس، وما كان يصدر في مثل موضوعها عن كتاب العباسيين في القرن الرابع يقع على فروق، يسوغ لك أن تقول معها إن الكتابة انقلبت رأسا على عقب؛ وإن بعض ما دبجه الكاتبون هذا القرن في السلطانيات خاصة والاخوانيات عامة ليس إلا أسلوبا فارسيا مهذبا: ألفاظ كثيرة، وجناسات واستعارات، تشف في الواقع عن حضارة، وما هي إلا نثر فيه الصنعة وفيه التصنع. والمدينة على جمالها لا تخلو في كل عصر من تعقيد؛ وقد سبقت الكتابة في هذا الباب فتبدل المطبوع بالمصنوع أو كاد.
صفحہ 12
[13_2]
جرى بعض الخلفاء الأول من بني العباس في الشرق وبني أمية في الغرب خلال القرن الثاني على طريقة أهل القرن الأول، يطيلون تارة ويجيزون أخرى، وكذلك ساروا في الرسائل والخطب؛ ويزيد التمسك بالقديم إذا كان الخليفة كاتبا مصقعا في ذاته، كالمنصور والرشيد والمأمون، وكانوا يعرفون للبلاغة قدرها، ويحملون متابهم على الإيجاز، مراعاة لروح اللغة واقتداء بسيرة أئمتها، وحرصا على أن لا يصدر عن دواوينهم ما تنبوا عنه الأذواق، ويغني قليله عن كثيره.
الأسلوب المنتشر:
رأى الناس بعد القرن الثاني أن من المصلحة الإسهاب في المكاتبات فأسهبوا، وبدأ إسهابهم ضيئلا ثم عظم بعد. وبعد أبان ابن قتيبة سبب الإسهاب والاقتضاب بقوله: وليس يجوز لمن قام مقاما في تحضيض على حرب، أو حمالة بدم، أو صلح بين العشائر، أن يقلل الكلام ويختصره، ولا لمن كتب إلى عامة كتابا، في فتح أو استصلاح أن يوجز، ولو كتب كاتب إلى أهل بلد في الدعاء إلى الطاعة والتحذير من المعصية كتاب يزيد بن الوليد إلى مروان حين بلغه تلكؤه في بيعته: أما بعد فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فاعتمد على أيهما شئت والسلام، لم يعمل هذا الكلام في أنفسها عمله في نفس مروان، ولكن الصواب ان يطيل ويكرر، ويعيد ويبدي ويحذر وينذر.
ومثل هذا رأى صاحب الصناعتين قال: إن المعاني التي تنشأ الكتب فيها من الأمر والنهي سبيلها أن تؤكد غاية التأكيد، بجهة كيفية نظم الكلام لا بجهة كثرة اللفظ؛ ومثل ذلك ما يكتب من السلطان في أمر الأموال وجبايتها واستخراجها، ومنها الإجماد والإذمام، والثناء والتفريظ، والذم والاستصغار، والعذل والتوبيخ، فإن سبيل ذلك أن تشبع الكلام فيه، وكذلك فيما يكتبه العمال إلى الأمراء فمن فوقهم، وكذلك في الكتب الصادرة عن السلاطين في الأمور الجسيمة، والفتوح
صفحہ 13
[14_2]
الجليلة، وتفخيم النعم الحادثة، والترغيب في الطاعة، والنهي عن المعصية، سبيلها أن تكون مشبعة فتملأ الصدور، وتأخذ بمجامع القلوب.
