تصرخ حميدة، صرختها غريبة، ليس لها صوت الصرخة المألوف حين يصرخ الإنسان فزعا أو طلبا للاستغاثة، فلم تكن حميدة تستغيث بأحد، كانت تعرف أن الطريق خال ليس فيه أحد، والنوافذ مغلقة والأبواب مغلقة والأنوار مطفأة والأصوات معدومة، وكل شيء معدوم كالصوت.
لم تكن صرخة استغاثة، ولكنها حادة وطويلة وممتدة، كأنها ملايين الصرخات اتصلت والتحمت في صرخة واحدة تمتد بامتداد الليل، وتلتحم بملايين الذرات السوداء التي تصنع الظلمة والصمت.
ولم تكن أيضا صرخة فزع أو خوف، لم تكن حميدة تخاف الظلمة أو الصمت أو حتى الموت، فهي جزء من الظلمة، وصوتها هو الصمت، أما الموت فهو يعيش معها، تحمله كالجسد الثاني على جسدها، كشخص آخر ميت يعيش داخلها، يحتل الفراغ في جوفها ويفرد ذراعيه وساقيه ويتمدد، وتفوح رائحته من عينيها وأذنيها وأنفها وفمها وجميع فتحات جسمها، وفي الليل حين تشتد الظلمة وتشتد الوحدة تمتد يدها فتحسه إلى جوارها، ملاصقا لها، وفي حضنها أنفاسه تختلط بأنفاسها وحرارته كحرارة جسمها.
وضعت حميدة يدها على ظهرها فشعرت بالأمان، جسدها ساخن أملس الزوايا، من يراها من الخلف يظن أنها طفل، وحين تستدير ويرى عينيها يدرك أنها عجوز، ووجوه العجائز كوجوه الأطفال ليس لها جنس، وحين تهبط العين إلى بطنها النامي بالجنين الحي يعرف أنها امرأة، ويحتار المرء في تحديد عمرها، فالحقيقة أن حميدة ليس لها عمر، وهذا هو حال الأطفال الذين يولدون رغم أنف الموظف الحكومي الذي يحدد تاريخ الولادة، وإنهم يعيشون فوق مستوى الحكومة، وفوق مستوى التاريخ، وفوق مستوى الزمان والمكان، لا ينتقلون كالبشر العاديين من مرحلة الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة، ويعيشون رغم أنف الموظف الحكومي الذي يحرر تواريخ الوفاة، ينجون من الزمن كالآلهة، ويعيشون إلى الأبد، حياة واحدة ممتدة بغير مراحل.
يولدون كبارا ثم يصبحون عجائز بغير مرحلة طفولة أو شباب، ثم يرتدون فجأة من الشيخوخة إلى الطفولة أو من الطفولة إلى الشباب، يرتدون في لحظة سريعة خاطفة أسرع من قدرة العين على الرؤية، فإذا بالعين عاجزة عن اكتشاف حقيقتهم، ويبدو الواحد منهم طفلا وشابا وعجوزا في اللحظة نفسها والمكان نفسه.
وأحيانا يسيرون في الطرقات وهم موتى وتكاد تزكم رائحتهم الأنوف، ومع ذلك تظل العين عاجزة عن التفرقة بينهم وبين الأحياء.
التجاعيد في تلك الأحوال لا تهم كثيرا، لأنها لا تبدو للعين تجاعيد وإنما تلك الخطوط الطبيعية التي تظهر على وجه الطفل حين يضحك بشدة وبغير صوت مسموع.
حميدة كانت لا تزال وراء عمود النور، وجهها متورم مستدير تحت الضوء، أبيض بلون الدقيق، تخفي تحت المسحوق التجاعيد، وشفتاها المشققتان (بسبب الجوع) تغطيهما قشرة حمراء مدممة، وصدرها بارز من فتحة ثوب مقطوع، وبطنها بارز، وكعباها المشققان بارزان من حذاء كالشبشب بغير كعب، وشعرها غزير أسود كقطعة من الليل يغطي بالسواد رأسها وصدرها وكل جسدها، ويطل من تحته عنقها الأبيض كجذع شجرة تخرج من غابة نبتت جذورها في أرض رطبة.
من يرها يظن أنها امرأة ليل، مع أنها لم تكن امرأة ولم يكن الوقت ليلا، كانت الشمس رأسية في منتصف المسافة بين العينين، وحميدة تحملق في القرص الملتهب الأحمر، لا يطرف لها جفن، ولا تخلج في وجهها عضلة، تنظر إليه بكل قدرتها على الصبر، وتراه بوضوح في مركز الدائرة كالقوس، طويل ورفيع ومعوج، يتحرك أمام عينيها بحركته البطيئة، كتف أعلى من كتف، وساق أطول من ساق، كالأعرج، عرفته على الفور وكادت تهتف: حميدو، لكنها خشيت أن يكتشف مكانها وراء العمود، ويتعرف على بطنها المنتفخ، ويشد آلة القتل.
أطبقت شفتيها وكتمت أنفاسها، لكنه شم رائحتها (رائحة حميدة قوية نفاذة كرائحة الموتى) فتوقف عن المسير، ومد يده الطويلة الرفيعة إلى عمود النور، لم تمسك يده شيئا، ناداها بصوت مألوف غير مسموع مقلدا صوتها: «حميدة»، وثنى جذعه فالتوى نصفه الأعلى فوق الأسفل مقلدا شكل جسدها، كان التقليد مصنوعا بإتقان شديد (بسبب تقدم الصناعة والتكنولوجيا) إلى درجة أن حميدة اختلط عليها الأمر، وظنت أن الصوت صوتها، والجسد جسدها، فخرجت من وراء العمود مطمئنة، وسارت كعادتها مطرقة رأسها، وحينما رفعت رأسها إلى فوق ارتطمت عيناها بالعينين الصفراوين، فرأتهما من هول المفاجأة أربع عيون، وتضاعف العدد في لحظة خاطفة، وحوطتها العيون الصفراء، عشرا فوق الصدر من الأمام مستديرة ومتراصة في وضع رأسي، وفوق كل كتف خمس في وضع أفقي، تشع كل عين ضوءا نحاسيا أصفر.
نامعلوم صفحہ