وجملة الأمر أن الكتاب في القرن الثاني والثالث جروا على سنة القدماء في الرشاقة والجزالة، وخالفوهم في الأسلوب والوضع، على مالا يعبث بمذاهب الكلام؛ فكان فيهم من يطيل ويسهب، وفيهم من يوجز ويقتضب، وفيهم من يبالغ في المعنى ويغلوا، وفيهم من يقتصد في اللفظ ولا يسرف، فأسلوب ابن المقفع، وسهل بن هرون، وعمرو بن مسعدة، والجاحظ، إيجاز وتطويل بحسب الحال، والجاحظ إلى البسط أقرب في الأحايين، لأنه يقرر أنظارا، ويضع تعاليم، ويفسر علما وأدبا، ويشرح معارف وحقائق، ويحاج ويجادل، فليس له غنى عن التوسع في فنون الكلام، وإذا أفاض فكلامه كلام أهل القرن الثاني والثالث؛ أما بلاغته فبلاغة أهل القرن الأول، لا سجع في كلامه إلا ما جاء عفوا، ولا تحسن الصنعة فيه إلا إذا كان في تجديد المعاني والتراكيب واستعمال الجزل من الألفاظ.
ونحن على حق إذا ادعينا، بعد الذي قدمنا، أن ملكة التطويل استحكمت أواخر القرن الثاني، بتكاثر عدد من نشأ من الفرس كتابا وخطباء ومؤلفين، أدمجوا فيما أنشئوا إسرافهم في التعظيم والتطويل، واشتد تمازج من كانوا من أصل عربي من الكتاب والمؤلفين والرواة بأهل فارس، حتى كادت دولة العباسيين تعد دولة فارسية لولا مكان الخليفة من العرب. وظهر الغلو في القول والإسراف في اللفظ، وتلوين المعاني وإبرازها في صور كثيرة، وتفنن بعض الكتابين في إرسال الكلام؛ وأوغلوا في الصنعة والتثقيف، حتى أوشك البيان أن يصاب بما يخرجه عن رونقه القديم، فنصح جعفر بن يحيى، وهو أمير من أمراء البيان قائلا: إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا.
قال هذا في العهد الذي اخذ فيه الأعاجم يسطون على الأسلوب العربي على هذا
صفحہ 14
[15_2]
الوجه، وفي تلك الحقبة كان العارفون يحاذرون ضياع الأسلوب القديم جملة، حتى أن المأمون رفع إلى مقام الوزارة كلا من عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف الكاتب لما أعجب به من توخيهما الإيجاز في الرسائل على الطريقة القدماء وقال يوما: ما أعجب الكلام كإعجابي بكتاب القاسم بن عيسى أبي دلف فإنه يوجز في غير عجز، ويصيب مفاصل الكلام، ولا تدعوه المقدرة إلى الإطناب، ولا تميل به الغزارة إلى الإسهاب، يجلى عن مرادة في كتبه، ويصيب المغزى في ألفاظه.
نعم رفع الملوك من بني العباس بلغاء كتابهم إلى الوزارات، وقلما رفعوا شاعرا لشعره، لأن الشعر خيال وحسن، والكتابة عقل وحقيقة، وحاجة المماليك في تدبيرها إلى العقول، أكثر من احتياجها إلى العواطف، والعلوم على اختلاف ضروبها تكتب نثرا. ولما نظم المتأخرون متون العلوم كالفرائض والقراءات والفقه والنحو وغيرها شعرا أفسدوا الشعر، وما أفادوا العلوم والمتعلمين كبير أمر؛ وكان هذا العبث كالعبث بصنع الكلام يوم استخرجوا من نثر ابن المعتز ذاك الفن الذي سموه البديع، فأفسد نظام الكلام، وأخرج البيان عن أصوله وطرائقه إلى صنعه يقصد به المجانسات في الألفاظ، والاستعارات والتشبيهات في المعاني.
والكتاب كما يقول أبن قتيبة هم ألسنة الملوك، إنما يتراسلون في جباية خراج، أو سد ثغر، أو عمارة بلاد، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهى عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكلها من جلائل الخطوب، ومعاظم الشؤون التي يحتاجون فيها إلى أن يكونوا ذوي آداب كثيرة ومعارف مفننة.
قال: والشعراء إنما أغراضهم التي يرمون نحوها، وغايتهم التي يجرون إليها، وصف الديار والآثار، وذكر الأوطان، والحنين إلى الأهواء، والتشبيب بالنساء، ثم الطلب والاجتداء، والمديح والهجاء. ولذلك قال ابن خلدون: إن صاحب خطة
صفحہ 15
[16_2]
الرسائل والكتابة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس، وأهل المروءة والحشمة منهم، وزيادة العلم وعارضة البلاغة. وقال ابن سنان، منزلة الشاعر إذا زادت وتسامت لم ينل بها قدرا عاليا ولا ذكرا جميلا؛ والكاتب ينال بالكتابة الوزارة فما دونها من رتب الرياسة. قال: وصناعة تبلغ بها إلى الدرجة الرفيعة أشرف من صناعة لا توصل صاحبها إلى ذلك؛ وأن اكثر النظم إذا كشف لا يعبر عن جد، ولا يترجم عن حق، وإنما الحذق فيه الإفراط في الكذب، والغلو في المبالغة، وأكثر النثر شرح أمور متيقنة وأحوال مشاهدة، وما كثر فيه الجد والتحقيق أفضل مما كثر فيه المحال والتغرير.
هذا غاية ما يقال في كتاب الرسائل أو كتاب الدواوين، أما شرف الكتابة، والحاجة الحافزة إلى إتقانها في التأليف، فهو غني عن البيان بعد أن شاهدنا طبقات من المؤلفين كان من أعظم الدواعي لخلود تأليفهم إجادتهم الكتابة؛ ولا نذكر منهم إلا من وصلنا شيء مما كتبوه، كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ومسلم صاحب الصحيح، وصالح بن جناح صاحب كتاب الأدب والمروءة، وابن حبان البستي وابن المدبر وابن جني وابن سلام وابن قتيبة والثعالبي والطبري والمسعودي والمقدسي والدينوري والبلاذري والمبرد وابن الداية وأبي بكر الصولي والقاضي والتنوخي وابن عبد ربه والمرزباني وأبن هلال العسكري وقدامة والباقلاني وأبي حسن الأشعري وعلي بن هندو ويحيى بن عدي وعبد القاهر الجرجاني وعلي بن عبد العزيز ومسكويه وابن حزم وأبي فرج الأصبهاني وابن زيدون والبكري وابن طفيل والغزالي والراغب والأصفهاني والماوردي والقالي وأضرابهم.
وما سلم من كتبهم شاهد أبد الدهر على تفوقهم في البيان، وكانوا نبوغهم فيما عانوا من الفنون، مضافا إلى براعتهم في الإنشاء، أعظم نعمة على الآداب العربية؛ وهؤلاء وضرباؤهم هم الذين رسخت بهم ملكة البيان العربي على مرور
صفحہ 16
[17_2]
الأزمان؛ وفضلهم على الكتابة يوازي فضلهم في علوم أرادوا بثها، وقد يربوا على فضل الشعراء على الأدب.
قال الجاحظ عن لفظه إنه طلب علم الشعر عند الأصمعي فوجده لا يحسن إلا غريبه، فرجع إلى الأخفش فوجده لا يتقن إلا إعرابه، فعطف على أبي عبيدة، فوجده لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، وقال أنه لم يظفر بما أراد إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات. والكتاب يقدرون الشعر قدره أكثر مما يقدر الشعر قدر الكتابة؛ واصطلح الكتاب كما قال ابن رشيق على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابة فما تجاوزها إلى ما سواها؛ وعرفوا معاني للبلاغة في النثر لم يتوفر للنظم مثلها؛ ولذلك كانت الإجادة في النثر أصعب من الإجادة في الشعر.
صفحہ 17
[[ح] الأسلوب المتكلف:]
[18_2]
الأسلوب المتكلف:
هذا وإن في منثور الكتاب من القرن الثاني إلى الخامس بل السادس إحسانا دون كل إحسان، والقليل الذي قرأناه لعمارة بن حمزة وإسماعيل بن صبيح وجعفر بن يحيى ويحيى بن جعفر وخالد بن جعفر وعلي بن عيسى وابن الفرات هو غرة في وجوه الكلام على غابر الأيام.
وكان لعلي بن عيسى مذهب في الترسل، لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات، وابن الفرات هو الذي وضع الألقاب في مخاطبة الملوك والأمراء والوزراء والعمال، وكانوا قبله يكتفون بالاسم والتكنية، ولا تلاحظ في الكتابة من الصغير إلى الكبير وبالعكس تعظيما ولا تصغيرا، شأن العرب في مخاطبة بعضهم بعضا، يتخاطبون بأسمائهم وكنانهم، ويقتصرون في المكاتبات على الباب دون القشور. ولم يطل عمر هذه المصطلحات في التقليب، فالمواضعة والاصطلاح في الخطاب يتغير - كما قال ابن سنان - بحسب تغير الأزمنة والدول. قال: إن العدة القديمة قد هجرت ورفضت واستجد الناس عادة بعد عادة، حتى أن الذي كان يستعمل في عصره في الكتب غير ما كان يستعمل في أيام أبي إسحاق الصابي مع قرب زمانه من زمان ابن سنان.
هذا في بلاد الشرق، أما في الأندلس فقد ظلت دولتهم عربية في كل مظاهرها، لا تعرف التقليب الذي أحدثه من جاوروا الرفس واخذوا مدنيتهم وادخلوا رجالهم في جملتهم. قالوا وكان ابن قصيرة من كتاب الأندلس على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ وصحيح المعاني من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخرو الكتاب، الله إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفوا من غير استدعاء.
وكذلك يقال في ابن بسام فإنه أحسن تصوير من ترجم لهم من شعراء الجزيرة؛ كما أحسن في القرن الثامن لسان الدين بن الخطيب في تصوير رجال غرناطة. وظل كتاب الأندلس على اقتفاء خطى العرب في الكتابة حتى راجت في المشرق
صفحہ 18
[19_2]
[أ]
أساليب جديدة فحاكوها؛ وظلوا
مع هذا أكثر ميلا إلى الفطرة اقتصارا على المعاني. وزعم ابن خلدون أن المتأخرين استعملوا أساليب الشعر وموازينه في المنثور؛ وأنهم هجروا المرسل وتناسوه خصوصا أهل المشرق. قال: وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب؛ هذا ما قاله. والأندلسيون من المتأخرين لم يكونوا في السجع والتطويل دون المشارقة على ما تقرأ ذلك في نفح الطيب وقلائد العقيان ومطمح النفس وغيرها، حاشا المؤلفين فقد داموا إلى آخر أيام الأندلس يكتبون بلا تعمل في الجملة، وحييت الكتابة في دولة بني الأحمر آخر ملوك العرب في تلك الديار، والشعر الذي وصلنا منهم أكثر من النثر.
هجم السجع هجوما مريعا على الكلام المرسل فأضعف من قواه، ونال من قوامه بعد القرن الرابع؛ وكان أول من غالى في التزم الكتابة المسجوعة أبو إسحاق الصابي، وأبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، والصاحب والعتبي؛ واقتفى أثرهم كتاب الأندلس ومصر، وعدم التكلف على البديع فقد يتخلى عن السجع في رسائله، كما يترك الصابي ذلك في بعض عهوده. وقالوا إن الصابي كان يكتب ما يراد، والصاحب يكتب ما يريد، وكان ابن العميد يعد في جملتهم، لولا أنه التزم طريقة المرسل وطريقة المسجوع معا، ووضع طريقة الشعر المنثور، وقالوا إنه أقل معاصريه احتفالا بالسجع، مع أن الذي قرأناه له ينافي هذا القول، وكأنه أشبه بحلقة اتصال بين دور الكلام المطبوع ودور الكلام المصنوع.
قالوا بدئت الكتابة بعيد الحميد وانتهت بابن العميد؛ وهو قول يحتاج إلى نظر، والعالم على ما يقول الباقلاني لا يخفي عليه الفضل بين رسائل عبد الحميد وطبقته وبين طبقة من بعده، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن الحميد وبين رسائل أهل عصره ومن بعده، ممن برع في صنعة الرسائل وتقدم في
صفحہ 19